الباحث القرآني

﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: نَزَلَتْ في الجاحِدِينَ حُكْمَ اللَّهِ، وهي عامَّةٌ في كُلِّ مَن جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: نَزَلَ (يا أيُّها الرَّسُولُ إلى فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ) في اليَهُودِ خاصَّةً، وذَكَرَ قِصَّةَ رَجْمِ اليَهُودِيَّيْنِ. وقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ نَزَلَتْ في بَنِي إسْرائِيلَ ؟ قالَ: نَعَمْ. وقالَ الحَسَنُ وأبُو مِجْلَزٍ وأبُو جَعْفَرٍ: هي في اليَهُودِ. وقالَ الحَسَنُ: هي عَلَيْنا واجِبَةٌ. وقالَ قَتادَةُ: ذُكِرَ لَنا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، كانَ يَقُولُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (نَحْنُ نَحْكُمُ عَلى اليَهُودِ وعَلى مَن سِواهم مِن أهْلِ الأدْيانِ) وفي الآيَةِ تَرْغِيبٌ لِلْيَهُودِ بِأنْ يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِيهِمْ مِن مُسْلِمِي أحْبارِهِمْ، وتَنْبِيهُ المُنْكِرِينَ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ. وقالَ جَماعَةٌ: الهُدى والنُّورُ سَواءٌ، وكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وقالَ قَوْمٌ: لَيْسا سَواءً، فالهُدى مَحْمُولٌ عَلى بَيانِ الأحْكامِ، والنُّورُ والبَيانُ لِلتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَهْدِي لِلْعَدْلِ والحَقِّ، ونُورٌ يُبَيِّنُ ما اسْتُبْهِمَ مِنَ الأحْكامِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الهُدى: الإرْشادُ المُعْتَقَدُ والشَّرائِعُ، والنُّورُ ما يُسْتَضاءُ بِهِ مِن أوامِرِها ونَواهِيها. وقِيلَ: المَعْنى فِيها بَيانُ أمْرِ الرَّسُولِ وما جاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ. ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا﴾ ظاهِرُ قَوْلِهِ: النَّبِيُّونَ، الجَمْعُ. قالُوا: وهم مِن لَدُنْ مُوسى إلى عِيسى. وقالَ عِكْرِمَةُ: مُحَمَّدٌ ومَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ. وقِيلَ: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ هم عَلى دِينِ إبْراهِيمَ. وقالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: هو مُحَمَّدٌ، ﷺ، وذَلِكَ حِينَ حَكَمَ عَلى اليَهُودِ بِالرَّجْمِ وذَكَرَهُ بِلَفْظِ الجَمْعِ كَقَوْلِهِ: أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ، والَّذِينَ أسْلَمُوا، وصْفٌ مَدَحَ الأنْبِياءَ كالصِّفاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلى اللَّهِ تَعالى، وأُرِيدَ بِإجْرائِها التَّعْرِيضُ بِاليَهُودِ والنَّصارى، حَيْثُ قالَتِ اليَهُودُ: إنَّ الأنْبِياءَ كانُوا يَهُودًا، والنَّصارى قالَتْ: كانُوا نَصارى، فَبَيَّنَ أنَّهم كانُوا مُسْلِمِينَ، كَما كانَ إبْراهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلامُ. ولِذَلِكَ جاءَ: ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨] ونَبَّهَ بِهَذا الوَصْفِ أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى بُعَداءُ مِن هَذا الوَصْفِ الَّذِي هو الإسْلامُ، وأنَّهُ كانَ دِينَ الأنْبِياءِ كُلِّهِمْ قَدِيمًا وحَدِيثًا. والظّاهِرُ أنَّ الَّذِينَ هادُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ. وقِيلَ: بِأنْزَلْنا. وقِيلَ التَّقْدِيرُ: هُدًى ونُورٌ لِلَّذِينِ هادُوا يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ. وفي قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ هادُوا، تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهم لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، بَلْ هم بُعَداءُ مِن ذَلِكَ. واللّامُ في لِلَّذِينِ هادُوا إذا عُلِّقَتْ بَيَحْكُمُ لِلِاخْتِصاصِ، فَيَشْمَلُ مَن يَحْكُمُ لَهُ ومَن يَحْكُمُ عَلَيْهِ. وقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لِلَّذِينِ هادُوا وعَلَيْهِمْ. وقِيلَ: اللّامُ بِمَعْنى عَلى؛ أيْ: عَلى الَّذِينَ هادُوا. * * * ﴿والرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ﴾ هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وهُمُ العُلَماءُ. قالَهُ الأكْثَرُونَ ومِنهُمُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ والزَّجّاجُ. وقالَ مُجاهِدٌ: الرَّبّانِيُّونَ الفُقَهاءُ العُلَماءُ، وهم فَوْقَ الأحْبارِ. وقالَ السُّدِّيُّ: الرَّبّانِيُّونَ العُلَماءُ، والأحْبارُ الفُقَهاءُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبّانِيُّونَ الوُلاةُ، والأحْبارُ العُلَماءُ. وقِيلَ: الرَّبّانِيُّونَ عُلَماءُ النَّصارى، والأحْبارُ عُلَماءُ اليَهُودِ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرَّبّانِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ: الزُّهّادُ والعُلَماءُ مِن ولَدِ هارُونَ الَّذِينَ التَزَمُوا طَرِيقَةَ النَّبِيِّينَ وجانَبُوا دِينَ اليَهُودِ. وقالَ السُّدِّيُّ: المُرادُ هُنا بِالرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالتَّوْراةِ، ابْنا صُورِيّا كانَ أحَدُهُما رَبّانِيًّا، والآخَرُ حَبْرًا، وكانا قَدْ أعْطَيا النَّبِيَّ عَهْدًا أنْ لا يَسْألَهُما عَنْ شَيْءٍ مِن أمْرِ التَّوْراةِ إلّا أخْبَراهُ بِهِ، فَسَألَهُما عَنْ أمْرِ الرَّجْمِ فَأخْبَراهُ بِهِ عَلى وجْهِهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُشِيرَةً إلَيْهِما. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا نَظَرٌ. والرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ أنَّ ابْنا صُورِيّا وغَيْرَهم جَحَدُوا أمْرَ الرَّجْمِ، وفَضَحَهم فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وإنَّما اللَّفْظُ في كُلِّ حَبْرٍ مُسْتَقِيمٍ فِيما مَضى مِنَ الزَّمانِ، وأمّا في مُدَّةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، فَلَوْ وُجِدَ لَأسْلَمَ، فَلَمْ يُسَمَّ حَبْرًا ولا رَبّانِيًّا. انْتَهى. ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتابِ اللَّهِ﴾ الباءُ في بِما لِلسَّبَبِ، وتَتَعَلَّقُ (p-٤٩٢)بِقَوْلِهِ: يَحْكُمُ. واسْتَفْعَلَ هُنا لِلطَّلَبِ؛ والمَعْنى: بِسَبَبِ ما اسْتُحْفِظُوا. والضَّمِيرُ في اسْتُحْفِظُوا عائِدٌ عَلى النَّبِيِّينَ والرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ؛ أيْ: بِسَبَبِ ما طَلَبَ اللَّهُ مِنهم حِفْظَهم لِكِتابِ اللَّهِ وهو التَّوْراةُ، وكَلَّفَهم حِفْظَها، وأخَذَ عَهْدَهُ عَلَيْهِمْ في العَمَلِ بِها والقَوْلِ بِها، وقَدْ أخَذَ اللَّهُ عَلى العُلَماءِ حِفْظَ الكِتابِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: حِفْظُهُ في صُدُورِهِمْ ودَرْسُهُ بِألْسِنَتِهِمْ. والثّانِي: حِفْظُهُ بِالعَمَلِ بِأحْكامِهِ واتِّباعِ شَرائِعِهِ. وهَؤُلاءِ ضَيَّعُوا ما اسْتُحْفِظُوا حَتّى تَبَدَّلَتِ التَّوْراةُ. وفي بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وكَوْنِ الفِعْلِ لِلطَّلَبِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمْ يَتَكَفَّلْ بِحِفْظِ التَّوْراةِ، بَلْ طَلَبَ مِنهم حِفْظَها وكَلَّفَهم بِذَلِكَ، فَغَيَّرُوا وبَدَّلُوا وخالَفُوا أحْكامَ اللَّهِ بِخِلافِ كِتابِنا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ فِيهِ تَبْدِيلٌ ولا تَغْيِيرٌ. قالَ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ﴿اسْتُحْفِظُوا﴾ عائِدٌ عَلى الرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ فَقَطْ. والَّذِينَ اسْتَحْفَظَهُمُ التَّوْراةَ هُمُ الأنْبِياءُ. ﴿وكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى كِتابِ اللَّهِ؛ أيْ: كانُوا عَلَيْهِ رُقَباءَ لِئَلّا يُبَدَّلَ. والمَعْنى يَحْكُمُ بِأحْكامِ التَّوْراةِ النَّبِيُّونَ بَيْنَ مُوسى وعِيسى، وكانَ بَيْنَهُما ألْفُ نَبِيٍّ لِلَّذِينِ هادُوا يَحْمِلُونَهم عَلى أحْكامِ التَّوْراةِ لا يَتْرُكُونَهم أنْ يَعْدِلُوا عَنْها، كَما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، مِن حَمْلِهِمْ عَلى حُكْمِ الرَّجْمِ وإرْغامِ أُنُوفِهِمْ، وإبائِهِمْ عَلَيْهِمْ ما اشْتَهَوْهُ مِنَ الجَلْدِ. وقِيلَ: الهاءُ تَعُودُ عَلى الحُكْمِ؛ أيْ: وكانُوا شُهَداءَ عَلى الحُكْمِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ؛ أيْ: وكانُوا شُهَداءَ عَلى أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. * * * ﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هَذا نَهْيٌ لِلْحُكّامِ عَنْ خَشْيَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ في حُكُوماتِهِمْ، وإذْهابِهِمْ فِيها وإمْضائِها عَلى خِلافِ ما أُمِرُوا بِهِ مِنَ العَدْلِ بِخَشْيَةِ سُلْطانٍ ظالِمٍ، أوْ خِيفَةِ أذِيَّةِ أحَدٍ مِنَ الغُرَماءِ والأصْدِقاءِ. ولا تَسْتَعْطُوا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؛ وهو الرِّشْوَةُ وابْتِغاءُ الجاهِ ورِضا النّاسِ، كَما حَرَّفَ أحْبارُ اليَهُودِ كِتابَ اللَّهِ وغَيَّرُوا أحْكامَهُ رَغْبَةً في الدُّنْيا وطَلَبًا لِلرِّياسَةِ فَهَلَكُوا. وهَذا نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ المَكاسِبِ الخَبِيثَةِ بِالعِلْمِ والتَّحَيُّلِ لِلدُّنْيا بِالدِّينِ. ورَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ مَعْناهُ: لا تَخْشَوُا النّاسَ في إظْهارِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، والعَمَلِ بِالرَّجْمِ، واخْشَوْنِ في كِتْمانِ ذَلِكَ. ولَمّا كانَ الإقْدامُ عَلى تَغْيِيرِ أحْكامِ اللَّهِ سَبَبُهُ شَيْئانِ: الخَوْفُ، والرَّغْبَةُ، وكانَ الخَوْفُ أقْوى تَأْثِيرًا مِنَ الرَّغْبَةِ، قَدَّمَ النَّهْيَ عَنِ الخَوْفِ عَلى النَّهْيِ عَنِ الرَّغْبَةِ والطَّمَعِ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا الخِطابَ لِلْيَهُودِ عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ والقَوْلِ لِعُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ. وقالَ مُقاتِلٌ: الخِطابُ لِيَهُودِ المَدِينَةِ قِيلَ لَهم: لا تَخْشَوْا يَهُودَ خَيْبَرَ أنْ تُخْبِرُوهم بِالرَّجْمِ، واخْشَوْنِي في كِتْمانِهِ. انْتَهى. وهَذا وإنْ كانَ خِطابًا لِعُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنَّهُ يَتَناوَلُ عُلَماءَ هَذِهِ الأُمَّةِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هو خِطابٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ؛ أيْ: لا تَخْشَوُا النّاسَ كَما خَشِيَتِ اليَهُودُ النّاسَ، فَلَمْ يَقُولُوا الحَقَّ. ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ ظاهِرُ هَذا العُمُومُ، فَيَشْمَلُ هَذِهِ الأُمَّةَ وغَيْرَهم مِمَّنْ كانَ قَبْلَهم، وإنْ كانَ الظّاهِرُ أنَّهُ في سِياقِ خِطابِ اليَهُودِ، وإلى أنَّها عامَّةٌ في اليَهُودِ وغَيْرِهِمْ؛ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وإبْراهِيمُ، وعَطاءٌ، وجَماعَةٌ ولَكِنْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ؛ يَعْنِي أنَّ كُفْرَ المُسْلِمِ لَيْسَ مِثْلَ كُفْرِ الكافِرِ، وكَذَلِكَ ظُلْمُهُ وفِسْقُهُ لا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنِ المِلَّةِ، قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ وطاوُسُ. وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: هي مَخْصُوصَةٌ بِاليَهُودِ والنَّصارى وأهْلِ الشِّرْكِ وفِيهِمْ نَزَلَتْ. وبِهِ قالَ: أبُو صالِحٍ قالَ: لَيْسَ في الإسْلامِ مِنها شَيْءٌ. ورُوِيَ في هَذا حَدِيثٌ عَنِ البَراءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ: (إنَّها الثَّلاثَةُ في الكافِرِينَ) قالَ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: هي في أهْلِ الكِتابِ، وقالَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وذَكَرَ أبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الأقْوالَ فَقالَ: إنَّ بَشَرًا مِنَ النّاسِ يَتَأوَّلُونَ الآياتِ عَلى ما لَمْ تُنَزَّلْ عَلَيْهِ، وما أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآياتُ إلّا في حَيَّيْنِ مِن يَهُودِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وذَكَرَ حِكايَةَ القَتْلِ بَيْنَهم. وقالَ الحَسَنُ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ (p-٤٩٣)وهِيَ عَلَيْنا واجِبَةٌ. وقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: أنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في بَنِي إسْرائِيلَ ؟ فَقالَ: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكم بَنُو إسْرائِيلَ إنْ كانَتْ لَكم كُلُّ حُلْوَةٍ ولَهم كُلُّ مُرَّةٍ، لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهم قَدَّ الشِّراكِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: إنَّ الكافِرِينَ والظّالِمِينَ والفاسِقِينَ أهْلُ الكِتابِ، وعَنْهُ: نِعْمَ القَوْمُ أنْتُمْ ما كانَ مِن حُلْوٍ فَلَكم، وما كانَ مِن مُرٍّ فَهو لِأهْلِ الكِتابِ. مَن جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ كَفَرَ، ومَن لَمْ يَحْكم بِهِ وهو مُقِرٌّ بِهِ ظالِمٌ فاسِقٌ. وعَنِ الشَّعْبِيِّ: الكافِرُونَ في أهْلِ الإسْلامِ، والظّالِمُونَ في اليَهُودِ، والفاسِقُونَ في النَّصارى. وكَأنَّهُ خَصَّصَ كُلَّ عامٍّ مِنها بِما تَلاهُ، إذْ قَبْلَ الأُولى: ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] و﴿وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] و﴿وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ [المائدة: ٤٣] و﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ﴾ وقَبْلَ الثّانِيَةِ: ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها﴾ [المائدة: ٤٥] وقَبْلَ الثّالِثَةِ: ﴿وقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٦] الآيَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ مُسْتَهِينًا بِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ والظّالِمُونَ والفاسِقُونَ، وصْفٌ لَهم بِالعُتُوِّ في كُفْرِهِمْ حِينَ ظَلَمُوا آياتِ اللَّهِ بِالِاسْتِهْزاءِ والِاسْتِهانَةِ وتَمَرَّدُوا بِأنْ حَكَمُوا بِغَيْرِها. انْتَهى. وقالَ السُّدِّيُّ: مَن خالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وتَرَكَهُ عامِدًا وتَجاوَزَهُ وهو يَعْلَمُ، فَهو مِنَ الكافِرِينَ حَقًّا، ويُحْمَلُ هَذا عَلى الجُحُودِ، فَهو الكُفْرُ ضِدُّ الإيمانِ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ. واحْتَجَّتِ الخَوارِجُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ كُلَّ مَن عَصى اللَّهَ تَعالى فَهو كافِرٌ، وقالُوا: هي نَصٌّ في كُلِّ مَن حَكَمَ بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللَّهُ فَهو كافِرٌ، وكُلُّ مَن أذْنَبَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللَّهُ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كافِرًا. وأُجِيبُوا: بِأنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ، فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ. وضُعِّفَ بِأنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. ومِنهم مَن قالَ: تَقْدِيرُهُ ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهم قَبْلُ، وهَذا ضَعِيفٌ، لِأنَّ مَن شَرْطٌ وهي عامٌّ، وزِيادَةُ ما قُدِّرَ زِيادَةٌ في النَّقْصِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ. وقِيلَ: المُرادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ، وضُعِّفَ بِأنَّ الكُفْرَ إذا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إلى الكُفْرِ في الدِّينِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: فَعَلَ فِعْلًا يُضاهِي أفْعالَ الكُفّارِ، وضُعِّفَ بِأنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ. وقالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَـى الكِنانِيُّ: ما أنْزَلَ صِيغَةُ عُمُومٍ، فالمَعْنى: مَن أتى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّهِ في كُلِّ ما أنْزَلَ اللَّهُ، والفاسِقُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّهِ إلّا في القَلِيلِ وهو العَمَلُ، أمّا في الِاعْتِقادِ والإقْرارِ فَهو مُوافِقٌ. وضُعِّفَ بِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَناوَلْ هَذا الوَعِيدُ اليَهُودَ بِسَبَبِ مُخالَفاتِهِمْ حُكْمَ اللَّهِ في الرَّجْمِ. وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ هَذا الوَعِيدَ يَتَناوَلُ اليَهُودَ بِسَبَبِ مُخالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّهِ في واقِعَةِ الرَّجْمِ، فَدَلَّ عَلى سُقُوطِهِ هَذا. وقالَ عِكْرِمَةُ: إنَّما يَتَناوَلُ مَن أنْكَرَ بِقَلْبِهِ وجَحَدَ بِلِسانِهِ، أمّا مَن عَرَفَ أنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ وأقَرَّ بِلِسانِهِ أنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، إلّا أنَّهُ أتى بِما يُضادُّ، فَهو حاكِمٌ بِما أنْزَلَ اللَّهُ، لَكِنَّهُ تارِكٌ لَهُ، فَلا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ. ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعَيْنَ بِالعَيْنِ والأنْفَ بِالأنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥] مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في التَّوْراةِ أنَّ حُكْمَ الزّانِي المُحْصَنِ: الرَّجْمُ وغَيَّرَهُ اليَهُودُ، وبَيَّنَ هُنا أنَّ في التَّوْراةِ: إنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وغَيَّرَهُ اليَهُودُ أيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلى بَنِي قُرَيْظَةَ، وخَصُّوا إيجابَ القَوَدِ عَلى بَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ. ومَعْنى وكَتَبْنا: فَرَضْنا. وقِيلَ: قُلْنا والكِتابَةُ بِمَعْنى القَوْلِ (p-٤٩٤)ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الكِتابَةُ حَقِيقَةً، وهي الكِتابَةُ في الألْواحِ، لِأنَّ التَّوْراةَ مَكْتُوبَةٌ في الألْواحِ، والضَّمِيرُ في فِيها عائِدٌ عَلى التَّوْراةِ، وفي: عَلَيْهِمْ، عَلى الَّذِينَ هادُوا. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، وعاصِمٌ: بِنَصْبِ والعَيْنَ وما بَعْدَها مِنَ المَعاطِيفِ عَلى التَّشْرِيكِ في عَمَلِ أنَّ النَّصْبَ، وخَبَرُ أنَّ هو المَجْرُورُ، وخَبَرُ والجُرُوحَ قِصاصٌ، وقَدَّرَ أبُو عَلِيٍّ العامِلَ في المَجْرُورِ مَأْخُوذٌ بِالنَّفْسِ إلى آخَرِ المَجْرُوراتِ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أوَّلًا: مَأْخُوذَةٌ بِالنَّفْسِ مَقْتُولَةٌ بِها إذا قَتَلَها بِغَيْرِ حَقٍّ، وكَذَلِكَ العَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالعَيْنِ، والأنْفُ مَجْدُوعٌ بِالأنْفِ، والأُذُنُ مَأْخُوذَةٌ مَقْطُوعَةٌ بِالأُذُنِ، والسِّنُّ مَقْلُوعَةٌ بِالسِّنِّ. ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَقْتُولَةٌ ومَفْقُوأةٌ ومَجْدُوعٌ ومَقْطُوعَةٌ عَلى أنَّهُ تَفْسِيرُ المَعْنى لا تَفْسِيرُ الإعْرابِ، لِأنَّ المَجْرُورَ إذا وقَعَ خَبَرًا لا بُدَّ أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيهِ كَوْنًا مُطْلَقًا، لا كَوْنًا مُقَيَّدًا. والباءُ هُنا باءُ المُقابَلَةِ والمُعاوَضَةِ، فَقَدَّرَ ما يَقْرُبُ مِنَ الكَوْنِ المُطْلَقِ وهو مَأْخُوذٌ. فَإذا قُلْتَ: بِعْتُ الشّاءَ شاةً بِدِرْهَمٍ، فالمَعْنى مَأْخُوذٌ بِدِرْهَمٍ، وكَذَلِكَ الحُرَّ بِالحُرِّ، والعَبْدَ بِالعَبْدِ؛ التَّقْدِيرُ: الحُرُّ مَأْخُوذٌ بِالحُرِّ، والعَبْدُ مَأْخُوذٌ بِالعَبْدِ؛ وكَذَلِكَ هَذا الثَّوْبُ بِهَذا الدِّرْهَمِ مَعْناهُ مَأْخُوذٌ بِهَذا الدِّرْهَمِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: بِالنَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَجِبُ، أوْ يَسْتَقِرُّ. وكَذا العَيْنُ بِالعَيْنِ وما بَعْدَها مُقَدَّرُ الكَوْنِ المُطْلَقِ؛ والمَعْنى: يَسْتَقِرُّ قَتْلُها بِقَتْلِ النَّفْسِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ: بِرَفْعِ ”والعَيْنُ“ وما بَعْدَها. وأجازَ أبُو عَلِيٍّ في تَوْجِيهِ الرَّفْعِ وُجُوهًا. الأوَّلُ: أنَّ الواوَ عاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ، كَما تَعْطِفُ مُفْرَدًا عَلى مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ والعَيْنُ بِالعَيْنِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وهي: وكَتَبْنا، فَلا تَكُونُ تِلْكَ الجُمَلُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ كَتَبْنا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ، ولا مِن حَيْثُ التَّشْرِيكُ في مَعْنى الكُتُبِ، بَلْ ذَلِكَ اسْتِئْنافُ إيجابٍ، وابْتِداءُ تَشْرِيعٍ. الثّانِي: أنَّ الواوَ عاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلى المَعْنى في قَوْلِهِ: إنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ؛ أيْ: قُلْ لَهُمُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وهَذا العَطْفُ هو مِنَ العَطْفِ عَلى التَّوَهُّمِ، إذْ يُوهِمُ في قَوْلِهِ: إنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، إنَّهُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والجُمَلُ مُنْدَرِجَةُ تَحْتَ الكَتْبِ مِن حَيْثُ المَعْنى، لا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ. الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ الواوُ عاطِفَةً مُفْرَدًا عَلى مُفْرَدٍ، وهو أنْ يَكُونَ: والعَيْنُ مُعْطُوفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجْرُورِ؛ أيْ: بِالنَّفْسِ هي والعَيْنِ، وكَذَلِكَ ما بَعْدَها. وتَكُونُ المَجْرُوراتُ عَلى هَذا أحْوالًا مُبَيِّنَةً لِلْمَعْنى، لِأنَّ المَرْفُوعَ عَلى هَذا فاعِلٌ، إذْ عُطِفَ عَلى فاعِلٍ. وهَذانِ الوَجْهانِ الأخِيرانِ ضَعِيفانِ: لِأنَّ الأوَّلَ مِنهُما هو المَعْطُوفُ عَلى التَّوَهُّمِ، وهو لا يَنْقاسُ، إنَّما يُقالُ مِنهُ ما سُمِعَ. والثّانِي مِنهُما فِيهِ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المَرْفُوعِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ، ولا بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِلا، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ (p-٤٩٥)إلّا في الضَّرُورَةِ، وفِيهِ لُزُومُ هَذِهِ الأحْوالِ. والأصْلُ في الحالِ أنْ لا تَكُونَ لازِمَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الرَّفْعُ لِلْعَطْفِ عَلى مَحَلِّ: أنَّ النَّفْسَ، لِأنَّ المَعْنى: وكَتَبْنا عَلَيْهِمُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إمّا لِإجْراءِ كَتَبْنا مُجْرى قُلْنا، وإمّا أنَّ مَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي هي قَوْلُكَ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، مِمّا يَقَعُ عَلَيْهِ الكَتْبُ كَما تَقَعُ عَلَيْهِ القِراءَةُ، يَقُولُ: كَتَبْتُ الحَمْدُ لِلَّهِ، وقَرَأْتُ سُورَةٌ أنْزَلْناها. وكَذَلِكَ قالَ الزَّجّاجُ: لَوْ قُرِئَ أنَّ النَّفْسَ لَكانَ صَحِيحًا. انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هو الوَجْهُ الثّانِي مِن تَوْجِيهِ أبِي عَلِيٍّ، إلّا أنَّهُ خَرَجَ عَنِ المُصْطَلَحِ فِيهِ، وهو أنَّ مِثْلَ هَذا لا يُسَمّى عَطْفًا عَلى المَحَلِّ، لِأنَّ العَطْفَ عَلى المَحَلِّ هو العَطْفُ عَلى المَوْضِعِ، وهَذا لَيْسَ مِنَ العَطْفِ عَلى المَوْضِعِ، لِأنَّ العَطْفَ عَلى المَوْضِعِ هو مَحْصُورٌ ولَيْسَ هَذا مِنهُ، وإنَّما هو عَطْفٌ عَلى التَّوَهُّمِ. ألا تَرى أنّا لا نَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ: إنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأنَّ طالِبَ الرَّفْعِ مَفْقُودٌ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ المَصْدَرَ المُنْسَبِكَ مِن أنَّ واسْمِها وخَبَرِها لَفْظُهُ ومَوْضِعُهُ واحِدٌ وهو النَّصْبُ، والتَّقْدِيرُ: وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إمّا لِإجْراءِ كَتَبْنا مُجْرى قُلْنا، فَحُكِيَتْ بِها الجُمْلَةُ: وإمّا لِأنَّهُما مِمّا يَصْلُحُ أنْ يَتَسَلَّطَ الكَتْبُ فِيها نَفْسُهُ عَلى الجُمْلَةِ لِأنَّ الجُمَلَ مِمّا تُكْتَبُ كَما تُكْتَبُ المُفْرَداتُ، ولا نَقُولُ: إنَّ مَوْضِعَ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وقَعَ بِهَذا الِاعْتِبارِ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ وابْنُ كَثِيرٍ: بِنَصْبِ والعَيْنَ، والأنْفَ، والأُذُنَ، والسِّنَّ، ورَفْعِ والجُرُوحُ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: نافِعٍ. ووَجَّهَ أبُو عَلِيٍّ: رَفْعَ والجُرُوحُ عَلى الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ الَّتِي ذَكَرَها في رَفْعِ والعَيْنُ وما بَعْدَها. «ورَوى أنَسٌ أنَّ النَّبِيَّ، ﷺ، قَرَأ (أنِ النَّفْسُ) بِتَخْفِيفِ ”أنَّ“»، ورَفْعِ العَيْنِ وما بَعْدَها فَيَحْتَمِلُ أنْ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مُخَفَّفَةً مِن أنَّ، واسْمُها ضَمِيرُ الشَّأْنِ وهو مَحْذُوفٌ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ أنْ؛ فَمَعْناها مَعْنى المُشَدَّدَةِ العامِلَةِ في كَوْنِها مَصْدَرِيَّةً. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ أنْ تَفْسِيرِيَّةً التَّقْدِيرُ؛ أيِ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، لِأنَّ كَتَبْنا جُمْلَةٌ في مَعْنى القَوْلِ. وقَرَأ أُبَيٌّ بِنَصْبِ النَّفْسِ والأرْبَعَةِ بَعْدَها. وقَرَأ: وأنِ الجُرُوحُ قِصاصٌ؛ بِزِيادَةِ أنِ الخَفِيفَةِ، ورَفْعِ الجُرُوحِ. ويَتَعَيَّنُ في هَذِهِ القِراءَةِ أنْ تَكُونَ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ التَّفْسِيرِيَّةَ مِن حَيْثُ العَطْفُ، لِأنَّ كَتَبْنا تَكُونُ عامِلَةً مِن حَيْثُ المُشَدَّدَةُ غَيْرَ عامِلَةٍ مِن حَيْثُ التَّفْسِيرِيَّةُ، فَلا يَجُوزُ لِأنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، فَإذا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ فَلا تَشْرِيكَ. وقَرَأ نافِعٌ: والأُذْنَ بِالأُذْنِ؛ بِإسْكانِ الذّالِ مُعَرَّفًا ومُنَكَّرًا ومُثَنًّى حَيْثُ وقَعَ. وقَرَأ الباقُونَ: بِالضَّمِّ. فَقِيلَ: هُما لُغَتانِ، كالنُّكُرِ والنُّكْرِ. وقِيلَ: الإسْكانُ هو الأصْلُ، وإنَّما ضُمَّ إتْباعًا. وقِيلَ: التَّحْرِيكُ هو الأصْلُ، وإنَّما سُكِّنَ تَخْفِيفًا. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِحَدٍّ أُخِذَ نَفْسُهُ، ثُمَّ هَذِهِ الأعْضاءُ كَذَلِكَ، وهَذا الحُكْمُ مَعْمُولٌ بِهِ في مِلَّتِنا إجْماعًا. والجُمْهُورُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ ”﴿أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥]“ عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ في المُتَماثِلَيْنِ. وقالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ والمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ: وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا يُقْتَلُ بِالمُسْتَأْمَنِ ولا بِالحَرْبِيِّ، ولا يُقْتَلُ والِدٌ بِوَلَدِهِ، ولا سَيِّدٌ بِعَبْدِهِ. وتُقْتَلُ جَماعَةٌ بِواحِدٍ خِلافًا لِعَلِيٍّ، وواحِدٌ بِجَماعَةٍ قِصاصًا، ولا يَجِبُ مَعَ القَوَدِ شَيْءٌ مِنَ المالِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: يُقْتَلُ بِالأوَّلِ مِنهم وتَجِبُ دِيَةُ الباقِينَ، قَدْ مَضى الكَلامُ في ذَلِكَ في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] الآيَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانُوا لا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالمَرْأةِ فَنَزَلَتْ. وقالَ أيْضًا: رَخَّصَ اللَّهُ تَعالى لِهَذِهِ الأُمَّةِ ووَسَّعَ عَلَيْها بِالدِّيَةِ، ولَمْ يَجْعَلْ لِبَنِي إسْرائِيلَ دِيَةً فِيما نَزَلَ عَلى مُوسى وكُتِبَ عَلَيْهِمْ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ نَسَخَ ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ﴾ [البقرة: ١٧٨] قَوْلُهُ: أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ العُمُومُ، ويَخْرُجُ مِنهُ ما يَخْرُجُ بِالدَّلِيلِ، ويَبْقى الباقِي عَلى عُمُومِهِ؛ والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: العَيْنَ بِالعَيْنِ فَتُفْقَأُ عَيْنُ الأعْوَرِ بِعَيْنِ مَن كانَ ذا عَيْنَيْنِ، وبِهِ قالَ (p-٤٩٦)أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ، ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ وعُمَرَ في آخَرِينَ أنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. وقالَ مالِكٌ: إنْ شاءَ فَقَأ وإنْ شاءَ أخَذَ الدِّيَةَ كامِلَةً. وبِهِ قالَ: عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوانَ، وقَتادَةُ، والزُّهْرِيُّ، واللَّيْثُ، ومالِكٌ، وأحْمَدُ، والنَّخَعِيُّ. ورُوِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغَفَّلِ، ومَسْرُوقٍ، والنَّخَعِيِّ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وبِهِ نَقُولُ. وتُفْقَأُ اليُمْنى بِاليُسْرى، وتُقْلَعُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ، وعَكْسُهُما، لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وبِهِ قالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ. وقالَ الجُمْهُورُ: هَذا خاصٌّ بِالمُساواةِ، فَلا تُؤْخَذُ يُمْنى بِيُسْرى مَعَ وُجُودِها إلّا مَعَ الرِّضا. ولَوْ فَقَأ عَيْنًا لا يُبْصَرُ بِها فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ: فِيها مِائَةُ دِينارٍ، وعَنْ عُمَرَ: ثُلُثُ دِيَتِها. وقالَ مَسْرُوقٌ، والزُّهْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ: فِيها حُكُومَةٌ. ولَوْ أُذْهِبَ بَعْضُ نُورِ العَيْنِ وبَقِيَ بَعْضٌ، فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ: فِيها الأرْشُ. وعَنْ عَلِيٍّ اخْتِبارُ بَصَرِهِ، ويُعْطى قَدْرَ ما نَقَصَ مِن مالِ الجانِي. وفي الأجْفانِ كُلِّها الدِّيَةُ، وفي كُلِّ جَفْنٍ رُبُعُ الدِّيَةِ؛ قالَهُ: زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ، وإبْراهِيمُ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ، والشّافِعِيُّ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: في الجَفْنِ الأعْلى ثُلُثُ الدِّيَةِ، وفي الأسْفَلِ ثُلُثاها. واخْتُلِفَ فِيمَن قَطَعَ أنْفًا هَلْ يَجْرِي فِيها القِصاصُ أمْ لا ؟ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إذا قَطَعَهُ مِن أصْلِهِ فَلا قِصاصَ فِيهِ، وإنَّما فِيهِ الدِّيَةُ. ورُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ أنَّ في ذَلِكَ القِصاصُ إذا اسْتَوْعَبَ. واخْتُلِفَ في كَسْرِ الأنْفِ: فَمالِكٌ يَرى القَوَدَ في العَمْدِ مِنهُ، والِاجْتِهادَ في الخَطَأِ. ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ: لا دِيَةَ فِيهِ حَتّى يَسْتَأْصِلَهُ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّهُ أوْجَبَ القِصاصَ في كَسْرِهِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إنْ جُبِرَ كَسْرُهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وما قُطِعَ مِنَ المارِنِ بِحِسابِهِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ والشَّعْبِيِّ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ؛ وفي المارِنِ إذا قُطِعَ ولَمْ يُسْتَأْصَلِ الأنْفُ: الدِّيَةُ كامِلَةٌ، قالَهُ: مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ. والمارِنُ ما لانَ مِنَ الأنْفِ، والأرْنَبَةُ والرَّوْثَةُ طَرْفُ المارِنِ. ولَوْ أفْقَدَهُ الشَّمَّ أوْ نَقَصَهُ: فالجُمْهُورُ عَلى أنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ. والأُذُنَ بِالأُذُنِ؛ يَقْتَضِي وُجُوبَ القِصاصِ إذا اسْتَوْعَبَ، فَإنْ قُطِعَ بَعْضُها فَفِيهِ القِصاصُ إذا عُرِفَ قَدْرُهُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: في الأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وفي إحْداهُما نِصْفُها. وقالَ مالِكٌ: في الأُذُنَيْنِ حُكُومَةٌ، وإنَّما الدِّيَةُ في السَّمْعِ، ويُقاسُ نُقْصانُهُ كَما يُقاسُ في البَصَرِ. وفي إبْطالِهِ مِن إحْداهُما نِصْفُ الدِّيَةِ ولَوْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ إلّا بِها. والسِّنَّ بِالسِّنِّ؛ يَقْتَضِي أنَّ القَلْعَ قِصاصٌ، وهَذا لا خِلافَ فِيهِ، ولَوْ كُسِرَ بَعْضُها. والأسْنانُ كُلُّها سَواءٌ: ثَناياها، وأنْيابُها، وأضْراسُها، ورُباعِيّاتُها، في كُلِّ واحِدَةٍ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ مِن غَيْرِ فَضْلٍ؛ وبِهِ قالَ: عُرْوَةُ، وطاوُسُ، وقَتادَةُ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ورَبِيعَةُ، والأوْزاعِيُّ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ، ومالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومُعاوِيَةَ. ورَوى ابْنُ المُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ: أنَّهُ قَضى فِيما أقْبَلَ مِنَ الفَمِ بِخَمْسِ فَرائِضَ، وذَلِكَ: خَمْسُونَ دِينارًا، كُلُّ فَرِيضَةٍ عَشْرُ دَنانِيرَ، وفي الأضْراسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ. قالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: فَلَوْ أُصِيبَ الفَمُ كُلُّهُ في قَضاءِ عُمَرَ نَقَصَتِ الدِّيَةُ، أوْ في قَضاءِ مُعاوِيَةَ زادَتْ، ولَوْ كُنْتُ أنا لَجَعَلْتُها في الأضْراسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ. قالَ عُمَرُ: الأضْراسُ عِشْرُونَ، والأسْنانُ اثْنا عَشَرَ: أرْبَعُ ثَنايا، وأرْبَعُ رُباعِيّاتٍ، وأرْبَعُ أنْيابٍ. والخِلافُ إنَّما هو في الأضْراسِ لا في الأسْنانِ، فَفي قَضاءِ عُمَرَ: الدِّيَةُ ثَمانُونَ، وفي قَضاءِ مُعاوِيَةَ: مِائَةٌ وسِتُّونَ. وعَلى قَوْلِ ابْنِ المُسَيَّبِ: مِائَةٌ، وهي الدِّيَةُ كامِلَةً مِنَ الإبِلِ. وقالَ عَطاءُ في الثَّنِيَّتَيْنِ والرُّباعِيَّتَيْنِ والنّابَيْنِ: خَمْسٌ خَمْسٌ، وفِيما بَقِيَ بَعِيرانِ بَعِيرانِ، أعْلى الفَمِ وأسْفَلُهُ سَواءٌ؛ ولَوْ قُلِعَتْ سِنُّ صَبِيٍّ لَمْ يُثْغَرْ فَنَبَتَتْ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ: لا شَيْءَ عَلى القالِعِ. إلّا أنَّ مالِكًا والشّافِعِيَّ قالا: إذا نَبَتَتْ ناقِصَةَ الطُّولِ عَنِ الَّتِي تُقارِبُها أُخِذَ لَهُ مِن أرْشِها بِقَدْرِ نَقْصِها. وقالَتْ طائِفَةٌ: فِيها حُكُومَةٌ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ؛ ولَوْ قُلِعَتْ سِنُّ كَبِيرٍ فَأخَذَ دِيَتَها ثُمَّ نَبَتَتْ فَقالَ مالِكٌ: لا يَرُدُّ ما أخَذَ. وقالَ (p-٤٩٧)أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: يَرُدُّ، والقَوْلانِ عَنِ الشّافِعِيِّ. ولَوْ قُلِعَتْ سِنٌّ قَوَدًا فَرَدَّها صاحِبُها فالتَحَمَتْ فَلا يَجِبُ قَلْعُها عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ: يُجْبَرُ عَلى القَلْعِ، بِهِ قالَ ابْنُ المُسَيَّبِ، ويُعِيدُ كُلَّ صَلاةٍ صَلّاها بِها. وكَذا لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَرَدَّها في حَرارَةِ الدَّمِ فالتَزَقَتْ، ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عَنْ عَطاءٍ، وأبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ قالَ: وهو غَلَطٌ. ولَوْ قَلَعَ سِنًّا زائِدَةً فَقالَ الجُمْهُورُ: فِيها حُكُومَةٌ، فَإنْ كُسِرَ بَعْضُها أعْطى بِحِسابِ ما نَقَصَ مِنها، وبِهِ قالَ: مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ. قالَ الأُدْفُوِيُّ: وما عَلِمْتُ فِيهِ خِلافًا. وقالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: في السِّنِّ الزّائِدَةِ ثُلُثُ السِّنِّ، ولَوْ جَنى عَلى سِنٍّ فاسْوَدَّتْ ثُمَّ عَقَلَها، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ، وابْنِ المُسَيَّبِ، وبِهِ قالَ: الزُّهْرِيُّ، والحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ، وشُرَيْحٌ، والنَّخَعِيُّ، وعَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوانَ، وأبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ. ورُوِيَ عَنْ عِمْرانَ: فِيها ثُلُثُ دِيَتِها، وبِهِ قالَ: أحْمَدُ وإسْحاقُ. وقالَ النَّخَعِيُّ والشّافِعِيُّ وأبُو ثَوْرٍ: فِيها حُكُومَةٌ، فَإنْ طُرِحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِيها عَقْلُها، وبِهِ قالَ اللَّيْثُ وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي سَلَمَةَ، وإنِ اسْوَدَّ بَعْضُها كانَ بِالحِسابِ؛ قالَهُ: الثَّوْرِيُّ. والجُرُوحُ قِصاصٌ؛ أيْ: ذاتُ قِصاصٍ. ولَفْظُ الجُرُوحِ عامٌّ، والمُرادُ بِهِ الخُصُوصُ، وهو ما يُمْكِنُ فِيهِ القِصاصُ. وتُعْرَفُ المُماثَلَةُ ولا يُخافُ فِيها عَلى النَّقْصِ، فَإنْ خِيفَ كالمَأْمُومَةِ وكَسْرِ الفَخِذِ ونَحْوِ ذَلِكَ فَلا قِصاصَ فِيها. ومَدْلُولُ والجُرُوحَ قِصاصٌ؛ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الجُرْحُ بِمِثْلِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ بِمِثْلِهِ فَلَيْسَ بِقِصاصٍ. واخْتَلَفُوا في القِصاصِ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، وبَيْنَ العَبْدِ والحُرِّ. وجَمِيعُ ما عَدا النَّفْسَ هو مِنَ الجِراحاتِ الَّتِي أشارَ إلَيْها بِقَوْلِهِ: والجُرُوحَ قِصاصٌ، لَكِنَّهُ فَصَّلَ أوَّلَ الآيَةِ وأجْمَلَ آخِرَها لِيَتَناوَلَ ما نُصَّ عَلَيْهِ وما لَمْ يُنَصَّ، فَيَحْصُلَ العُمُومُ. مَعْنى وإنْ لَمْ يَحْصُلْ لَفْظًا. ومِن جُمْلَةِ الجُرُوحِ الشِّجاجِ فِيما يُمْكِنُ فِيهِ القِصاصُ، فَلا خِلافَ في وُجُوبِها فِيهِ، وما لا فَلا قِصاصَ فِيهِ كالمَأْمُومَةِ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: فَلَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الشِّجاجِ قِصاصٌ إلّا في المُوضِحَةِ خاصَّةً، لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنها لَهُ حَدٌّ يُنْتَهى إلَيْهِ سِواها، وأمّا غَيْرُها مِنَ الشِّجاجِ فَفِيهِ دِيَتُهُ. انْتَهى. وقالَ غَيْرُهُ: في الخارِصَةِ القِصاصُ بِمِقْدارِها إذا لَمْ يَخْشَ مِنها سَرايَةً، وأقادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ المَأْمُومَةِ، وأنْكَرَ النّاسُ عَلَيْهِ. قالَ عَطاءٌ: ما عَلِمْنا أحَدًا أقادَ مِنها قَبْلَهُ. وأمّا الجُرُوحُ في اللَّحْمِ فَقالَ: فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ القِصاصَ فِيها مُمْكِنٌ بِأنْ يُقاسَ بِمِثْلٍ، ويُوضَعَ بِمِقْدارِ ذَلِكَ الجُرْحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب