الباحث القرآني
﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِتَقْرِيرِ مَزِيدِ فَظاعَةِ حالِ أُولَئِكَ اليَهُودِ بِبَيانِ عُلُوِّ شَأْنِ التَّوْراةِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ ﴿فِيها هُدًى﴾ أيْ إرْشادٌ لِلنّاسِ إلى الحَقِّ ﴿ونُورٌ﴾ أيْ ضِياءٌ يُكْشَفُ بِهِ ما تَشابَهَ عَلَيْهِمْ وأظْلَمَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ.
وقالَ الزَّجّاجُ: ( فِيها هُدًى ) أيْ بَيانٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي جاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ( ونُورٌ ) أيْ بَيانٌ أنَّ أمْرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – حَقٌّ، ولَعَلَّ تَعْمِيمُ المُهْدى إلَيْهِ - كَما في كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ – أوْلى، ويَنْدَرِجُ فِيهِ انْدِراجًا أوَّلِيًّا ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ مِنَ الحُكْمِ.
وإطْلاقُ النُّورِ عَلى ما في التَّوْراةِ مَجازٌ، ولَعَلَّ إطْلاقَهُ عَلى ذَلِكَ دُونَ إطْلاقِهِ عَلى القُرْآنِ بِناءً عَلى أنَّ النُّورَ مَقُولٌ بِالتَّشْكِيكِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ إطْلاقَهُ عَلى ما بِهِ بَيانُ أمْرِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِناءً عَلى ما قالَ الزَّجّاجُ - بِاعْتِبارِ كَوْنِ الأمْرِ المُبَيَّنِ مُتَعَلِّقًا بِأوَّلِ الأنْوارِ الَّذِي لَوْلاهُ ما خُلِقَ الفَلَكُ الدَّوّارُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وحِينَئِذٍ يَكُونُ الفَرْقُ بَيْنَ الإطْلاقَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ ظاهِرًا، والظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، و( هُدًى ) مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ التَّوْراةِ، أيْ كائِنًا فِيها ذَلِكَ، وكَذا جُمْلَةُ ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ﴾ في قَوْلٍ، إلّا أنَّها حالٌ مُقَدَّرَةٌ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّها مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِرِفْعَةِ رُتْبَةِ التَّوْراةِ، وسُمُوِّ طَبَقَتِها، والمُرادُ مِنَ النَّبِيِّينَ مَن كانَ مِنهم مِن لَدُنْ مُوسى إلى عِيسى - عَلَيْهِما السَّلامُ - عَلى ما رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُقاتِلٍ، وكانَ بَيْنَ النَّبِيَّيْنِ - عَلَيْهِما السَّلامُ - ألْفُ نَبِيٍّ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ المُرادَ بِهِمْ نَبِيُّنا - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ومَن قَبْلَهُ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - وعَلى هَذا بَنى الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ مَن قالَ: إنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا ما لَمْ يُنْسَخْ، وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفاعِلِ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، والمُرادُ: يَحْكُمُ بِأحْكامِها النَّبِيُّونَ.
﴿الَّذِينَ أسْلَمُوا﴾ صِفَةٌ أُجْرِيَتْ عَلى ( النَّبِيِّينَ ) - كَما قِيلَ - عَلى سَبِيلِ المَدْحِ، والظّاهِرِ لَهُمْ، ونَظَرَ فِيهِ ابْنُ المُنِيرِ بِأنَّ المَدْحَ إنَّما يَكُونُ غالِبًا بِالصِّفاتِ الخاصَّةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِها المَمْدُوحُ عَمَّنْ دُونَهُ، والإسْلامُ أمْرٌ عامٌّ يَتَناوَلُ أُمَمَ الأنْبِياءِ ومُتَّبِعِيهِمْ كَما يَتَناوَلُهُمْ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَحْسُنُ في مَدْحِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يُقْتَصَرَ عَلى كَوْنِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَإنَّ أقَلَّ مُتَّبِعِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قالَ: فالوَجْهُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - (p-143)أنَّ الصِّفَةَ قَدْ تُذْكَرُ لِتُعَظَّمَ في نَفْسِها، ولِيُنَوَّهَ بِها إذا وُصِفَ بِها عَظِيمُ القَدْرِ، كَما تُذْكَرُ تَنْوِيهًا بِقَدْرِ مَوْصُوفِها، وعَلى هَذا الأُسْلُوبِ جَرى وصْفُ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - بِالصَّلاحِ في غَيْرِما آيَةٍ؛ تَنْوِيهًا بِمِقْدارِ الصَّلاحِ، إذْ جُعِلَ صِفَةً لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وبَعْثًا لِآحادِ النّاسِ عَلى الدَّأْبِ في تَحْصِيلِ صِفَتِهِ، وكَذَلِكَ قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنِ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ بِالإيمانِ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وبَعْثًا لِلْبَشَرِ عَلى الدُّخُولِ فِيهِ، لِيُساوُوا المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ في هَذِهِ الصِّفَةِ، وإلّا فَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ المَلائِكَةَ مُؤْمِنُونَ لَيْسَ إلّا، كَيْفَ لا؟! وهم ( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) كَما في الخَبَرِ.
ثُمَّ قالَ جَلَّ وعَلا: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَعْنِي مِنَ البَشَرِ لِثُبُوتِ حَقِّ الأُخُوَّةِ في الإيمانِ بَيْنَ القَبِيلَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - جَرى وصْفُ الأنْبِياءِ في هَذِهِ الآيَةِ بِالإسْلامِ؛ تَنْوِيهًا بِهِ، ولَقَدْ أحْسَنَ القائِلُ: أوْصافُ الأشْرافِ أشْرافُ الأوْصافِ، وحَسّانُ النّاظِمُ في مَدْحِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ:
؎ما إنْ مَدَحْتُ مُحَمَّدًا بِمَقالَتِي لَكِنْ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ
والإسْلامُ - وإنْ كانَ مِن أشْرَفِ الأوْصافِ، إذْ حاصِلُهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى بِما يَجِبُ لَهُ ويَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ في حُكْمِهِ - إلّا أنَّ النُّبُوَّةَ أشْرَفُ وأجَلُّ لِاشْتِمالِها عَلى عُمُومِ الإسْلامِ مَعَ خَواصِّ المَواهِبِ الَّتِي لا تَسَعُها العِبارَةُ، فَلَوْ لَمْ نَذْهَبْ إلى الفائِدَةِ المَذْكُورَةِ في ذِكْرِ الإسْلامِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَخَرَجْنا عَنْ قانُونِ البَلاغَةِ المَأْلُوفِ في الكِتابِ العَزِيزِ، وفي كَلامِ العَرَبِ الفَصِيحِ، وهو التَّرَقِّي مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى لا النُّزُولُ عَلى العَكْسِ، ألا تَرى أنَّ أبا الطَّيِّبِ كَيْفَ تَزَحْزَحَ عَنْ هَذا المَهْيَعِ في قَوْلِهِ:
؎شَمْسٌ ضُحاها هِلالٌ لَيْلَتُها ∗∗∗ دُرٌّ مَقاصِيرُها زَبَرْجَدُها
فَنَزَلَ عَنِ الشَّمْسِ إلى الهِلالِ، وعَنِ الدُّرِّ إلى الزَّبَرْجَدِ، فَمَضَغَتِ الألْسُنُ عِرْضَ بَلاغَتِهِ، ومَزَّقَتْ أدِيمَ صَنْعَتِهِ، فَعَلَيْنا أنْ نَتَدَبَّرَ الآياتِ المُعْجِزاتِ حَتّى يَتَعَلَّقَ فَهْمُنا بِأهْدابِ عُلُوِّها في البَلاغَةِ المَعْهُودَةِ لَها، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ، انْتَهى.
وفِي المِفْتاحِ والتَّخْلِيصِ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَهُ، وإيرادُ الطِّيبِيِّ عَلَيْهِ ما أوْرَدَهُ غَيْرُ طَيِّبٍ، نَعَمْ، قَدْ يُقالُ: إنَّ القائِلَ بِكَوْنِها مادِحَةً لِمَن جَرَّتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ قَدْ يَدَّعِي أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا بَأْسَ بِهِ إذا قُصِدَ مَعَ المَدْحِ فَوائِدُ أُخَرُ كالتَّنْوِيهِ بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ المُسْلِمِينَ هُنا، والتَّعْرِيضِ بِاليَهُودِ بِأنَّهم بِمَعْزِلٍ عَنِ الإسْلامِ، عَلى أنَّهُ قَدْ ورَدَ في الفَصِيحِ - بَلْ في الأفْصَحِ - ذِكْرُ غَيْرِ الأبْلَغِ بَعْدَ الأبْلَغِ مِنَ الصِّفاتِ، ومِن ذَلِكَ ( الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) حَيْثُ كانَ مُتَضَمِّنًا نُكْتَةً.
وقالَ عِصامُ المِلَّةِ: إنَّ الإسْلامَ لِلنَّبِيِّ كَمالُ المَدْحِ؛ لِأنَّ الِانْقِيادَ مِنَ المُقْتَدِي لِلْخَلائِقِ الَّتِي لا تُحْصى وصْفٌ لا وصْفَ فَوْقَهُ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الوَصْفُ بِهِ هُنا إشْعارًا بِمَنشَأِ الحُكْمِ؛ لِيُحافِظَ عَلَيْهِ الأُمَّةُ، ولا يُخْرَمَ ولا يُتَوَهَّمَ أنَّ الحُكْمَ لِلنُّبُوَّةِ، فَغَيْرُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خارِجٌ عَنْ هَذا المَسْلَكِ، انْتَهى، وفِيهِ تَأمُّلٌ، إذِ التَّرَقِّي مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، ونِهايَةُ الأمْرِ الرُّجُوعُ إلى نَحْوِ ما تَقَدَّمْ، فافْهَمْ.
﴿لِلَّذِينَ هادُوا﴾ أيْ تابُوا مِنَ الكُفْرِ، كَما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - والمُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ، كَما قالَ الحَسَنُ، والجارُّ إمّا مُتَعَلِّقٌ بِـ( يَحْكُمُ ) أيْ يَحْكُمُونَ فِيما بَيْنَهُمْ، واللّامُ إمّا لِبَيانِ اخْتِصاصِ الحُكْمِ بِهِمْ أعَمَّ مِن أنْ يَكُونَ لَهم أوْ عَلَيْهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: لِأجْلِ الَّذِينَ هادُوا، وإمّا لِلْإيذانِ بِنَفْعِهِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أيْضًا بِإسْقاطِ التَّبِعَةِ عَنْهُ، وإمّا لِلْإشْعارِ بِكَمالِ رِضاهم بِهِ وانْقِيادِهِمْ لَهُ، كَأنَّهُ أمْرُ نافِعٌ لِكِلا الفَرِيقَيْنِ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالمُحَرِّفِينَ، وقِيلَ: مِن بابِ ﴿سَرابِيلَ (p-144)تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ وإمّا مُتَعَلِّقٌ بِـ( أنْزَلْنا ) ولَعَلَّ الفاصِلَ لَيْسَ بِالأجْنَبِيِّ لِيَضُرَّ، وقِيلَ: بِـ( أُنْزِلَ ) عَلى صِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ حِينَئِذٍ مُعْتَرِضَةً، وعَلى هَذا تَكُونُ الآيَةُ نَصًّا في تَخْصِيصِ النَّبِيِّينَ بِأنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن إنْزالِها لَهُمُ اخْتِصاصُها بِهِمْ، وقِيلَ: الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ( هُدًى ونُورٌ ) وفِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ، وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَهُما، أيْ هُدًى ونُورٌ كائِنانِ لَهُما، وكَلامُ الزَّجّاجِ يَحْتَمِلُ هَذا وما قَبْلَهُ.
﴿والرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ﴾ أيِ العُبّادُ والعُلَماءُ، قالَهُ قَتادَةُ، وقالَ مُجاهِدٌ: ( الرَّبّانِيُّونَ ) العُلَماءُ الفُقَهاءُ وهم فَوْقَ الأحْبارِ، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: ( الرَّبّانِيُّونَ ) الوُلاةُ، ( والأحْبارُ ) العُلَماءُ، والواحِدُ حَبْرٌ بِالفَتْحِ والكَسْرِ، قالَ الفَرّاءُ: وأكْثَرُ ما سَمِعْتُ فِيهِ الكَسْرُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحْبِيرِ والتَّحْسِينِ، فَإنَّ العُلَماءَ يُحَبِّرُونَ العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ ويُبَيُّونَهُ، ومِن ذَلِكَ الحِبْرِ - بِكَسْرِ الحاءِ لا غَيْرُ - لِما يُكْتَبُ بِهِ، وهَذا عَطْفٌ عَلى ( النَّبِيُّونَ ) أيْ هم أيْضًا يَحْكُمُونَ بِأحْكامِها، وتَوْسِيطُ المَحْكُومِ لَهم - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ لِلْإيذانِ بِأنَّ الأصْلَ في الحُكْمِ بِها وحَمْلَ النّاسِ عَلى ما فِيها هُمُ النَّبِيُّونَ، وإنَّما الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ خُلَفاءُ ونُوّابٌ لَهم في ذَلِكَ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا﴾ أيْ بِالَّذِي اسْتُحْفِظُوهُ مِن جِهَةِ النَّبِيِّينَ، وهو التَّوْراةُ، حَيْثُ سَألُوهم أنْ يَحْفَظُوها مِنَ التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ عَلى الإطْلاقِ، ولا رَيْبَ في أنَّ ذَلِكَ مِنهم - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مُشْعِرٌ بِاسْتِخْلافِهِمْ في إجْراءِ أحْكامِها مِن غَيْرِ إخْلالٍ بِشَيْءٍ مِنها، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ( يَحْكُمُ ) و( ما ) مَوْصُولَةٌ، وضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ إلى الرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن كِتابِ اللَّهِ﴾ بَيانٌ لِـ( ما ) وفي الإبْهامِ والبَيانِ بِذَلِكَ ما لا يَخْفى مِن تَفْخِيمِ أمْرِ التَّوْراةِ ذاتًا وإضافَةً، وفِيهِ أيْضًا تَأْكِيدُ إيجابِ حِفْظِها والعَمَلِ بِما فِيها، والباءُ الدّاخِلَةُ عَلى المَوْصُولِ سَبَبِيَّةٌ، فَلا يَلْزَمُ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جَرٍّ مُتَّحَدِي المَعْنى بِفِعْلٍ واحِدٍ، أيْ: ويَحْكُمُ الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ أيْضًا بِالتَّوْراةِ بِسَبَبِ ما حَفِظُوهُ مِن كِتابِ اللَّهِ حَسْبَما وصّاهم بِهِ أنْبِياؤُهُمْ، وسَألُوهم أنْ يَحْفَظُوهُ، ولَيْسَ المُرادُ بِسَبَبِيَّتِهِ لِحُكْمِهِمْ ذَلِكَ سَبَبِيَّتَهُ مِن حَيْثُ الذّاتُ، بَلْ مِن حَيْثُ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا، فَإنَّ تَعْلِيقَ حُكْمِهِمْ بِالمَوْصُولِ مُشْعِرٌ بِسَبَبِيَّةِ الحِفْظِ المُتَرَتِّبِ - لا مَحالَةَ – عَلى ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِنَ الِاسْتِحْفاظِ لَهُ، وتَوَهَّمَ بَعْضُهم أنَّ ( ما ) بِمَعْنى أمْرٍ، و( مِن ) لِتَبْيِينِ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ لِـ( اسْتُحْفِظُوا ) والتَّقْدِيرُ: بِسَبَبِ أمْرٍ ( اسْتُحْفِظُوا ) بِهِ شَيْئًا ( مِن كِتابِ اللَّهِ ) وهو مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهِ كِتابُ اللَّهِ تَعالى.
وقِيلَ: الأوْلى أنْ تُجْعَلَ ( ما ) مَصْدَرِيَّةً؛ لِيُسْتَغْنى عَنْ تَقْدِيرِ العائِدِ، وحِينَئِذٍ لا يَتَأتّى القَوْلُ بِأنَّ ( مِن ) بَيانٌ لَها، ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ كَوْنَ ( بِما ) بَدَلًا مِن ( بِها ) وأُعِيدَ الجارُّ لِطُولِ الفَصْلِ، وهو جائِزٌ أيْضًا وإنْ لَمْ يَطُلْ، ومِنهم مَن أرْجَعَ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ لِلنَّبِيِّينَ ومَن عُطِفَ عَلَيْهِمْ، فالمُسْتَحْفِظُ حِينَئِذٍ هو اللَّهُ تَعالى، وحَدِيثُ الأنْباءِ لا يَتَأتّى إذْ ذاكَ، وقِيلَ: إنَّ ( الرَّبّانِيُّونَ ) فاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، والباءُ صِلَةٌ لَهُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، أيْ: ويَحْكُمُ الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ بِحُكْمِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي سَألَهم أنْبِياؤُهم أنْ يَحْفَظُوهُ مِنَ التَّغْيِيرِ.
﴿وكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾ عَطْفٌ عَلى ( اسْتُحْفِظُوا ) ومَعْنى ( شُهَداءَ ) رُقَباءَ، يَحْمُونَهُ مِن أنْ يَحُومَ حَوْلَ حِماهُ التَّغْيِيرُ والتَّبْدِيلُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، أوْ ( شُهَداءَ ) عَلَيْهِ أنَّهُ حَقٌّ.
ورُجِّحَ - عَلى الأوَّلِ - بِأنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ ( الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ ) رُقَباءَ عَلى أنْفُسِهِمْ لا يَتْرُكُونَها أنْ تُغَيِّرَ وتُحَرِّفَ التَّوْراةَ؛ لِأنَّ المُحَرِّفَ لا يَكُونُ إلّا مِنهم لا مِنَ العامَّةِ، وهو - كَما تَرى - لَيْسَ فِيهِ مَزِيدُ مَعْنًى، وإرْجاعُ ضَمِيرِ ( كانُوا ) لِلنَّبِيِّينَ مِمّا لا يَكادُ يَجُوزُ، وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى ( يَحْكُمُ ) المَحْذُوفِ المُرادِ مِنهُ حِكايَةُ الحالِ الماضِيَةِ، أيْ: حَكَمَ الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى، (p-145)وكانُوا شُهَداءَ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ عَلى هَذا - بِلا خَفاءٍ - أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ مُسْتَعارَةً لِلْبَيانِ، أيْ مُبَيِّنِينَ ما يَخْفى مِنهُ، وأمْرُ التَّعَدِّي بِـ( عَلى ) سَهْلٌ، ولَعَلَّ المُرادَ بِهِ شَيْءٌ وراءَ الحُكْمِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ هُنا كَسابِقِهِ عائِدٌ عَلى النَّبِيِّينَ وما عُطِفَ عَلَيْهِ، والعَطْفُ إمّا عَلى ( اسْتُحْفِظُوا ) أوْ عَلى ( يَحْكُمُ ).
وتَوَهُّمُ عِبارَةِ البَعْضِ - حَيْثُ قالَ: وبِسَبَبِ كَوْنِهِمْ شُهَداءَ - أنَّ العَطْفَ عَلى ( ما ) المَوْصُولَةِ فَيُؤَوَّلُ ( كانُوا ) بِالمَصْدَرِ، وكَأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ تَلْخِيصُ المَعْنى لِكَوْنِ ما ذُكِرَ ضَعِيفًا فِيما لا يَكُونُ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَدَثًا، وأمّا العَطْفُ عَلى كِتابِ اللَّهِ بِتَقْدِيرِ حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ لِيَكُونَ المَعْطُوفُ داخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ، فَكَما تَرى.
وإرْجاعُ ضَمِيرِ ( عَلَيْهِ ) إلى حُكْمِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِالرَّجْمِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مِمّا تَأْباهُ العَرَبِيَّةُ في بَعْضِ الِاحْتِمالاتِ، وهو - وإنْ جازَ عَرَبِيَّةً في البَعْضِ الآخَرِ - لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ، ولا قَرِينَةَ عَلَيْهِ، ولَعَلَّ مُرادَ الحَبْرِ بَيانُ بَعْضِ ما تَضَمَّنَهُ الكِتابُ الَّذِي هم شُهَداءُ عَلَيْهِ، وبِالجُمْلَةِ احْتِمالاتُ هَذِهِ الآيَةِ كَثِيرَةٌ.
﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ﴾ خِطابٌ لِرُؤَساءِ اليَهُودِ وعُلَمائِهِمْ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - والسُّدِّيِّ والكَلْبِيِّ، ويَتَناوَلُ النَّهْيُ غَيْرَ أُولَئِكَ المُخاطَبِينَ بِطَرِيقِ الدَّلالَةِ، والفاءُ لِجَوابِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: إذا كانَ الشَّأْنُ كَما ذُكِرَ يا أيُّها الأحْبارُ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ كائِنًا مَن كانَ، واقْتَدُوا في مُراعاةِ أحْكامِ التَّوْراةِ وحِفْظِها بِمَن قَبْلَكم مِنَ النَّبِيِّينَ والرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ، ولا تَعْدِلُوا عَنْ ذَلِكَ، ولا تُحَرِّفُوا خَشْيَةً مِن أحَدٍ ﴿واخْشَوْنِ﴾ في تَرْكِ أمْرِي؛ فَإنَّ النَّفْعَ والضُّرَّ بِيَدِي، أوْ في الإخْلالِ بِحُقُوقِ مُراعاتِها، فَضْلًا عَنِ التَّعَرُّضِ لَها بِسُوءٍ.
﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي﴾ أيْ لا تَسْتَبْدِلُوا بَآياتِي الَّتِي فِيها بِأنْ تُخْرِجُوها مِنها، أوْ تَتْرُكُوا العَمَلَ بِها، وتَأْخُذُوا لِأنْفُسِكم ﴿ثَمَنًا قَلِيلا﴾ مِنَ الرِّشْوَةِ والجاهِ وسائِرِ الحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإنَّها - وإنْ جَلَّتْ - قَلِيلَةٌ مُسْتَرْذَلَةٌ في نَفْسِها، لاسِيَّما بِالنِّسْبَةِ إلى ما يَفُوتُهم بِمُخالَفَةِ الأمْرِ، وذَهَبَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ إلى أنَّ الخِطابَ لِلْمُسْلِمِينَ، وهو الَّذِي يُنْبِئُ عَنْهُ كَلامُ الشَّعْبِيِّ.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وهو الوَجْهُ كَما في الكَشْفِ - أنَّهُ عامٌّ، والفاءُ عَلى الوَجْهَيْنِ فَصِيحَةٌ، أيْ: وحِينَ عَرَفْتُمْ ما كانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّونَ والأحْبارُ، وما تَواطَأ عَلَيْهِ الخُلُوفُ مِن أمْرِ التَّحْرِيفِ والتَّبْدِيلِ لِلرِّشْوَةِ والخَشْيَةِ، فَلا تَخْشَوُا النّاسَ، ولا تَكُونُوا أمْثالَ هَؤُلاءِ الخالِفِينَ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ بَعْضِ أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ أنَّها عَلى الوَجْهِ فَصِيحَةٌ أيْضًا، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ، فَتَذَكَّرْ.
﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ مِنَ الأحْكامِ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ( مَن ) والجَمْعُ بِاعْتِبارِ مَعْناها، كَما أنَّ الإفْرادَ في سابِقِهِ بِاعْتِبارِ لَفْظِها، وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿هُمُ الكافِرُونَ﴾ .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( هم ) ضَمِيرَ فَصْلٍ، و( الكافِرُونَ ) هو الخَبَرُ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها أبْلَغَ تَقْرِيرٍ، وتَحْذِيرٌ عَنِ الإخْلالِ بِهِ أشَدَّ تَحْذِيرٍ، واحْتَجَّتِ الخَوارِجُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الفاسِقَ كافِرٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِها أنَّ كَلِمَةَ ( مَن ) فِيها عامَّةٌ شامِلَةٌ لِكُلِّ مَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى، فَيَدْخُلُ الفاسِدُ المُصَدِّقُ أيْضًا؛ لِأنَّهُ غَيْرُ حاكِمٍ وعامِلٍ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى، وأُجِيبَ بِأنَّ الآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظّاهِرِ؛ فَإنَّ الحُكْمَ - وإنْ كانَ شامِلًا لِفِعْلِ القَلْبِ والجَوارِحِ - لَكِنَّ المُرادَ بِهِ هُنا عَمَلُ القَلْبِ، وهو التَّصْدِيقُ، ولا نِزاعَ في كُفْرِ مَن لَمْ يُصَدِّقْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى، وأيْضًا إنَّ المُرادَ عُمُومُ النَّفْيِ بِحَمْلِ ( ما ) عَلى الجِنْسِ، ولا شَكَّ أنَّ مَن لَمْ يَحْكم بِشَيْءٍ مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى لا يَكُونُ إلّا غَيْرَ مُصَدِّقٍ، ولا نِزاعَ في كُفْرِهِ.
وأيْضًا أخْرَجَ ابْنُ مَنصُورٍ، وأبُو الشَّيْخِ، (p-146)وابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: «إنَّما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ( ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ والظّالِمُونَ والفاسِقُونَ ) في اليَهُودِ خاصَّةً».
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أبِي صالِحٍ قالَ: «الثَّلاثُ الآياتُ الَّتِي في المائِدَةِ ( ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ ) إلَخْ، لَيْسَ في أهْلِ الإسْلامِ مِنها شَيْءٌ، هي في الكُفّارِ».
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحّاكِ نَحْوَ ذَلِكَ.
ولَعَلَّ وصْفَهم بِالأوْصافِ الثَّلاثِ بِاعْتِباراتٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَلِإنْكارِهِمْ ذَلِكَ وُصِفُوا بِالكافِرِينَ، ولِوَضْعِهِمُ الحُكْمَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وُصِفُوا بِالظّالِمِينَ، ولِخُرُوجِهِمْ عَنِ الحَقِّ وُصِفُوا بِالفاسِقِينَ، أوْ أنَّهم وُصِفُوا بِها بِاعْتِبارِ أطْوارِهِمْ وأحْوالِهِمُ المُنْضَمَّةِ إلى الِامْتِناعِ عَنِ الحُكْمِ، فَتارَةً كانُوا عَلى حالٍ تَقْتَضِي الكُفْرَ، وتارَةً عَلى أُخْرى تَقْتَضِي الظُّلْمَ أوِ الفِسْقَ.
وأخْرَجَ أبُو حُمَيْدٍ وغَيْرُهُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أنَّهُ قالَ: «الثَّلاثُ الآياتُ الَّتِي في المائِدَةِ أوَّلُها لِهَذِهِ الأُمَّةِ، والثّانِيَةُ في اليَهُودِ، والثّالِثَةُ في النَّصارى»ويَلْزَمُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُونَ أسْوَأ حالًا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، إلّا أنَّهُ قِيلَ: إنَّ الكُفْرَ إذا نُسِبَ إلى المُؤْمِنِينَ حُمِلَ عَلى التَّشْدِيدِ والتَّغْلِيظِ، والكافِرُ إذا وُصِفَ بِالفِسْقِ والظُّلْمِ أشْعَرَ بِعُتُوِّهِ وتَمَرُّدِهِ فِيهِ.
ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهُ قالَ في الكُفْرِ الواقِعِ في أُولى الثَّلاثِ: «إنَّهُ لَيْسَ بِالكُفْرِ الَّذِي تَذْهَبُونَ إلَيْهِ، إنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ المِلَّةِ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ» والوَجْهُ أنَّ هَذا كالخِطابِ عامٌّ لِلْيَهُودِ وغَيْرِهِمْ، وهو مُخَرَّجٌ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ، أوْ يَلْتَزِمُ أحَدَ الجَوابَيْنِ، واخْتِلافُ الأوْصافِ لِاخْتِلافِ الِاعْتِباراتِ، والمُرادُ مِنَ الأخِيرَيْنِ مِنها الكُفْرُ أيْضًا عِنْدَ بَعْضِ المُحَقِّقِينَ، وذَلِكَ بِحَمْلِهِما عَلى الفِسْقِ والظُّلْمِ الكامِلَيْنِ.
وما أخْرَجَهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وعَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - «أنَّ الآياتِ الثَّلاثَ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَقالَ رَجُلٌ: إنَّ هَذا في بَنِي إسْرائِيلَ، فَقالَ حُذَيْفَةُ: نِعْمَ الأُخُوَّةُ لَكم بَنُو إسْرائِيلَ، إنْ كانَ لَكم كُلُّ حُلْوَةٍ ولَهم كُلُّ مُرَّةٍ، كَلّا واللَّهِ، لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهم قَدَّ الشِّراكِ» يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَيْلًا مِنهُ إلى القَوْلِ بِالعُمُومِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ -كَما قِيلَ: - مَيْلًا إلى القَوْلِ بِأنَّ ذَلِكَ في المُسْلِمِينَ، ورُوِيَ الأوَّلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - إلّا أنَّهُ قالَ: كُفْرٌ لَيْسَ كَكُفْرِ الشِّرْكِ، وفِسْقٌ لَيْسَ كَفِسْقِ الشِّرْكِ، وظُلْمٌ لَيْسَ كَظُلْمِ الشِّرْكِ.
هَذا، وقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ العارِفِينَ عَلى ما في بَعْضِ هَذِهِ الآياتِ مِنَ الإشارَةِ فَقالَ: ( ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ) أيِ اتَّقُوهُ سُبْحانَهُ بِتَزْكِيَةِ نُفُوسِكم مِنَ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ ( ﴿وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ ) أيْ: واطْلُبُوا إلَيْهِ تَعالى الزُّلْفى بِتَحْلِيَتِها بِالأخْلاقِ المَرْضِيَّةِ ( ﴿وجاهِدُوا في سَبِيلِهِ﴾ ) بِمَحْوِ الصِّفاتِ والفَناءِ في الذّاتِ ( لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ ) أيْ لِكَيْ تَفُوزُوا بِالمَطْلُوبِ، وقِيلَ: ابْتِغاءُ الوَسِيلَةِ التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِما سَبَقَ مِن إحْسانِهِ وعَظِيمِ رَحْمَتِهِ، وهو عَلى حَدِّ قَوْلِهِ:
؎أيا جُودُ مَعْنٍ ناجِ مَعْنًا بِحاجَتِي ∗∗∗ فَلَيْسَ إلى مَعْنٍ سِواهُ شَفِيعُ
( ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أنَّ لَهم ما في الأرْضِ﴾ ) أيْ ما في الجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ ( ﴿جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِن عَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ﴾ ) الكُبْرى ( ﴿ما تُقُبِّلَ مِنهُمْ﴾ ) لِأنَّهُ سَبَبُ زِيادَةِ الحِجابِ والبُعْدِ، ولا يَنْجَعُ ثَمَّةَ إلّا ما في الجِهَةِ العُلْوِيَّةِ مِنَ المَعارِفِ والحَقائِقِ النُّورِيَّةِ.
( ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾ ) أيِ المُتَناوِلُ مِنَ الأنْفُسِ والمُتَناوِلَةُ مِنَ القُوى النَّفْسانِيَّةِ لِلشَّهَواتِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْها ( ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ ) أيِ: امْنَعُوهُما بِحَسْمِ قُدْرَتِهِما بِسَيْفِ المُجاهِدَةِ وسِكِّينِ الرِّياضَةِ ( جَزاءً بِما كَسَبا ) مِن تَناوُلِ ما لا يَحِلُّ تَناوُلُهُ لَها ( ﴿نَكالا﴾ ) أيْ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ – ( ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ ) ووَساوِسِ شَيْطانِ النَّفْسِ ( ﴿سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ ) وهُمُ القُوى النَّفْسانِيَّةُ ( ﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾ ) أيْ: يَنْقادُوا لَكُمْ، (p-147)أوْ: سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ يَسُنُّونَ السُّنَنَ السَّيِّئَةَ ( ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ﴾ ) وهي التَّعَيُّناتُ الإلَهِيَّةِ ( ﴿مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ﴾ ) فَيُزِيلُونَها عَمّا هي مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الوُجُودِ الحَقّانِيِّ، أوْ يُغَيِّرُونَ قَوانِينَ الشَّرِيعَةِ بِتَمْوِيهاتِ الطَّبِيعَةِ، كَمَن يُؤَوِّلُ القُرْآنَ والأحادِيثَ عَلى وفْقِ هَواهُ، ولَيْسَ ما نَحْنُ فِيهِ مِن هَذا القَبِيلِ كَما يَزْعُمُهُ المَحْجُوبُونَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ بِإنْكارِ أنْ يَكُونَ الظّاهِرُ مُرادًا لِلَّهِ تَعالى، وقَصْرِ مُرادِهِ سُبْحانَهُ عَلى هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ، ونَحْنُ نَبْرَأُ إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - مِن ذَلِكَ، فَإنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ، وإنَّما نَقُولُ: المُرادُ هو الظّاهِرُ، وبِهِ تَعَبَّدَ اللَّهُ تَعالى خَلْقَهُ، لَكِنْ فِيهِ إشارَةٌ إلى أشْياءَ أُخَرَ لا يَكادُ يُحِيطُ بِها نِطاقُ الحَصْرِ، يُوشِكُ أنْ يَكُونَ ما ذُكِرَ بَعْضًا مِنها.
( ﴿ومَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهُ شَيْئًا﴾ ) قالَ ابْنُ عَطاءٍ: مَن يَحْجُبُهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ فَوائِدِ أوْقاتِهِ لَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ إيصالَهُ إلَيْهِ ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهم ) أيْ: بِالمُراقَبَةِ والمُراعاةِ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: طَهارَةُ القَلْبِ في شَيْئَيْنِ: إخْراجُ الحَسَدِ والغِشِّ، وحُسْنُ الظَّنِّ بِجَماعَةِ المُسْلِمِينَ ( ﴿أكّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ ) وهو ما يَأْكُلُونَهُ بِدِينِهِمْ ( ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهُمْ﴾ ) مُداوِيًا لِدائِهِمْ، إنْ رَأيْتَ التَّداوِيَ سَبَبًا لِشِفائِهِمْ ( ﴿أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ) إنْ تَيَقَّنْتَ إعْوازَ الشِّفاءِ لِشَقائِهِمْ ( وإنْ حَكَمْتَ فاحْكم بَيْنَهم بِالقِسْطِ ) أيْ داوِهِمْ عَلى ما يَسْتَحِقُّونَ ويَقْتَضِيهِ داؤُهُمْ، والكَلامُ في باقِي الآياتِ ظاهِرٌ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ.
{"ayah":"إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُوا۟ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ عَلَیۡهِ شُهَدَاۤءَۚ فَلَا تَخۡشَوُا۟ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِی ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق