الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ بَيانٌ لِبَعْضِ المُحَرَّماتِ المُتَعَلِّقَةِ بِالأمْوالِ والأنْفُسِ إثْرَ بَيانِ تَحْرِيمِ النِّساءِ عَلى غَيْرِ الوُجُوهِ المَشْرُوعَةِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِنايَةِ بِالحُكْمِ المَذْكُورِ، والمُرادُ مِنَ الأكْلِ سائِرُ التَّصَرُّفاتِ، وعَبَّرَ بِهِ؛ لِأنَّهُ مُعْظَمُ المَنافِعِ، والمَعْنى: لا يَأْكُلُ بَعْضُكم أمْوالَ بَعْضٍ، والمُرادُ ﴿بِالباطِلِ﴾ ما يُخالِفُ الشَّرْعَ كالرِّبا والقِمارِ والبَخْسِ والظُّلْمِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، .وهُوَ المَرْوِيُّ عَنِ الباقِرِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وعَنِ الحَسَنِ: هو ما كانَ بِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ مِن طَرِيقِ الأعْواضِ.
وأخْرَجَ عَنْهُ، وعَنْ عِكْرِمَةَ، ابْنُ جَرِيرٍ أنَّهُما قالا: كانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ النّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالآيَةِ الَّتِي في سُورَةِ النُّورِ: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ الآيَةَ، والقَوْلُ الأوَّلُ أقْوى؛ لِأنَّ ما أُكِلَ عَلى وجْهِ مَكارِمِ الأخْلاقِ لا يَكُونُ أكْلًا بِالباطِلِ، وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: إنَّها مُحْكَمَةٌ، ما نُسِخَتْ، ولا تُنْسَخُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، و(بَيْنَكُمْ) نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ أوِ الحالِيَّةِ مِن (أمْوالِكُمْ).
﴿إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، ونَقَلَ أبُو البَقاءِ القَوْلَ بِالِاتِّصالِ وضَعَّفَهُ و(عَنْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ(تِجارَةً) و(مِنكُمْ) صِفَةُ (تَراضٍ) أيْ: إلّا أنْ تَكُونَ التِّجارَةُ تِجارَةٌ صادِرَةٌ عَنْ تَراضٍ كائِنٍ مِنكُمْ، أوْ إلّا أنْ تَكُونَ الأمْوالُ أمْوالَ تِجارَةٍ، والنَّصْبُ قِراءَةُ أهْلِ الكُوفَةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ (كانَ) تامَّةً.
وحاصِلُ المَعْنى: لا تَقْصِدُوا أكْلَ الأمْوالِ بِالباطِلِ، لَكِنِ اقْصُدُوا كَوْنَ أيْ: وُقُوعَ تِجارَةٍ (عَنْ تَراضٍ)، أوْ لا تَأْكُلُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّ وُجُودَ تِجارَةٍ عَنْ تَراضٍ غَيْرُ مَنهِيٍّ عَنْهُ، وتَخْصِيصُها بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ أسْبابِ المِلْكِ لِكَوْنِها أغْلَبَ وُقُوعًا، وأوْفَقَ لِذَوِي المُرُوءاتِ، وقَدْ أخْرَجَ الأصْبَهانِيُّ، عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««أطْيَبُ الكَسْبِ كَسْبُ التُّجّارِ، الَّذِينَ إذا حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وإذا وعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وإذا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وإذا اشْتَرَوْا لَمْ يَذُمُّوا، وإذا باعُوا لَمْ يَمْدَحُوا، وإذا كانَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْطُلُوا، وإذا كانَ لَهم لَمْ يُعَسِّرُوا»».
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأزْدِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««تِسْعَةُ أعْشارِ الرِّزْقِ في التِّجارَةِ، والعُشْرُ في المَواشِي»».
وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِها انْتِقالُ المالِ مِنَ الغَيْرِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، سَواءٌ كانَ تِجارَةً أوْ إرْثًا أوْ هِبَةً أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، مِنِ (p-16)اسْتِعْمالِ الخاصِّ وإرادَةِ العامِّ، وقِيلَ: المَقْصُودُ بِالنَّهْيِ المَنعُ عَنْ صَرْفِ المالِ فِيما لا يَرْضاهُ اللَّهُ تَعالى، وبِالتِّجارَةِ صَرْفُهُ فِيما يَرْضاهُ، وهَذا أبْعَدُ مِمّا قَبْلَهُ، والمُرادُ بِالتَّراضِي مُراضاةُ المُتَبايِعَيْنِ بِما تَعاقَدا عَلَيْهِ في حالِ المُبايَعَةِ وقْتَ الإيجابِ والقَبُولِ عِنْدَنا، وعِنْدَ الإمامِ مالِكٍ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ حالَةَ الِافْتِراقِ عَنْ مَجْلِسِ العَقْدِ، وقِيلَ: التَّراضِي التَّخْيِيرُ بَعْدَ البَيْعِ، أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أبِي زُرْعَةَ أنَّهُ باعَ فَرَسًا لَهُ فَقالَ لِصاحِبِهِ: اخْتَرْ، فَخَيَّرَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ لَهُ: خَيِّرْنِي، فَخَيَّرَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - يَقُولُ: «هَذا البَيْعُ عَنْ تَراضٍ».
﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ أيْ لا يَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا، وعَبَّرَ عَنِ البَعْضِ المَنهِيِّ عَنْ قَتْلِهِمْ بِالأنْفُسِ لِلْمُبالَغَةِ في الزَّجْرِ، وقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ: ««المُؤْمِنُونَ كالنَّفْسِ الواحِدَةِ»» وإلى هَذا ذَهَبَ الحَسَنُ، وعَطاءٌ والسُّدِّيُّ، والجُبّائِيُّ، وقِيلَ: المَعْنى لا تُهْلِكُوا أنْفُسَكم بِارْتِكابِ الآثامِ، كَأكْلِ الأمْوالِ بِالباطِلِ، وغَيْرِهِ، مِنَ المَعاصِي الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِها العِقابَ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الإنْسانِ نَفْسَهُ في حالِ غَضَبٍ أوْ ضَجَرٍ، وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ البَلْخِيِّ.
وقِيلَ: المَعْنى: لا تُخاطِرُوا بِنُفُوسِكم في القِتالِ، فَتُقاتِلُوا مَن لا تُطِيقُونَهُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وقِيلَ: المُرادُ لا تَتَّجِرُوا في بِلادِ العَدُوِّ فَتُفْرِدُوا بِأنْفُسِكُمْ، وبِهِ اسْتَدَلَّ مالِكٌ عَلى كَراهَةِ التِّجارَةِ إلى بِلادِ الحَرْبِ، وقِيلَ: المَعْنى: لا تُلْقُوا بِأنْفُسِكم إلى التَّهْلُكَةِ، وأُيِّدَ بِما أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: «لَمّا بَعَثَنِي النَّبِيُّﷺعامَ ذاتِ السَّلاسِلِ احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَأشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أنْ أهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصْحابِي صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمّا قَدِمْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِﷺذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ: «يا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأصْحابِكَ وأنْتَ جُنُبٌ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَأشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أنْ أهْلَكَ، وذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ الآيَةَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ولَمْ يَقُلْ شَيْئًا».
وقَرَأ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ -: (ولا تُقَتِّلُوا) بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ، ولا يَخْفى ما في الجَمْعِ بَيْنَ التَّوْصِيَةِ بِحِفْظِ المالِ والوَصِيَّةِ بِحِفْظِ النَّفْسِ مِنَ المُلائِمَةِ لِما أنَّ المالَ شَقِيقُ النَّفْسِ، مِن حَيْثُ أنَّهُ سَبَبٌ لِقِوامِها، وتَحْصِيلِ كَمالاتِها، واسْتِيفاءِ فَضائِلِها، والمُلائِمَةُ بَيْنَ النَّهْيَيْنِ - عَلى قَوْلِ مالِكٍ – أتَمُّ، وقَدَّمَ النَّهْيَ الأوَّلَ لِكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ لِما نَهى عَنْهُ فِيهِ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمْ يَزَلْ مُبالِغًا في الرَّحْمَةِ، ومِن رَحْمَتِهِ بِكم نَهْيُكم عَنْ أكْلِ الحَرامِ وإهْلاكِ الأنْفُسِ، وقِيلَ: مَعْناهُ: إنَّهُ كانَ بِكم يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحِيمًا، إذْ لَمْ يُكَلِّفْكم قَتْلَ الأنْفُسِ في التَّوْبَةِ، كَما كَلَّفَ بَنِي إسْرائِيلَ بِذَلِكَ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضࣲ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق