قوله: «يبيّنُ لكم» فيه وجهان:
أحدهما: إن المبين هو الدِّين والشَّرائع، وإنما حَسُن حَذْفُهُ؛ لأنَّ كل أحد يَعْلَم أنَّ الرَّسُول إنَّما أُرْسِل لبيان الشَّرَائع؛ لدلالة اللَّفْظِ عليه.
الثاني: أن يكون التَّقْدِير: يُبَيِّن لكم البَيَان، وحَذْفُ المَفْعُول أكمل؛ لأنَّهُ يصير أعمَّ فائدة، وتقدَّمَ الكلام في «يُبَيِّن» .
قوله: «عَلَى فَتْرَة» فيه ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنَّهُ متعلِّق [ب «جاءكم» ] أي: جاءكم على حين فُتور من إرسَالِ الرَّسُل، وانْقطِاع من الوَحْي ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ.
والثاني: أنَّه حال من فاعل «يُبَيِّن» أي يُبَيِّن في حَالِ كَوْنِهِ على فَتْرَة.
والثالث: أنَّهُ حال من الضَّمير المَجْرُور في «لَكُم» ، فيعلَّق على هَذَيْن الوجْهَيْن بمحذوف، و «مِنَ الرُّسُل» صِفَة ل «فَتْرة» ، على أن معنى «مِنْ» : ابتداءُ الغاية، أي: فَتْرَة صادرة من إرْسَالِ الرُّسُلِ.
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد على انْقِطَاعٍ من الأنْبِيَاء، يقال: فَتَر الشَّيْ يَفْتُر فُتُوراً إذا سَكَنَتْ حَرَكَتُه، فَصَارَ أقَلَّ ما كان عليه، وسمِّيَت المدَّة بين الأنْبِيَاء فَتْرة؛ لفُتُور الدَّوَاعي في العمل بِتَرْك الشَّرَائع.
واخْتَلَفُوا في مُدَّة الفَتْرَة بين عِيسَى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - قال أبُو عُُثْمان النهدي: ستمائة سَنَة، وقال قتادَة: خمسمائة سنة وسِتُّون سنة، وقال مَعْمَرُ والكَلْبِيُّ: خمسمائة سَنة وأرْبعُون سنة.
وعن الكَلْبِيِّ بين مُوسى وعيسى ألْفٌ وسبعمائة سنة وألفا نبيّ، وبَين عيسى ومحمد أربعةٌ من الأنبياء؛ ثلاثةٌ من بني إسرائيل، وواحدٌ من العرب وهو خالد بن سِنَان العَبْسي.
والفائدة في بَعْثَة مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ؛ لأنَّ التَّحْريف والتَّغْيِير قد تَطَرَّق إلى الشَّرَائِع المُتقدِّمة، لتقَادُم عَهْدِهَا وطول أزْمَانِها، ولهذا السَّبَب اخْتَلط الحقُّ بالبَاطِل، والصِّدق بالكَذِبِ، فصار عذْراً للخَلْقِ في إعْرَاضِهِم عن العِبَادَات.
وسُمِّيت فَتْرة؛ لأنَّ الرُّسل كانت تَتْرَى بعد مُوسى - عليه السلام - من غير انْقِطَاع إلى عيسى، ولم يَكُنْ بعد عيسى سِوى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا ما تقدَّم عن الكَلْبِي.
قوله: «أنْ تَقُولُوا» مَفْعُولٌ من أجْلِهِ، فَقَدَّره الزَّمَخْشَرِي «كَراهَة أن تَقُولُوا» .
وأبُو البقاء «مخَافَة أن تَقُولُوا» ، والأوَّل أوْلَى وقوله: «يُبَيِّن» يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعولُ ألْبَتَّة، والمعنى: يبذل لكم البيان، ويجُوز أن يكُون مَحْذُوفاً إمَّا لدلالة اللَّفظ عليه، وهو ما تقدَّم من قوله: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً﴾ [المائدة: 15] وإمَّا لدلالة الحَالِ أي: يُبَيِّن لكم ما كُنْتم تَخْتَلِفُون فيه.
و «مِنْ بَشيرٍ» فاعل زيدَت فيه «مِنْ» لوجود الشَّرْطين، و «لا نَذِيرٍ» عطف على لفظه، ولو قُرِئ برفعه مُراعَاةً لوضْعِه جَازَ.
وقوله: «فَقَدْ جَاءَكُمْ» عطف على جُمْلَةٍ مُقَدَّرة، أي: لا تعتذروا فقد جَاءَكُم، وما بعد هذا من الجُمَلِ واضِحُ الإعْرَاب لما تقدَّم من نَظَائِرِهِ.
ثم قال: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ، والمعنى: [أنَّ] حصول الفَتْرَة يوجِبُ احْتِياجَ الخَلْقِ إلى بَعْثَة الرُّسُلِ عليهم السلام، والله قَادِرٌ على البَعْثَة؛ لأنَّهُ رحيمٌ كريمٌ قادرٌ على البَعْثَة، فوجَبَ في رَحْمَتِه وكَرَمه أن يَبْعَثَ إليهم الرُّسُل.
{"ayah":"یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةࣲ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُوا۟ مَا جَاۤءَنَا مِنۢ بَشِیرࣲ وَلَا نَذِیرࣲۖ فَقَدۡ جَاۤءَكُم بَشِیرࣱ وَنَذِیرࣱۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}