الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾. قال أهل المعاني: خص الله تعالى الأكل بالنهي عنه تنبيهًا على غيره؛ لأنه أيضًا لا يجوز جمع المال من الباطل، ولا هِبتُه، ولا التصرف فيه. ولكن المعظم والمقصود من المال الأكل والإنفاق، فنص عليه تنبيهًا على غيره، كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ الآية [النساء: 10]، وكما يحرم أكل مال اليتيم بالظلم يحرم إنفاقه في غير الأكل. وقوله تعالى: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ قال ابن عباس: يريد بما لم يحله لكم [[لم أقف عليه، وقد ذكر المؤلف نحوه في "الوسيط" 2/ 510 دون نسبة لأحد.]]. وقال الكلبي: يقول: لا تأكلوها إلا بحقها [[لم أقف عليه.]]. قال أصحاب المعاني: الباطل اسم جامع لكل ما لا يَحلّ في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وكل محرم محظور. نهى بهذه الآية عن جميع المكاسب الباطلة بالشرع. قال الزجاج: حرم الله عز وجل المال، إلا أن يُؤخذ [[في "معاني الزجاج" (يوجد) ولعل المثبت هنا أصوب.]] على السبيل [[في "معاني الزجاج" (السبل) بالجمع.]] الذي ذكر من الفرائض في المواريث والمهور والتسري [[في (أ)، (د) والشرى، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 44.]] والبيع والصدقات التي ذُكرت وجوهها [[انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 44]]. ثم قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ وأجمعوا على أن هذا استثناء منقطع؛ لأن التجارة عن تراض ليست من أكل المال بالباطل [[انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 510، "الحجة" 3/ 152، "الكشف والبيان" 4/ 41 أ.]]. واختلف القراء في التجارة فرفعها بعضهم [[هذه القراءة لأبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو ابن عامر ويعقوب، انظر: "الحجة" 3/ 152، "المبسوط" ص 156.]]، على معنى إلا أن يقع تجارة [[انظر: "الطبري" 5/ 31.]]. ومن نصب [[قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، انظر "الحجة" 3/ 152، "المبسوط" ص 156.]] فعلى تقدير: إلا أن تكون التجارةُ تجارة [["الحجة" 3/ 152، والطبري 5/ 31.]]، كما قال: أعينَيّ هَلّا تبكيان عِفاقًا [[في (د): (عباقا).]] ... إذا كان طَعنًا بينهم وعناقًا [[انظر: "جامع البيان" 3/ 132.]] أو يكون على حذف المضاف بتقدير: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، ثم تحذف المضاف وتُقيم المضاف إليه مقامه [["الحجة" 3/ 152.]]. والاختيار الرفع لمعنيين: أحدهما: أن الرفع أدل على انقطاع الاستثناء، وأن الأول محرّم على الاطلاق، والثاني: أن من نصب أضمر التجارة، فقال: معناه: إلا أن تكون التجارة تجارة. والإضمار قبل الذكر ليس بقوي، وإن كان جائزًا [[هكذا في (أ).]]، ومعنى قوله: ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ هو أن يكون عليه، فذلك باطل لم يدخل فيما أباحه الله من البيع [[انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 510. وابن جرير الطبري اختار خلاف رأي المؤلف ومال إلى قراءة النصب، هذا وإن كان كل من القراءتين صوابًا جائزًا القراءة بهما. انظر: الطبري 5/ 31 - 32.]]. وقال عطاء في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ يعني: ليس فيها شيء من الربا [[لم أقف عليه.]] وذلك أن البيع إذا قُصد به الربا قلّ ما يقع التراضي به، وإذا لم يوجد التراضي لم يحلّ. وذهب كثير من أهل التأويل إلى أن التراضي في التجارة أن يكون خيار المتبايعين باقيًا إلى أن يتفرقا عن المجلس [[انظر الطبري 5/ 32، "الكشف والبيان" 4/ 42 ب.]]. وهذا قول شريح [[هو أبو أمية شُرَيح بن الحارث بن قيس الكوفي القاضي الشهير، يقال إنه حكم سبعين سنة وهو ثقة، وقيل إن له صحبة، وكان قائفًا شاعرًا، مات سنة 78 هـ وقيل بعدها. انظر "مشاهير علماء الأمصار" ص 99، "سير أعلام النبلاء" 4/ 100، "التقريب" ص 265 رقم (2774).]] وابن سيرين والشعبي [[أخرج قول شريح والشعبي الطبري 5/ 32 - 33، أما ابن سيرين فهو الراوي عن شريح كما في الطبري.]]، ومذهب الشافعي [[انظر: "الأم" 3/ 4، "سنن الترمذي" 3/ 539.]]، ويدل على هذا ما روي أن النبي ﷺ قال: "ألا لا يتفرقَنّ بيعان إلا عن رضى" [[أخرجه الطبري من حديث أبي قلابة 5/ 34 وهو مرسل؛ لأن أبا قلابة تابعي كما نبه على ذلك أحمد شاكر -رحمه الله- وعزاه أيضا للبيهقي في "السنن الكبرى" وقد أخرج أبو داود (3458) كتاب البيوع، باب: في خيار المتبايعين حديث أبي هريرة ولفظه: لا يفترقن اثنان إلا عن تراض 3/ 737، وأخرج الترمذي (1248) كتاب البيوع، باب: 27؛ وقال: حيث غريب، والطبري 5/ 34.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا. وهذا قول عطاء [[هو عطاء بن أبي رباح وقد أخرج الأثر عنه الطبري 5/ 35.]]، والحسن [[من "الكشف والبيان" 4/ 42 ب، وانظر "زاد المسير" 2/ 61، "تفسير الحسن" 1/ 272.]]، والكلبي [[انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 83]]، والزجاج [[في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 44.]]، والأكثرين [[انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، والطبري 5/ 35، و"بحر العلوم" 1/ 249، والثعلبي 4/ 42 ب، و"زاد المسير" 2/ 61.]] وإنما قال: (أنفسكم) لأنهم أهل دين واحد، فهم كالنفس الواحدة، فجرى على قول العرب: قتلنا وربّ الكعبة. إذا قتل بعضهم؛ لأن قتل بعضهم كالقتل لهم [[انظر: "الطبري" 5/ 35، "بحر العلوم" 1/ 349.]]. وذهب قوم إلى أن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه، فقال أبو عبيدة: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لا تهلكوها [["مجاز القرآن" 1/ 124، وانظر: "زاد المسير" 2/ 61.]]. ويؤيد هذا حديث عمرو بن العاص [[هو أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، تقدمت ترجمتة]]، وهو أنه احتلم في بعض أسفاره، وخاف الهلاك على نفسه من الاغتسال، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجع ذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: أشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فتيممت وصليت، فضحك رسول الله ﷺ، ولم يقل شيئًا [[أخرجه الإمام أحمد 4/ 203، والبخاري تعليقًا بصيغة التمريض 1/ 454 كتاب التيمم، باب: 7 إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت ..... ، وأبو داود == (434) كتاب الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟ والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 42/ ب، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 513.]]. والقول الأول أظهر، وهذا الثاني يدخل تحت دلالة الأول؛ لأنه إذا حرم عليه قتل غيره من أهل دينه؛ لأنه بمنزلة نفسه، فقد حرم عليه قتل نفسه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب