الباحث القرآني

هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ﷺ [[في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".]] . بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ أُمَّتَهُ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، أَيْ: أئمةَ النَّاسِ والولاةَ عَلَيْهِمْ، وَبِهِمْ تَصْلُحُ [[في ف، أ: "يصلح".]] الْبِلَادُ، وَتَخْضَعُ [[في ف، أ: "ويخضع".]] لَهُمُ الْعِبَادُ، ولَيُبدلَنّ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسِ أَمْنًا وَحُكْمًا فِيهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ. وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا. وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوس هَجَر، وَمِنْ بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ، وَهَادَاهُ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ وَصَاحِبُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ -وَهُوَ الْمُقَوْقِسُ -وَمُلُوكُ عُمَانَ وَالنَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، الَّذِي تَملَّك بَعْدَ أصْحَمة، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ خَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، فَلَمّ شَعَث مَا وَهَى عِنْدَ [[في ف: "بعد".]] مَوْتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ [[في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".]] وأطَّدَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ وَمَهَّدَهَا، وَبَعَثَ الْجُيُوشَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ صُحْبَةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَتَحُوا طَرَفًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا. وَجَيْشًا آخَرَ صُحْبَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَثَالِثًا صُحْبَةَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ لِلْجَيْشِ الشَّامِيِّ فِي أَيَّامِهِ بُصرى وَدِمَشْقَ ومَخَاليفهما مِنْ بِلَادِ حَوران وَمَا وَالَاهَا، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ. ومَنّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِأَنْ أَلْهَمَ الصَّدِّيقَ أَنِ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ الْفَارُوقَ، فَقَامَ فِي الْأَمْرِ بَعْدَهُ قِيَامًا تَامًّا، لَمْ يَدُر الْفُلْكُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ [عَلَيْهِمُ السَّلَامُ] [[زيادة من ف، أ.]] عَلَى مِثْلِهِ، فِي قُوَّةِ سِيرَتِهِ وَكَمَالِ عَدْلِهِ. وَتَمَّ فِي أَيَّامِهِ فَتْحُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ بِكَمَالِهَا، وَدِيَارِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا، وَأَكْثَرِ إِقْلِيمِ فَارِسَ، وكَسَّر كِسْرَى وَأَهَانَهُ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَتَقَهْقَرَ إِلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ، وقَصَّر قَيْصَرَ، وَانْتَزَعَ يَدَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ فَانْحَازَ إِلَى قُسْطَنْطِينَةَ، وَأَنْفَقَ أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بِذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَتَمُّ سَلَامٍ وَأَزْكَى صَلَاةٍ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ، امْتَدَّتِ الْمَمَالِيكُ [[في جـ، أ: "الممالك".]] الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَفُتِحَتْ بِلَادُ الْمَغْرِبِ إِلَى أَقْصَى مَا هُنَالِكَ: الْأَنْدَلُسُ، وَقُبْرُصُ، وَبِلَادُ الْقَيْرَوَانِ، وَبِلَادُ سَبْتَةَ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، وَقُتِلَ كِسْرَى، وَبَادَ مُلْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانُ، وَالْأَهْوَازُ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَذَلَ اللَّهُ مَلِكَهُمُ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وجُبي الْخَرَاجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَجَمْعِهِ الْأُمَّةَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ [[في أ: "الصحيحين".]] عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوي لِيَ مِنْهَا" [[صحيح مسلم برقم (٢٨٨٩) من حديث ثوبان، رضي الله عنه.]] فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِيمَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَنَسْأَلُ [[في ف: "ونسأل".]] اللَّهَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَالْقِيَامَ بِشُكْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيهِ عَنَّا. قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا". ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَنِّي [[في ف، أ: "علي".]] فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ [[صحيح مسلم برقم (١٨٢١) وصحيح البخاري برقم (٧٢٢٢) .]] وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَشِيَّةَ رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَذَكَرَ مَعَهُ أَحَادِيثَ أُخَرَ [[صحيح مسلم برقم (١٨٢٢) .]] وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً عَادِلًا وَلَيْسُوا هُمْ بِأَئِمَّةِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، يَلُون فَيَعْدِلُونَ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعِينَ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُمْ فِي الْأُمَّةِ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا، وَقَدْ وُجِد مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ كَانَتْ [[في ف، أ: "كان".]] بَعْدَهُمْ [[في ف، أ: "بينهم".]] فَتْرَةٌ، ثُمَّ وُجِد مِنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَدْ يُوجَد مِنْهُمْ مَن بَقِيَ فِي وَقْتٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُطَابِقُ اسْمُهُ اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتَهُ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُمْهان، عَنْ سَفِينة -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [[في ف، أ: "عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال" والمثبت من المسند وسنني أبي داود والترمذي.]] : الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سنة، ثم يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضا" [[المسند (٥/٢٢٠) وسنن أبي داود برقم (٤٦٤٦) وسنن الترمذي برقم (٢٢٢٦) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨١٥٥) وقال الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سعيد بن جمهان" ولم ترد لفظة: "عضوض" في هذه المصادر، وإنما وردت في حديث آخر عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إن الله تعالى بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة ... الحديث" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨/١٥٩) .]] . وَقَالَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [[في ف: "لنستخلفنهم".]] الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ [[في ف، أ: " بمكة وأصحابة".]] نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سرًّا وَهُمْ خَائِفُونَ، لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بعدُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، فَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُون فِي السِّلَاحِ ويصبحون في السلاح، فَغَيَّرُوا [[في ف: "فصبروا" وفي أ: "فعيروا".]] بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ [[في ف، أ: "الصحابة".]] قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أبدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ عَنَّا [فِيهِ] [[زيادة من أ، والدر المنثور ٥/٥٥.]] السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " لَنْ تَغْبروا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِمْ حَدِيدَةٌ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَبَضَ نَبِيَّهُ ﷺ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا، فَأَدْخَلَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ، والدر المنثور ٥/٥٥.]] عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ فَاتَّخَذُوا الحَجَزَةَ وَالشُّرَطَ وغَيّروا، فَغُيَّر بِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَقٌّ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٦] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [الْقَصَصِ: ٥، ٦] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ، حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ: "أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟ " قَالَ [[في ف: "قلت له".]] : لَمْ أَعْرِفْهَا، وَلَكِنْ قَدْ [[في ف، أ: "لم أرها وقد"]] سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ليُتمنّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الحِيرَة حتى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ". قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وليُبذَلَنّ المالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ". قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ [[في أ: "فتح".]] كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ قَالَهَا [[رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٥٩٥) .]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بالسَّناء وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ" [[المسند (٥/١٣٤) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُ قَالَ: بَيْنَا [[في أ: "بينما".]] أَنَا رَدِيفُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةَ الرَّحْل، قَالَ: "يَا مُعَاذُ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وسَعْديك. قَالَ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ "، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. [ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ"] [[زيادة من ف، أ، والمسند.]] . قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ"؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " [فَإِنَّ] [[زيادة من ف، أ، والمسند.]] حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا". قَالَ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "فَهَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ"؟، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ [[المسند (٥/٢٤٢) وصحيح البخاري برقم (٥٩٦٧) وصحيح مسلم برقم (٣٠) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أَيْ: فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْبًا عَظِيمًا. فَالصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا كَانُوا أَقْوَمَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِأَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْوَعَهُمْ لِلَّهِ -كَانَ نَصْرُهُمْ بِحَسَبِهِمْ، وَأَظْهَرُوا كَلِمَةَ اللَّهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَيَّدَهُمْ تَأْيِيدًا عَظِيمًا، وَتَحَكَّمُوا فِي سَائِرِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ. وَلَمَّا قَصَّر النَّاسُ بَعْدَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ، نَقُصَ ظُهُورُهُمْ بِحَسَبِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خالفهم إلى اليوم [[في ف، أ: "يوم".]] الْقِيَامَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ [[في ف، أ: "على ذلك".]] ". وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ". وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وهم ظاهرون". وكل هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب