الباحث القرآني

نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ شَكَا جَهْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتَهُمْ، فَنَزَلَتِ الآية. وقال أبو العالية: مكث رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ عشر سنين بعد ما أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ). وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَوَضَعُوا السِّلَاحَ وَأَمِنُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، لِأَنَّ الله عز وجل أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ. قَالَ الضَّحَّاكُ فِي كِتَابِ النقاش: هذه [الآية [[من ك.]]] تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ). وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَاخْتَارَهُ وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتَهُمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ نَجَزَ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ، فَفِيمَنْ يَكُونُ إِذًا؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وحكى هذا القول القشيري عن ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا). قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ [عَلَيْكَ [[زيادة عن ابن العربي. والخطاب لسعيد بن حمدان راوي الحديث عن سفينة.]]] خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرًا، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتًّا. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا). وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا فِي اسْتِخْلَافِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ هُوَ أَنْ يُمَلِّكَهُمُ الْبِلَادَ وَيَجْعَلَهُمْ أَهْلَهَا، كَالَّذِي جَرَى فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قُلْنَا لَهُمْ هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالِهِ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ لِلْخِلَافَةِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إِلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِرَاضًا وَانْفِصَالًا مَعْنَاهُ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْأَمْرُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ، فَأَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَقُتِلَا غِيلَةً، وَعَلِيٌّ قَدْ نُوزِعَ فِي الْخِلَافَةِ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَوْتِ بِأَيِ وَجْهٍ كَانَ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ إِنَّمَا شَرْطُهُ مُلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَا كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أنهم كانوا مقهورين فصاروا فاهرين، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَصَارُوا طَالِبِينَ، فَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ. قُلْتُ: هَذِهِ الْحَالُ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُخَصُّوا بِهَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ، بَلْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ بَلْ وَغَيْرُهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى إِغْزَاءِ قُرَيْشٍ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا وَخَاصَّةً الْخَنْدَقَ، حَتَّى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِهِمْ فقال: ﴿إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً﴾[[راجع ج ١٤ ص ١٤٤.]] [الأحزاب: ١١ - ١٠]. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَدَّ الْكَافِرِينَ لَمْ يَنَالُوا خيرا، وأمن الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ". وَقَوْلُهُ: "كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْجَبَابِرَةَ بِمِصْرَ، وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فَقَالَ: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا﴾[[راجع ج ٧ ص ٢٧٢.]] [الأعراف: ١٣٧]. وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ مُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَّنَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ، فَصَحَّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، إِذِ التَّخْصِيصُ لَا يَكُونُ إلا بخبر ممن يجب [له] التَّسْلِيمُ، وَمِنَ الْأَصْلِ الْمَعْلُومِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ. وَجَاءَ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ خَوْفِهِمْ بِالْأَمْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَالَ أَصْحَابُهُ: أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ). وَقَالَ ﷺ: (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ (. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ ﷺ. فَالْآيَةُ مُعْجِزَةُ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَكُونُ فَكَانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يَعْنِي أَرْضَ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فَوُعِدُوا كَمَا وُعِدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، قَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاشُ. الثَّانِي- بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ). يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: (يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا). وَاللَّامُ فِي "لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ" جَوَابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، لِأَنَّ الْوَعْدَ قَوْلٌ، مَجَازُهَا: قَالَ اللَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَاللَّهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَجْعَلَهُمْ مُلُوكُهَا وَسُكَّانَهَا. (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَهْلَكَ الْجَبَابِرَةَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "كَمَا اسْتَخْلَفَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ، لِقَوْلِهِ: "وَعَدَ". وَقَوْلِهِ: "لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ". وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: "استخلف" بضم التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وَهُوَ الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: ٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٦ ص ٦٣.]]. وَرَوَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ المقداد ابن الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ أَمَّا بِعِزِّهِمْ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا وَأَمَّا بِذُلِّهِمْ فَيَدِينُونَ بِهَا (. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ أَبْدَلَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ بَدَّلَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا في القرآن، قال الله تعالى:" تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ [[راجع ج ٨ ص ٣٥٨.]] لَّهِ" [يونس: ٦٤]. وقال:" وَإِذا بَدَّلْنا [[راجع ج ١٠ ص ١٧٦.]] آيَةً" [النحل: ١٠١] وَنَحْوَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: قَرَأَ عَاصِمٌ والأعمش: "وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ" مشددة، وهذا غلط عن عَاصِمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ غَلَطًا أَشَدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ سَائِرِ النَّاسِ التَّخْفِيفَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَنَّ بَيْنَ التَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ فَرْقًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ: بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ، وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُهُ وَجَعَلْتُ غَيْرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ، كَمَا تَقُولُ: أَبْدِلْ لِي هَذَا الدِّرْهَمَ، أَيْ أَزِلْهُ وَأَعْطِنِي غَيْرَهُ. وَتَقُولُ: قَدْ بَدَّلْتَ بَعْدَنَا، أَيْ غَيَّرْتَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي "النِّسَاءِ" [[راجع ج ٥ ص ٤٢٥.]] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَذَكَرْنَا فِي سُورَةِ "إِبْرَاهِيمَ" الدَّلِيلَ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ بَدَّلَ مَعْنَاهُ إِزَالَةُ العين، فتأمله هناك [[راجع ج ٩ ص ٣٨٢.]]. وقرى:" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا [[راجع ج ١٨ ص ٢٤٤.]] " [القلم: ٣٢] مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا (يَعْبُدُونَنِي) هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. (لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها- لا يعبدون إلها غيري، حكاه النقاش. الثاني- لا يراءون بعبادتي أحدا. الثالث- لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع- لَا يُحِبُّونَ، غَيْرِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ. (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أَيْ بِهَذِهِ النِّعَمِ. وَالْمُرَادُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ، قَالَ تَعَالَى: (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكافر بالله فاسق بعد هذا الانعام وقبله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب