الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكم ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللَّهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ [٢٩]
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكُمْ﴾ أيْ: لا يَأْكُلْ بَعْضُكم أمْوالَ بَعْضٍ ﴿بِالباطِلِ﴾ أيْ: ما لَمْ تُبِحْهُ الشَّرِيعَةُ كالرِّبا والقِمارِ والرِّشْوَةِ والغَصْبِ والسَّرِقَةِ والخِيانَةِ، (p-١٢٠٣)وما جَرى مَجْرى ذَلِكَ مِن صُنُوفِ الحِيَلِ.
﴿إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ أيْ: مُعاوَضَةً مَحْضَةً كالبَيْعِ ﴿عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ في المُحاباةِ مِن جانِبِ الآخِذِ والمَأْخُوذِ مِنهُ، وقُرِئَ: (تِجارَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ (كانَ) تامَّةٌ، وبِالنَّصْبِ عَلى أنَّها ناقِصَةٌ، والتَّقْدِيرُ: إلّا أنْ تَكُونَ المُعامَلَةُ أوِ التِّجارَةُ أوِ الأمْوالُ تِجارَةً.
قالَ السُّيُوطِيُّ في "الإكْلِيلِ": في الآيَةِ تَحْرِيمُ أكْلِ المالِ الباطِلِ بِغَيْرِ وجْهٍ شَرْعِيٍّ، وإباحَةُ التِّجارَةِ والرِّبْحِ فِيها، وأنَّ شَرْطَها التَّراضِي، ومِن هَهُنا أخَذَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبارَ الإيجابِ والقَبُولِ لَفْظًا؛ لِأنَّ التَّراضِيَ أمْرٌ قَلْبِيٌّ فَلا بُدَّ مِن دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وقَدْ يَسْتَدِلُّ بِها مَن لَمْ يَشْتَرِطْهُما إذا حَصَلَ الرِّضا، انْتَهى.
أيْ لِأنَّ الأقْوالَ كَما تَدُلُّ عَلى التَّراضِي فَكَذَلِكَ الأفْعالُ تَدُلُّ في بَعْضِ المَحالِّ قَطْعًا، فَصَحَّ بَيْعُ المُعاطاةِ مُطْلَقًا.
وفِي "الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ": حَقِيقَةُ التَّراضِي لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، والمُرادُ ها هُنا أمارَتُهُ، كالإيجابِ والقَبُولِ، وكالتَّعاطِي عِنْدَ القائِلِ بِهِ، وعَلى هَذا أهْلُ العِلْمِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرِدْ ما يَدُلُّ عَلى ما اعْتَبَرَهُ بَعْضُهم مِن ألْفاظٍ مَخْصُوصَةٍ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ البَيْعُ بِغَيْرِها، ولا يُفِيدُهم ما ورَدَ في الرِّواياتِ مِن نَحْوِ: (بِعْتُ مِنكَ وبِعْتُكَ) فَإنّا لا نُنْكِرُ أنَّ البَيْعَ يَصِحُّ بِذَلِكَ، وإنَّما النِّزاعُ في كَوْنِهِ لا يَصِحُّ إلّا بِها، ولَمْ يَرِدْ في ذَلِكَ شَيْءٌ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى:﴿تِجارَةً عَنْ تَراضٍ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مُجَرَّدَ التَّراضِي هو المَناطُ، ولا بُدَّ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ أوْ إشارَةٍ أوْ كِتابَةٍ، بِأيِّ لَفْظٍ وقَعَ، وعَلى أيِّ صِفَةٍ كانَ، وبِأيِّ إشارَةٍ مُفِيدَةٍ حَصَلَ، انْتَهى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللَّهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى لا تَقْتُلُوا مَن كانَ مِن جِنْسِكم مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَإنَّ كُلَّهم كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، والتَّعْبِيرُ عَنْهم بِالأنْفُسِ لِلْمُبالَغَةِ في الزَّجْرِ عَنْ قَتْلِهِمْ، بِتَصْوِيرِهِ بِصُورَةِ ما لا يَكادُ يَفْعَلُهُ عاقِلٌ.
والثّانِي: النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الإنْسانِ نَفْسَهُ، وقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَمْرُو بْنُ العاصِ عَلى مَسْألَةِ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ، وأقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ (p-١٢٠٤)عَلى احْتِجاجِهِ، كَما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ، ولَفْظُ أحْمَدَ:
عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ أنَّهُ قالَ: «لَمّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عامَ ذاتِ السَّلاسِلِ، قالَ: احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَأشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أنْ أهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصْحابِي صَلاةَ الصُّبْحِ، قالَ: فَلَمّا قَدِمْنا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقالَ: يا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأصْحابِكَ وأنْتَ جُنُبٌ ؟! قالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ فَأشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أنَ أهْلَكَ، وذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللَّهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يَقُلْ شَيْئًا» وهَكَذا أوْرَدَهُ أبُو داوُدَ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا، أيِ: المَعْنى الثّانِي - واللَّهُ أعْلَمُ - أشْبَهُ بِالصَّوابِ، وقَدْ تَوافَرَتِ الأخْبارُ في النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الإنْسانِ نَفْسَهُ والوَعِيدِ عَلَيْهِ.
رَوى الشَّيْخانِ وأهْلُ السُّنَنِ وغَيْرُهم عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رِضى اللَّهِ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن تَرَدّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهْوَ في نارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدّى فِيهِ خالِدًا مُخَلَّدًا فِيها أبَدًا، ومَن تَحَسّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسّاهُ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فِيها أبَدًا، ومَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِها في بَطْنِهِ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فِيها أبَدًا» .
(p-١٢٠٥)وأخْرَجَ الشَّيْخانِ عَنْهُ - رِضى اللَّهِ عَنْهُ - قالَ: «شَهِدْنا خَيْبَرَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإسْلامَ: هَذا مِن أهْلِ النّارِ فَلَمّا حَضَرَ القِتالُ قاتَلَ الرَّجُلُ أشَدَّ القِتالِ، حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الجِراحَةُ، فَكادَ بَعْضُ النّاسِ يَرْتابُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ ألَمَ الجِراحَةِ، فَأهْوى بِيَدِهِ إلى كِنانَتِهِ، فاسْتَخْرَجَ مِنها أسْهُمًا، فَنَحَرَ بِها نَفْسَهُ، فاشْتَدَّ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ، صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، انْتَحَرَ فُلانٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقالَ: قُمْ يا فُلانُ، فَأذِّنْ أنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا مُؤْمِنٌ، إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفاجِرِ» وهَذا لَفْظُ البُخارِيِّ.
ورَوى أبُو داوُدَ عَنْ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «أُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ فَقالَ: لا أُصَلِّي عَلَيْهِ» .
وفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكم رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ فَأخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِها يَدَهُ، فَما رَقَأ الدَّمُ حَتّى ماتَ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: بادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» .
ولِهَذا قالَ تَعالى:
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضࣲ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق