الباحث القرآني

(p-٣٦٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: اسْتِفْتاءُ اليَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في أمْرِ الزّانِيَيْنِ، وقَدْ سَبَقَ. و "الهُدى": البَيانُ. فالتَّوْراةُ مُبَيِّنَةٌ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومُبَيِّنَةٌ ما تَحاكَمُوا فِيهِ إلَيْهِ. و "النُّورُ": الضِّياءُ الكاشِفُ لِلشُّبُهاتِ، والمُوَضِّحُ لِلْمُشْكِلاتِ. وَفِي النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أسْلَمُوا ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُمُ الأنْبِياءُ مِن لَدُنْ مُوسى إلى عِيسى، قالَهُ الأكْثَرُونَ. فَعَلى هَذا القَوْلِ في مَعْنى "أسْلَمُوا" أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: سَلَّمُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، ورَضُوا بِقَضائِهِ. والثّانِي: انْقادُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، فَلَمْ يَكْتُمُوهُ كَما كَتَمَ هَؤُلاءِ. والثّالِثُ: أسْلَمُوا أنْفُسَهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. والرّابِعُ: أسْلَمُوا لِما في التَّوْراةِ ودانُوا بِها، لِأنَّهُ قَدْ كانَ فِيهِمْ مَن لَمْ يَعْمَلْ بِكُلِّ ما فِيها كَعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيُّ: وفي "المُسْلِمِ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِسْلامِهِ وانْقِيادِهِ لِرَبِّهِ. والثّانِي: لِإخْلاصِهِ لِرَبِّهِ، مِن قَوْلِهِ: ﴿وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٩] أيْ: خالِصًا لَهُ. (p-٣٦٤)والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالنَّبِيِّينَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ ﷺ، قالَهُ الحَسَنُ، والسُّدِّيُّ. وذَلِكَ حِينَ حَكَمَ عَلى اليَهُودِ بِالرَّجْمِ، وذَكَرَهُ بِلَفْظِ الجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النِّساءِ: ٥٤] وَفِي الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنها قَوْلانِ. أحَدُهُما: الرَّجْمُ والقَوَدُ. والثّانِي: الحُكْمُ بِسائِرِها ما لَمْ يَرِدْ في شَرْعِهِ ما يُخالِفُ. والثّالِثُ: النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ، ومَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ هادُوا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تابُوا مِنَ الكُفْرِ. قالَ الحَسَنُ: هُمُ اليَهُودُ. قالَ الزَّجّاجُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ عَلى مَعْنى: إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ لِلَّذِينِ هادُوا يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا. فَأمّا "الرَّبّانِيُّونَ" فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهم في (آلِ عِمْرانَ) . وأمّا "الأحْبارُ" فَهُمُ العُلَماءُ واحِدُهم حَبْرٌ وحِبْرٌ، والجَمْعُ أحْبارٌ وحُبُورٌ. وقالَ الفَرّاءُ: أكْثَرُ ما سَمِعْتُ العَرَبَ تَقُولُ في واحِدِ الأحْبارِ: حِبْرٌ بِكَسْرِ الحاءِ. وفي اشْتِقاقِ هَذا الِاسْمِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ مِنَ الحَبارِ وهو الأثَرُ الحَسَنُ، قالَهُ الخَلِيلُ. والثّانِي: أنَّهُ مِنَ الحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، قالَهُ الكِسائِيُّ. والثّالِثُ: أنَّهُ مِنَ الحِبْرِ الَّذِي هو الجَمالُ والبَهاءُ. وفي الحَدِيثِ « "يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النّارِ قَدْ ذَهَبَ حِبْرُهُ وسِبْرَهُ"» أيْ: جَمالُهُ وبَهاؤُهُ. فالعالِمُ بَهِيٌّ بِجَمالِ العِلْمِ، وهَذا قَوْلُ قُطْرُبٍ. وَهَلْ بَيْنَ الرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ فَرْقٌ أمْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: لا فَرْقَ، والكُلُّ عُلَماءُ، هَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ، مِنهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، والزَّجّاجُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: الرَّبّانِيُّونَ: الفُقَهاءُ العُلَماءُ، وهم فَوْقَ الأحْبارِ. وقالَ السُّدِّيُّ: الرَّبّانِيُّونَ العُلَماءُ، والأحْبارُ القُرّاءُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: (p-٣٦٥)"الرَّبّانِيُّونَ": الوُلاةُ، و "الأحْبارُ": العُلَماءُ، وقِيلَ: الرَّبّانِيُّونَ: عُلَماءُ النَّصارى، والأحْبارُ: عُلَماءُ اليَهُودِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتابِ اللَّهِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بِما اسْتُودِعُوا مِن كِتابِ اللَّهِ وهو التَّوْراةُ. وفي مَعْنى الكَلامِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: يَحْكُمُونَ بِحُكْمِ ما اسْتُحْفِظُوا. والثّانِي: العُلَماءُ بِما اسْتُحْفِظُوا. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "الباءُ" في قَوْلِهِ: ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا﴾ مِن صِلَةِ الأحْبارِ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: وكانُوا عَلى ما في التَّوْراةِ مِنَ الرَّجْمِ شُهَداءَ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: وكانُوا شُهَداءَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما قالَهُ أنَّهُ حَقٌّ. رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ واخْشَوْنِ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: "واخْشَوْنِ" بِغَيْرِ ياءٍ في الوَصْلِ والوَقْفِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: بِياءٍ في الوَصْلِ وبِغَيْرِ ياءٍ في الوَقْفِ، وكِلاهُما حَسَنٌ. وقَدْ أشَرْنا إلى هَذا في (آلِ عِمْرانَ) ثُمَّ في المُخاطَبِينَ بِهَذا قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهم رُؤَساءُ اليَهُودِ، قِيلَ لَهُمْ: فَلا تَخْشَوُا النّاسَ في إظْهارِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ، والعَمَلِ بِالرَّجْمِ، واخْشَوْنِي في كِتْمانِ ذَلِكَ، رَوى هَذا المَعْنى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ مُقاتِلٌ: الخِطابُ لِيَهُودِ المَدِينَةِ، قِيلَ لَهُمْ: لا تَخْشَوْا يَهُودَ خَيْبَرٍ أنْ تُخْبِرُوهم بِالرَّجْمِ، ونَعْتِ مُحَمَّدٍ، واخْشَوْنِي في كِتْمانِهِ. والثّانِي: أنَّهُمُ المُسْلِمُونَ، قِيلَ لَهُمْ: لا تَخْشَوُا النّاسَ، كَما خَشِيَتِ اليَهُودُ النّاسَ، فَلَمْ يَقُولُوا الحَقَّ، ذَكَرَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. (p-٣٦٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلا﴾ في المُرادِ بِالآياتِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها صِفَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ والقُرْآنُ. والثّانِي: الأحْكامُ والفَرائِضُ. والثَّمَنُ القَلِيلُ مَذْكُورٌ في (البَقَرَةِ) . فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى بَعْدَها: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ . فاخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيمَن نَزَلَتْ عَلى خَمْسَةِ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ خاصَّةً، رَواهُ عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ. والثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ في المُسْلِمِينَ، رَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوَ هَذا المَعْنى. والثّالِثُ: أنَّها عامَّةٌ في اليَهُودِ، وفي هَذِهِ الأُمَّةِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، والنَّخْعِيُّ، والسُّدِّيُّ. والرّابِعُ: أنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ والنَّصارى، قالَهُ أبُو مِجْلَزٍ. والخامِسُ: أنَّ الأُولى في المُسْلِمِينَ، والثّانِيَةَ في اليَهُودِ، والثّالِثَةَ في النَّصارى، قالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَفِي المُرادِ بِالكُفْرِ المَذْكُورِ في الآيَةِ الأُولى قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ الكُفْرُ بِاللَّهِ تَعالى. والثّانِي: أنَّهُ الكُفْرُ بِذَلِكَ الحُكْمِ، ولَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقِلُ عَنِ المِلَّةِ. وَفَصْلُ الخِطابِ: أنَّ مَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ جاحِدًا لَهُ، وهو يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَهُ، كَما فَعَلَتِ اليَهُودُ، فَهو كافِرٌ، ومَن لَمْ يَحْكم بِهِ مَيْلًا إلى الهَوى مِن غَيْرِ جُحُودٍ، فَهو ظالِمٌ وفاسِقٌ. وقَدْ رَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: (p-٣٦٧)مَن جَحَدَ ما أنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، ومَن أقَرَّ بِهِ ولَمْ يَحْكم بِهِ فَهو فاسِقٌ وظالِمٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب