الباحث القرآني

(p-١٩٢٧)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٩] ﴿يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِن بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكم بَشِيرٌ ونَذِيرٌ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ أيْ: ما أُمِرْتُمْ بِهِ وما نُهِيتُمْ عَنْهُ ﴿عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ (جاءَكُمْ) أيْ: جاءَكم عَلى حِينِ فُتُورٍ مِن إرْسالِ الرُّسُلِ، وانْقِطاعٍ مِنَ الوَحْيِ. إذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِيسى رَسُولٌ. ومُدَّةُ الفَتْرَةِ بَيْنَهُما خَمْسُمِائَةٍ وتِسْعٌ وسِتُّونَ سَنَةً ﴿أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِن بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ﴾ تَعْلِيلٌ لِمَجِيءِ الرَّسُولِ بِالبَيانِ عَلى حَذْفِ المُضافِ. أيْ: كَراهَةَ أنْ تَعْتَذِرُوا بِذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ، وتَقُولُوا: ما جاءَنا مِن رَسُولٍ - بَعْدَ ما دَرَسَ الدِّينُ - يُبَشِّرُنا لِنَرْغَبَ فَنَعْمَلَ بِما يُسْعِدُنا فَنَفُوزَ. ويُنْذِرُنا لِنَرْهَبَ فَنَتْرُكَ ما يُشْقِينا فَنَسْلَمَ. وقَدْ كانَ اخْتَلَطَ في تِلْكَ الفَتْرَةِ الحَقُّ بِالباطِلِ - كَما سَنُبَيِّنُهُ -: ﴿فَقَدْ جاءَكم بَشِيرٌ ونَذِيرٌ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تُنْبِئُ عَنْهُ الفاءُ الفَصِيحَةُ وتُبَيِّنُ أنَّهُ مُعَلَّلٌ بِهِ. أيْ: لا تَعْتَذِرُوا (بِما جاءَنا) فَقَدْ جاءَكم بَشِيرٌ أيُّ بَشِيرٍ، ونَذِيرٌ أيُّ نَذِيرٍ ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ مِن إرْسالِ الرُّسُلِ، والثَّوابُ لِمَن أجابَ الرُّسُلَ، والعُقابُ لِمَن لَمْ يُجِبْهم. قالَ البِقاعِيُّ: وفي الخَتْمِ بِوَصْفِ القُدْرَةِ، وإتْباعُهُ تَذْكِيرُهم ما صارُوا إلَيْهِ مِنَ العِزِّ بِالنُّبُوَّةِ والمُلْكِ، بَعْدَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ بِالعُبُودِيَّةِ والجَهْلِ، إشارَةً إلى أنَّ إنْكارَهم لِأنْ يَكُونَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيٌّ، يَلْزَمُ مِنهُ إنْكارُهم لِلْقُدْرَةِ. تَنْبِيهٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كانَتِ الفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ - آخِرِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ - وبَيْنَ مُحَمَّدٍ (p-١٩٢٨)خاتَمِ النَّبِيِّينَ مِن بَنِي آدَمَ عَلى الإطْلاقِ. كَما ثَبَتَ في "صَحِيحِ البُخارِيِّ"، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««أنا أوْلى النّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ»» . وهَذا فِيهِ رَدٌّ عَلى مَن زَعَمَ أنَّهُ بُعِثَ بَعْدَ عِيسى نَبِيٌّ يُقالُ لَهُ خالِدُ بْنُ سِنانٍ. كَما حَكاهُ القُضاعِيُّ وغَيْرُهُ. انْتَهى. وقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "فَتْحِ البارِي": اسْتُدِلَّ بِهِ - يَعْنِي بِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - عَلى أنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدَ عِيسى أحَدٌ إلّا نَبِيُّنا ﷺ. وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّهُ ورَدَ أنَّ الرُّسُلَ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلى أصْحابِ القَرْيَةِ - المَذْكُورَةِ قِصَّتُهم في سُورَةِ (يس) - كانُوا مِن أتْباعِ عِيسى. وأنَّ جِرْجِيسَ وخالِدَ بْنَ سِنانٍ كانا نَبِيَّيْنِ، وكانا بَعْدَ عِيسى. والجَوابُ: أنَّ هَذا الحَدِيثَ يُضَعِّفُ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ. فَإنَّهُ صَحِيحٌ بِلا تَرَدُّدٍ. وفي غَيْرِهِ مَقالٌ. أوِ المُرادُ: أنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدَ عِيسى نَبِيٌّ بِشَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وإنَّما بُعِثَ بَعْدَهُ، مَن بُعِثَ، بِتَقْرِيرِ شَرِيعَةِ عِيسى. وقِصَّةُ خالِدِ بْنِ سِنانٍ أخْرَجَها الحاكِمُ في "المُسْتَدْرَكِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَها طُرُقٌ جَمَعْتُها في تَرْجَمَتِها في كِتابِي في "الصَّحابَةِ". انْتَهى. وقَدْ ذَكَرْتُ في كِتابِي "إيضاحُ الفِطْرَةِ في أهْلِ الفَتْرَةِ" في البابِ الحادِي عَشَرَ مِن كانَ في الفَتْرَةِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلى ما رُوِيَ. فارْجِعْ إلَيْهِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ، أنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، (p-١٩٢٩)وطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، وتَغَيُّرِ الأدْيانِ، وكَثْرَةِ عُبّادِ الأوْثانِ والنِّيرانِ والصُّلْبانِ. فَكانَتِ النِّعْمَةُ بِهِ أتَمَّ النِّعَمِ، والحاجَةُ إلَيْهِ أمْرٌ عامٌّ، فَإنَّ الفَسادَ كانَ قَدْ عَمَّ جَمِيعَ البِلادِ، والطُّغْيانَ والجَهْلَ قَدْ ظَهَرَ في سائِرِ العِبادِ. إلّا قَلِيلًا مِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِبَقايا مِن دَيْنِ الأنْبِياءِ الأقْدَمِينَ. كَما رَوى أحْمَدُ عَنْ عِياضٍ المُجاشِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ ذاتِ يَوْمٍ (p-١٩٣٠)فَقالَ في خُطْبَتِهِ: «وإنَّ رَبِّي، أمَرَنِي أنْ أُعَلِّمَكم ما جَهِلْتُمْ مِمّا عَلَّمَنِي في يَوْمِي هَذا. كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عِبادِي