الباحث القرآني

في كيفية النظم وجهان: أحدهما: أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال. الثاني: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بيَّن بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال؛ لقوله تعالى ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ [النساء: 10] ، واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغضب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير: لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع، ولم يذكر ههنا الطريقة المشروعة على التفصيل فصارت الآية مجملة. وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم: إنها منسوخة: قال لما نزلت هذه الآية تحرّج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئاً وشق ذلك على الخلق. فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النور: 61] وأيضاً إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وقيل: المراد بالباطل [هو] العقود الفاسدة، وقوله ﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ [يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل] وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معاً كقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُم﴾ يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه. قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً﴾ في هذا الاستثناء قولان: أصحهما: أنه استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض، أو بغير طريق شرعيّ. والثاني: أن المستثنى كون، والكون ليس مالاً من الأموال. الثالث: أنه متصل قيل: لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة. قال أبو البقاء: وهو ضعيف؛ لأنه قال: بالباطل، والتجارة ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذف مضاف تقديره؛ إلا في حال كونها تجارة، أو في وقت كونها تجارة انتهى. ف «أن» تكون في محل نصب على الاستثناء وقد تقدم تحقيقه. وقرا الكوفيون تجارة نصباً على أن كان ناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال، ولا بد من حذف مضاف من «تجارة» تقديره: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي: إلا أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله: [الطويل] 1790 - ... ... ... ... ... ... ... ... إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا أي إذا كان اليوم يوماً، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين، وقرأ الباقون «تجارةٌ» رفعاً على أنها «كان» التامة قال مكي «وأكثر كلام العرب أن قولهم» إلا أن تكون «في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى: يحدث ويقع، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة. وقوله: ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ متعلق بمحذوف لأنه صفة ل» تجارة «فموضعه رفع أو نصب على حسب القراءتين، وأصل «تراض» » تراضِوٌ «بالواو؛ [لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة] فقلبت ياء فقلت: تراضياً، و» منكم» صفة لتراضٍ، فهو محل جر و «من» لابتداء الغاية. فصل والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة. قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: 10] وقال ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر: 29] وقال ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [التوبة: 111] ، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرارُ. فصل: كل معاوضة تجارة اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض، إلا أنَّ قوله تعالى ﴿بالباطل﴾ أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ، والخَنْزِيرِ، وغير ذلِكَ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ، والهِبَةِ، لا للثَّوابِ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر، وخَرَجَ منها دٌعاءُ أخيك إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ، بآيةِ النُّورِ، على ما سيأتي إن شاء الله - تعالى -. فصل قال القرطبيُّ: لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ، وأنت في حلٍّ، فلا تَأكُلْ منه؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ، فربما لا يقعُ بيعٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَة، لكن لو وصف لَكَ فاشْتَرَيْتَ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار. فصل قوله ﴿عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ أي: بطيبة نَفْسِ كلِّ وَاحدٍ على الوَجْه المَشْرُوعِ. وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنَ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ: «الْبَيْعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» أو يخير كُلّ واحد منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، واعلم: أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ، والوصيَّةِ والإرث، والصَّدَقَةِ، والمهر، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة. فإن قُلْنَا: الاستثناءُ مُنقطِعٌ، فلا إشْكالٌ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً، من أسْبَابِ المِلْكِ، ولم يذكره غيرهُ بنفي، ولا إثْبَاتٍ. وإن قلنا: الاسْتثناء مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ، والتَّخْصيصِ. فصل ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ، وقال أبُو حنيفَةَ: لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ: أحدُهَا: أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للهِ تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل، فذلك غير مُنعقدٍ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى. وثانيها: أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزَمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ في الوُجُودِ أو لا، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات الفاسدة، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ، وإنْ كانَ الثَّانِي؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً، ولا باطلاً، فهو محال. وثالثها: أنَّ قوله: «لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن» كقوله: «لا تبيعوا الحر بالعبد» فكما أن هذا نهي في اللفْظِ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [فكذا الأوَّلُ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ] ، بطل كونُهُ مُفيداً للحكم. قوله ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ قرأ عَلِي - رضي اللهُ عنه -: «تُقْتَّلُوا» بالتَّشْديدِ على التكثير، والمعنى لا يَقْتلُ بَعضُكُم بعضاً، وإنَّما قَالَ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «المُؤْمِنُونَ كنَفْسٍ وَاحِدَةٍ» ولأن العَرَبَ يَقُولُونَ «قُلْنَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ» إذا قتل بعضهم؛ لأنَّ قتل بعضِهِم، يجري مَجْرَى قَتْلِهِمْ. فإن قيل: المُؤمِنُ مع إيمانِهِ لا يجُوزُ أن ينهى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ، لأنه ملجأ إلى ألاَّ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، لأنَّ الصَّارِفَ عنه قائمٌ، وهو الألَمُ الشَّديدُ، والذَّمُّ العَظِيم، والصَّارف عنه في الآخرة قَائِمٌ وهو استحقاقُ العَذَابِ العَظِيمِ. إذا كان كذلك، لم يَكُنْ للنَّهْيِ عَنْهُ فائدة، وإنَّمَا يُمْكِنُ هَذَا النهي، فِيمَنْ يَعْتَقِدُ في قَتْلِ نَفْسِهِ ما يعتقدُهُ أهْلُ الهِنْدِ، وذَلِكَ لا يَتَأتَّى مِنَ المُؤْمِنِ. فَالجَوَابُ: أنَّ المُؤْمِنَ مع إيمانِهِ، قد يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ، والأذِيَّةِ ما يكُونُ القَتْلُ عليه أسْهَل مِنْ ذلك، ولذلك نَرَى كَثيراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَلُونَ أنْفُسَهُم، بمثل السَّبَبِ الذي ذَكَرْنَاهُ، ويحتمل أنَّ مَعْنَاهُ لا تَفْعَلُوا ما تَسْتَحِقُّونَ به القتل كالزِّنَا بعد الإحْصَانِ والرِّدَّةِ، وقتلِ النَّفْسِ المعصومة، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّهُ رحيمٌ بعباده، ولأجْلِ رحمته نهاهم هم كُلِّ ما يستوجبون به مَشَقَّة، أو مِحْنَة حَيْثُ لم يأمرهم بقتلهم أنفسَهُم كما أمَرَ به بني إسرائيل ليَكُونَ تَوْبَةُ لهم وكان بكُم يَا أمَّة محمَّد رحيماً، حيث لم يكلفكم تلك التَّكاليف الصَّعْبَة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب