الباحث القرآني

﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهم ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ والأشْبَهُ أنَّ هَذا الكَلامَ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِمُناسَبَةِ التَّعَرُّضِ إلى أحْوالِ المُنافِقِينَ الَّذِينَ أبْقاهم عَلى النِّفاقِ تَرَدُّدُهم في عاقِبَةِ أمْرِ المُسْلِمِينَ، وخَشْيَتُهم أنْ لا يَسْتَقِرَّ بِالمُسْلِمِينَ المَقامُ بِالمَدِينَةِ حَتّى يَغْزُوَهُمُ المُشْرِكُونَ، أوْ (p-٢٨٢)يُخْرِجُهُمُ المُنافِقُونَ حِينَ يَجِدُونَ الفُرْصَةَ لِذَلِكَ كَما حَكى اللَّهُ تَعالى مِن قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ﴿لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨]، فَكانُوا يُظْهِرُونَ الإسْلامَ اتِّقاءً مِن تَمامِ أمْرِ الإسْلامِ ويُبْطِنُونَ الكُفْرَ مُمالاةً لِأهْلِ الشِّرْكِ حَتّى إذا ظَهَرُوا عَلى المُسْلِمِينَ لَمْ يَلْمِزُوا المُنافِقِينَ بِأنَّهم قَدْ بَدَّلُوا دِينَهم، مَعَ ما لِهَذا الكَلامِ مِنَ المُناسَبَةِ مَعَ قَوْلِهِ: (﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤]) . فَيَكُونُ المَعْنى: وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وتُنْصَرُوا وتَأْمَنُوا. ومَعَ ما رُوِيَ مِن حَوادِثَ تُخَوِّفَ المُسْلِمِينَ ضَعْفَهم أمامَ أعْدائِهِمْ فَكانُوا مُشْفِقِينَ مِن غَزْوِ أهْلِ الشِّرْكِ ومِن كَيْدِ المُنافِقِينَ ودَلالَتِهِمُ المُشْرِكِينَ عَلى عَوْراتِ المُسْلِمِينَ فَقِيلَ: كانَتْ تِلْكَ الحَوادِثُ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. قالَ أبُو العالِيَةِ: «مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ بَعْدَ ما أُوحِيَ إلَيْهِ خائِفًا هو وأصْحابُهُ، ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ وكانُوا فِيها خائِفِينَ يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ في السِّلاحِ فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ أما يَأْتِي عَلَيْنا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ ونَضَعُ السِّلاحَ ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: لا تَغْبُرُونَ - أيْ لا تَمْكُثُونَ إلّا قَلِيلًا - حَتّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنكم في المَلَأِ العَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ» . ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. فَكانَ اجْتِماعُ هَذِهِ المُناسَباتِ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في مَوْقِعِها هَذا بِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ المَوْعُودِ بِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُقْتَصِرًا عَلى إبْدالِ خَوْفِهِمْ أمْنًا كَما اقْتَضاهُ أثَرُ أبِي العالِيَةِ، ولَكِنَّهُ كانَ مِن جُمْلَةِ المَوْعُودِ كَما كانَ سَبَبُهُ مِن عِدادِ الأسْبابِ. وقَدْ كانَ المُسْلِمُونَ واثِقِينَ بِالأمْنِ، ولَكِنَّ اللَّهَ قَدَّمَ عَلى وعْدِهِمْ بِالأمْنِ أنْ وعَدَهم بِالِاسْتِخْلافِ في الأرْضِ وتَمْكِينِ الدِّينِ والشَّرِيعَةِ فِيهِمْ تَنْبِيهًا لَهم بِأنَّ سُنَّةَ اللَّهِ أنَّهُ لا تَأْمَنُ أُمَّةٌ بَأْسَ غَيْرِها حَتّى تَكُونَ قَوِيَّةً مَكِينَةً مُهَيْمِنَةً عَلى أصْقاعِها. فَفي الوَعْدِ بِالِاسْتِخْلافِ والتَّمْكِينِ وتَبْدِيلِ الخَوْفِ أمْنًا إيماءٌ إلى التَّهَيُّؤِ لِتَحْصِيلِ أسْبابِهِ مَعَ ضَمانِ التَّوْفِيقِ لَهم والنَّجاحِ إنْ هم أخَذُوا في ذَلِكَ، وأنَّ مِلاكَ ذَلِكَ هو طاعَةُ اللَّهِ والرَّسُولِ ﷺ (﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤])، وإذا حَلَّ الِاهْتِداءُ في النُّفُوسِ نَشَأتِ الصّالِحاتُ (p-٢٨٣)فَأقْبَلَتْ مُسَبَّباتُها تَنْهالُ عَلى الأُمَّةِ، فالأسْبابُ هي الإيمانُ وعَمَلُ الصّالِحاتِ. والمَوْصُولُ عامٌّ لا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وعُمُومُهُ عُرْفِيٌّ، أيْ: غالِبٌ فَلا يُناكِدُهُ ما يَكُونُ في الأُمَّةِ مِن مُقَصِّرِينَ في عَمَلِ الصّالِحاتِ، فَإنَّ تِلْكَ المَنافِعَ عائِدَةٌ عَلى مَجْمُوعِ الأُمَّةِ. والخِطابُ في (مِنكم) لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ بِمُشْرِكِيها ومُنافِقِيها بِأنَّ الفَرِيقَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الإيمانُ وعَمَلُ الصّالِحاتِ هو المَوْعُودُ بِهَذا الوَعْدِ. والتَّعْرِيفُ في (الصّالِحاتِ) لِلِاسْتِغْراقِ، أيْ: عَمِلُوا جَمِيعَ الصّالِحاتِ، وهي الأعْمالُ الَّتِي وصَفَها الشَّرْعُ بِأنَّها صَلاحٌ، وتَرَكَ الأعْمالَ الَّتِي وصَفَها الشَّرْعُ بِأنَّها فَسادٌ؛ لِأنَّ إبْطالَ الفَسادِ صَلاحٌ. فالصّالِحاتُ جَمْعُ صالِحَةٍ: وهي الخَصْلَةُ والفِعْلَةُ ذاتُ الصَّلاحِ، أيْ الَّتِي شَهِدَ الشَّرْعُ بِأنَّها صالِحَةٌ. وقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ البَقَرَةِ. واسْتِغْراقُ (الصّالِحاتِ) اسْتِغْراقٌ عُرْفِيٌّ، أيْ عَمِلَ مُعْظَمَ الصّالِحاتِ ومُهِمّاتِها ومَراجِعَها مِمّا يَعُودُ إلى تَحْقِيقِ كُلِّيّاتِ الشَّرِيعَةِ وجَرْيِ حالَةِ مُجْتَمَعِ الأُمَّةِ عَلى مَسْلَكِ الِاسْتِقامَةِ، وذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقامَةِ في الخُوَيْصَةِ وبِحُسْنِ التَّصَرُّفِ في العَلاقَةِ المَدَنِيَّةِ بَيْنَ الأُمَّةِ عَلى حَسَبِ ما أمَرَ بِهِ الدِّينُ أفْرادَ الأُمَّةِ، كُلٌّ فِيما هو مِن عَمَلِ أمْثالِهِ، الخَلِيفَةُ فَمَن دُونَهُ، وذَلِكَ في غالِبِ أحْوالِ تَصَرُّفاتِهِمْ، ولا التِفاتَ إلى الفَلَتاتِ المُناقِضَةِ فَإنَّها مَعْفُوٌّ عَنْها إذا لَمْ يُسْتَرْسَلْ عَلَيْها وإذا ما وقَعَ السَّعْيُ في تَدارُكِها. والِاسْتِقامَةُ في الخُوَيْصَةِ هي مُوجِبُ هَذا الوَعْدِ وهي الإيمانُ وقَواعِدُ الإسْلامِ، والِاسْتِقامَةُ في المُعامَلَةِ هي الَّتِي بِها تَيْسِيرُ سَبَبِ المَوْعُودِ بِهِ. وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أصُولَ انْتِظامِ أُمُورِ الأُمَّةِ في تَضاعِيفِ كِتابِهِ وعَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠] . وقَوْلِهِ: (p-٢٨٤)﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكم ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وقَوْلِهِ في سِياقِ الذَّمِّ: ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] وقَوْلُهُ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] وبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَصَرُّفاتِ وُلاةِ الأُمُورِ في شُئُونِ الرَّعِيَّةِ ومَعَ أهْلِ الذِّمَّةِ ومَعَ الأعْداءِ في الغَزْوِ والصُّلْحِ والمُهادَنَةِ والمُعاهَدَةِ، وبَيْنَ أُصُولِ المُعامَلاتِ بَيْنَ النّاسِ. فَمَتى اهْتَمَّ وُلاةُ الأُمُورِ وعُمُومُ الأُمَّةِ بِاتِّباعِ ما وضَّحَ لَهُمُ الشَّرْعُ تَحَقَّقَ وعْدُ اللَّهِ إيّاهم بِهَذا الوَعْدِ الجَلِيلِ. وهَذِهِ التَّكالِيفُ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ لِصَلاحِ أُمُورِ الأُمَّةِ ووَعَدَ عَلَيْها بِإعْطاءِ الخِلافَةِ والتَّمْكِينِ والأمْنِ صارَتْ بِتَرْتِيبِ تِلْكَ المَوْعِدَةِ عَلَيْها أسْبابًا لَها، وكانَتِ المَوْعِدَةُ كالمُسَبَّبِ عَلَيْها فَشابَهَتْ مِن هَذِهِ الحالَةِ خِطابَ الوَضْعِ، وجُعِلَ الإيمانُ عَمُودَها وشَرْطًا لِلْخُرُوجِ مِن عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِها وتَوْثِيقًا لِحُصُولِ آثارِها بِأنْ جَعَلَهُ جالِبَ رِضاهُ وعِنايَتِهِ. فَبِهِ يَتَيَسَّرُ لِلْأُمَّةِ تَناوُلُ أسْبابِ النَّجاحِ، وبِهِ يَحُفُّ اللُّطْفُ الإلَهِيُّ بِالأُمَّةِ في أطْوارِ مُزاوَلَتِها واسْتِجْلابِها بِحَيْثُ يَدْفَعُ عَنْهُمُ العَراقِيلَ والمَوانِعَ، ورُبَّما حَفَّ بِهِمُ اللُّطْفُ والعِنايَةُ عِنْدَ تَقْصِيرِهِمْ في القِيامِ بِها. وعِنْدَ تَخْلِيطِهِمُ الصَّلاحَ بِالفَسادِ فَرَفَقَ بِهِمْ، ولَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الشَّرَّ وتَلَوَّمَ لَهم في إنْزالِ العُقُوبَةِ. وقَدْ أشارَ إلى هَذا قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ إنَّ في هَذا لَبَلاغٌ لِقَوْمٍ عابِدِينَ وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ المُسْلِمِينَ. وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: ٣٨] في سُورَةِ الحَجِّ. فَلَوْ أنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ عَمِلُوا في سِيرَتِهِمْ وشُئُونِ رَعِيَّتِهِمْ بِمِثْلِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ مِنَ الصّالِحاتِ بِحَيْثُ لَمْ يُعْوِزْهم إلّا الإيمانُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ لاجْتَنَوْا مِن سِيرَتِهِمْ صُوَرًا تُشْبِهُ الحَقائِقَ الَّتِي يَجْتَنِيها المُسْلِمُونَ؛ لِأنَّ (p-٢٨٥)تِلْكَ الأعْمالَ صارَتْ أسْبابًا وسُنَنًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْها آثارُها الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ سُنَنًا وقَوانِينَ عُمْرانِيَّةً سِوى أنَّهم لِسُوءِ مُعامَلَتِهِمْ رَبَّهم بِجُحُودِهِ أوْ بِالإشْراكِ بِهِ أوْ بِعَدَمِ تَصْدِيقِ رَسُولِهِ يَكُونُونَ بِمَنأىً عَنْ كَفالَتِهِ وتَأْيِيدِهِ إيّاهم ودَفْعِ العَوادِي عَنْهم، بَلْ يَكِلُهم إلى أعْمالِهِمْ وجُهُودِهِمْ عَلى حَسَبِ المُعْتادِ. ألا تَرى أنَّ القادَةَ الأُورُبِّيِّينَ بَعْدَ أنِ اقْتَبَسُوا مِنَ الإسْلامِ قَوانِينَهُ ونِظامَهُ بِما مارَسُوهُ مِن شُئُونِ المُسْلِمِينَ في خِلالِ الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ ثُمَّ بِما اكْتَسَبُوهُ مِن مُمارَسَةِ كُتُبِ التّارِيخِ الإسْلامِيِّ والفِقْهِ الإسْلامِيِّ والسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ نَظَّمُوا مَمالِكَهم عَلى قَواعِدِ العَدْلِ والإحْسانِ والمُواساةِ وكَراهَةِ البَغْيِ والعُدْوانِ فَعَظُمَتْ دُوَلُهم واسْتَقامَتْ أُمُورُهم. ولا عَجَبَ في ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّطَ اللَّهُ الآشُورِيِّينَ وهم مُشْرِكُونَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ لِفَسادِهِمْ فَقالَ: ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكانَ وعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٤] وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الإسْراءِ. والِاسْتِخْلافُ: جَعَلَهم خُلَفاءَ، أيْ عَنِ اللَّهِ في تَدْبِيرِ شُئُونِ عِبادِهِ كَما قالَ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. والسِّينُ والتّاءُ لِلتَّأْكِيدِ. وأصْلُهُ: لَيُخْلِفَنَّهم في الأرْضِ. وتَعْلِيقُ فِعْلِ الِاسْتِخْلافِ بِمَجْمُوعِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وإنْ كانَ تَدْبِيرُ شُئُونِ الأُمَّةِ مَنُوطًا بِوُلاةِ الأُمُورِ لا بِمَجْمُوعِ الأُمَّةِ مِن حَيْثُ إنَّ لِمَجْمُوعِ الأُمَّةِ انْتِفاعًا بِذَلِكَ وإعانَةً عَلَيْهِ، كُلٌّ بِحَسَبِ مَقامِهِ في المُجْتَمَعِ، كَما حَكى تَعالى قَوْلَ مُوسى لِبَنِي إسْرائِيلَ (﴿وجَعَلَكم مُلُوكًا﴾ [المائدة: ٢٠]) كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ العُقُودِ. ولِهَذا فالوَجْهُ أنَّ المُرادَ مِنَ الأرْضِ جَمِيعِها، وأنَّ الظَّرْفِيَّةَ المَدْلُولَةَ بِحَرْفِ (في) ظاهِرَةٌ في جُزْءٍ مِنَ الأرْضِ وهو مَوْطِنُ حُكُومَةِ الأُمَّةِ وحَيْثُ تَنالُ أحْكامُها سُكّانَهُ. والأصْلُ في الظَّرْفِيَّةِ عَدَمُ اسْتِيعابِ المَظْرُوفِ الظَّرْفَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ [هود: ٦١] . (p-٢٨٦)وإنَّما صِيغَ الكَلامُ في هَذا النَّظْمِ ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى قَوْلِهِ: (﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾) دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَوْلِهِ: (في الأرْضِ) لِـ (﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾) لِلْإيماءِ إلى أنَّ الِاسْتِخْلافَ يَحْصُلُ في مُعْظَمِ الأرْضِ. وذَلِكَ يَقْبَلُ الِامْتِدادَ والِانْقِباضَ كَما كانَ الحالُ يَوْمَ خُرُوجِ بِلادِ الأنْدَلُسِ مِن حُكْمِ الإسْلامِ. ولَكِنَّ حُرْمَةَ الأُمَّةِ واتِّقاءَ بَأْسِها يَنْتَشِرُ في المَعْمُورَةِ كُلِّها بِحَيْثُ يَخافُهم مَن عَداهم مِنَ الأُمَمِ في الأرْضِ الَّتِي لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِهِمْ ويَسْعَوْنَ الجَهْدَ في مَرْضاتِهِمْ ومُسالَمَتِهِمْ. وهَذا اسْتِخْلافٌ كامِلٌ، ولِذَلِكَ نَظَرَ بِتَشْبِيهِهِ بِاسْتِخْلافِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يَعْنِي الأُمَمَ الَّتِي حَكَمَتْ مُعْظَمَ العالَمِ وأخافَتْ جَمِيعَهُ مِثْلَ: الآشُورِيِّينَ، والمِصْرِيِّينَ، والفِينِيقِيِّينَ، واليَهُودَ زَمَنَ سُلَيْمانَ، والفُرْسَ، واليُونانَ، والرُّومانَ. وعَنْ مالِكٍ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فَيَكُونُ مَوْصُولُ الجَمْعِ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى المُثَنّى. وعَنِ الضَّحّاكِ: هَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ خِلافَةَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ. ولَعَلَّ هَذا مُرادُ مالِكٍ. وعَلى هَذا فالمُرادُ بِالَّذِينِ مِن قَبْلِهِمْ صُلَحاءُ المُلُوكِ مِثْلُ: يُوسُفَ، وداوُدَ، وسُلَيْمانَ، وأنُو شِرْوانَ، وأصْحَمَةَ النَّجاشِيِّ، ومَلِكَيْ صادِقٍ الَّذِي كانَ في زَمَنِ إبْراهِيمَ ويُدْعى حَمُورابِي، وذِي القَرْنَيْنِ، وإسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيِّ، وبَعْضِ مَن ولِيَ جُمْهُورِيَّةَ اليُونانِ. وفِي الآيَةِ دَلالَةٌ واضِحَةٌ عَلى أنَّ خُلَفاءَ الأُمَّةِ مِثْلَ: أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ والحَسَنِ ومُعاوِيَةَ كانُوا بِمَحَلِّ الرِّضى مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ اسْتَخْلَفَهُمُ اسْتِخْلافًا كامِلًا كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وفَتَحَ لَهُمُ البِلادَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ وأخافَ مِنهُمُ الأكاسِرَةَ والقَياصِرَةَ. وجُمْلَةُ (﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾) بَيانٌ لِجُمْلَةِ (وعَدَ)؛ لِأنَّها عَيْنُ المَوْعُودِ بِهِ. ولَمّا كانَتْ جُمْلَةَ قَسَمٍ وهو مِن قَبِيلِ القَوْلِ كانَتْ إحْداهُما بَيانًا لِلْأُخْرى. وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿كَما اسْتُخْلِفَ﴾) بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ، أيْ كَما اسْتَخْلَفَ اللَّهُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ. وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِالبِناءِ لِلنّائِبِ فَيَكُونُ (الَّذِينَ) نائِبَ فاعِلٍ. (p-٢٨٧)وتَمْكِينُ الدِّينِ: انْتِشارُهُ في القَبائِلِ والأُمَمِ وكَثْرَةُ مُتَّبِعِيهِ. اسْتُعِيرَ التَّمْكِينُ الَّذِي حَقِيقَتُهُ التَّثْبِيتُ والتَّرْسِيخُ لِمَعْنى الشُّيُوعِ والِانْتِشارِ؛ لِأنَّهُ إذا انْتَشَرَ لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الِانْعِدامُ فَكانَ كالشَّيْءِ المُثَبَّتِ المُرَسَّخِ، وإذا كانَ مُتَّبِعُوهُ في قِلَّةٍ كانَ كالشَّيْءِ المُضْطَرِبِ المُتَزَلْزِلِ. وهَذا الوَعْدُ هو الَّذِي أشارَ إلَيْهِ النَّبِيءُ ﷺ في أحادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنها حَدِيثُ الحُدَيْبِيَةِ إذْ جاءَ فِيهِ قَوْلُهُ: «وإنْ هم أبَوْا - أيْ إلّا القِتالَ - فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقاتِلَنَّهم عَلى أمْرِي هَذا حَتّى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي - أيْ يَنْفَصِلَ مُقَدَّمُ العُنُقِ عَنِ الجَسَدِ - ولِيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَهُ» . وقَوْلُهُ: (لَهم) مُقْتَضى الظّاهِرِ فِيهِ أنْ يَكُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (دِينَهم)؛ لِأنَّ المَجْرُورَ بِالحَرْفِ أضْعَفُ تَعَلُّقًا مِن مَفْعُولِ الفِعْلِ، فَقَدَّمَ (لَهم) عَلَيْهِ لِلْإيماءِ إلى العِنايَةِ بِهِمْ، أيْ بِكَوْنِ التَّمْكِينِ لِأجْلِهِمْ، كَتَقْدِيمِ المَجْرُورِ عَلى المَفْعُولَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ١] . وإضافَةُ الدِّينِ إلى ضَمِيرِهِمْ لِتَشْرِيفِهِمْ بِهِ؛ لِأنَّهُ دِينُ اللَّهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: ﴿الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ﴾، أيِ الَّذِي اخْتارَهُ لِيَكُونَ دِينَهم، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّهُ اخْتارَهم أيْضًا لِيَكُونُوا أتْباعَ هَذا الدِّينِ. وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ المَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ هَذا الدِّينَ في الأُمَمِ؛ لِأنَّهُ دِينُهم فَيَكُونُ تَمَكُّنُهُ في النّاسِ بِواسِطَتِهِمْ. وإنَّما قالَ: ﴿ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا﴾ ولَمْ يَقُلْ: ولَيُؤَمِّنَنَّهم، كَما قالَ في سابِقِيهِ؛ لِأنَّهم ما كانُوا يَطْمَحُونَ يَوْمَئِذٍ إلى الأمْنِ، كَما ورَدَ في حَدِيثِ أبِي العالِيَةِ المُتَقَدِّمِ آنِفًا، فَكانُوا في حالَةٍ هي ضِدُّ الأمْنِ ولَوْ أُعْطُوا الأمْنَ دُونَ أنْ يَكُونُوا في حالَةِ خَوْفٍ لَكانَ الأمْنُ مِنَّةً واحِدَةً. وإضافَةُ الخَوْفِ إلى ضَمِيرِهِمْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ خَوْفٌ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ. وتَنْكِيرُ (أمْنًا) لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مُبْدَلًا مِن بَعْدِ خَوْفِهِمِ المَعْرُوفِ بِالشِّدَّةِ. والمَقْصُودُ: الأمْنُ مِن أعْدائِهِمُ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ. وفِيهِ بِشارَةٌ بِأنَّ اللَّهَ مُزِيلٌ الشِّرْكَ والنِّفاقَ مِنَ الأُمَّةِ. ولَيْسَ هَذا الوَعْدُ بِمُقْتَضٍ أنْ لا تَحْدُثَ حَوادِثُ (p-٢٨٨)خَوْفٍ في الأُمَّةِ في بَعْضِ الأقْطارِ كالخَوْفِ الَّذِي اعْتَرى أهْلَ المَدِينَةِ مِن ثَوْرَةِ أهْلِ مِصْرَ الَّذِينَ قادَهُمُ الضّالُّ مالِكٌ الأشْتَرُ النَّخَعِيُّ، ومِثْلِ الخَوْفِ الَّذِي حَدَثَ في المَدِينَةِ يَوْمَ الحَرَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَوادِثِ، وإنَّما كانَتْ تِلْكَ مُسَبَّباتٍ عَنْ أسْبابٍ بَشَرِيَّةٍ وإلى اللَّهِ إيابُهم وعَلى اللَّهِ حِسابُهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ولَيُبَدِّلَنَّهم) بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ وتَشْدِيدِ الدّالِّ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ويَعْقُوبَ بِسُكُونِ المُوَحَّدَةِ وتَخْفِيفِ الدّالِ والمَعْنى واحِدٌ. وجُمْلَةُ (يَعْبُدُونَنِي) حالٌ مِن ضَمائِرِ الغَيْبَةِ المُتَقَدِّمَةِ، أيْ: هَذا الوَعْدُ جَرى في حالِ عِبادَتِهِمْ إيّايَ. وفي هَذِهِ الحالِ إيذانٌ بِأنَّ ذَلِكَ الوَعْدَ جَزاءٌ لَهم، أيْ وعَدْتُهم هَذا الوَعْدَ الشّامِلَ لَهم والباقِي في خَلَفِهِمْ؛ لِأنَّهم يَعْبُدُونَنِي عِبادَةً خالِصَةً عَنِ الإشْراكِ. وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ لِإفادَةِ اسْتِمْرارِهِمْ عَلى ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالمُنافِقِينَ إذْ كانُوا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ. وجُمْلَةُ (﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾) حالٌ مِن ضَمِيرِ الرَّفْعِ في (﴿يَعْبُدُونَنِي﴾) تَقْيِيدًا لِلْعِبادَةِ بِهَذِهِ الحالَةِ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ولَكِنَّهم يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وفي هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ ما يُؤَيِّدُ ما قَدَّمْناهُ آنِفًا مِن كَوْنِ الإيمانِ هو الشَّرِيطَةُ في كَفالَةِ اللَّهِ لِلْأُمَّةِ هَذا الوَعْدَ. وجُمْلَةُ ﴿ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ تَحْذِيرٌ بَعْدَ البِشارَةِ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَعْقِيبِ البِشارَةِ بِالنِّذارَةِ والعَكْسُ دَفْعًا لِلِاتِّكالِ. والإشارَةُ في قَوْلِهِ: (بَعْدَ ذَلِكَ) إلى الإيمانِ المُعَبَّرِ عَنْهُ هُنا بِـ ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ والمُعَبَّرُ عَنْهُ في أوَّلِ الآياتِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أيْ: ومَن كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ وما حَصَلَ لَهُ مِنَ البِشارَةِ عَلَيْهِ، فَهُمُ الفاسِقُونَ عَنِ الحَقِّ. وصِيغَةُ الحَصْرِ المَأْخُوذَةُ مِن تَعْرِيفِ المُسْنَدِ بِلامِ الجِنْسِ مُسْتَعْمِلَةٌ مُبالَغَةً لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ الفِسْقُ الكامِلُ. (p-٢٨٩)ووَصْفُ الفاسِقِينَ لَهُ رَشِيقُ المَوْقِعِ،؛ لِأنَّ مادَّةَ الفِسْقِ تَدُلُّ عَلى الخُرُوجِ مِنَ المَكانِ مِن مَنفَذٍ ضَيِّقٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب