ولَمّا دَلَّ عَلى عَظَمَتِهِ بِتَصَرُّفِهِ في المَعانِي بِالإيجادِ والإعْدامِ، وخَتَمَهُ بِالإماتَةِ والإحْياءِ بِأسْبابٍ قَرِيبَةٍ، أتْبَعَهُ التَّصَرُّفَ في الأعْيانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، دالًّا عَلى الإماتَةِ والإحْياءِ بِأسْبابٍ بَعِيدَةٍ، وبَدَأهُ بِما هو قَرِيبٌ لِلَطافَتِهِ مِنَ المَعانِي، وفِيهِ النَّشْرُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ ما قَبْلَهُ، فَقالَ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ﴾ فَقِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالإفْرادِ لِإرادَةِ الجِنْسِ، وقِراءَةُ غَيْرِهِ بِالجَمْعِ أدَلُّ عَلى الِاخْتِيارِ بِكَوْنِها تارَةً صَبا وأُخْرى دَبُورًا، ومَرَّةً شِمالًا وكَرَّةً جَنُوبًا وغَيْرَ ذَلِكَ ﴿بُشْرًا﴾ أيْ تَبْعَثُ بِأرْواحِها السَّحابَ، كَما نَشَرَ بِالنَّهارِ أرْواحَ الأشْباحِ ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ لِعِبادِهِ بِالمَطَرِ.
ولَمّا كانَ السَّحابُ قَرِيبًا مِنَ الرِّيحِ في اللَّطافَةِ، والماءِ قَرِيبًا مِنهُما (p-٤٠١)ومُسَبَّبًا عَمّا تَحْمِلُهُ الرِّيحُ مِنَ السَّحابِ، أتْبَعَهُما بِهِ، ولَمّا كانَ في إنْزالِهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى العَظَمَةِ بِإيجادِهِ هُنالِكَ وإمْساكِهِ ثُمَّ إنْزالِهِ في الوَقْتِ المُرادِ والمَكانِ المُخْتارِ عَلى حَسَبِ الحاجَةِ ما لا يَخْفى، غَيَّرَ الأُسْلُوبَ مُظْهِرًا لِلْعَظَمَةِ فَقالَ: ﴿وأنْـزَلْنا مِنَ السَّماءِ﴾ أيْ حَيْثُ لا مُمْسِكَ لِلْماءِ فِيهِ غَيْرُهُ سُبْحانَهُ ﴿ماءً﴾ ثُمَّ أبْدَلَ مِنهُ بَيانًا لِلنِّعْمَةِ بِهِ فَقالَ: ﴿طَهُورًا﴾ أيْ طاهِرًا في نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، اسْمُ آلَةٍ كالسَّحُورِ والسَّنُونَ لِما يُتَسَحَّرُ بِهِ ويُسْتَنُّ بِهِ، ونَقَلَ أبُو حَيّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ مَصْدَرٌ لِتَطَهَّرَ المُضاعَفِ جَرى عَلى غَيْرِ فِعْلِهِ. وأمّا جَعْلُهُ مُبالَغَةً لِطاهِرٍ فَلا يُفِيدُ غَيْرَ أنَّهُ بَلِيغُ الطَّهارَةِ في نَفْسِهِ لِأنَّ فِعْلَهُ قاصِرٌ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ طَهُورࣰا"}