الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ النداء -كما سبق- يدل على العناية بما جاء في الخطاب، ووجه ذلك أن النداء تنبيه للمنادى فإنه يفرّق بين أن يأتي الخطاب مرسلًا وبين أن يأتي مصدّرًا بالنداء، وتوجيه النداء إلى المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يفيد الإغراء بالتزام هذا الخطاب أو بالتزام مدلول هذا الخطاب، ووجه ذلك أن وصف الإنسان بالإيمان يحمله على الامتثال، ويفيد أيضًا أن امتثال هذا الشيء من مقتضيات الإيمان، ويفيد أيضًا أن مخالفة ذلك نقص في الإيمان. يقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذا النداء يجب علينا أن نعتني به، وأن ننتظر ماذا يوجّهنا الله إليه كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه «قال: إذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا فأرْعها سمعك؛ فإما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه»[[أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (٥٠).]]. ثم قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ جاء النهي: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ فإن (لا) هنا ناهية؛ ولذلك جزم الفعل بعدها بحذف النون. ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ أي: ما تتمولونه من قليل أو كثير، من عروض أو نقود، من ديون أو أعيان، عامة كل الأموال.
وقوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أي: في التعامل؛ لأن أكل المال لا بد أن يكون بين اثنين فصاعدًا، أما إذا كان من واحد لواحد، فهذا قد أكل ماله.
﴿بَيْنَكُمْ﴾ أي: في حال تعاملكم. وقوله: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الباطل في اللغة: الضائع سدى، الهالك اللي ما فيه خير، والمراد بالباطل هنا ما خالف الشرع؛ لأن الشرع حق وما خالفه باطل، والمعنى على هذا: لا تأكلوا أموالكم بينكم على وجه يخالف الشرع، مثل: الربا، والغش، والكذب، والتدليس، وما أشبه ذلك.
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، لكن المراد بها الاستدراك؛ يعني لكن إن كانت تجارةٌ أو تجارةً بينكم عن تراضٍ منكم فهذا لا بأس به، وإنما قلنا: إن الاستثناء منقطع؛ لأن قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ ليس من جنس الأكل بالباطل، بل هو أكل بأيش؟ بحق، والاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى أيش؟ من غير جنس المستثنى منه، وهنا لا بد أن يكون منقطعًا؛ لأن التجارة عن تراضٍ منا ليست أكلًا بالباطل، بل هي أكل بحق، ولهذا نقول: الاستثناء في هذه الآية منقطع ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ﴾ فيها قراءتان سبعيتان: ﴿تِجَارَةٌ﴾ بالرفع، و﴿تِجَارَةً﴾ بالنصب، أما على قراءة الرفع فلا إشكال فيه؛ يعني إلا أن تحدث تجارةٌ بينكم، وهنا تكون (كان) تامة لا ناقصة، وأما على قراءة النصب فإن (كان) ناقصة، تكون ناقصة، و﴿تِجَارَةً﴾ خبرها، واسمها مستتر، وحينئذٍ يشكل أن يكون الاسم مستترًا وتقديره (هي) مع أن الأكل ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ مذكّر، فهل يصح أن نقول: إلا أن تكون الأكل تجارة؟ لا يصح، ولكن هاهنا فائدة وهو: إذا توسط الضمير أو الإشارة بين شيئين الثاني مذكر والأول مؤنث أو بالعكس فإنه يجوز مراعاة الأول أو الثاني. أعرفتم؟
إذا توسط الضمير أو اسم الإشارة بين شيئين الأول مذكر والثاني مؤنث أو بالعكس جاز أن يذكّر أو يؤنث، أن يذكر باعتبار مرجعه السابق، وأن يؤنث باعتبار مرجعه اللاحق، فهنا أُنّث باعتبار مرجعه الثاني اللاحق؛ يعني إلا أن تكون التجارة التي تأكلون بها الأموال تجارة عن تراضٍ منكم، والتجارة: هي تبادل أو التبادل بين الناس من أجل الربح، هذه التجارة، ومنه قول الفقهاء: عروض التجارة، أما ما يُهدى أو يرهن أو يُعار فهذا ليس بتجارة، وكذلك ما اشتُري لدفع الحاجة كشراء الخبز للأكل فهذا ليس بتجارة؛ لأن الإنسان لا يقصد به الربح، وحينئذٍ يبقى في مدلول الآية إشكال: إذا كانت المعاملات أكثر من التجارة، فلماذا لم يذكرها؟ فقيل: إنها لم تُذكر؛ يعني التعامل بغير قصد التجارة؛ لأن الغالب في تعامل الناس هو التجارة، وهي التي يقع فيها المشاحنة، وأما غيرها فالإهداء تصدر عن طيب نفس من المهدِي، وكذلك العارية، وكذلك الرهن، وما اشتري للحاجة فالغالب أنه لا يحصل فيه تشاحن؛ لأن الإنسان يقصد به دفع الحاجة لا حصول الربح، فلهذا ذُكرت التجارة، وإلا فمن المعلوم أن العقود التي تقع عن تراضٍ أكثر من عقود التجارة. ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: صادرة عن تراضٍ منكم، أو حاصلة. ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ و﴿تَرَاضٍ﴾ هنا صيغة تفاعل، يتبين بها أن المراد التراضي من الطرفين الآخذ والمعطي.
وقوله: ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ يعني صادر منكم أنتم أيها المتعاملون لا من غيركم، فلو رضي الأب ببيع ابنه والابن لم يرضَ والملك للابن فلا عبرة برضا الأب، ثم قال.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، نعم، لو رضي الأب ببيع مال ابنه دون الابن فإنه لا عبرة برضاه. قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ ﴿لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ القتل معروف إزهاق النفس، ولكن ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ هل المراد بذلك نفس القاتل، ويكون هذا بمعنى الانتحار، أو المراد بأنفسكم أي إخوانكم كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات ١١] فإن الإنسان لا يلمز نفسه إنما يلمز غيره، أيهما المراد؟
نقول: هو شامل، فلا يُقصر على من يقتل نفسه، ولا على من يقتل غيره بل يقال: الآية شاملة لهذا وهذا، فإن كان المراد: لا تقتلوا أنفسكم أنتم، فلا إشكال في الآية، وإن كان المراد: لا تقتلوا غيركم، فلماذا عبّر عن الغير بالنفس؟ نقول: عبّر عن الغير بالنفس؛ لأن المؤمن مع أخيه كالجسد الواحد كما ضرب ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلًا: «إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠١١) مسلم (٢٥٨٦ / ٦٦) من حديث النعمان بن بشير.]] وأيضًا فالتعبير عن الأخ بالنفس فيه إغراء وحثّ يعني كأنه هو نفسك، ففيه إغراء للإنسان عن تجنب قتل الغير، وتحنن للإنسان أو حمل الإنسان على التحنن على أخيه.
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ الجملة تعليل لما قبلها، تعليل للحكمين: أكل الأموال، وقتل النفوس؛ فالله سبحانه وتعالى بنا رحيم، ومن رحمته تحريم أكل الأموال بيننا بالباطل، أو النهي عن أكل الأموال بيننا بالباطل. والثاني: النهي عن قتل أنفسنا؛ فإن هذا من رحمة الله بنا، وجهه في الأول: أن أكل الأموال بالباطل يؤدي إلى التشاحن والنزاع، وربما يؤدي إلى الصدام المسلّح، وقتل الناس واضح.
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ ﴿بِكُمْ﴾ الخطاب يعود إلى من؟ إلى المؤمنين؛ لأنه يخاطب المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب ٤٣] ولم يرد في القرآن إضافة الرحمة إلى الله تعالى منسوبة إلى الكافرين؛ يعني بالمعنى العام، فالرحمة التي اتصف الله بها ذكرت في القرآن إما على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص بمن؟ بالمؤمنين، أما على سبيل الخصوص بالكافرين فلم ترد.
* طالب: أحسن الله إليك، ورد في موضع آخر يا شيخ، قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة ١٩٥]، شيخ، هل نقول من هذا الباب (...) البعض منكم؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: (...) البعض منكم.
* الشيخ: أيهم؟ قوله: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ إي نعم، على أن الآية في قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قيل: المراد بها: لا تتركوا الإنفاق في سبيل الله فتهلكوا، وليس المراد الإلقاء بالنفس إلى ما يهلكها كالقتل والتعرض له، لكن الصحيح أن الآية عامة: ﴿لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ في هذا وهذا.
* طالب: يصلح هذا اللفظ يا شيخ على ظاهره ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ على ظاهرها.
* الشيخ: وهي؟
* الطالب: النفس يعني الاتفاق؛ كما قلنا: يقتل الغير دون قرينة يعني (...) فذهبنا الأصل، لا إلى معنى (...) دون قرينة؟
* الشيخ: لا، فيه بارك الله فيك، القرينة أن الاعتداء على الغير كالاعتداء على النفس؛ لأن الرسول جعل عقوبة المعتدي على نفسه كعقوبة المعتدي على الغير أنه مخلّد في نار جهنم، ويعذب فيها، عرفت؟
* طالب: أليس إذا قتل نفسًا يُقتل؟
* الشيخ: عرفت؟
* طالب: يا شيخ، أين القرينة؟
* الشيخ: القرينة أن الله يعبّر عن المؤمنين بعضهم البعض بالنفس، هذه القرينة، وكون اللفظ يحتمل المعنيين نحمله عليهما أولى من كونه يُحمل على واحد، أما لو قلنا: المراد بالأنفس هنا الغير دون نفس الإنسان: هذا خطأ، يقول: ليش تحمله على هذا دون هذا بلا قرينة؟ أما إذا قلنا: إنه عام فلا إشكال.
* طالب: يستفاد من قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾.. خلق النبي ﷺ في حديث عائشة:« أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيْسَرَهُما»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٧٨٦)، ومسلم (٢٣٢٧ / ٧٧) من حديث عائشة.]]؟
* الشيخ: نعم، نعم، يستفاد منها أن الرسول يعني يحب ما يحبه الله، لكنه ليس في الآية حتى نذكره من فوائدها.
* طالب: أحسن الله إليك، هل نحمل الآية: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ قد يكون بأكلكم الأموال (...) صحيح ولَّا لا؟
* الشيخ: ما هو بصحيح؛ لأن هذه الواو حرف عطف، والعطف يقتضي المغايرة، يقول: لا تقتلوا أنفسكم بأكل الأموال، بل يقال: إن الله عز وجل ذكر النهي عن الأموال وعن الأنفس.
* الطالب: (...) الأموال؟
* الشيخ: (...) الأموال ترك الإنفاق في سبيل الله، ما هو بأكل مال الغير.
* طالب: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أليس الإنسان إذا قتل نفسًا يقتل بها؟
* الشيخ: لا، يقتل إذا تمت الشروط فيكون سببًا. (...)
يسأل عن المنهج السلفي؛ المنهج السلفي في أي شيء؟ كان حريصًا على العلم، منهج أهل السنة في أيش؟ اقرأ شرح الطحاوية، ولّا شرح العقيدة الواسطية.
* طالب: في الدعوة.
* الشيخ: في الدعوة إلى الله؟ يدعون إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويجادلون أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ولا ينكرون على أحد اجتهاده إذا لم يخالف إجماع السلف أو النص القرآني أو النبوي.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)﴾ [النساء ٣٠ - ٣٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ سبق الكلام على أول هذه الآية وأظن ليس فيه شيء يحتاج إلى مناقشة.
* ففي هذه الآية من الفوائد: العناية بحفظ الأموال وعدم العدوان؛ لقوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.
* وفيه: تحريم أخذ مال الإنسان بغير رضى منه؛ لقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾.
* وفيه أيضًا: تحريم التعامل المحرم، ولو كان برضا من الطرفين؛ لأن التعامل المحرم أكل للمال بالباطل، وعلى هذا فلو تراضى الطرفان على تعامل ربوي فإن ذلك محرم.
* ومن فوائدها: أن من مقتضى الإيمان تجنّب أكل المال بالباطل؛ لأنه وجّه الخطاب إلى من؟ إلى المؤمنين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اشتراط الرضا في عقود المعاملات؛ لقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ والرضا إذا كان سابقًا عن العقد لا إشكال في جواز العقد وصحته، ولكن إذا كان لاحقًا، فهل ينفذ العقد أم لا؟ وذلك فيما يسمى عند أهل العلم بالتصرّف الفضولي؛ يعني: لو أنني بعت مال شخص بدون إذنه ورضاه ولكن أذن فيما بعد ورضي، فهل يقع العقد السابق صحيحًا أو باطلًا؟ إذا نظرنا إلى عموم قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ قلنا: إنه يكون صحيحًا؛ لأن هذه التجارة صار مآلها إلى التراضي، وهذا القول هو الراجح أن تصرف الفضولي أو التصرف الفضولي -عَبِّر بهذا أو بهذا- إذا أذن فيه صاحبه فإنه جائز نافذ؛ وذلك لأن عموم قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ يدخل فيه هذه الصورة، ولكن بعض أهل العلم قال: لا يصح مطلقًا سواء أذن أو لم يأذن، وسواء تصرف في ذمته أو في عين المال، وسواء كان في الشراء أو في البيع، وبعض العلماء فصّل وفرّق بين الشراء وبين البيع، فقال: إذا اشترى له في ذمته ولم يسمّه في العقد ورضي فلا بأس وإلا فلا، ولكن القول الراجح أنه متى رضي ولو بعد العقد فإنه يقع العقد صحيحًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحريم القتل؛ قتل الإنسان نفسه؛ لقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
* وعلى التفسير الثاني من فوائدها: أن المؤمنين كنفس واحدة وأن قتل الإنسان غيره كأنما قتل نفسه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل أرحم بالإنسان من نفسه؛ لأنه نهاه أن يقتل نفسه فصار أرحم به من نفسه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات صفة الرحمة لله؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، والرحمة عند السلف صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل، وأنكرها المعطّلة، أنكروها إنكار تأويل لا إنكار تكذيب؛ يعني لم يقولوا: إن الله ليس له رحمة، بل قالوا: إن المراد برحمته كذا وكذا متعلّلين بأن الرحمة فيها شيء من الرقة واللين، والله عز وجل لا يوصف بهذا، فنقول لهم: بماذا تفسرون الرحمة؟
قالوا: نفسّرها بإرادة الإنعام والإحسان أو نفسرها بالإحسان، أما أن نقول: هناك رحمة بها يريد الإحسان فيُحسن، فهذا لا يجوز، ولا شك أنهم بذلك التفسير خالفوا ظاهر القرآن، وخالفوا إجماع السلف، وإجماع السلف قد يقول قائل: أين إجماع السلف؟ فنقول: إن القرآن نزل باللغة العربية وفهموه على مقتضى اللغة العربية، فإذا أثبت الله لنفسه الرحمة أثبتوا له الرحمة؛ لأن هذا هو الأصل، ونقول لمن قال: إنه لا إجماع: ائت بحرف واحد عن السلف يفسرون الرحمة بغير ظاهر القرآن، وهذه فائدة مهمة يندفع بها من شبّه ولبّس، وقال: أين إجماع السلف؟ نقول: القرآن بين أيديهم ولم يفسروه بخلاف ظاهره، والأصل أنهم فهموه على أيش؟ على ظاهره بمقتضى اللسان العربي. ثم نقول لهم: أنتم تفسرونه بالإرادة فرارًا من مشابهة المخلوق بزعمكم، والمخلوق له إرادة ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران ١٥٢]، ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال ٦٧]، «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١)، ومسلم (١٩٠٧ / ١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب.]] ولا أحد يشك في أن المخلوق له إرادة، فإذا قالوا: إرادة المخلوق تليق به وإرادة الخالق تليق به، قلنا لهم: ورحمة الخالق تليق به ورحمة المخلوق تليق به، وكذلك إذا فسرتم الرحمة بالإنعام الذي هو مخلوق أو بالنعمة التي هي مخلوقة، قلنا: النعمة لا تكون إلا بإرادة، والإرادة لا تكون إلا برحمة، من لم يرحم لم يُرد النعمة ولم ينعم، وبهذا تبين بطلان تحريفهم، ونسميه تحريفًا لا تأويلًا على كل تقدير، ولو سألناكم الآن: أيما أعظم أن يُحرّف القرآن والسنة فيما يتعلق بصفات الله أو فيما يتعلق بالأحكام التكليفية المتعلقة بأفعال العبيد؟
* طلبة: الأول.
* الشيخ: الأول أشد؛ لأن الأول لا مجال للعقل فيه، فالواجب إجراؤه على ظاهره، أما الثاني فهي أحكام تكليفية للعقل فيها مجال بالقياس مثلًا، فيكون التحريف فيها أهون، وتجد هؤلاء المعطّلة ينكرون أشد الإنكار على من حرّف النصوص فيما يتعلق بفعل المكلَّف، ولا ينكرون على أنفسهم تحريف النصوص فيما يتعلق بصفات الرب عز وجل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز التجارة والاتجار؛ لأن الله أقرّ ذلك بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾. وظاهر الآية العموم أن الاتجار جائز لذوي الجاه والشرف وللسوقة من الناس ولمن دونهم، فلا عيب على الإنسان أن يتجر ويطلب الرزق، ولهذا وجّه الله الأمر للمؤمنين بالسعي إلى الجمعة عند ندائها، وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الجمعة ١٠] لما أمرنا بطلب الرزق بعد الانصراف من الجمعة ذكّرنا أن لا ننسى ذكر الله قال: ﴿ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ حتى لا تنسى ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
على كل حال التجارة جائزة، ولا عيب على الإنسان فيها، ويذكر في التاريخ أن أبا بكر رضي الله عنه لما وُلّي على المسلمين خليفة نزل إلى السوق يبيع ويشتري، فقالوا له: كيف تبيع وتشتري أنت خليفة مسؤول؟! قال: لا بد من ذلك، فضربوا له نصيبًا معينًا من بيت المال بقدر كفايته رضي الله عنه.
ما هي التجارة المذمومة؟ التجارة المذمومة ما صدّت عن ذكر الله، ولهذا امتدح الله الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال بعض أهل العلم: والتجارة التي يُقصد بها المكاثرة في الدنيا هي أيضًا مذمومة؛ لأن الغالب أن من كانت هذه نيته أن تصدّه التجارة عن ذكر الله، فإذا رأيت من نفسك جشعًا وطمعًا وشُحًّا في التجارة فأمسك، أمسك لأن ذلك يُخشى أن يكون على حساب الدين. ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾. قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه ما ذكر في الآية السابقة فقط خلافًا لبعض العلماء الذين قالوا: ﴿مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: كل ما نهي عنه من أول السورة، فإن هذا لا وجه له، بل نقول: ﴿مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ الإشارة تعود إلى أقرب مذكور؛ أي: من يأكل الأموال بالباطل إلا ما استُثني، ومن يقتل النفس عدوانًا وظلمًا.
﴿عُدْوَانًا﴾ أي: اعتداء بأن يفعله عن قصد. ﴿وَظُلْمًا﴾ قيل: إنها من باب عطف المرادف على مرادفه؛ لأن الظلم عدوان، والعدوان ظلم. وقيل: بل بينهما فرق، فالعدوان ما فُعل عن قصد، والظلم يعود إلى نفس الفاعل؛ فهو إذا خالف ما ذكر، أو فعل ما ذُكر من المناهي فقد اعتدى على غيره فأكل ماله، واعتدى على غيره فقتله وظلَم نفسه، فيكون عدوانًا باعتبار الغير وظلمًا باعتبار أيش؟ النفس، وأيهما أصح؟
* طالب: الثاني.
* الشيخ: الثاني أصح لا شك؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على الترادف؛ لأنك إذا جعلتهما مترادفتين صار ذلك تكرارًا، لكن إذا قلت: هذه لها معنى، وهذه لها معنى، فهذا هو الأصل، وعليه فنقول: ﴿عُدْوَانًا﴾ أي: عن عمد وقصد، وهو عدوان على الغير. ﴿ظُلْمًا﴾ أي: للنفس؛ لأن جميع المعاصي ظلم للنفس.
قال: ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ أي: ندخله نارًا تحرقه، وهذه ﴿نُصْلِيهِ نَارًا﴾ نصبت مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، فتكون من باب؟
* طلبة: (كسا وأعطى).
* الشيخ: (كسا وأعطى) نعم. ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ أي: ندخله نارًا يصلاها فتحرقه. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ المشار إليه إدخاله النار التي يصلاها كان على الله يسيرًا أي: سهلا؛ لأنه لا يمانعه أحد في ملكه، التعذيب بالنار قد يصعب على بعض ملوك الدنيا مثلًا، لكنه على الله يسير سهل، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢].
الإعراب في هذه الآية: (من) ما هي؟ شرطية، وفعل الشرط؟ ﴿يَفْعَلْ﴾، وجوابه: ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾، وارتبطت الجملة -جملة جواب- الفاء لوجود ما يقتضي ذلك وهو سوف، والجواب الذي يحتاج إلى ربط بالفاء مجموع في قول الشاعر:
؎اسْمِيَّــــــــــــــــةٌ طَلَبِيَّــــــــــــــــةٌوَبِجَامِــــــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ
أين سوف؟
* طلبة: بالتنفيس.
* الشيخ: التنفيس إي نعم، تدخل في قوله: وبالتنفيس.
* من فوائد الآية الكريمة: التحذير من فعل هذه المنهيات، وذلك بالوعيد عليها في النار.
* ومن فوائدها: أن فعل هذه المنهيات من كبائر الذنوب؛ لأنه توعد عليه بالنار، وكل ذنب توعد عليه بالنار فهو من كبائر الذنوب.
* ومن فوائدها: بيان عظمة الله وتمام سلطانه وقدرته؛ لقوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
* ومن فوائد الآية: تعظيم الله نفسه؛ لقوله: ﴿نُصْلِيهِ نَارًا﴾؛ لأن الضمير هنا تقديره: (نحن)، وهو ضمير العظمة، وليس من المتشابه إلا على من طمس الله قلبه كالنصراني الذي يقول: إن ضمير الجمع يدل على التعدّد، وينسى الآيات المحكمات الدالة على أن الله إله واحد؛ لأن الله تعالى طمس على قلبه، فمن طمس الله على قلبه فإنه لا يتبين له الحق.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضࣲ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا","وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ عُدۡوَ ٰنࣰا وَظُلۡمࣰا فَسَوۡفَ نُصۡلِیهِ نَارࣰاۚ وَكَانَ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرًا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضࣲ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق