الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ خِطابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومِن آمَنِ مَعَهُ فَفي الآيَةِ تَنْوِيعُ الخِطابِ حَيْثُ خاطَبَ سُبْحانَهُ المُقَسِّمِينَ عَلى تَقْدِيرِ التَّوَلِّي ثُمَّ صَرَفَهُ تَعالى عَنْهم إلى المُؤْمِنِينَ الثّابِتِينَ وهو كالِاعْتِراضِ بِناءً عَلى ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن كَوْنِ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ﴾ وفائِدَتُهُ أنَّهُ لَمّا أفادَ الكَلامَ السّابِقَ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَأْمُرَهم بِالطّاعَةِ كِفاحًا ولا يَخافَ مَضَرَّتَهم أكَّدَ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو الغالِبُ ومِن مَعَهُ فَأنّى لِلْخَوْفِ مَجالٌ، وإنْ شِئْتَ فاجْعَلْهُ اسْتِئْنافًا جِيءَ بِهِ لِتَأْكِيدِ (p-202)ما يُفِيدُهُ الكَلامُ مِن نَفْيِ المَضَرَّةِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ كَوْنِهِ اعْتِراضًا فَإنَّ في العَطْفِ المَذْكُورِ ما سَتَسْمَعُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ومِن بَيانِيَّةٍ، ووَسَطَ الجارِّ والمَجْرُورِ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿آمَنُوا﴾ والجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ عَلَيْها الدّاخِلَةُ مَعَها في حَيِّزِ الصِّلَةِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ مَعَ التَّأْخِيرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفَتْحُ: 29] قِيلَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأصْلَ في ثُبُوتِ الِاسْتِخْلافِ الإيمانِ، ولِهَذا كانَ الأصَحُّ عَدَمَ الِانْعِزالِ بِالفِسْقِ الطّارِئِ ودَلَّ عَلَيْهِ صِحاحُ الأحادِيثِ ومَدْخَلِيَّةِ الصَّلاحِ في ابْتِداءِ البَيْعَةِ وأمّا في المَغْفِرَةِ والأجْرِ العَظِيمِ فَكِلاهُما أصْلٌ فَكانَ المُناسِبُ التَّأْخِيرَ. وقَدْ يُقالُ: إنَّ ذَلِكَ لِتَعْجِيلِ مَسَرَّةِ المُخاطِبِينَ حَيْثُ إنَّ الآيَةَ سِيقَتْ لِذَلِكَ، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمُقَسَّمِينَ والكَلامُ تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ بِبَيانِ ما لَهم في العاجِلِ مِنَ الِاسْتِخْلافِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وفي الآجِلِ ما لا يُقادِرُ قَدْرَهُ عَلى ما أُدْمِجَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ والجارُّ لِلتَّبْعِيضِ وأمْرُ التَّوْسِيطِ عَلى حالِهِ، ولَمْ يَرْتَضِهِ بَعْضُ الأجِلَّةِ لِأنَّ ﴿آمَنُوا﴾ إنْ كانَ ماضِيًا عَلى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَن كانَ آمَنَ حالَ الخِطابِ وإنَّ جَعْلَ بِمَعْنى المُضارِعِ عَلى المَأْلُوفِ مِن أخْبارِ اللَّهِ تَعالى فَمَعَ نُبُوِّهِ عَنْ هَذا المَقامِ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ أمْرِ الخُلَفاءِ ولَمْ يُطابِقِ الواقِعَ أيْضًا لِأنَّ هَؤُلاءِ الأجِلّاءَ لَمْ يَكُنْ مِن بَعْضِ مَن آمَنَ مِن أُولَئِكَ المُخاطِبِينَ ولا كانَ في المُقَسَّمِينَ مَن نالَ الخِلافَةَ انْتَهى، وفِيهِ شَيْءٌ. ولَعَلَّهُ لا يَضُرُّ بِالغَرَضِ وارْتَضى أبُو السُّعُودِ تَعَلُّقَ الكَلامِ بِذَلِكَ وادَّعى أنَّهُ اسْتِئْنافٌ مُقَرَّرٌ لِما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ إلَخْ مِنَ الوَعْدِ الكَرِيمِ مُعَرَّبٌ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ ومُبَيِّنٌ لِتَفاصِيلِ ما أجْمَلَ فِيهِ مِن فُنُونِ السِّعاداتِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هي مِن آثارِ الِاهْتِداءِ ومُتَضَمِّنٌ لِما هو المُرادُ بِالطّاعَةِ الَّتِي نِيطَ بِها الِاهْتِداءُ وأنَّ المُرادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا كُلُّ مَنِ اتُّصِفَ بِالإيمانِ بَعْدَ الكُفْرِ عَلى الإطْلاقِ مِن أيِّ طائِفَةٍ كانَ وفي أيِّ وقْتٍ كانَ لا مَن آمَنَ مِن طائِفَةِ المُنافِقِينَ فَقَطْ ولا مَن آمَنَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فَحَسْبُ ضَرُورَةِ عُمُومِ الوَعْدِ الكَرِيمِ وأنَّ الخِطابَ لَيْسَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُخْلَصِينَ أوْ مَن يَعُمُّهم وغَيْرَهم مِنَ الأُمَّةِ ولا لِلْمُنافِقِينَ خاصَّةً بَلْ هو لِعامَّةِ الكَفَرَةِ وأنَّ مَن لِلتَّبْعِيضِ، وقالَ في نُكْتَةِ التَّوْسِيطَ: إنَّهُ لِإظْهارِ أصالَةِ الإيمانِ وعَراقَتِهِ في اسْتِتْباعِ الآثارِ والأحْكامِ والإيذانِ بِكَوْنِهِ ما يَطْلُبُ مِنهم وأهَمُّ ما يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وأمّا التَّأْخِيرُ في آيَةِ سُورَةِ الفَتْحِ فُلانٌ مِن هُناكَ بَيانِيَّةٌ والضَّمِيرُ لِلَّذِينِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن خَلَصَ المُؤْمِنِينَ ولا رَيْبَ في أنَّهم جامِعُونَ بَيْنَ الإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ مُثابِرُونَ عَلَيْها فَلا بُدَّ مِن وُرُودِ بَيانِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ نُعُوتِهِمُ الجَلِيلَةِ بِكَمالِها انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ كَوْنَ الخِطابِ لِعامَّةِ الكَفَرَةِ خِلافُ الظّاهِرِ، وحَمْلُ الفِعْلِ الماضِي عَلى ما يَعُمُّ الماضِي والمُسْتَقْبَلَ كَذَلِكَ وفِيما ذَكَرَهُ أيْضًا بُعْدٌ عَنْ سَبَبِ النُّزُولِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدُويَهٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ عَنِ أبِيّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «لَمّا قَدَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ وآوَتْهُمُ الأنْصارُ رَمَتْهُمُ العَرَبُ عَنْ قَوْسٍ واحِدَةٍ فَكانُوا لا يَبِيتُونَ إلّا في السِّلاحِ ولا يَصْبَحُونَ إلّا فِيهِ فَقالُوا تَرَوْنَ أنّا نَعِيشُ حَتّى نَبِيتَ آمِنِينَ مُطَمْئِنِّينَ لا نَخافُ إلّا اللَّهَ تَعالى فَنَزَلَتْ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ الآيَةُ» ولا يَتَأتّى مَعَهُ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ عَلى صِحَّةِ أمْرِ الخُلَفاءِ أصْلًا، ولَعَلَّهُ لا يَقُولُ بِهِ ويَسْتَغْنِي عَنْهُ بِما هو أوْضَحُ دَلالَةً، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ عامَّةً في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأطْلَقا الأُمَّةُ وهي تُطْلِقُ عَلى أُمَّةِ الإجابَةِ وعَلى أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَكِنَّ (p-203)الأغْلَبَ في الِاسْتِعْمالِ الإطْلاقُ الأوَّلُ فَلا تَغْفُلْ، وإذا كانَتْ مِن بَيانِيَّةٍ فالمَعْنى وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ هم أنْتُمْ ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ﴾ أيْ لِيَجْعَلَهم خُلَفاءَ مُتَصَرِّفِينَ فِيها تَصَرُّفَ المُلُوكِ في مَمالِيكِهِمْ أوْ خُلَفاءَ مِنَ الَّذِينَ كانُوا يَخافُونَهم مِنَ الكَفَرَةِ بِأنْ يَنْصُرَهم عَلَيْهِمْ ويُورِثَهم أرْضَهُمْ، والمُرادُ بِالأرْضِ عَلى ما قِيلَ جَزِيرَةُ العَرَبِ، وقِيلَ مَأْواهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها فَفِي الصَّحِيحِ ««زُوِيَتْ لِي الأرْضُ فَأُرِيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها وسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي ما زُوِيَ لِي مِنها»» واللّامُ واقِعَةٌ في جَوابِ القَسَمِ المَحْذُوفِ ومَفْعُولُ وعَدَ الثّانِي مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الجَوابُ أيْ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا اسْتِخْلافَهم وأقْسَمَ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، ويَجُوزُ أنْ يَنْزِلَ وعْدُهُ تَعالى لِتَحَقُّقِ إنْجازِهِ لا مَحالَةَ مَنزِلَةَ القِسْمِ وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ ويَكُونُ ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ مَنزِلَ مَنزِلَةِ المَفْعُولِ فَلا حَذْفَ. وما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما اسْتَخْلَفَ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ لِيَسْتَخْلِفَهُمُ اسْتِخْلافًا كائِنًا كاسْتِخْلافِهِ ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وهم بَنُو إسْرائِيلَ اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في الشّامِ بَعْدَ إهْلاكِ الجَبابِرَةِ وكَذا في مِصْرَ عَلى ما قِيلَ مِن أنَّها صارَتْ تَحْتَ تَصَرُّفِهِمْ بَعْدَ هَلاكِ فِرْعَوْنَ وإنْ لَمْ يَعُودُوا إلَيْها وهم ومَن قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ المُؤْمِنَةِ الَّذِينَ أسْكَنَهُمُ اللَّهُ تَعالى في الأرْضِ بَعْدَ إهْلاكِ أعْدائِهِمْ مِنَ الكَفَرَةِ الظّالِمِينَ. وقُرِئَ «كَما اسْتَخْلَفَ» بِالبِناءِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لِيَسْتَخْلِفَهم في الأرْضِ فَيَسْتَخْلِفُونَ فِيها اسْتِخْلافًا أيْ مُسْتَخْلَفِيَّةٍ كائِنَةٍ كَمُسْتَخْلِفِيَّةِ ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهم دِينَهُمُ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ والكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ فِيهِ، وتَأْخِيرُهُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ أجَلُّ الرَّغائِبِ المَوْعُودَةِ وأعْظَمُها لَمّا أنَّهُ كالأثَرِ لِلِاسْتِخْلافِ المَذْكُورِ. وقِيلَ: لَمّا أنَّ النُّفُوسَ إلى الحُظُوظِ العاجِلَةِ أمْيَلُ فَتَصْدِيرُ المَواعِيدِ بِها في الِاسْتِمالَةِ أدْخَلُ، والتَّمْكِينُ في الأصْلِ جَعَلَ الشَّيْءَ في مَكانٍ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ في لازِمِهِ وهو التَّثْبِيتُ والمَعْنى لِيَجْعَلَنَّ دِينَهم ثابِتًا مُقَرَّرًا بِأنْ يُعَلِّيَ سُبْحانَهُ شَأْنَهُ ويُقَوِّيَ بِتَأْيِيدِهِ تَعالى أرْكانَهُ ويُعَظِّمَ أهْلَهُ في نُفُوسِ أعْدائِهِمُ الَّذِينَ يَسْتَغْرِقُونَ النَّهارَ واللَّيْلَ في التَّدْبِيرِ لِإطْفاءِ أنْوارِهِ ويَسْتَنْهِضُونَ الرَّجُلَ والخَيْلَ لِلتَّوَصُّلِ إلى إعْفاءِ آثارِهِ فَيَكُونُونَ بِحَيْثُ يَيْأسُونَ مِنَ التَّجَمُّعِ لِتَفْرِيقِهِمْ عَنْهُ لِيَذْهَبَ مِنَ البَيْنِ ولا تَكادُ تُحَدِّثُهم أنْفُسِهِمْ بِالحَيْلُولَةِ بَيْنَهم وبَيْنَهُ لِيَعُودَ أثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ. وقِيلَ: المَعْنى لِيَجْعَلَهُ مُقَرَّرًا بِحَيْثُ يَسْتَمِرُّونَ عَلى العَمَلِ بِأحْكامِهِ ويَرْجِعُونَ إلَيْهِ في كُلِّ ما يَأْتُونَ وما يَذْرُوَنَ، وأصْلُ التَّمْكِينِ جَعْلُ الشَّيْءِ مَكانًا لِآخَرَ والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِهِ لِلدَّلالَةِ عَلى كَمالِ ثَباتِ الدِّينِ ورَصانَةِ أحْكامِهِ وسَلامَتِهِ عَنِ التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ لِابْتِنائِهِ عَلى تَشْبِيهِهِ بِالأرْضِ في الثَّباتِ والقَرارِ مَعَ ما فِيهِ مِن مُراعاةِ المُناسِبَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الِاسْتِخْلافِ في الأرْضِ انْتَهى، وفِيهِ بَحْثٌ. وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِلْمُسارَعَةِ إلى بَيانِ كَوْنِ المَوْعُودِ مِن مَنافِعِهِمْ مَعَ التَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ ولِأنَّ في تَوْسِيطِهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ وصْفِهِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ﴾ وتَأْخِيرُهُ عَنِ الوَصْفِ مِنَ الإخْلالِ بِجَزالَةِ النَّظْمِ الكَرِيمِ ما لا يَخْفى، وفي إضافَةِ الدِّينِ وهو دِينُ الإسْلامِ إلَيْهِمْ ثُمَّ وصَفَهُ بِارْتِضائِهِ لَهم مِن مَزِيدِ التَّرْغِيبِ فِيهِ والتَّثْبِيتُ عَلَيْهِ ما فِيهِ ﴿ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ والحَسَنُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الإبْدالِ وأخْرَجَ ذَلِكَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ عَنْ عاصِمٍ وهو عَطْفٌ عَلى ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ولَيُمَكِّنَنَّ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) بِمُقْتَضى البَشَرِيَّةِ في الدُّنْيا (p-204)مِن أعْدائِهِمْ في الدِّينِ ﴿أمْنًا﴾ لا يُقادِرُ قَدْرَهُ، وقِيلَ: الخَوْفُ في الدُّنْيا مِن عَذابِ الآخِرَةِ والأمْنُ في الآخِرَةِ ورَجَّحَ بِأنَّ الكَلامَ عَلَيْهِ أبْعَدُ مِنِ احْتِمالِ التَّأْكِيدِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ بِخِلافِهِ عَلى الأوَّلِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأوَّلَ أوْفَقُ بِالمَقامِ والأخْبارِ الوارِدَةِ في سَبَبِ النُّزُولِ تَقْتَضِيهِ وأمْرُ احْتِمالِ التَّأْكِيدِ سَهْلٌ. ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ جَوَّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ إمّا مِنَ ﴿الَّذِينَ﴾ الأوَّلِ لِتَقْيِيدِ الوَعْدِ بِالثَّباتِ عَلى التَّوْحِيدِ لِأنَّ ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِنَ الإيمانِ وعَمَلِ الصّالِحاتِ بِصِيغَةِ الماضِي لِما دَلَّ عَلى أصْلِ الِاتِّصافِ بِهِ جِيءَ بِما ذُكِرَ حالًا بِصِيغَةِ المُضارِعِ الدّالِّ عَلى الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ وإمّا مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ عَلَيْهِ في ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ أوْ في ( لَيُبَدِّلَنَّهم ) وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنِفَةً إمّا لِمُجَرَّدِ الثَّناءِ عَلى أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ عَلى مَعْنى هم يَعْبُدُونَنِي وإمّا لِبَيانِ عِلَّةِ الِاسْتِخْلافِ وما انْتَظَمَ مَعَهُ في سِلْكِ الوَعْدِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ حالٌ مِنَ الواوِ في ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ أوْ مِن ﴿الَّذِينَ﴾ أوْ بَدَلٌ مِنَ الحالِ أوِ اسْتِئْنافٌ. ونُصِبَ ﴿شَيْئًا﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أيْ شَيْئًا مِمّا يُشْرِكُ بِهِ أوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أيْ شَيْئًا مِنَ الإشْراكِ. ومَعْنى العِبادَةِ وعَدَمُ الإشْراكِ ظاهِرٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ لا يَخافُونَ أحَدًا غَيْرِي، وأخْرَجَ هو وجَماعَةٌ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. ولَعَلَّهُما أرادا بِذَلِكَ تَفْسِيرًا ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ وكَأنَّهُما عَدا خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ نَوْعًا مِنَ الإشْراكِ، واخْتِيرَ عَلى هَذا حالِيَّةِ الجُمْلَةِ مِنَ الواوِ كَأنَّهُ قِيلَ: يَعْبُدُونَنِي غَيْرَ خائِفِينَ أحَدًا غَيْرِي، وجَوَّزَ أنْ يَكُونا قَدْ أرادا بَيانَ المُرادِ بِمَجْمُوعِ ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ﴾ إلَخْ وكَأنَّهُما ادَّعَيا أنَّ عَدَمَ خَوْفِ أحَدٍ غَيْرِهِ سُبْحانَهُ مِن لَوازِمِ العِبادَةِ والتَّوْحِيدِ وأنَّ جُمْلَةَ ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ إلَخِ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ ما يَصِلُونَ إلَيْهِ في الأمْنِ كَأنَّهُ قِيلَ: يَأْمَنُونَ إلَيَّ حَيْثُ لا يَخافُونَ أحَدًا غَيْرَ اللَّهِ تَعالى ولا يَخْفى ما في التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وحْدَهُ في ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي﴾ دُونَ ضَمِيرِ الغائِبِ ودُونَ ضَمِيرِ العَظَمَةِ مِنَ اللَّطافَةِ. ﴿ومَن كَفَرَ﴾ أيْ ومَنِ ارْتَدَّ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أيْ بَعْدِ حُصُولِ المَوْعُودِ بِهِ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المُرْتَدُّونَ البُعَداءُ عَنِ الحَقِّ ﴿هُمُ الفاسِقُونَ﴾ أيِ الكامِلُونَ في الفِسْقِ والخُرُوجِ عَنْ حُدُودِ الكُفْرِ والطُّغْيانِ إذْ لا عُذْرَ لَهم حِينَئِذٍ ولا كَجَناحِ بَعُوضَةٍ، وقِيلَ: كَفَّرَ مِنَ الكُفْرانِ لا مِنَ الكُفْرِ مُقابِلَ الإيمانِ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي العالِيَةِ وكَمالِهِمْ في الفِسْقِ لِعِظَمِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَفَّرُوها، وقِيلَ: إشارَةٌ إلى الوَعْدِ السّابِقِ نَفْسِهِ، وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ المَعْنى ومَنِ اتَّصَفَ بِالكُفْرِ بِأنْ ثَبَتَ واسْتَمَرَّ عَلَيْهِ ولَمْ يَتَأثَّرْ بِما مَرَّ مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ الوَعْدِ الكَرِيمِ بِما فَصَلَ مِنَ المَطالِبِ العالِيَةِ المُسْتَوْجَبَةِ لِغايَةِ الِاهْتِمامِ بِتَحْصِيلِها فَأُولَئِكَ هُمُ الكامِلُونَ في الفِسْقِ، وكَوْنُ المُرادِ بِكُفْرِ ما ذُكِرَ أنْسَبَ بِالمَقامِ مِن كَوْنِ المُرادِ بِهِ ارْتَدَّ أوْ كَفَرَ النِّعْمَةَ انْتَهى. والأوْلى عِنْدِي ما تَقَدَّمَ فَإنَّهُ الظّاهِرُ، وفي الكَلامِ عَلَيْهِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ المَوْعُودِ بِهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَبْقى بَعْدَ حُصُولِهِ عُذْرًا لِمَن يَرْتَدُّ، وقُوَّةُ مُناسَبَتِهِ لِلْمَقامِ لا تَخْفى. وهو ظاهِرُ قَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهٍ عَنْ أبِي الشَّعْثاءِ قالَ: كُنْتُ جالِسًا مَعَ حُذَيْفَةَ وابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما فَقالَ حُذَيْفَةَ: ذَهَبَ النِّفاقُ إنَّما كانَ النِّفاقُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإنَّما هو الكُفْرُ بَعْدَ الإيمانِ فَضَحَكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ثُمَّ قالَ: بِمَ تَقُولُ؟ قالَ: بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ إلى آخِرِ (p-205)الآيَةُ وكَأنَّ ضَحِكَ ابْنِ مَسْعُودٍ كانَ اسْتِغْرابًا لِذَلِكَ وسُكُوتَهُ بَعْدَ الِاسْتِدْلالِ ظاهِرٌ في ارْتِضائِهِ لِما فَهِمَهُ مَعْدِنُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الآيَةِ. ( ومَن ) تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وجُمْلَةُس ( مَن كَفَرَ ) إلَخْ قِيلَ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وعَدَ اللَّهُ﴾ إلَخْ أوْ عَلى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ كَأنَّهُ قِيلَ: مَن آمَنَ فَهُمُ الفائِزُونَ ومَن كَفَرَ إلَخْ، إنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ وكَذا جُمْلَةُ ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ أمّا ذَلِكَ في الأُولى فالسُّؤالُ ناشِئٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ﴾ إلَخْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَما يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذا الوَعْدِ الكَرِيمِ أوْ بَعْدَ حُصُولِهِ؟ فَقِيلَ: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا. وأمّا في الثّانِيَةِ فالسُّؤالُ ناشِئٌ مِنَ الجَوابِ المَذْكُورِ فَأنَّهُ قِيلَ فَإنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَماذا؟ فَقِيلَ: ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ وجَزاؤُهم مَعْلُومٌ وهو كَما تَرى. هَذا واسْتَدَلَّ كَثِيرٌ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ خِلافَةِ الأرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وعْدٌ فِيها مَن في حَضْرَةِ الرِّسالَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِخْلافِ وتَمْكِينِ الدِّينِ والأمْنِ العَظِيمِ مِنَ الأعْداءِ ولا بُدَّ مِن وُقُوعِ ما وُعِدَ بِهِ ضَرُورَةُ امْتِناعِ الخَلَفِ في وعْدِهِ تَعالى ولَمْ يَقَعْ ذَلِكَ المَجْمُوعُ إلّا في عَهْدِهِمْ فَكانَ كُلٌّ مِنهم خَلِيفَةً حَقًّا بِاسْتِخْلافِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ حَسْبَما وعَدَ جَلَّ وعَلا ولا يَلْزَمُ عُمُومَ الِاسْتِخْلافِ لِجَمِيعِ الحاضِرِينَ المُخاطِبِينَ بَلْ وُقُوعُهُ فِيهِمْ كَبَنُو فَلانٍ قَتَلُوا فَلانًا فَلا يُنافِي ذَلِكَ عُمُومَ الخِطابِ الجَمِيعِ، وكَوْنُ مِن بَيانِيَّةً، وكَذا لا يُنافِيهِ ما وقَعَ في خِلافَةِ عُثْمانَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مِنَ الفِتَنِ لِأنَّ المُرادَ مِنَ الأمْنِ مِن أعْداءِ الدِّينِ وهُمُ الكُفّارُ كَما تَقَدَّمَ. وأقامَها بَعْضُ أهْلِ السُّنَّةِ دَلِيلًا عَلى الشِّيعَةِ في اعْتِقادِهِمْ عَدَمُ صِحَّةِ خِلافَةِ الخُلَفاءِ الثَّلاثَةِ، ولَمْ يَسْتَدِلْ بِها عَلى