حَلالٌ. وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ، وأنَّهم أتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فَأضَلَّتْهم عَنْ دِينِهِمْ. وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهُمْ، وأمَرَتْهم أنْ يُشْرِكُوا بِي ما لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطانًا، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ نَظَرَ إلى أهْلِ الأرْضِ فَمَقَتَهم. عَجَمِيَّهم وعَرَبِيَّهم. إلّا بَقايا مِن أهْلِ الكِتابِ. وقالَ: إنَّما بَعَثْتُكَ لِأبْتَلِيَكَ وأبْتَلِيَ بِكَ. وأنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ. تَقْرَؤُهُ نائِمًا ويَقْظانًا...»» انْتَهى. وقالَ الأُسْتاذُ النِّحْرِيرُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدِهِ مُفْتِي مِصْرَ في "رِسالَةِ التَّوْحِيدِ" في بَحْثِ رِسالَةِ نَبِيِّنا ﷺ ما نَصُّهُ: لَيْسَ مِن غَرَضِنا في هَذِهِ الوُرَيْقاتِ أنْ نُلِمَّ بِتارِيخِ الأُمَمِ عامَّةً، وتارِيخِ العَرَبِ خاصَّةً، في زَمَنِ البِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، لِنُبَيِّنَ كَيْفَ كانَتْ حاجَةُ سُكّانِ الأرْضِ ماسَّةً إلى قارِعَةٍ تَهُزُّ عُرُوشَ المُلُوكِ، وتُزَلْزِلُ قَواعِدَ سُلْطانِهِمُ الغاشِمِ، وتُخَفِّضُ مِن أبْصارِهِمُ المَعْقُودَةِ بِعَنانِ السَّماءِ، إلى مَن دُونَهم مِن رَعاياهُمُ الضُّعَفاءِ. وإلى نارٍ تَنْقَضُّ مِن سَماءِ الحَقِّ عَلى أُدُمِ الأنْفُسِ البَشَرِيَّةِ لِتَأْكُلَ ما اعْشَوْشَبَتْ بِهِ مِنَ الأباطِيلِ القاتِلَةِ لِلْعُقُولِ. وصَيْحَةٍ فُصْحى تُزْعِجُ الغافِلِينَ، وتَرْجِعُ بِألْبابِ الذّاهِلِينَ، وتُنَبِّهُ المَرْؤُوسِينَ إلى أنَّهم لَيْسُوا بِأبْعَدَ عَنِ البَشَرِيَّةِ مِنَ الرُّؤَساءِ الظّالِمِينَ، والهُداةِ الضّالِّينَ، والقادَةِ الغارِّينَ، وبِالجُمْلَةِ تَؤُوبُ بِهِمْ إلى رُشْدٍ يُقِيمُ الإنْسانَ عَلى الطَّرِيقِ الَّتِي سَنَّها الإلَهُ: إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا. لِيَبْلُغَ بِسُلُوكِها كَمالَهُ، ويَصِلَ عَلى نَهْجِها إلى ما أُعِدَّ في الدّارَيْنِ لَهُ. ولَكِنّا نَسْتَعِيرُ مِنَ التّارِيخِ كَلِمَةً يَفْهَمُها مَن نَظَرَ فِيما اتَّفَقَ عَلَيْهِ مُؤَرِّخُو ذَلِكَ العَهْدِ، نَظَرَ إمْعانٍ وإنْصافٍ. (p-١٩٣١)كانَتْ دَوْلَتا العالَمِ (دَوْلَةُ الفُرْسِ في الشَّرْقِ، ودَوْلَةُ الرُّومانِ في الغَرْبِ) في تَنازُعٍ وتَجالُدٍ مُسْتَمِرٍّ، دِماءٌ بَيْنَ العالَمَيْنِ مَسْفُوكَةٌ، وقُوًى مَنهُوكَةٌ، وأمْوالٌ هالِكَةٌ، وظُلَمٌ مِنَ الإحَنِ حالِكَةٌ. ومَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ كانَ الزَّهْوُ والتَّرَفُ والإسْرافُ والفَخْفَخَةُ والتَّفَنُّنُ في المَلاذِّ بالِغَةً حَدَّ ما لا يُوصَفُ في قُصُورِ السَّلاطِينِ والأُمَراءِ، والقُوّادِ ورُؤَساءِ الأدْيانِ مِن كُلِّ أُمَّةٍ، وكانَ شَرَهُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ مِنَ الأُمَمِ لا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ. فَزادُوا في الضَّرائِبِ، وبالَغُوا في فَرْضِ الإتاواتِ، حَتّى أثْقَلُوا ظُهُورَ الرَّعِيَّةِ بِمَطالِبِهِمْ. وأتَوْا عَلى ما في أيْدِيها مِن ثَمَراتِ أعْمالِها، وانْحَصَرَ سُلْطانُ القَوِيِّ في اخْتِطافِ ما بِيَدِ الضَّعِيفِ. وفَكَّرَ العاقِلُ، في الِاحْتِيالِ لِسَلْبِ الغافِلِ، وتَبِعَ ذَلِكَ أنِ اسْتَوْلى عَلى تِلْكَ الشُّعُوبِ ضُرُوبٌ مِنَ الفَقْرِ والذُّلِّ والِاسْتِكانَةِ والخَوْفِ والِاضْطِرابِ، لِفَقْدِ الأمْنِ عَلى الأرْواحِ والأمْوالِ. غَمَرَتْ مَشِيئَةُ الرُّؤَساءِ إرادَةَ مَن دُونَهم. فَعادَ هَؤُلاءِ كَأشْباحِ اللّاعِبِ. يُدِيرُها مِن وراءِ حِجابٍ، ويَظُنُّها النّاظِرُ إلَيْها مِن ذَوِي الألْبابِ، فَفُقِدَ بِذَلِكَ الِاسْتِقْلالُ الشَّخْصِيُّ، وظَنَّ أفْرادُ الرَّعايا أنَّهم لَمْ يُخْلَقُوا إلّا لِخِدْمَةِ ساداتِهِمْ وتَوْفِيرِ لَذّاتِهِمْ، كَما هو الشَّأْنُ في العَجْماواتِ مَعَ مَن يَقْتَنِيها. ضَلَّتِ السّاداتُ في عَقائِدِها وأهْوائِها، وغَلَبَتْها عَلى الحَقِّ والعَدْلِ شَهَواتُها. ولَكِنْ بَقِيَ لَها مِن قُوَّةِ الفِكْرِ أرْدَأُ بَقاياها. فَلَمْ يُفارِقْها الذَّرُّ مِن أنَّ بَصِيصَ النُّورِ الإلَهِيِّ، الَّذِي يُخالِطُ الفِطَرَ الإنْسانِيَّةَ، قَدْ يُفَتِّقُ الغُلُفَ الَّتِي أحاطَتْ بِالقُلُوبِ، ويُمَزِّقُ الحُجُبَ الَّتِي أُسْدِلَتْ عَلى العُقُولِ. فَتَهْتَدِي العامَّةُ إلى السَّبِيلِ، ويَثُورُ الجَمُّ الغَفِيرُ عَلى العَدَدِ القَلِيلِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُغْفِلُ المُلُوكُ والرُّؤَساءُ أنْ يُنْشِئُوا سُحُبًا مِنَ الأوْهامِ. ويُهَيِّئُوا كِسَفًا مِنَ الأباطِيلِ والخُرافاتِ، لِيَقْذِفُوا بِها في عُقُولِ العامَّةِ. فَيَغْلُظَ الحِجابُ، ويَعْظُمَ الرَّيْنُ، ويَخْتَنِقَ بِذَلِكَ نُورُ الفِطْرَةِ. ويَتِمَّ لَهم ما يُرِيدُونَ مِنَ المَغْلُوبِينَ لَهم. وصَرَّحَ الدِّينُ، بِلِسانِ رُؤَسائِهِ، أنَّهُ عَدُوُّ العَقْلِ وعَدُوُّ كُلِّ ما يُثْمِرُهُ النَّظَرُ. إلّا ما كانَ تَفْسِيرًا لِكِتابٍ مُقَدَّسٍ. وكانَ لَهم في المُشارِبِ الوَثَنِيَّةِ يَنابِيعُ لا تَنْضُبُ، ومَدَدٌ لا يَنْفَدُ. هَذِهِ حالَةُ الأقْوامِ كانَتْ في مَعارِفِهِمْ، وذَلِكَ كانَ شَأْنَهم في مَعايِشِهِمْ. عَبِيدٌ أذِلّاءُ، (p-١٩٣٢)حَيارى في جَهالَةٍ عَمْياءَ، اللَّهُمَّ إلّا بَعْضَ شَوارِدَ مِن بَقايا الحِكْمَةِ الماضِيَةِ، والشَّرائِعِ السّابِقَةِ، آوَتْ إلى بَعْضِ الأذْهانِ، ومَعَها مَقْتُ الحاضِرِ، ونَقْصُ العِلْمِ بِالغابِرِ، ثارَتِ الشُّبُهاتُ عَلى أُصُولِ العَقائِدِ وفُرُوعِها، بِما انْقَلَبَ مِنَ الوَضْعِ، وانْعَكَسَ مِنَ الطَّبْعِ، فَكانَ يُرى الدَّنَسُ في مَظِنَّةِ الطَّهارَةِ، والشَّرَهُ حَيْثُ تُنْتَظَرُ القَناعَةُ، والدَّعارَةُ حَيْثُ تُرْجى السَّلامَةُ والسَّلامُ. مَعَ قُصُورِ النَّظَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، وانْصِرافِهِ لِأوَّلِ وهْلَةٍ إلى أنَّ مَصْدَرَ كُلِّ ذَلِكَ هو الدِّينُ. فاسْتَوْلى الِاضْطِرابُ عَلى المَدارِكِ. وذَهَبَ بِالنّاسِ مَذْهَبَ الفَوْضى في العَقْلِ والشَّرِيعَةِ مَعًا. وظَهَرَتْ مَذاهِبُ الإباحِيِّينَ والدَّهْرِيِّينَ في شُعُوبٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وكانَ ذَلِكَ ويْلًا عَلَيْها، فَوْقَ ما رُزِئَتْ بِهِ مِن سائِرِ الخُطُوبِ. وكانَتِ الأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ قَبائِلَ مُتَخالِفَةً في النَّزَعاتِ، خاضِعَةً لِلشَّهَواتِ، فَخْرُ كُلِّ قَبِيلَةٍ في قِتالِ أُخْتِها. وسَفْكِ دِماءِ أبْطالِها، وسَبْيِ نِسائِها. وسَلْبِ أمْوالِها. تَسُوقُها المَطامِعُ إلى المَعامِعِ. ويُزَيِّنُ لَها السَّيِّئاتِ، فَسادُ الِاعْتِقاداتِ. وقَدْ بَلَغَ العَرَبُ مِن سَخافَةِ العَقْلِ حَدًّا صَنَعُوا أصْنامَهم مِنَ الحَلْوى ثُمَّ عَبَدُوها. فَلَمّا جاعُوا أكَلُوها. وبَلَعُوا مِن تَضَعْضُعِ الأخْلاقِ وهْنًا قَتَلُوا فِيهِ بَناتَهم تَخَلُّصًا مِن عارِ حَياتِهِنَّ. أوْ تَنَصُّلًا مِن نَفَقاتِ مَعِيشَتِهِنَّ. وبَلَغَ الفُحْشُ مِنهم مَبْلَغًا لَمْ يَعُدْ مَعَهُ لِلْعَفافِ قِيمَةٌ. وبِالجُمْلَةِ: فَكانَتْ رُبُطُ النِّظامِ الِاجْتِماعِيِّ قَدْ تَراخَتْ عُقَدُها في كُلِّ أُمَّةٍ. وانْفَصَمَتْ عُراها عِنْدَ كُلِّ طائِفَةٍ. أفَلَمْ يَكُنْ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ بِأُولَئِكَ الأقْوامِ أنْ يُؤَدِّبَهم رَجُلٌ مِنهم يُوحِي إلَيْهِ رِسالَتَهُ؟ ويَمْنَحُهُ عِنايَتَهُ؟ ويَمُدُّهُ مِنَ القُوَّةِ بِما يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِن كَشْفِ تِلْكَ الغُمَمِ. الَّتِي أظَلَّتْ رُؤُوسَ جَمِيعِ الأُمَمِ؟ نَعَمْ، كانَ ذَلِكَ، ولَهُ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ. انْتَهى. ثُمَّ أشارَ إلى تَفْرِيطِهِمْ في أمْرِ اللَّهِ الوارِدِ عَلى لِسانِ مُوسى، وتَفْرِيطِهِمْ في حَقِّهِ مَعَ حَثِّهِ إيّاهم عَلى شُكْرِ اللَّهِ. لِيُسارِعُوا إلى امْتِثالِ أمْرِهِ، فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب