الباحث القرآني
ومِن سُورَةِ الفُرْقانِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ الطَّهُورُ عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ في الوَصْفِ لَهُ بِالطَّهارَةِ وتَطْهِيرِ غَيْرِهِ، فَهو طاهِرٌ مُطَهِّرٌ، كَما يُقالُ: رَجُلٌ ضَرُوبٌ وقَتُولٌ أيْ يَضْرِبُ ويَقْتُلُ وهو مُبالَغَةٌ في الوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ. والوَضُوءُ يُسَمّى طَهُورًا؛ لِأنَّهُ يُطَهِّرُ مِنَ الحَدَثِ المانِعِ مِنَ الصَّلاةِ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» أيْ بِما يُطَهِّرُ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا» فَسَمّاهُ طَهُورًا مِن حَيْثُ اسْتَباحَ بِهِ الصَّلاةَ وقامَ مَقامَ الماءِ فِيهِ، وقَدِ اخْتُلِفَ في حُكْمِ الماءِ عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ:
أحَدُها: إذا خالَطَ الماءَ غَيْرُهُ مِنَ الأشْياءِ، الطّاهِرَةِ.
والثّانِي: إذا خالَطَهُ نَجاسَةٌ.
والثّالِثُ: الماءُ المُسْتَعْمَلُ؛ فَقالَ أصْحابُنا: ( إذا لَمْ تُخالِطْهُ نَجاسَةٌ ولَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الماءِ لِأجْلِ الغَلَبَةِ ولَمْ يُسْتَعْمَلْ لِطَهارَةِ البَدَنِ فالوُضُوءُ بِهِ جائِزٌ فَإنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الماءِ مِثْلُ المَرَقِ وماءِ الباقِلّاءِ والخَلِّ ونَحْوِهِ، فَإنَّ الوُضُوءَ بِهِ غَيْرُ جائِزٍ، وما طُبِخَ بِالماءِ لِيَكُونَ أنْقى لَهُ نَحْوُ الأُشْنانِ والصّابُونِ فالوُضُوءُ بِهِ (p-٢٠٢)جائِزٌ إلّا أنْ يَكُونَ مِثْلَ السَّوِيقِ المَخْلُوطِ فَلا يُجْزِي، وكَذَلِكَ إنْ وقَعَ فِيهِ زَعْفَرانٌ أوْ شَيْءٌ مِمّا يُصْبَغُ بِصَبْغِهِ وغَيَّرَ لَوْنَهُ فالوُضُوءُ بِهِ جائِزٌ لِأجْلِ غَلَبَةِ الماءِ ) . وقالَ مالِكٌ، ( لا يَتَوَضَّأُ بِالماءِ الَّذِي يُبَلُّ فِيهِ الخُبْزُ ) . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( إذا تَوَضَّأ بِزَرْدَجٍ أوْ نَشاسْبِتَجٍ أوْ بِخَلٍّ أجْزَأْهُ، وكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّرَ لَوْنَهُ ) .
وقالَ الشّافِعِيُّ: ( إذا بَلَّ فِيهِ خُبْزًا وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا لا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ ماءٍ مُطْلَقٍ حَتّى يُضافَ إلى ما خالَطَهُ وخَرَجَ مِنهُ فَلا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ وكَذَلِكَ الماءُ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الزَّعْفَرانُ أوِ الأُشْنانُ )؛ وكَثِيرٌ مِن أصْحابِهِ يَشْرُطُ فِيهِ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الغُسْلِ بِغَيْرِ الماءِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: الأصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ [المائدة: ٦] فِيهِ الدَّلالَةُ مِن وجْهَيْنِ عَلى قَوْلِنا:
أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] عُمُومٌ في سائِرِ المائِعاتِ بِجَوازِ إطْلاقِ اسْمِ الغُسْلِ فِيها.
والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ [المائدة: ٦] ولا يَمْتَنِعُ أحَدٌ مِن إطْلاقِ القَوْلِ بِأنَّ هَذا فِيهِ ماءٌ وإنْ خالَطَهُ غَيْرُهُ، وإنَّما أباحَ اللَّهُ تَعالى التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِن ماءٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ " ماءٌ " اسْمٌ مَنكُورٌ يَتَناوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنهُ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «فِي البَحْرِ: هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ»، وظاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوازَ الطَّهارَةِ بِهِ وإنْ خالَطَهُ غَيْرُهُ لِإطْلاقِ النَّبِيِّ ﷺ ذَلِكَ فِيهِ، وأباحَ الوُضُوءَ بِسُؤْرِ الهِرَّةِ وسُؤْرِ الحائِضِ وإنْ خالَطَهُما شَيْءٌ مِن لُعابِهِما وأيْضًا لا خِلافَ في جَوازِ الوُضُوءِ بِماءِ المَدِّ والسَّيْلِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخالَطَةِ الطِّينِ لَهُ وما يَكُونُ في الصَّحارى مِنَ الحَشِيشِ والنَّباتِ، ومِن أجْلِ مُخالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرى مُتَغَيِّرًا إلى السَّوادِ تارَةً وإلى الحُمْرَةِ والصُّفْرَةِ أُخْرى، فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا في جَمِيعِ ما خالَطَهُ الماءُ إذا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الماءِ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الماءُ المُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهارَةِ ولَمْ يَكْفِهِ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِهِ غَيْرُهُ فَكَفاهُ بِاَلَّذِي خالَطَهُ نَحْوُ ماءِ الوَرْدِ والزَّعْفَرانِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْضُ وُضُوئِهِ بِما لا تَجُوزُ الطَّهارَةُ بِهِ مِمّا لَوْ أفْرَدَهُ لَمْ يَطْهُرْ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلاطِهِ بِالماءِ وبَيْنَ إفْرادِهِ بِالغُسْلِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ ما خالَطَهُ مِن هَذِهِ الأشْياءِ الطّاهِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِعْمالُها لِغَيْرِ الطَّهارَةِ إذا كانَ قَلِيلًا سَقَطَ حُكْمُهُ وكانَ الحُكْمُ لِما غَلَبَ، ألا تَرى أنَّ اللَّبَنَ الَّذِي خالَطَهُ ماءٌ يَسِيرٌ لا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ اللَّبَنِ وأنَّ مَن شَرِبَ مِن جُبٍّ قَدْ وقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِن خَمْرٍ لا يُقالُ لَهُ: شارِبُ خَمْرٍ، ولَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الحَدُّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الجُزْءَ قَدْ صارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ ؟ كَذَلِكَ الماءُ إذا كانَ هو الغالِبُ والجُزْءُ الَّذِي خالَطَهُ إذا كانَ يَسِيرًا سَقَطَ حُكْمُهُ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ إنْ كانَتِ العِلَّةُ ما ذَكَرْتَ فَيَنْبَغِي أنْ يَجُوزَ (p-٢٠٣)إذا كانَ الماءُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَوِ انْفَرَدَ عَمّا خالَطَهُ كانَ كافِيًا لِطَهارَتِهِ؛ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ انْفِرادِ الماءِ في الِاسْتِعْمالِ وبَيْنَ اخْتِلاطِهِ بِما لا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، فَإذا كانَ لَوِ اسْتَعْمَلَ الماءَ مُنْفَرِدًا عَمّا خالَطَهُ مِنَ اللَّبَنِ وماءِ الوَلَدِ ونَحْوِهِ وكانَ طَهُورًا، وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذا خالَطَهُ غَيْرُهُ؛ لِأنَّ مُخالَطَةَ غَيْرِهِ لَهُ لا تُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا لِلْماءِ المَفْرُوضِ بِهِ الطَّهارَةُ؛ فَهَذا الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِكَ وهَدْمِ أصْلِكَ. وأيْضًا فَيَنْبَغِي أنْ تُجِيزَهُ؛ إذْ أكْثَرُ غَسْلِ أعْضائِهِ بِذَلِكَ الماءِ؛ لِأنَّهُ قَدِ اسْتَعْمَلَ مِنَ الماءِ في أعْضاءِ الوُضُوءِ ما لَوِ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كانَ كافِيًا.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ فَجَعَلَ الماءَ المُنْزَلَ مِنَ السَّماءِ طَهُورًا. فَإذا خالَطَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ هو المُنْزَلُ مِنَ السَّماءِ بِعَيْنِهِ فَلا يَكُونُ طَهُورًا، قِيلَ لَهُ: مُخالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لا تُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ الماءُ هو المُنَزَّلُ مِنَ السَّماءِ ألا تَرى أنَّ اخْتِلاطَ الطِّينِ بِماءِ السَّيْلِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِن أنْ يَكُونَ الماءُ الَّذِي فِيهِ هو المُنَزَّلُ بِعَيْنِهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ وقْتَ نُزُولِهِ مِنَ السَّماءِ مُخالِطًا لِلطِّينِ ؟ وكَذَلِكَ ماءُ البَحْرِ لَمْ يَنْزِلْ مِنَ السَّماءِ عَلى هَذِهِ الهَيْئَةِ والوُضُوءُ بِهِ جائِزٌ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلَيْهِ هو الماءُ المُنْزَلُ مِنَ السَّماءِ، فَهو إذًا مَعَ اخْتِلاطِ غَيْرِهِ بِهِ مُتَطَهِّرٌ بِالماءِ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ وسَمّاهُ طَهُورًا.
فَإنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلى هَذا جَوازُ الوُضُوءِ بِالماءِ الَّذِي خالَطَتْهُ نَجاسَةٌ يَسِيرَةٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ بِمُخالَطَتِهِ النَّجاسَةَ إيّاهُ مِن أنْ يَكُونَ هَذا الماءُ هو المُنْزَلُ مِنَ السَّماءِ.
قِيلَ لَهُ: الماءُ المُخالِطُ لِلنَّجاسَةِ هو باقٍ بِحالِهِ لَمْ يَصِرْ نَجِسَ العَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ إلّا مُخالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَما مَنَعْنا الوُضُوءَ بِهِ ولَكِنّا مَنَعْنا الطَّهارَةَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ ماءً مُنْزَلًا مِنَ السَّماءِ مِن قِبَلِ أنَّهُ لا نَصِلُ إلى اسْتِعْمالِهِ إلّا بِاسْتِعْمالِ جُزْءٍ مِنَ النَّجاسَةِ، واسْتِعْمالُ النَّجاسَةِ مَحْظُورٌ، فَإنَّما مَنَعْنا اسْتِعْمالَ النَّجاسَةِ ولَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْنا اسْتِعْمالُ الأشْياءِ الطّاهِرَةِ وإنْ خالَطَتِ الماءَ، فَإذا حَصَلَ مَعَهُ اسْتِعْمالُ الماءِ لِلطَّهارَةِ جازَ، كَمَن تَوَضَّأ بِماءِ القِراحِ ثُمَّ مَسَحَ وجْهَهُ بِماءِ الوَرْدِ أوْ بِماءِ الزَّعْفَرانِ فَلا يُبْطِلُ ذَلِكَ طَهارَتَهُ.
وقَدْ أجازَ الشّافِعِيُّ الوُضُوءَ بِما أُلْقِيَ فِيهِ كافُورٌ أوْ عَنْبَرٌ وهو يُوجَدُ مِنهُ رِيحُهُ وبِما خالَطَهُ ورْدٌ يَسِيرٌ، وإنْ وقَعَ مِثْلُهُ مِنَ النَّجاسَةِ في أقَلَّ مِن قُلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُهُ فَلَيْسَ قِياسُ النَّجاسَةِ قِياسَ الأشْياءِ الطّاهِرَةِ إذا خالَطَتِ الماءَ.
فَإنْ قِيلَ: يَلْزَمُكَ أنْ تُجِيزَ الوُضُوءَ بِالماءِ الَّذِي يُخالِطُهُ ما يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ الطّاهِرَةِ إذا كانَ الماءُ لَوِ انْفَرَدَ كِفاءً لِوُضُوئِهِ؛ لِأنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ جازَ ولِأنَّهُ هو المُنْزَلُ مِنَ السَّماءِ في حالِ المُخالَطَةِ وإنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتّى سَلَبَهُ إطْلاقَ اسْمِ الماءِ. قِيلَ لَهُ: لا يَجِبُ ذَلِكَ مِن قِبَلِ أنَّ (p-٢٠٤)غَلَبَةَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَنْقُلُهُ إلى حُكْمِهِ ويَسْقُطُ حُكْمُ القَلِيلِ مَعَهُ، بِدَلالَةِ أنَّ قَطْرَةً مِن خَمْرٍ لَوْ وقَعَتْ في جُبِّ ماءٍ فَشَرِبَ مِنهُ إنْسانٌ لَمْ يُقَلْ: إنَّهُ شارِبُ خَمْرٍ ولا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ، ولَوْ أنَّ خَمْرًا صُبَّ فِيهِ ماءٌ فَمُزِجَتْ بِهِ فَكانَ الخَمْرُ هو الغالِبَ لَأطْلَقَ النّاسُ عَلَيْهِ أنَّهُ شارِبُ خَمْرٍ وكانَ حُكْمُهُ في وُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ حُكْمَ شارِبِها صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ.
وأمّا ماءُ الوَرْدِ وماءُ الزَّعْفَرانِ وعُصارَةُ الرَّيْحانِ والشَّجَرِ فَلَمْ يُمْنَعِ الوُضُوءُ بِهِ مِن أجْلِ مُخالَطَةِ غَيْرِهِ ولَكِنْ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِالماءِ المَفْرُوضِ بِهِ الطَّهارَةُ ولا يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ إلّا بِتَقْيِيدٍ، كَما سَمّى اللَّهُ تَعالى المَنِيَّ ماءً بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَخْلُقْكم مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ [المرسلات: ٢٠] وقالَ: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ [النور: ٤٥] ولَيْسَ هو مِنَ الماءِ المَفْرُوضِ بِهِ الطَّهارَةُ في شَيْءٍ.
وأمّا مَذْهَبُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ في إجازَتِهِ الوُضُوءَ بِالخَلِّ ونَحْوِهِ، فَإنَّهُ يَلْزَمُهُ إجازَتُهُ بِالمَرَقِ وبِعَصِيرِ العِنَبِ لَوْ خالَطَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِن ماءٍ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ الوُضُوءُ بِسائِرِ المائِعاتِ مِنَ الأدْهانِ وغَيْرِها، وهَذا خِلافُ الإجْماعِ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ التَّيَمُّمُ بِالدَّقِيقِ والأُشْنانِ قِياسًا عَلى التُّرابِ
* * *
* فَصْلٌ
وأمّا الماءُ المُسْتَعْمَلُ فَإنَّ أصْحابَنا والشّافِعِيَّ لا يُجِيزُونَ الوُضُوءَ بِهِ عَلى اخْتِلافٍ مِنهم في الماءِ المُسْتَعْمَلِ ما هو. وقالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ: ( يَجُوزُ الوُضُوءُ بِهِ ) عَلى كَراهَةٍ مِن مالِكٍ لَهُ. والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ ما رَوى أبُو عَوانَةَ عَنْ داوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأوْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «نَهانا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وضُوءِ المَرْأةِ وتَغْتَسِلَ المَرْأةُ بِفَضْلِ وضُوءِ الرَّجُلِ ولْيَفْتَرِقا» .
وفَضْلُ الطَّهُورِ يَتَناوَلُ شَيْئَيْنِ: ما يَسِيلُ مِن أعْضاءِ المُغْتَسِلِ، والآخَرُ ما يَبْقى في الإناءِ بَعْدَ الغُسْلِ؛ وعُمُومُهُ يَنْتَظِمُها فاقْتَضى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الوُضُوءِ بِالماءِ المُسْتَعْمَلِ؛ لِأنَّهُ فَضْلُ طَهُورٍ؛ وأيْضًا قَوْلُهُ ﷺ «لا يَبُولَنَّ أحَدُكم في الماءِ الدّائِمِ ولا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِن جَنابَةٍ» .
ورَوى بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأشَجِّ عَنْ أبِي السّائِبِ مَوْلى هِشامِ بْنِ زَهْرَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا يَغْتَسِلْ أحَدُكم في الماءِ الدّائِمِ وهو جُنُبٌ» . ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكم غُسالَةَ أيْدِي النّاسِ» . وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ لِأسْلَمَ حِينَ أكَلَ مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ ( أرَأيْتَ (p-٢١١)لَوْ تَوَضَّأ إنْسانٌ بِماءٍ أكُنْتَ شارِبَهُ ؟ ) فَدَلَّ تَشْبِيهُ الصَّدَقَةِ حِينَ حَرَّمَها عَلَيْهِمْ بِغُسالَةِ أيْدِي النّاسِ أنَّ غُسالَةَ أيْدِي النّاسِ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُها.
ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ الماءَ إذا أُزِيلَ بِهِ الحَدَثُ مُشْبِهٌ لِلْماءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجاسَةُ مِن حَيْثُ اسْتَباحَ الصَّلاةَ بِهِما فَلَمّا لَمْ تَجُزِ الطَّهارَةُ بِالماءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجاسَةُ كَذَلِكَ ما أُزِيلَ بِهِ الحَدَثُ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى وهي أنَّ الِاسْتِعْمالَ قَدْ أكْسَبَهُ إضافَةً سَلَبَهُ بِها إطْلاقَ الِاسْمِ، فَصارَ بِمَنزِلَةِ الماءِ الَّذِي امْتَنَعَ فِيهِ إطْلاقُ اسْمِ الماءِ بِمُخالَطَةِ غَيْرِهِ لَهُ، والمُسْتَعْمَلُ أوْلى بِذَلِكَ مِن جِهَةِ ما تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الحُكْمِ في زَوالِ الحَدَثِ أوْ حُصُولِ قُرْبَةٍ.
فَإنْ قِيلَ: فَلَوِ اسْتَعْمَلَهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ جَوازَ اسْتِعْمالِهِ لِلطَّهارَةِ، كَذَلِكَ إذا اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهارَةِ. قِيلَ لَهُ: اسْتِعْمالُهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ إطْلاقَ الِاسْمِ فِيهِ؛ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، فَهو كاسْتِعْمالِهِ في غَسْلِ ثَوْبٍ طاهِرٍ.
واحْتَجَّ مَن أجازَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ وقَوْلِهِ ﴿ويُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] قالَ: فَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوازَ الوُضُوءِ بِهِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا ولَمْ تُجاوِرْهُ نَجاسَةٌ وجَبَ بَقاؤُهُ عَلى الحالِ الأُولى.
والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿طَهُورًا﴾ يَقْتَضِي جَوازَ التَّطْهِيرِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى. فَيُقالُ لَهُ: إنَّ بَقاءَهُ عَلى الحالَةِ الأُولى بَعْدَ الطَّهارَةِ هو مَوْضِعُ الخِلافِ، وما ذَكَرْتَ مِنَ العُمُومِ فَإنَّما هو فِيما لَمْ يُسْتَعْمَلْ فَيَبْقى عَلى إطْلاقِهِ، فَأمّا ما يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ مُقَيَّدًا فَلَمْ يَتَناوَلْهُ العُمُومُ.
وأمّا قَوْلُكَ: ( إنَّ كَوْنَهُ طَهُورًا يَقْتَضِي جَوازَ الطَّهارَةِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى ) فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يُذْكَرُ عَلى جِهَةِ المُبالَغَةِ في الوَصْفِ لَهُ بِالطَّهارَةِ أوِ التَّطْهِيرِ ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى التَّكْرارِ، كَما يُقالُ: " رَجُلٌ ضَرُوبٌ بِالسَّيْفِ " ويُرادُ المُبالَغَةُ في الوَصْفِ بِالضَّرْبِ ولَيْسَ المُقْتَضى فِيهِ تَكْرارَ الفِعْلِ، ويُقالُ: " رَجُلٌ أكُولٌ " إذا كانَ يَأْكُلُ كَثِيرًا وإنْ كانَ كُلُّهُ في مَجْلِسٍ واحِدٍ ولا يُرادُ بِهِ تَكْرارُ الأكْلِ؛ وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في مَواضِعَ أيْضًا.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ طَهُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