صِحَّةِ خِلافَةِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ لِأنَّها مُسَلِّمَةٌ عِنْدَ الشِّيعَةِ والأدِلَّةُ كَثِيرَةٌ عِنْدَ الطّائِفَتَيْنِ عَلى مَن يُنْكِرُها مِنَ النَّواصِبِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعالى ما يَسْتَحِقُّونَ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى وعَدَ فِيها جَمْعًا مِنَ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ الحاضِرِينَ وقْتَ نُزُولِها بِما وعَدَ مِنَ الِاسْتِخْلافِ وما مَعَهُ ووَعَدَهُ سُبْحانَهُ الحَقَّ ولَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إلّا في عَهْدِ الثَّلاثَةِ، والإمامُ المَهْدِيُّ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ النُّزُولِ قَطْعًا بِالإجْماعِ فَلا يُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى وعْدِهِ بِذَلِكَ، والأمِيرُ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وإنْ كانَ مَوْجُودًا إذْ ذاكَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَرُجُّ الدِّينُ المَرْضِيُّ كَما هو حَقُّهُ في زَمانِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ بَلْ صارَ أسْوَأ حالًا بِزَعْمِهِمْ مِمّا كانَ في عَهْدِ الكُفّارِ كَما صَرَّحَ بِذَلِكَ المُرْتَضى في تَنْزِيهِ الأنْبِياءِ والأئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بَلْ كُلِّ كُتُبِ الشِّيعَةِ تُصَرِّحُ بِأنَّ الأمِيرَ وشِيعَتِهِ كانُوا يَخْفُونَ دِينَهم ويُظْهِرُونَ دِينَ المُخالِفِينَ تَقِيَّةً ولَمْ يَكُنِ الأمْنُ الكامِلُ حاصِلًا أصْلًا في زَمانِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقَدْ كانَ أهْلُ الشّامِ ومِصْرَ والمَغْرِبِ يُنْكِرُونَ أصْلَ إمامَتِهِ ولا يَقْبَلُونَ أحْكامَهُ وهم كَفَرَةٌ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ وأغْلَبُ عَسْكَرِ الأمِيرِ يَخافُونَهم ويُحَذِّرُونَ غايَةَ الحَذَرِ مِنهُمْ، ومَعَ هَذا الأمِيرِ فَرَدَّ يُمْكِنُ إرادَتُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيَكُونَ هو رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِصْداقُ الآيَةِ كَما يَزْعُمُونَ فَإنَّ حَمْلَ لَفْظِ الجَمْعِ عَلى واحِدٍ خِلافَ أُصُولِهِمْ إذْ أقَلِّ الجَمْعِ عِنْدَهم ثَلاثَةُ أفْرادٍ، وأمّا الأئِمَّةُ الآخَرُونَ الَّذِينَ ولَدُوا بَعْدَ فَلا احْتِمالَ لِإرادَتِهِمْ مِنَ الآيَةِ إذْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ حالَ نُزُولِها ولَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ التَّسَلُّطُ في الأرْضِ ولَمْ يَقَعْ رَواجُ دِينِهِمُ المُرْتَضى لَهم وما كانُوا آمِنِينَ بَلْ كانُوا خائِفِينَ مِن أعْداءِ الدِّينِ مِنهم كَما أجْمَعَ عَلَيْهِ الشِّيعَةُ فَلَزِمَ أنَّ الخُلَفاءَ الثَّلاثَةَ هم مِصْداقُ الآيَةِ فَتَكُونُ خِلافَتُهم حَقَّةً وهو المَطْلُوبُ. (p-206)وزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيِّ وأهْلِ بَيْتِهِ ﷺ فَهُمُ المَوْعُودُونَ بِالِاسْتِخْلافِ وما مَعَهُ ويَكْفِي في ذَلِكَ تَحَقُّقُ المَوْعُودِ في زَمَنِ المَهْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ولا يُنافِي ذَلِكَ عَدَمَ وُجُودِهِ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ لِأنَّ الخِطابَ الشِّفاهِيَّ لا يَخُصُّ المَوْجُودِينَ، وكَذا لا يُنافِي عَدَمَ حُصُولِهِ لِلْكُلِّ لِأنَّ الكَلامَ نَظِيرُ بَنُو فُلانٍ قَتَلُوا فَلانًا، واسْتَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِما رَوى العَيّاشِيُّ بِإسْنادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قَرَأ الآيَةَ فَقالَ: هم واللَّهِ شِيعَتُنا أهْلُ البَيْتِ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ عَلى يَدِ رَجُلٍ مِنّا وهو مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ وهو الَّذِي قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ: ««لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا إلّا يَوْمٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ اليَوْمَ حَتّى يَلِيَ رَجُلٌ مِن عِتْرَتَيِ اسْمُهُ اسْمِي يَمْلَأُ الأرْضَ عَدْلًا وقِسْطًا كَما مُلِئَتْ ظُلْمًا وجُورًا»». وزَعَمَ أنَّهُ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ وأبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وهَذا عَلى ما فِيهِ مِمّا يَأْباهُ السِّياقُ والأخْبارُ الصَّحِيحَةُ الوارِدَةُ في سَبَبِ النُّزُولِ وأخْبارِ الشِّيعَةِ لا يَخْفى حالُها لا سِيَّما عَلى مَن وقَفَ عَلى التُّحْفَةِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ. نَعَمْ ورَدَ مِن طَرِيقِنا ما يَسْتَأْنِسُ بِهِ لَهم في هَذا المَقامِ لَكِنَّهُ لا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ أيْضًا مِثْلَ أخْبارِهِمْ وهو ما أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ عَنْ عَطِيَّةَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَرَأ الآيَةَ فَقالَ: أهْلُ البَيْتِ هاهُنا وأشارَ بِيَدِهِ إلى القِبْلَةِ». وزَعَمَ بَعْضُهم نَحْوَ ما سَمِعَتْ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ إلّا أنَّهُ قالَ: هي في حَقِّ جَمِيعِ أهْلِ البَيْتِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وسائِرِ الأئِمَّةِ الاثْنى عَشْرَ وتَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيهِمْ زَمَنَ الرَّجْعَةِ حِينَ يَقُومُ القائِمُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. وزَعَمَ أنَّها أحَدُ أدِلَّةِ الرَّجْعَةِ، وهَذا قَدْ زادَ في الطُّنْبُورِ نَغْمَةً. وقالَ المَلَأُ عَبْدُ اللَّهِ المُشْهِدِيُّ في كِتابِهِ إظْهارِ الحَقِّ لِإبْطالِ الِاسْتِدْلالِ عَلى صِحَّةِ خِلافَةِ الخُلَفاءِ الثَّلاثَةِ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلافُ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ وهو الإتْيانُ بِواحِدٍ خَلْفَ آخَرَ أيْ بَعْدِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى في حَقِّ بَنِي إسْرائِيلَ: ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكم ويَسْتَخْلِفَكم في الأرْضِ﴾ [الأعْرافُ: 129] فَقُصارى ما يَثْبُتُ أنَّهم خُلَفاءُ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ ولَيْسَ النِّزاعُ فِيهِ بَلْ هو دَفِيُّ المَعْنى الِاصْطِلاحِيِّ وهو مَعْنًى مُسْتَحْدَثٌ بَعْدَ رِحْلَةِ النَّبِيِّ ﷺ اهْـ. وأُجِيبُ بِأنَّهُ لَوْ تَمَّ هَذا لا يَتِمُّ لَهُمُ الِاسْتِدْلالُ عَلى خِلافَةِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ بِالمَعْنى المُصْطَلَحِ بِحَدِيثِ ««أنْتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِن مُوسى»» المُعْتَضِدُ بِما حَكاهُ سُبْحانَهُ عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قَوْلِهِ لِهارُونَ ﴿اخْلُفْنِي في قَوْمِي﴾ [الأعْرافُ: 143] وبِما يَرْوُونَهُ مِن قَوْلِهِ ﷺ: ««يا عَلِيُّ أنْتَ خَلِيفَتِي مِن بَعْدِي»» وكَذا لا يَتِمُّ لَهُمُ الِاسْتِدْلالُ عَلى إمامَةِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ بِما تَضَمَّنَ لَفْظُ الإمامِ لِأنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ في الكِتابِ المَجِيدِ بِالمَعْنى المُصْطَلَحِ أصْلًا وإنَّما اسْتَعْمَلَ بِمَعْنى النَّبِيِّ والمُرْشِدِ والهادِي والمُقْتَدى بِهِ في أمْرٍ خَيْرًا كانَ أوْ شَرًّا ومَتى ادَّعى فَهُمُ المَعْنى المُصْطَلَحُ مِن ذَلِكَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَلْيَدَّعِ فَهُمُ المَعْنى المُصْطَلَحُ مِنَ الخَلِيفَةِ كَذَلِكَ ورُبَّما يَدَّعِي أنَّ فَهْمَهُ مِنهُ أقْوى لِأنَّهُ مَقْرُونٌ مِن حَيْثُ وقَعَ في الكِتابِ العَزِيزِ بِلَفْظٍ في الأرْضِ الدّالِّ عَلى التَّصَرُّفِ العامِ الَّذِي هو شَأْنُ الخَلِيفَةِ بِذَلِكَ المَعْنى عَلى أنَّ مَبْنى الِاسْتِدْلالِ عَلى خِلافَةِ الثَّلاثَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ لَفْظِ الِاسْتِخْلافِ حَتّى يَتِمَّ غَرَضُ المُناقِشِ فِيهِ بَلْ ذَلِكَ مَعَ مُلاحَظَةِ إسْنادِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، وإذا أسْنَدَ الِاسْتِخْلافَ اللُّغَوِيَّ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَقَدْ صارَ اسْتِخْلافًا شَرْعِيًّا وقَدْ يُسْتَفْتى في هَذِهِ المَسْألَةِ مِن عُلَماءِ الشِّيعَةِ فَيُقالُ: إنَّ إتْيانَ بَنِي إسْرائِيلَ بِمَكانِ آلِ فِرْعَوْنَ والعَمالِقَةِ وجَعْلِهم مُتَصَرِّفِينَ في أرْضِ مِصْرَ والشّامِ هَلْ كانَ حَقًّا أوْ لا ولا أظُنُّهم يَقُولُونَ إلّا أنَّهُ حَقٌّ وحِينَئِذٍ يُلْزِمُهم أنَّ يَقُولُوا بِهِ في الآيَةِ لِعَدَمِ الفَرْقِ وبِذَلِكَ يَتِمُّ الغَرَضُ هَذا حاصِلٌ ما قِيلَ في هَذا المَقامِ. (p-207)والَّذِي أمِيلُ إلَيْهِ أنَّ الآيَةَ ظاهِرَةٌ في نَزاهَةِ الخُلَفاءِ الثَّلاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم عَمّا رَماهم لِلشِّيعَةِ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ والجَوْرِ والتَّصَرُّفِ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ لِظُهُورِ تَمْكِينِ الدِّينِ والأمْنِ التّامِّ مِن أعْدائِهِ في زَمانِهِمْ ولا يَكادُ يَحْسُنُ الِامْتِنانُ بِتَصَرُّفٍ باطِلٍ عِقابُهُ العَذابُ الشَّدِيدُ. وكَذا لا يَكادُ يُحْسِنُ الِامْتِنانَ بِما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ عَلى أهْلِ عَصْرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمُ الرُّؤَساءَ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الحَلُّ والعَقْدُ لَوْ كانُوا وحاشاهم كَما يَزْعُمُ الشِّيعَةُ فِيهِمْ، ومَتى ثَبَتَ بَلَّكَ نَزاهَتُهم عَمّا يَقُولُونَ اكْتَفَيْنا بِهِ وهَذا لا يَتَوَقَّفُ إلّا عَلى اتِّصافِهِمْ بِالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ حالَ نُزُولِ الآيَةِ وإنْكارِ الشِّيعَةِ لَهُ إنْكارٌ لِلضَّرُورِيّاتِ، وكَوْنُ المُرادِ بِالآيَةِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ أوِ المَهْدِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وأهْلَ البَيْتِ مُطْلَقًا مِمّا لا يَقُولُهُ مُنْصِفٌ. وفِي كَلامِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ ما يَقْتَضِي بِسُوقِهِ خِلافَ ما عَلَيْهِ الشِّيعَةُ فَفي نَهْجِ البَلاغَةِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمّا اسْتَشارَ الأمِيرَ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ لِانْطِلاقِهِ لِقِتالِ أهْلِ فارِسَ حِينَ تَجَمَّعُوا لِلْحَرْبِ قالَ لَهُ: إنَّ هَذا الأمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرَهُ ولا خِذْلانَهُ بِكَثْرَةٍ ولا بِقِلَّةٍ وهو دِينُ اللَّهِ تَعالى الَّذِي أظْهَرَهُ وجُنُدَهُ الَّذِي أعَزَّهُ وأيَّدَهُ حَتّى بَلَغَ ما بَلَغَ وطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ ونَحْنُ عَلى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ قالَ عَزَّ اسْمُهُ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهم ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا﴾ واللَّهُ تَعالى مُنْجِزٌ وعَدَهُ وناصِرٌ جُنُدَهُ ومَكانُ القِيَمِ في الإسْلامِ مَكانَ النِّظامِ مِنَ الخَرَزِ فَإنِ انْقَطَعَ النِّظامُ تَفَرَّقَ ورَبَّ مُتَفَرِّقٍ لَمْ يَجْتَمِعْ والعَرَبُ اليَوْمَ وإنْ كانُوا قَلِيلًا فَهم كَثِيرُونَ بِالإسْلامِ عَزِيزُونَ بِالِاجْتِماعِ فَكُنْ قُطْبًا واسْتَدَرَّ الرَّحى بِالعَرَبِ وأصْلُهم دُونَكَ نارُ الحَرْبِ فَإنَّكَ إنْ شَخَّصْتَ مِن هَذِهِ الأرْضِ تَنَقَّضَتْ عَلَيْكَ العَرَبُ مِن أطْرافِها وأقْطارِها حَتّى يَكُونَ ما تَدْعُ وراءَكَ مِنَ العَوارِثِ أهَمُّ إلَيْكَ مِمّا بَيْنَ يَدَيْكَ وكانَ قَدْ آنَ لِلْأعاجِمِ أنْ يَنْظُرُوا إلَيْكَ غَدًا يَقُولُونَ هَذا أصْلُ العَرَبِ فَإذا قَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وطَعْمِهِمْ فِيكَ فَأمّا ما ذَكَرْتُ مِن عَدَدِهِمْ فَإنّا لَمْ نُقاتِلْ فِيما مَضى بِالكَثْرَةِ وإنَّما نُقاتِلُ بِالنَّصْرِ والمَعُونَةِ اهْـ فَتَأمَّلْ ذاكَ واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى هُداكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب