الباحث القرآني

تكلَّمْنا على قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات ١]، وهذا أدب عظيم وجَّه الله تعالى عباده إليه. أما الأدب الثاني ففي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات ٢]. فالآيةُ الأولى فيها النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي شيء، سواء من الأقوال أو الأفعال أو غيرها، وبينَّا ما تدل عليه الآية فيما سبق، أما الثانية فهي في رفع الصوت وإن لم يكن هناك تقدم في الأحكام من تحليل أو تحريم أو إيجاب، الصوت يقول الله عز وجل: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ فإذا خاطبك النبي ﷺ بصوت فاخفض صوتك عن صوته، وإذا رفع صوته فارفع صوتك، لكن لا بد أن يكون دون صوت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾، ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ يعني: لا تنادونه بصوت مرتفع كما ينادي بعضكم بعضًا، بل يكون جهرًا بأدب وتشريف وتعظيم يليق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كقوله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور ٦٣] يعني: إذا دعاكم لشيء فلا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم لبعض، إن شئتم أجبتم وإن شئتم فلا تجيبوا، بل يجب عليكم الإجابة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال ٢٤] وهنا قال: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾. كذلك أيضًا لا تنادونه بما تتنادون به، فلا تقولون: يا محمد! ولكن قولوا: يا رسول الله! يا نبي الله! وما أشبه ذلك، ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ يعني: كراهة أن تَحْبَط أعمالكم؛ يعني: إنما نهيناكم عن ذلك عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوتَه فوق صوت النبي ﷺ أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس فيه أنه قد يحبط عمله من حيث لا يشعر؛ لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستهانة بالرسول ردة عن الإسلام توجب حبوط العمل. ولما نزلت هذه الآية كان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه كان جهوريَّ الصوت، وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما نزلت هذه الآية تغيَّب في بيته، وصار لا يحضر مجالس النبي ﷺ، فافتقده الرسول وسأل عنه فأخبروه أنه في بيته منذ نزلت الآية، فأرسل إليه رسولًا يسأله فقال إن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ وأنه قد حبط عمله، وإنه من أهل النار، فأمر النبي ﷺ فدعا به، فحضر وأخبره النبي ﷺ أنه من أهل الجنة، وقال: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» قال: بلى، رَضيتُ»[[أخرجه ابن حبان في صحيحه (٧١٦٧)، والحاكم في المستدرك (٥١٠٥)، والطبراني في الكبير (١٣١٠) من حديث ثابت بن قيس.]]، فقُتِلَ رضي الله عنه شهيدًا في وقعة اليمامة، وعاش حميدًا وسيدخل الجنةَ بشهادة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك كان ثابت رضي الله عنه ممن يُشهَد له بأنه من أهل الجنة بعينه؛ لأن كل إنسان يشهد له النبيُّ ﷺ بأنَّه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد له بأنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول فنشهد له بالعموم، نقول: كل مؤمن في الجنة، كل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار أو من أهل الجنة؛ إلا بما شهد له الله ورسوله. * وفي هذه الآية الكريمة: بيان تعظيم الرسول ﷺ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس، وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما نزلت هذه الآية تأدَّب الصحابة رضي الله عنهم بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارَّة، ولا يفهم الرسول ما يقول من إسراره حتى يستثبته مرة أخرى. * وفي هذه الآية: دليل على أن كل من استهان بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام فإن عمله حابط؛ لأن الاستهانة بالرسول عليه الصلاة والسلام ردة، والاستهزاء به ردة، كما قال الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يستهزئون برسول الله ﷺ قال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [التوبة ٦٥] وكانوا يقولون: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء -يعنون الرسول ﷺ وأصحابه- يقولون: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء أرغب بطونًا -يعني: أوسع- ولا أجبن عند اللقاء، ولا أكذب ألسُنًا[[انظر تفسير الطبري (جامع البيان) ط هجر ( ١١ / ٥٤٣).]]. فأنزل الله هذه الآية، ولما سألهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك قالوا: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ -يعني: نتكلم بكلام لا نريده ولكن لنقطع به عنا الطريق- فأنزل الله هذه الآية: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة ٦٥، ٦٦]. ولهذا كان الصحيح: أن من سبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر مرتد، فإن تاب قَبِلْنا توبته لكننا لا نرفع عنه القتل، بل نقتله أخذًا بحق رسول الله ﷺ، وإذا قتلناه بعد توبته النصوح الصادقة صلينا عليه كسائر المسلمين الذين يتوبون من الكفر أو من المعاصي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب