الباحث القرآني

ولَمّا تَضَمَّنَ هَذا مَدْحَ التَّوْراةِ؛ صَرَّحَ بِهِ؛ فَقالَ - تَأْكِيدًا لِذَمِّهِمْ في الإعْراضِ عَمّا دَعَتْ إلَيْهِ مِن أصْلٍ وفَرْعٍ؛ وتَحْذِيرًا مِن مِثْلِ حالِهِمْ -: ﴿إنّا أنْـزَلْنا﴾؛ أيْ: عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ ﴿التَّوْراةَ﴾؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ - مُعَظِّمًا لَها: ﴿فِيها هُدًى﴾؛ أيْ: كَلامٌ يَهْدِي؛ بِما يَدْعُو إلَيْهِ؛ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ؛ ﴿ونُورٌ﴾؛ أيْ: بَيانٌ لا يَدَعُ لَبْسًا؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ المَدْحَ لِلْعامِلِينَ بِها؛ فَقالَ: ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ﴾؛ ووَصَفَهم بِأعْلى الصِّفاتِ؛ وذَلِكَ الغِنى المَحْضُ؛ فَقالَ - مادِحًا؛ لا مُقَيِّدًا -: ﴿الَّذِينَ أسْلَمُوا﴾؛ أيْ: أعْطَوْا قِيادَهم لِرَبِّهِمْ - سُبْحانَهُ -؛ حَتّى لَمْ يَبْقَ لَهُمُ اخْتِيارٌ أصْلًا؛ وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ اليَهُودَ بُعَداءُ مِنَ الإسْلامِ؛ وإلّا لاتَّبَعُوا أنْبِياءَهم فِيهِ؛ فَكانُوا يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَن قامَ الدَّلِيلُ عَلى نُبُوَّتِهِ. ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ حُكْمَهم بِأمْرِ اللَّهِ لَهم بِاتِّباعِ التَّوْراةِ؛ ومُراعاتِها؛ عُلِمَ أنَّ التَّقْدِيرَ: ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتابِ اللَّهِ﴾؛ فَحُذِفَ لِدَلالَةِ ما يَأْتِي عَلَيْهِ؛ (p-١٤٥)وإشْعارِ الإسْلامِ بِهِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ المَحْكُومَ لَهُ تَقْيِيدًا بِهِ؛ إشارَةً إلى أنَّها سَتُنْسَخُ؛ فَقالَ: ﴿لِلَّذِينَ هادُوا﴾؛ أيْ: لِمَنِ التَزَمَ اليَهُودِيَّةَ؛ ﴿والرَّبّانِيُّونَ﴾؛ أيْ: أهْلُ الحَقِيقَةِ؛ مِنهُمُ الَّذِينَ انْسَلَخُوا مِنَ الدُّنْيا؛ وبالَغُوا فِيما يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلى الرَّبِّ؛ ﴿والأحْبارُ﴾؛ أيْ: العُلَماءُ الَّذِي أسْلَمُوا؛ ﴿بِما﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ ما؛ ولَمّا كانَ سَبَبُ إسْلامِ أمْرِهِمْ بِالحِفْظِ؛ لا كَوْنَهُ مِنَ اللَّهِ بِلا واسِطَةٍ؛ بَنى لِلْمَفْعُولِ قَوْلَهُ: ﴿اسْتُحْفِظُوا﴾؛ أيْ: الأنْبِياءُ؛ ومَن بَعْدَهُمْ؛ ﴿مِن كِتابِ اللَّهِ﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ ما طَلَبُوا مِنهُمْ؛ وأمَرُوا بِهِ مِنَ الحِفْظِ لِكِتابِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ؛ الَّذِي هو صِفَتُهُ؛ فَعَظَمَتُهُ مِن عَظَمَتِهِ؛ وحِفْظُهُ: دِراسَتُهُ؛ والعَمَلُ بِما فِيهِ؛ ﴿وكانُوا﴾؛ أيْ: وبِما كانُوا؛ ﴿عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾؛ أيْ: رُقَباءَ؛ حاضِرِينَ؛ لا يَغِيبُونَ عَنْهُ؛ ولا يَتْرُكُونَ مُراعاتِهِ أصْلًا؛ فالآيَةُ - كَما تَرى - مِن فَنِّ الِاحْتِباكِ: ”تَرَكَ أوَّلًا“بِما اسْتُحْفِظُوا”؛ لِدَلالَةِ ما ذَكَرَ هُنا عَلَيْهِ؛ وتَرَكَ ذِكْرَ الإسْلامِ هُنا لِدَلالَةِ ذِكْرِهِ أوَّلًا عَلَيْهِ“؛ وإنَّما خَصَّ الأوَّلَ بِذِكْرِ الإسْلامِ لِأنَّ الأنْبِياءَ أحَقُّ بِهِ؛ وهو داعٍ إلى الحِفْظِ قَطْعًا؛ وخَصَّ الثّانِي بِالِاسْتِحْفاظِ لِأنَّ الأتْباعَ أوْلى بِهِ؛ وهو دالٌّ عَلى الإسْلامِ. ولَمّا كانَ هَذا كُلُّهُ ذَمًّا لِلْيَهُودِ بِما تَرَكُوا مِن كِتابِهِمْ؛ ومَدْحًا لِمَن راعاهُ مِنهُمْ؛ وكانَ ذَلِكَ التَّرْكُ إمّا لِرَجاءٍ؛ أوْ خَوْفٍ؛ قالَ - مُخاطِبًا لِهَذِهِ الأُمَّةِ (p-١٤٦)كُلِّها؛ طائِعِها وعاصِيها؛ مُحَذِّرًا لَها مِن مِثْلِ حالِهِمْ؛ ومُرَغِّبًا في مِثْلِ حالِ الأنْبِياءِ؛ والتّابِعِينَ لَهم بِإحْسانٍ؛ مُسَبِّبًا عَنْ ذَلِكَ -: ﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ﴾؛ أيْ: في العَمَلِ بِحُكْمٍ مِن أحْكامِ اللَّهِ؛ ﴿واخْشَوْنِ﴾؛ أيْ: فَإنَّ ذَلِكَ حامِلٌ لَكم عَلى العَدْلِ؛ والإحْسانِ؛ فَمَن كانَ مِنكم مُسْلِمًا؛ طائِعًا فَلْيَزْدَدْ طاعَةً؛ ومَن لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلْيُبادِرْ بِالِانْقِيادِ؛ والطّاعَةِ؛ وهَذا شامِلٌ لِلْيَهُودِ وغَيْرِهِمْ. ولَمّا قَدَّمَ الخَوْفَ؛ لِأنَّهُ أقْوى تَأْثِيرًا؛ أتْبَعَهُ الطَّمَعَ؛ فَقالَ: ﴿ولا تَشْتَرُوا﴾؛ ولَمّا كانَ الِاشْتِراءُ مَعْناهُ اللَّجاجَةُ في أخْذِ شَيْءٍ بِثَمَنٍ؛ وكانَ المُثَمَّنُ أشْرَفَ مِنَ الثَّمَنِ؛ مِن حَيْثُ إنَّهُ المَرْغُوبُ فِيهِ؛ جَعَلَ الآياتِ مُثَمَّنًا؛ وإنِ اقْتُرِنَتْ بِالباءِ؛ حَتّى يُفِيدَ الكَلامُ التَّعَجُّبَ مِنَ الرَّغْبَةِ عَنْها؛ وأنَّها لا يَصِحُّ كَوْنُها ثَمَنًا؛ فَقالَ: ﴿بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلا﴾؛ أيْ: مِنَ الرُّشا؛ وغَيْرِها؛ لِتُبَدِّلُوها كَما بَدَّلَ أهْلُ الكِتابِ. ولَمّا نَهى عَنِ الأمْرَيْنِ؛ وكانَ تَرْكُ الحُكْمِ بِالكِتابِ إمّا لِاسْتِهانَةٍ؛ أوْ لِخَوْفٍ؛ أوْ رَجاءٍ؛ أوْ شَهْوَةٍ؛ رَتَّبَ خِتامَ الآياتِ عَلى الكُفْرِ؛ والظُّلْمِ؛ والفِسْقِ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: مَن جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ كَفَرَ؛ ومَن لَمْ يَحْكم بِهِ وهو مُقِرٌّ فَهو ظالِمٌ فاسِقٌ؛ فَلَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”فَمَن حَكَمَ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُسْلِمُونَ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ ما أفْهَمَهُ؛ مِن قَوْلِهِ: (p-١٤٧)﴿ومَن لَمْ يَحْكُمْ﴾؛ أيْ: يُوجِدِ الحُكْمَ؛ ويُوقِعْهُ عَلى وجْهِ الِاسْتِمْرارِ؛ ﴿بِما أنْـزَلَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ؛ فَلا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ؛ تَدَيُّنًا بِالإعْراضِ عَنْهُ؛ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ تَرْكُهُ لَهُ حُكْمًا بِغَيْرِهِ؛ أوْ لا؛ ﴿فَأُولَئِكَ﴾؛ أيْ: البُعَداءُ مِن كُلِّ خَيْرٍ؛ ﴿هُمُ الكافِرُونَ﴾؛ أيْ: المُخْتَصُّونَ بِالعَراقَةِ في الكُفْرِ؛ وهَذِهِ الآياتُ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١]؛ إلى هُنا؛ نَزَلَتْ في الزِّنا؛ ولَكِنْ لَمّا كانَ السِّياقُ لِلْمُحارَبَةِ؛ وكانَ كُلٌّ مِنَ القَتْلِ؛ وقَطْعِ الطَّرِيقِ؛ والسَّرِقَةِ؛ مُحارَبَةً ظاهِرَةً؛ مَعَ كَوْنِهِ فَسادًا؛ صَرَّحَ بِهِ؛ ولَمّا كانَ الزِّنا مُحارَبَةً خَفِيَّةً؛ بِالنَّظَرِ إلى فُحْشِهِ؛ وحُرْمَتِهِ؛ وجَرِّهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ إلى المُحارَبَةِ؛ وغَيْرَ مُحارَبَةٍ بِالنَّظَرِ إلى كَوْنِهِ في الغالِبِ عَنْ تَراضٍ؛ وصاحِبُهُ غَيْرُ مُتَزَيٍّ بِزِيِّ المُحارِبِينَ؛ لَمْ يُصَرِّحْ في هَذِهِ الآياتِ بِاسْمِهِ وإنْ كانَتْ نَزَلَتْ فِيهِ؛ رَوى البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ في خُطْبَتِهِ: ”إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا؛ وأنْزَلَ عَلَيْهِ كِتابًا؛ وكانَ فِيما أنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ؛ فَتَلَوْناها؛ ووَعَيْناها: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)؛ وقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا بَعْدَهُ...“؛ الحَدِيثَ؛ وفي آخِرِهِ: ”ولَوْلا أنِّي أخْشى أنْ يَقُولَ النّاسُ: زادَ في كِتابِ اللَّهِ؛ لَأثْبَتُّهُ في حاشِيَةِ المُصْحَفِ“؛» وأصْلُهُ في الصَّحِيحَيْنِ؛ وغَيْرِهِما؛ ولِلْحاكِمِ؛ والطَّبَرانِيِّ؛ عَنْ أبِي أُمامَةَ بْنِ سَهْلٍ؛ عَنْ خالَتِهِ العَجْماءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - بِلَفْظِ: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ بِما قَضَيا مِنَ اللَّذَّةِ)؛ وفي صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (p-١٤٨)- رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ لِزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ: كَمْ تَعُدُّونَ سُورَةَ ”الأحْزابِ“ مِن آيَةٍ؟ قالَ: قُلْتُ: ثَلاثًا وسَبْعِينَ؛ قالَ: والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ؛ كانَتْ سُورَةُ ”الأحْزابِ“؛ تُوازِي سُورَةَ ”البَقَرَةِ“؛ وكانَ فِيها آيَةُ الرَّجْمِ: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ...)...؛ الحَدِيثَ؛ ولِلشَّيْخَيْنِ؛ البُخارِيِّ؛ في مَواضِعَ؛ ومُسْلِمٍ؛ وأحْمَدَ؛ وأبِي داوُدَ - وهَذا لَفْظُهُ - والدَّرِامِيِّ؛ والتِّرْمِذِيِّ؛ في الحُدُودِ؛ والنِّسائِيِّ في الرَّجْمِ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: «إنَّ اليَهُودَ جاؤُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرُوا لَهُ أنَّ رَجُلًا مِنهم وامْرَأةً زَنَيا؛ فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”ما تَجِدُونَ في التَّوْراةِ في شَأْنِ الزِّنا؟“؛ فَقالُوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ - وفي رِوايَةٍ: فَقالَ: ”لا تَجِدُونَ في التَّوْراةِ الرَّجْمَ؟“؛ فَقالُوا: لا نَجِدُ فِيها شَيْئًا - فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَذَبْتُمْ؛ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؛ فَأتَوْا بِالتَّوْراةِ؛ فَنَشَرُوها؛ فَجَعَلَ أحَدُهم - وفي رِوايَةٍ: مِدْراسُها الَّذِي يَدْرُسُها مِنهم - يَدَهُ عَلى آيَةِ الرَّجْمِ فَجَعَلَ يَقْرَأُ ما قَبْلَها؛ وما بَعْدَها؛ فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ؛ فَرَفَعَها؛ فَقالَ: ما هَذِهِ؟ فَإذا فِيها آيَةُ الرَّجْمِ؛ فَقالُوا: صَدَقَ يا مُحَمَّدُ؛ فِيها آيَةُ الرَّجْمِ؛ فَأمَرَ بِهِما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِما؛ قالَ عَبْدُ اللَّهِ (p-١٤٩)بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: فَرَأيْتُ الرَّجُلَ يَحْنَأُ عَلى المَرْأةِ يَقِيها الحِجارَةَ؛» وفي لَفْظٍ لِلْبُخارِيِّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «”لا تَجِدُونَ في التَّوْراةِ الرَّجْمَ؟“؛ فَقالُوا: لا نَجِدُ فِيها شَيْئًا؛ فَقالَ لَهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ؛ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؛» وفي لَفْظٍ لَهُ؛ في التَّوْحِيدِ - وهو رِوايَةُ أحْمَدَ - «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ هو الَّذِي قالَ: ”فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ“؛» ولِأبِي داوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيْضًا - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - قالَ: «”أتى نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ؛ فَدَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلى القُفِّ؛ فَأتاهم في بَيْتِ المِدْراسِ؛ فَقالُوا: يا أبا القاسِمِ؛ إنَّ رَجُلًا مِنّا زَنا بِامْرَأةٍ؛ فاحْكُمْ؛ فَوَضَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وِسادَةً؛ فَجَلَسَ عَلَيْها؛ ثُمَّ قالَ:“ائْتُونِي بِالتَّوْراةِ”؛ فَأُتِيَ بِها؛ فَنَزَعَ الوِسادَةَ مِن تَحْتِهِ؛ ووَضَعَ التَّوْراةَ عَلَيْها؛ ثُمَّ قالَ:“آمَنتُ بِكِ؛ وبِمَن أنْزَلَكِ”؛ ثُمَّ قالَ:“ائْتُونِي بِأعْلَمِكُمْ”؛ فَأُتِيَ بِفَتًى شابٍّ؛» فَذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجْمِ نَحْوَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ وسَكَتَ عَلَيْهِ أبُو داوُدَ؛ (p-١٥٠)والحافِظُ المُنْذِرِيُّ في مُخْتَصَرِهِ؛ وسَنَدُهُ حَسَنٌ؛ ولِمُسْلِمٍ؛ وأبِي داوُدَ - وهَذا لَفْظُهُ - والنِّسائِيِّ وابْنِ ماجَةَ؛ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - قالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ؛ فَدَعاهُمْ؛ فَقالَ:“هَكَذا تَجِدُونَ حَدَّ الزّانِي؟”؛ فَقالُوا: نَعَمْ؛ فَدَعا رَجُلًا مِن عُلَمائِهِمْ؛ فَقالَ:“نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى؛ أهَكَذا تَجِدُونَ حَدَّ الزّانِي في كِتابِكُمْ؟”؛ فَقالَ: اللَّهُمَّ لا؛ ولَوْلا أنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذا لَمْ أُخْبِرْكَ؛ نَجِدُ حَدَّ الزّانِي في كِتابِنا الرَّجْمَ؛ ولَكِنَّهُ كَثُرَ في أشْرافِنا؛ فَكُنّا إذا أخَذْنا الرَّجُلَ الشَّرِيفَ تَرَكْناهُ؛ وإذا أخَذْنا الضَّعِيفَ أقَمْنا عَلَيْهِ الحَدَّ؛ فَقُلْنا: تَعالَوْا فَنَجْتَمِعَ عَلى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلى الشَّرِيفِ؛ والوَضِيعِ؛ فاجْتَمَعْنا عَلى التَّحْمِيمِ؛ والجَلْدِ؛ وتَرَكْنا الرَّجْمَ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“اللَّهُمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحْيا أمْرَكَ إذْ أماتُوهُ”؛ فَأمَرَ بِهِ فَرُجِمَ؛» فَأنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذا فَخُذُوهُ وإنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فاحْذَرُوا﴾ [المائدة: ٤١]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾؛ في اليَهُودِ - إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [المائدة: ٤٥]؛ في اليَهُودِ؛ - إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ (p-١٥١)فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٧]؛ قالَ: هي في الكُفّارِ كُلِّها؛ يَعْنِي هَذِهِ الآيَةَ. ورَوى الدّارَقُطْنِيُّ؛ في آخِرِ النُّذُورِ؛ مِنَ السُّنَنِ؛ عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَهُودِيٍّ ويَهُودِيَّةٍ؛ قَدْ زَنَيا؛ فَقالَ لِلْيَهُودِ:“ما يَمْنَعُكم أنْ تُقِيمُوا عَلَيْهِما الحَدَّ؟”؛ فَقالُوا: كُنّا نَفْعَلُ إذا كانَ المُلْكُ لَنا؛ فَلَمّا أنْ ذَهَبَ مُلْكُنا فَلا نَجْتَرِي عَلى الفِعْلِ؛ فَقالَ لَهُمْ:“ائْتُونِي بِأعْلَمِ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ”؛ فَأتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيًّا؛ فَقالَ لَهُما:“أنْتُما أعْلَمُ مَن وراءَكُما؟”؛ قالا: يَقُولُونَ؛ قالَ:“فَأنْشُدُكُما بِاللَّهِ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى؛ كَيْفَ تَجِدُونَ حَدَّهُما في التَّوْراةِ؟”؛ فَقالا: الرَّجُلُ مَعَ المَرْأةِ زَنْيَةٌ؛ وفِيهِ عُقُوبَةٌ؛ والرَّجُلُ عَلى بَطْنِ المَرْأةِ زَنْيَةٌ؛ وفِيهِ عُقُوبَةٌ؛ فَإذا شَهِدَ أرْبَعَةٌ أنَّهم رَأوْهُ يُدْخِلُهُ فِيها؛ كَما يَدْخُلُ المَيْلُ في المِكْحَلَةِ؛ رُجِمَ؛ قالَ:“ائْتُونِي بِالشُّهُودِ"؛ فَشَهِدَ أرْبَعَةٌ؛ فَرَجَمَهُما النَّبِيُّ ﷺ؛» انْتَهى. وهَذِهِ الآيَةُ مُلْتَفِتَةٌ إلى آيَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: ٣٥]؛ الآيَةِ؛ والَّتِي بَعْدَها؛ أيَّ التِفاتٍ؛ وذَلِكَ أنَّ هَؤُلاءِ لَمّا تَرَكُوا هَذا الحُكْمَ؛ جَرَّهم إلى الكُفْرِ؛ ولَيْسَ في هَذِهِ الرِّواياتِ - كَما تَرى - تَقْيِيدُ الرَّجْمِ بِالإحْصانِ؛ (p-١٥٢)وكَذا هو فِيما هو مَوْجُودٌ عِنْدَهم في التَّوْراةِ؛ قالَ في السِّفْرِ الثّالِثِ؛ وغَيْرِهِ: (ثُمَّ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى؛ وقالَ لَهُ: قُلْ لِبَنِي إسْرائِيلَ: أيُّ رَجُلٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ومِنَ الَّذِينَ يُقْبِلُونَ إلى أيٍّ؛ ويَسْكُنُونَ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ؛ ألْقى زَرْعَهُ في امْرَأةٍ غَرِيبَةٍ يُقْتَلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ؛ فَلْيَرْجُمْهُ جَمِيعُ الشَّعْبِ بِالحِجارَةِ؛ وأنا أيْضًا أُنْزِلُ غَضَبِي بِذَلِكَ الرَّجُلِ؛ وأُهْلِكُهُ مِن شَعْبِهِ؛ لِأنَّهُ ألْقى زَرْعَهُ في غَرِيبَةٍ؛ وأرادَ أنْ يُنَجِّسَ مُقَدَّسِي وأنْ يُنَجِّسَ اسْمَ قُدْسِي؛ فَإنْ غَفَلَ شَعْبُ الأرْضِ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي ألْقى زَرْعَهُ في غَرِيبَةٍ؛ ولَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهِ القَتْلَ؛ أُنْزِلُ غَضَبِي بِذَلِكَ الرَّجُلِ؛ وبِقَبِيلَتِهِ؛ وأُهْلِكُهُ؛ وأُهْلِكُ مَن يَضِلُّ بِهِ؛ لِأنَّهم ضَلُّوا بِنِساءٍ غَرِيباتٍ؛ لَسْنَ لَهم بِحَلالٍ؛ ثُمَّ قالَ: الرَّجُلُ الَّذِي يَأْتِي امْرَأةَ صاحِبِهِ؛ وامْرَأةَ رَجُلٍ غَرِيبٍ؛ يُقْتَلانِ جَمِيعًا؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَرْتَكِبُ ذَكَرًا مِثْلَهُ؛ فَيَرْتَكِبُ مِنهُ ما يَرْتَكِبُ مِنَ النِّساءِ؛ فَقَدِ ارْتَكَبا نَجاسَةً؛ يُقْتَلانِ؛ ودَمُهُما في أعْناقِهِما؛ والرَّجُلِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ امْرَأةً وأُمَّها فَقَدِ ارْتَكَبَ خَطِيئَةً؛ يُحْرَقُ بِالنّارِ هو وهُما؛ والرَّجُلَ الَّذِي يَرْتَكِبُ مِنَ البَهِيمَةِ ما يَرْتَكِبُ مِنَ النِّساءِ يُقْتَلُ قَتْلًا؛ والبَهِيمَةُ تُرْجَمُ أيْضًا؛ والمَرْأةُ الَّتِي تَرْقُدُ بَيْنَ يَدَيِ البَهِيمَةِ لِتَرْتَكِبَ مِنها البَلاءَ تُقْتَلُ المَرْأةُ والبَهِيمَةُ جَمِيعًا؛ يُقْتَلانِ؛ ودَمُهُما في أعْناقِهِما؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَأْتِي امْرَأةً طامِثًا ويَكْشِفُ عَوْرَتَها؛ قَدْ كَشَفَ عَنْ يَنْبُوعِها؛ وهي أيْضًا كَشَفَتْ عَنْ يَنْبُوعِ دَمِها؛ (p-١٥٣)يُهْلَكانِ جَمِيعًا مِن شَعْبِهِما؛ وقالَ: والرَّجُلُ الَّذِي يَأْتِي امْرَأةَ أبِيهِ؛ قَدْ كَشَفَ هَذا عَوْرَةَ أبِيهِ؛ يُقْتَلانِ جَمِيعًا؛ ودَمُهُما في أعْناقِهِما؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَأْتِي كَنَّتَهُ يُقْتَلانِ كِلاهُما؛ لِأنَّهُما ارْتَكَبا خَطِيئَةً؛ ودَمُهُما في أعْناقِهِما؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَتَزَوَّجُ أُخْتَهُ مِن أُمِّهِ؛ أوْ مِن أبِيهِ؛ ويَرى عَوْرَتَها؛ وتَرى عَوْرَتَهُ؛ هَذا عارٌ شَدِيدٌ؛ يُقْتَلانِ قُدّامَ شَعْبِهِمْ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ كَشَفَ عَوْرَةَ أُخْتِهِ؛ يَكُونُ إثْمُهُما في رُؤُوسِهِما؛ لا تَكْشِفَنَّ عَوْرَةَ عَمَّتِكَ ولا خالَتِكَ؛ لِأنَّهُما قَرابَتُكَ؛ ومَن فَعَلَ ذَلِكَ يُعاقَبُ بِإثْمِ فَضِيحَتِهِ؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَأْتِي امْرَأةَ عَمِّهِ قَدْ كَشَفَ عَوْرَةَ عَمِّهِ؛ يُعاقَبانِ بِخَطِيئَتِهِما ويَمُوتانِ؛ والرَّجُلُ الَّذِي يَتَزَوَّجُ امْرَأةَ أخِيهِ قَدِ ارْتَكَبَ إثْمًا؛ لِأنَّهُ كَشَفَ عَوْرَةَ أخِيهِ؛ يَمُوتانِ)؛ بَلْ وصَرَّحَ بِرَجْمِ البِكْرِ؛ فَقالَ في السِّفْرِ الخامِسِ؛ فِيمَن تَزَوَّجَ بِكْرًا فادَّعى أنَّهُ وجَدَها ثَيِّبًا: (فَإنْ كانَ قَذْفُهُ إيّاها حَقًّا ولَمْ يَجِدْها عَذْراءَ تَخْرُجُ الجارِيَةُ إلى بَيْتِ أبِيها؛ ويَرْجُمُها أهْلُ القَرْيَةِ بِالحِجارَةِ؛ وتَمُوتُ؛ لِأنَّها ارْتَكَبَتْ حُوبًا بَيْنَ يَدَيْ بَنِي إسْرائِيلَ؛ وزَنَتْ في بَيْتِ أبِيها؛ نَحُّوا الشَّرَّ عَنْكُمْ؛ وإنْ وُجِدَ رَجُلٌ يَسْفَحُ بِامْرَأةِ رَجُلٍ؛ يُقْتَلانِ كِلاهُما؛ الرَّجُلُ والمَرْأةُ)؛ بَلْ صَرَّحَ بِرَجْمِ البِكْرِ المُكْرَهَةِ؛ فَقالَ عَقِبَ ما تَقَدَّمَ: (وإنْ كانَ لِرَجُلٍ خَطِيبَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْتَنِ بِها بَعْدُ؛ فَخَرَجَتْ خارِجًا فَظَفِرَ بِها (p-١٥٤)رَجُلٌ وقَهَرَها؛ وضاجَعَها؛ يَخْرُجانِ جَمِيعًا؛ ويُرْجَمانِ حَتّى يَمُوتا؛ وإنَّما تُقْتَلُ الجارِيَةُ مَعَ الرَّجُلِ لِأنَّها لَمْ تَصْرُخْ؛ ولَمْ تَسْتَغِثْ)؛ انْتَهى. فالأحادِيثُ المُفِيدَةُ بِالإحْصانِ في هَذِهِ القِصَّةِ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مَرْجُوحَةً؛ لِأنَّ رُواتَها ظَنُّوا أنَّ الجادَّةَ الإسْلامِيَّةَ شَرْعٌ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب