الباحث القرآني

﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ الآية، قال أبي بن كعب: لما قدم رسول الله -ﷺ- وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح ولا يصبحون إلاَّ فيه، فقالوا: ترون أنَّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية [[رواه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" == للهيثمي 6/ 58، والحاكم في "مستدركه" 2/ 401، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 6 - 7، والحافظ الضياء المقدسي في "المختارة" 3/ 352 - 353، والواحدي في "أسباب النزول" ص 272 - 273. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 وعزاه أيضًا لابن المنذر وابن مردويه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 83: ورجاله ثقات.]]. وقوله ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ قال الفراء، والزَّجَّاج [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 258، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 51.]]: إنما جاءت اللام؛ لأنَّ العدة قولٌ يصلح فيها أن، ويصلح فيها جواب اليمين، تقول: وعدتك أن آتيك، ووعدتك لآتينك، ومثله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: 35] وتقول: وعدته لأكرمنه، بمنزلة قلت؛ لأن الوعد لا ينعقد إلا بقول [[وفي مجيء اللام في (ليستخلفنهم) وجه آخر، وهو أن اللَّام جواب قسم مضمر أي: أقسم ليستخلفنهم، ويكون مفعول الوعد محذوفًا تقديره: وعدهم الاستخلاف لدلالة (ليستخلفنهم) عليه. أو التمكين لدينكم. انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 469، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 434.]]. وقد فسرنا هذا في غير هذا الموضع. ومعنى ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ ليجعلنهم يخلفون من قبلهم. قال المفسرون: أي لنورثنهم أرض الكفّار من العرب والعجم فنجعلهم ملوكها وساستها وسكانها [[الثعلبي 3/ 88 ب، والطبري 18/ 158.]]. وعلى هذا الآية عامة في المؤمنين. وخصص بعضهم الآية بالخلفاء والولاة من أصحاب النبي -ﷺ-. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، ومعنى قول مقاتل بن حيان. قال ابن عباس -في هذه الآية-: يريد أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ومن ولي من أصحاب النبي -ﷺ- [[ذكر عنه القرطبي 12/ 298 نحو هذا القول.]]. وقال مقاتل: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني أرض المدينة [[رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 61 أ. وروى عنه ابن أبي حاتم 7/ 60 ب أيضًا أنه قال في قوله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال: يعني أصحاب النبي -ﷺ-.]]. وهذا يدل على أنه أراد استخلاف الخلفاء الثلاثة الذين ذكرهم ابن عباس؛ لأنَّهم كانوا في المدينة، ولم يرد تخصيص الأرض بالمدينة؛ لأن الله تعالى فتح عليهم الكثير من أرض الدنيا، وليس في أن يعدهم فتح أرض المدينة كبير [[في (أ): (كثير).]] نصرة ولا تمكين في الدين. كيف والآية نازلة بعد أن كانوا في المدينة، ولكن أراد: ليجعلهم خلفاء في المدينة يسكنونها. والآية على هذا التفسير دلالة على خلافة هؤلاء، وأنَّ الوعد من الله قد سبق [[في (ع): (قد سبق من الله).]] باستخلافهم. [خلفاء في المدينة] [[ساقط من (ظ)، (ع).]]. والظاهر القول الأول [[ويدخل في ذلك أصحاب النبي -ﷺ- دخولًا أوَّليًّا "لأنَّه لم يتقدمهم أحدٌ في الفضيلة إلى يومنا هذا؛ فأولئك مقطوع بإمامتهم، متفق عليهم- وصدق وعد الله فيهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، واستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبُّوا عن حوزة؛ فنفذ الوعد فيهم، وصدق الكلام فيهم. وإذا لم يكن هذا الوعد بهم يُنجز، وفيهم نَفَذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذن؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده" انتهى من كلام ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1392. وانظر ما قاله أبو حيان 6/ 469، وابن كثير 3/ 300 - 302 في إنجازه وعده للصحابة ومن بعدهم حين قاموا بالشروط في الآية.]]. قوله تعالي ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قال مقاتل: يعني بني إسرائيل [["تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. وقوله: إذ أهلك. وديارهم. ليس من كلام مقاتل، وإنما هذا كلام الثعلبي في "تفسيره" 3/ 88 ب بنصِّه، ساقه الواحدي مبينًا به كلام مقاتل.]]. إذ أهلك [[في (أ): (هلك).]] الجبابرة بمصر وأورثهم أرضهم وديارهم. روى أبو بكر، عن عاصم: (استُخلف) بضم التاء وكسر اللام [[وقرأ الباقون بفتح التاء واللام. "السبعة" ص 458، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163.]]. والوجه (استخلف) ألا ترى أنَّ [[في (أ): (أنَّه).]] اسم الله قد تقدم ذكره، والضمير في ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ يعود إلى اسم الله؛ فكذلك في قوله ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ والمعنى: يستخلفنهم استخلافًا كاستخلافه [[في (أ): (كاستخلاف)، والمثبت من باقي النسخ و"الحجة".]] الذين من قبلهم. ووجه (استخلف) أنه مراد به ما أريد باستخلف [[من قوله: (وروى أبو بكر، عن عاصم) .. إلى هنا، نقلاً عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 331 - 332 مع اختلاف يسير. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 458، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 504.]]. قوله تعالى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى﴾ قال ابن عباس: يريد يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها، ويظهر دينهم على جميع الأديان، ويملِّكهم على جميع الملوك [[ذكره عنه البغوي 6/ 58 إلى قوله: الأديان.]]. قوله تعالى: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ قرئ بالتخفيف والتشديد في ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ [[قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال، وقرأ الباقون بالتشديد. "التبصرة" ص 458، "الإقناع" لابن الباذش 2/ 713، "التيسير" للداني ص 163.]]. قال الفراء: وهما متقاربان. فإذا قلت للرجل: قد بُدَّلت. فمعناه. غيِّرت وغيرت حالك ولم يأت مكانك آخر، وكلُّ ما غيِّر عن حاله فهو مبدَّل بالتشديد. وقد يجوز مبدل -بالتخفيف- وليس بالوجه. وإذا جعلت الشيء مكان الشيء قلت: قد أبدلته [[في (أ): (بدلته)، وهو خطأ.]]، كقولك: أبدل هذا الدرهم، أي: أعطني مكانه [[في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 132 (بدل) نقل عن الفراء يزيد كلامه الذي نقله عنه الواحدي من كتابه "معاني القرآن" وضوحًا قال الأزهري: وقال أبو العباس -أحمد بن يحيى-: وقال الفراء: يقال: أبدلتُ الخاتم بالحلقة، إذا نحَّيت هذا وجعلت هذا مكانه. وبدَّلت الخاتم بالحلقة، إذا أذبته وسوّيته حلقة .. قال أبو العباس: وحقيقته أن التَّبديل: تغيير الصورة إلى صورة أخرى والجوهرة بعينها، والإبدال: تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى. اهـ. قال النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 145 - 146 بعد ذكر قول ثعلب في التفريق بين التبديل والإبدال-: وهذا القول صحيح .. غير أنَّه قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر. اهـ.]]. وبدَّل جائز. فمن شدد فكأنه جعل سبيل الخوف أمنا، ومن خفف قال: الأمنُ خلاف الخوف، فكأنَّه قال: جعل مكان الخوف أمنا، أي: ذهب بالخوف وجاء بالأمن. وهذا من سعة العربية. وقال أبو النَّجم [[هو الفضل بن قُدامة العجلي، تقدت ترجمته في سورة النساء. == وله أرجوزة في هشام بن عبد الملك تعد أجود أرجوزة للعرب، وأولها: الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخَّلِ "طبقات فحول الشعراء" 2/ 737، 745، "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 103. وهذا الشطر من الرَّجز أنشده الفراء 2/ 259 بلا نسبة. وهو من لاميّة أبي النجم المشهورة، وهو في "ديوانه" ص (204)، "وتهذيب اللغة" للأزهري 14/ 132 "بدل"، "لسان العرب" 11/ 48 (بدل).]]: عَزْلُ الأمير للأمير المُبْدَل فهذا يوضح الوجهين جميعًا [["معاني القرآن" للفراء 3/ 259 مع تصرف.]]. وقال مقاتل بن سليمان: من بعد خوفهم من كفار مكة [["تفسير مقاتل" 2/ 40 ب.]]. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد من بعد خوف أبي بكر في الغار. والوجه: أنَّه على العموم في كل خوف كان لأصحاب رسول الله -ﷺ-. قال مقاتل بن حيان: فقد فعل الله بهم ذلك [[في (ظ)، (ع): (ذلك بهم).]]، وبمن كان بعدهم من هذه الأمة فمكَّن لهم [[في (أ): (فمكَّنهم).]] في الأرض، وأبدلهم أمنا من بعد خوف، وبسط لهم في الأرض [[في رواية ابن أبي حاتم: الرزق.]]، ونصرهم على الأعداء، فقد أنجز الله موعده لهم [[رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 61 ب، 62 أ.]]. قوله ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: وعد الله المؤمنين في حال عبادتهم بإخلاصهم لله ليفعلن بهم [["معاني القرآن" للزَّجَّاج 4/ 51.= وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 146، "الكشاف" للزمخشري 3/ 74، "البحر المحيط" 6/ 469، "الدر المصون" 8/ 434 - 435.]]. وهذا الوجه هو اختيار المبرد لأنَّه قال: أي عابدين لي غير مشركين. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون استئنافًا على طريق الثناء عليهم وتثبيتًا كأنه قال: يعبدونني [[في "معاني الزجاج": يعبدني.]] المؤمنون لا يشركون بي شيئًا [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 51.]]. وهذا معنى قول ابن عباس: يريد عصمة مني لهم. يعني أعصمهم عن عبادة غيري والإشراك بي. قال مقاتل: لا يشركون بي شيئًا من الآلهة [["تفسير مقاتل" 2/ 40 ب.]]. وهو قول العامة [[انظر: " الطبري" 18/ 159، ابن أبي حاتم 7/ 62 أ، الثعلبي 3/ 88 ب.]]. وروى [ليث، عن] [[ساقط من (أ)، (ظ)، وفي (ع): (وروى مجاهد، عن ليث، عن ابن عباس)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتنا.]] مجاهد، عن ابن عباس: لا يخافون أحدًا غيري [[روى ابن أبي حاتم و"تفسيره" 7/ 62 أمن طريق ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا) قال: يعبدونني. هكذا في المخطوط، ويظهر أن فيه نقصًا. وروى الطبري 18/ 160 من طريق ليث، عن مجاهد (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا) قال: لا يخافون غيره. هكذا لم يذكر ابن عباس. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 هذا القول عن ابن عباس، وعزاه لعبد ابن حميد. وذكره عن مجاهد وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. == وذكره الماوردي 4/ 119، والقرطبي 12/ 300 عن ابن عباس. وهذه الرواية سواء عن ابن عباس أو مجاهد ضعيفة؛ لأن في سندها ليثًا، وهو ابن أبي سليم متفق على ضعفه.]]. فجعل الإشراك في هذه الآية أن يخافوا أحدًا [[(أحدًا): زيادة من (ع).]] غير الله. قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ يعني بهذه النعم [[في (ع): (النعمة).]]، وليس يعني [[في (أ): (بمعنى)، وفي (ع): (معنى).]] الكفر بالله؛ لأن الكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله، والله [تعالى يقول: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي جحد حق هذه النعم بعد إنْعام الله] [[ساقط من (ع).]] بها. وهذا معنى قول الربيع، وأبي العالية [[رواه الطبري 18/ 159 - 160، وابن أبي حاتم 7/ 62 أعن الربيع، عن أبي العالية.]]، وأبيّ بن كعب [[لم أجد من ذكره عنه. لكن أبا العالية يروي كثيرًا عن أبيّ -رضي الله عنه-.]]، ومقاتل ابن حيان [[رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 62 أ، ب. واختار الطبري 18/ 160 هذا القول. فهو على هذا كفر وفسق غير مخرج من الملّة. وفي الآية قول آخر: أنَّه الكفر والفسق الناقل عن الملة. ذكره ابن عطية 10/ 54، وأبو حيان 6/ 470 وقالا: وهو ظاهر قول حذيفة -رضي الله عنه-. وقال الشنقيطي "تفسير سورة النور" ص 185: والأظهر أنَّ المراد الكافر الأكبر والفسق الأكبر، فهم خارجون عن طاعة الله خروجًا كليًّا، والفسق يطلق على الكفر الأكبر في قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 20].]]. وقوله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد العاصون لله [[روى ابن أبي حاتم 7/ 62 ب هذا القول عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 عن مجاهد وعزاه للفريابي وغيره. وذكره البغوي 6/ 59 ولم ينسبه لأحد.]]. وهذا يدل على أن الكفر هاهنا كفر بالنعمة لا كفر بالله [-عز وجل-] [[زيادة من (ظ).]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب