الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ .
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، أنَّهُ «لَمّا قَدِمَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وفْدُ تَمِيمٍ، أشارَ عَلَيْهِ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمُ القَعْقاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرارَةَ بْنِ عَدَسٍ، وأشارَ عَلَيْهِ عُمَرُ أنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمُ الأقْرَعَ بْنَ حابِسِ بْنِ عِقالٍ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: ما أرَدْتَ إلّا خِلافِي، فَقالَ عُمْرُ: ما أرَدْتُ خِلافَكَ، فارْتَفَعَتْ أصْواتُهُما فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾» ذَكَرَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ وغَيْرِهِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ عَلَّمَ اللَّهُ فِيها المُؤْمِنِينَ أنْ يُعَظِّمُوا النَّبِيَّ ﷺ ويَحْتَرِمُوهُ ويُوَقِّرُوهُ، فَنَهاهم عَنْ رَفْعِ أصْواتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ، وعَنْ أنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أيْ يُنادُونَهُ بِاسْمِهِ: يا مُحَمَّدُ، يا أحْمَدُ، كَما يُنادِي بَعْضُهم بَعْضًا.
وَإنَّما أُمِرُوا أنْ يُخاطِبُوهُ خِطابًا يَلِيقُ بِمَقامِهِ لَيْسَ كَخِطابِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَأنْ (p-٤٠٢)يَقُولُوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ أوْ يا رَسُولَ اللَّهِ ونَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ﴾ أيْ لا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لِئَلّا تَحْبَطَ أعْمالُكم، أوْ يَنْهاكم عَنْ ذَلِكَ كَراهَةَ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم، ﴿وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ أيْ: لا تَعْلَمُونَ بِذَلِكَ.
وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن لُزُومِ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ ﷺ وتَعْظِيمِهِ واحْتِرامِهِ جاءَ مُبَيَّنًا في مَواضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: ٩]، عَلى القَوْلِ بِأنَّ الضَّمِيرَ في ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ﴾ لِلنَّبِيِّ - ﷺ .
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣]، كَما تَقَدَّمَ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، وقَوْلُهُ هُنا: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ﴾ أيْ لا تُنادُوهُ بِاسْمِهِ: كَـ: يا مُحَمَّدُ.
وَقَدْ دَلَّتْ آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُخاطِبُهُ في كِتابِهِ بِاسْمِهِ، وإنَّما يُخاطِبُهُ بِما يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ والتَّوْقِيرِ،
• كَقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ﴾ [التوبة: ٧٣]، ﴿ياأيُّها الرَّسُولُ﴾ [المائدة: ٤١]، ﴿ياأيُّها المُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: ١]، ﴿ياأيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١]، مَعَ أنَّهُ يُنادِي غَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ بِأسْمائِهِمْ
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَقُلْنا ياآدَمُ﴾ [البقرة: ٣٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَنادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قالَ يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦]، ﴿قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا﴾ [هود: ٤٨]،
• وقَوْلِهِ: ﴿قالَ يامُوسى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ﴾ [الأعراف: ١٤٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: ٥٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿ياداوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً﴾ [ص: ٢٩] .
أمّا النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ في القُرْآنِ في خِطابٍ، وإنَّما يُذْكَرُ في غَيْرِ ذَلِكَ
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: ١٤٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ﴾ [محمد: ٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى أنَّ تَوْقِيرَهُ واحْتِرامَهُ ﷺ بِغَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى، أيْ أخْلَصَها لَها وأنَّ لَهم بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ المَغْفِرَةَ والأجْرَ العَظِيمَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات: ٣] .
(p-٤٠٣)وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ﴾ أيْ لا تَرْفَعُوا عِنْدَهُ الصَّوْتَ كَرَفْعِ بَعْضِكم صَوْتَهُ عِنْدَ بَعْضٍ.
قالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ما نَصُّهُ: وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهم لَمْ يُنْهُوا عَنِ الجَهْرِ مُطْلَقًا، حَتّى لا يَسُوغَ لَهم إلّا أنْ يُكَلِّمُوهُ بِالهَمْسِ والمُخافَتَةِ، وإنَّما نُهُوا عَنْ جَهْرٍ مَخْصُوصٍ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، أعْنِي الجَهْرَ المَنعُوتَ بِمُماثَلَةِ ما قَدِ اعْتادُوهُ مِنهم فِيما بَيْنَهم، وهو الخُلُوُّ مِن مُراعاةِ أُبَّهَةِ النُّبُوَّةِ، وجَلالَةِ مِقْدارِها وانْحِطاطِ سائِرِ الرُّتَبِ وإنْ جَلَّتْ عَنْ رُتْبَتِها. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ الإنْسانَ قَدْ يُحْبَطُ عَمَلُهُ وهو لا يَشْعُرُ، وقَدْ قالَ القُرْطُبِيُّ: إنَّهُ لا يَحْبَطُ عَمَلَهُ بِغَيْرِ شُعُورِهِ، وظاهِرُ الآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ما نَصُّهُ: وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ أيْ إنَّما نَهَيْناكم عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ خَشْيَةَ أنْ يَغْضَبَ مِن ذَلِكَ فَيَغْضَبَ اللَّهُ تَعالى لِغَضَبِهِ فَيَحْبَطَ عَمَلُ مَن أغْضَبَهُ وهو لا يَدْرِي، كَما جاءَ في الصَّحِيحِ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقِي لَها بالًا يُكْتَبُ لَهُ بِها الجَنَّةُ، وإنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَن سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقِي لَها بالًا يَهْوِي بِها في النّارِ أبْعَدَ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ» انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ وفاتِهِ كَحُرْمَتِهِ في أيّامِ حَياتِهِ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ ما جَرَتْ بِهِ العادَةُ اليَوْمَ مِنِ اجْتِماعِ النّاسِ قُرْبَ قَبْرِهِ ﷺ وهم في صَخَبٍ ولَغَطٍ. وأصْواتُهم مُرْتَفِعَةٌ ارْتِفاعًا مُزْعِجًا كُلُّهُ لا يَجُوزُ، ولا يَلِيقُ، وإقْرارُهم عَلَيْهِ مِنَ المُنْكَرِ.
وَقَدْ شَدَّدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّكِيرَ عَلى رَجُلَيْنِ رَفَعا أصْواتَهُما في مَسْجِدِهِ ﷺ وقالَ: لَوْ كُنْتُما مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَأوْجَعَتْكُما ضَرْبًا.
* * *
* مَسْألَتانِ
الأُولى: اعْلَمْ أنَّ عَدَمَ احْتِرامِ النَّبِيِّ ﷺ المُشْعِرَ بِالغَضِّ مِنهُ، أوْ تَنْقِيصَهُ ﷺ والِاسْتِخْفافَ بِهِ أوِ الِاسْتِهْزاءَ بِهِ - رِدَّةٌ عَنِ الإسْلامِ وكُفْرٌ بِاللَّهِ.
وَقَدْ قالَ تَعالى في الَّذِينَ اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ وسَخِرُوا مِنهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمّا ضَلَّتْ (p-٤٠٤)راحِلَتُهُ: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٥ - ٦٦] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: وهي مِن أهَمِّ المَسائِلِ، اعْلَمْ أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ إنْسانٍ أنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي هي مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ، الَّتِي لا يَجُوزُ صَرْفُها لِغَيْرِهِ، وبَيْنَ حُقُوقِ خَلْقِهِ كَحَقِّ النَّبِيِّ ﷺ لِيَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ في مَوْضِعِهِ، عَلى ضَوْءِ ما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ في هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ والسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
وَإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ مِنَ الحُقُوقِ الخاصَّةِ بِاللَّهِ الَّتِي هي مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - التِجاءَ عَبْدِهِ إلَيْهِ إذا دَهَمَتْهُ الكُرُوبُ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلى كَشْفِها إلّا اللَّهُ.
فالتِجاءُ المُضْطَرِّ الَّذِي أحاطَتْ بِهِ الكُرُوبُ ودَهَمَتْهُ الدَّواهِي لا يَجُوزُ إلّا لِلَّهِ وحْدَهُ، لِأنَّهُ مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَصَرْفُ ذَلِكَ الحَقِّ لِلَّهِ وإخْلاصُهُ لَهُ هو عَيْنُ طاعَةِ اللَّهِ ومَرْضاتِهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ ومَرْضاتِهِ، وهو عَيْنُ التَّوْقِيرِ والتَّعْظِيمِ لِلنَّبِيِّ ﷺ لِأنَّ أعْظَمَ أنْواعِ تَوْقِيرِهِ وتَعْظِيمِهِ هو اتِّباعُهُ والِاقْتِداءُ بِهِ في إخْلاصِ التَّوْحِيدِ والعِبادَةِ لَهُ وحْدَهُ - جَلَّ وعَلا.
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وعَلا - في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِن كِتابِهِ أنَّ التِجاءَ المُضْطَرِّ مِن عِبادِهِ إلَيْهِ وحْدَهُ في أوْقاتِ الشِّدَّةِ والكَرْبِ مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى.
مِن أصْرَحِ ذَلِكَ الآياتُ الَّتِي في سُورَةِ النَّمْلِ، أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [النمل: ٥٩ - ٦٤] .
فَإنَّهُ - جَلَّ وعَلا - قالَ في هَذِهِ الآياتِ الكَرِيماتِ العَظِيماتِ: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩] .
ثُمَّ بَيَّنَ خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ الدّالَّةَ عَلى أنَّهُ المَعْبُودُ وحْدَهُ، فَقالَ: ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: ٦٠] .
فَهَذِهِ المَذْكُوراتُ الَّتِي هي خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ، وإنْزالُ الماءِ مِنَ السَّماءِ وإنْباتُ الحَدائِقِ ذاتِ البَهْجَةِ، الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلى إنْباتِ شَجَرِها إلّا اللَّهُ - مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ؛ (p-٤٠٥)وَلِذا قالَ تَعالى بَعْدَها: ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ يَقْدِرُ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وإنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ وإنْباتِ الحَدائِقِ بِهِ، والجَوابُ لا؛ لِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: ٦١] .
فَهَذِهِ المَذْكُوراتُ أيْضًا، الَّتِي هي جَعْلُ الأرْضِ قَرارًا، وجَعْلُ الأنْهارِ خِلالَها، وجَعْلُ الجِبالِ الرَّواسِي فِيها، وجَعْلُ الحاجِزِ بَيْنَ البَحْرِينِ - مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا - ولِذا قالَ بَعْدَ ذِكْرِها ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ ؟ والجَوابُ: لا.
فالِاعْتِرافُ لِلَّهِ - جَلَّ وعَلا - بِأنَّ خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ وإنْزالَ الماءِ وإنْباتَ النَّباتِ ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا ذَكَرَ في الآياتِ مِن خَصائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا - هو الحَقُّ، وهو مِن طاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومِن تَعْظِيمِ اللَّهِ وتَعْظِيمِ رَسُولِهِ بِالِاقْتِداءِ بِهِ ﷺ في تَعْظِيمِ اللَّهِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى وهو مَحَلُّ الشّاهِدِ: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ ويَجْعَلُكم خُلَفاءَ الأرْضِ أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: ٦٢] .
فَهَذِهِ المَذْكُوراتُ الَّتِي هي إجابَةُ المُضْطَرِّ إذا دَعا، وكَشْفُ السُّوءِ وجَعْلُ النّاسِ خُلَفاءَ في الأرْضِ مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا - ولِذا قالَ بَعْدَها ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾ .
فَتَأمَّلْ قَوْلَهَ تَعالى: ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ﴾ - تَعْلَمْ أنَّ إجابَةَ المُضْطَرِّينَ إذا التَجَئُوا ودَعَوْا وكَشْفَ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِينَ، لا فَرْقَ في كَوْنِهِ مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وإنْزالِ الماءِ وإنْباتِ النَّباتِ، ونَصْبِ الجِبالِ وإجْراءِ الأنْهارِ، لِأنَّهُ - جَلَّ وعَلا - ذَكَرَ الجَمِيعَ بِنَسَقٍ واحِدٍ في سِياقٍ واحِدٍ، وأتْبَعَ جَمِيعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ .
فَمَن صَرَفَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الإنْكارُ السَّماوِيُّ الَّذِي هو في ضِمْنِ قَوْلِهِ: ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ فَلا فَرْقَ البَتَّةَ بَيْنَ تِلْكَ المَذْكُوراتِ في كَوْنِها كُلِّها مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أمَّنْ يَهْدِيكم في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ ومَن يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٦٣] .
(p-٤٠٦)فَهَذِهِ المَذْكُوراتُ الَّتِي هي هَدْيُ النّاسِ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ، وإرْسالُ الرِّياحِ بُشْرًا، أيْ مُبَشِّراتٍ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الَّتِي هي المَطَرُ - مِن خَصائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا.
وَلِذا قالَ تَعالى: ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾، ثُمَّ نَزَّهَ - جَلَّ وعَلا - نَفْسَهُ عَنْ أنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِمّا ذَكَرَ فَقالَ - جَلَّ وعَلا: ﴿تَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ .
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [النمل: ٦٤] .
فَهَذِهِ المَذْكُوراتُ الَّتِي هي بَدْءُ خَلْقِ النّاسِ وإعادَتُهُ يَوْمَ البَعْثِ، ورِزْقُهُ لِلنّاسِ مِنَ السَّماءِ بِإنْزالِ المَطَرِ، ومِنَ الأرْضِ بِإنْباتِ النَّباتِ - مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا - ولِذا قالَ بَعْدَها ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ .
ثُمَّ عَجَّزَ - جَلَّ وعَلا - كُلَّ مَن يَدَّعِي شَيْئًا مِن ذَلِكَ كُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَقالَ آمِرًا نَبِيَّهُ ﷺ بِأنْ يُخاطِبَهم بِصِيغَةِ التَّعْجِيزِ: ﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ .
وَقَدِ اتَّضَحَ مِن هَذِهِ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ أنَّ إجابَةَ المُضْطَرِّينَ الدّاعِينَ، وكَشْفَ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِينَ، مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ كَخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وإنْزالِ الماءِ، وإنْباتِ النَّباتِ، والحَجْزِ بَيْنَ البَحْرِينِ إلى آخِرِ ما ذَكَرَ.
وَكَوْنُ إجابَةِ المُضْطَرِّينَ وكَشْفُ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِينَ مِن خَصائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَما أوْضَحَهُ تَعالى في هَذِهِ الآياتِ مِن سُورَةِ النَّمْلِ - جاءَ مُوَضَّحًا في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى مُخاطِبًا نَبِيَّهُ - ﷺ: ﴿وَإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هو وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [يونس: ١٠٧] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هو وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: ١٧] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ [فاطر: ٢] .
فِعْلَيْنا مَعاشِرَ المُسْلِمِينَ أنْ نَتَأمَّلَ هَذِهِ الآياتِ القُرْآنِيَّةَ ونَعْتَقِدَ ما تَضَمَّنَتْهُ ونَعْمَلَ بِهِ (p-٤٠٧)لِنَكُونَ بِذَلِكَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعالى ولِرَسُولِهِ ﷺ مُعَظِّمِينَ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ؛ لِأنَّ أعْظَمَ أنْواعِ تَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هو اتِّباعُهُ والِاقْتِداءُ بِهِ في إخْلاصِ العِبادَةِ لِلَّهِ - جَلَّ وعَلا - وحْدَهُ.
فَإخْلاصُ العِبادَةِ لَهُ - جَلَّ وعَلا - وحْدَهُ هو الَّذِي كانَ يَفْعَلُهُ ﷺ ويَأْمُرُ بِهِ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥]، وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ [الزمر: ١١ - ١٥] .
واعْلَمْ أنَّ الكُفّارَ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا أنَّ ما ذُكِرَ مِن إجابَةِ المُضْطَرِّ وكَشْفَ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِ، مِن خَصائِصَ الرُّبُوبِيَّةِ وكانُوا إذا دَهَمَتْهُمُ الكُرُوبُ، كَإحاطَةِ الأمْواجِ بِهِمْ في البَحْرِ في وقْتِ العَواصِفِ يُخْلِصُونَ الدُّعاءَ لِلَّهِ وحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ كَشْفَ ذَلِكَ مِن خَصائِصِهِ، فَإذا أنْجاهم مِنَ الكَرْبِ رَجَعُوا إلى الإشْراكِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - هَذا في آياتٍ مِن كِتابِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أنْجاهم إذا هم يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [يونس: ٢٢ - ٢٣] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً لَئِنْ أنْجانا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكم مِنها ومِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكُمْ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٦٣ - ٦٥] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتَكم إنْ أتاكم عَذابُ اللَّهِ أوْ أتَتْكُمُ السّاعَةُ أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٤٠] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ وكانَ الإنْسانُ كَفُورًا أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم وكِيلًا﴾ ﴿أمْ أمِنتُمْ أنْ يُعِيدَكم فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكم قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكم بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: ٦٧ - ٦٩] .
(p-٤٠٨)وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] .
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ فَمِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ [لقمان: ٣٢] .
وَقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، أنَّ سَبَبَ إسْلامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ لَمّا فَتَحَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ ذَهَبَ فارًّا مِنهُ إلى بِلادِ الحَبَشَةِ فَرَكِبَ في البَحْرِ مُتَوَجِّهًا إلى الحَبَشَةِ فَجاءَتْهم رِيحٌ عاصِفٌ، فَقالَ القَوْمُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: إنَّهُ لا يُغْنِي عَنْكم إلّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ وحْدَهُ. فَقالَ عِكْرِمَةُ في نَفْسِهِ: واللَّهِ إنْ كانَ لا يَنْفَعُ في البَحْرِ غَيْرُهُ، فَإنَّهُ لا يَنْفَعُ في البَرِّ غَيْرُهُ. اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ لَئِنْ أخْرَجْتَنِي مِنهُ لَأذْهَبَنَّ فَلَأضَعَنَّ يَدِي في يَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَأجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ البَحْرِ فَخَرَجَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْتَهى.
وَقَدْ قَدَّمْنا هُناكَ أنَّ بَعْضَ المُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الإسْلامِ أسْوَأُ حالًا مِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ المَذْكُورِينَ؛ لِأنَّهم في وقْتِ الشَّدائِدِ يَلْجَئُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ طالِبِينَ مِنهُ ما يَطْلُبُ المُؤْمِنُونَ مِنَ اللَّهِ، وبِما ذُكِرَ تَعْلَمُ أنَّ ما انْتَشَرَ في أقْطارِ الدُّنْيا مِنَ الِالتِجاءِ في أوْقاتِ الكُرُوبِ والشَّدائِدِ إلى غَيْرِ اللَّهِ - جَلَّ وعَلا - كَما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قُرْبَ قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ وعِنْدَ قُبُورِ مَن يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الصَّلاحَ زاعِمِينَ أنَّ ذَلِكَ مِن دِينِ اللَّهِ ومَحَبَّةِ الرَّسُولِ ﷺ وتَعْظِيمِهِ ومَحَبَّةِ الصّالِحِينَ، كُلُّهُ مِن أعْظَمِ الباطِلِ، وهو انْتِهاكٌ لِحُرُماتِ اللَّهِ وحُرُماتِ رَسُولِهِ.
لِأنَّ صَرْفَ الحُقُوقِ الخاصَّةِ بِالخالِقِ الَّتِي هي مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ إلى النَّبِيِّ ﷺ أوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِمُ الصَّلاحُ - مُسْتَوْجِبٌ سَخَطَ اللَّهِ وسَخَطَ النَّبِيِّ ﷺ وسَخَطَ كُلِّ مُتَّبِعٍ لَهُ بِالحَقِّ.
وَمَعْلُومٌ أنَّهُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ هو ولا أحَدٌ مِن أصْحابِهِ، وهو مَمْنُوعٌ في شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ، واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - يَقُولُ: ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ ﴿وَلا يَأْمُرَكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكم بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٩ - ٨٠] .
(p-٤٠٩)بَلِ الَّذِي كانَ يَأْمُرُ بِهِ ﷺ هو ما يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِالأمْرِ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤] .
واعْلَمْ أنَّ كُلَّ عاقِلٍ إذا رَأى رَجُلًا مُتَدَيِّنًا في زَعْمِهِ مُدَّعِيًا حُبَّ النَّبِيِّ ﷺ وتَعْظِيمَهُ وهو يُعَظِّمُ النَّبِيَّ ﷺ ويَمْدَحُهُ بِأنَّهُ هو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ الماءَ مِنَ السَّماءِ وأنْبَتَ بِهِ الحَدائِقَ ذاتَ البَهْجَةِ، وأنَّهُ ﷺ هو الَّذِي جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا إلى آخِرِ ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ، فَإنَّ ذَلِكَ العاقِلَ لا يَشُكُّ في أنَّ ذَلِكَ المادِحَ المُعَظِّمَ في زَعْمِهِ مِن أعْداءِ اللَّهِ ورَسُولِهِ المُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الآياتِ المُحْكَماتِ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ إجابَةِ المُضْطَرِّينَ وكَشْفِ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِينَ.
فِعْلَيْنا مَعاشِرَ المُسْلِمِينَ أنْ نَنْتَبِهَ مِن نَوْمَةِ الجَهْلِ وأنْ نُعَظِّمَ رَبَّنا بِامْتِثالِ أمْرِهِ واجْتِنابِ نَهْيِهِ، وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، وتَعْظِيمِ نَبِيِّنا ﷺ بِاتِّباعِهِ والِاقْتِداءِ بِهِ في تَعْظِيمِ اللَّهِ والإخْلاصِ لَهُ والِاقْتِداءِ بِهِ في كُلِّ ما جاءَ بِهِ.
وَألّا نُخالِفَهُ ﷺ ولا نَعْصِيَهُ، وألّا نَفْعَلَ شَيْئًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ التَّعْظِيمِ والِاحْتِرامِ، كَرَفْعِ الأصْواتِ قُرْبَ قَبْرِهِ ﷺ وقَصْدُنا النَّصِيحَةُ والشَّفَقَةُ لِإخْوانِنا المُسْلِمِينَ لِيَعْمَلُوا بِكِتابِ اللَّهِ، ويُعَظِّمُوا نَبِيَّهُ ﷺ تَعْظِيمَ المُوافِقِ لِما جاءَ بِهِ ﷺ ويَتْرُكُوا ما يُسَمِّيهِ الجَهَلَةُ مَحَبَّةً وتَعْظِيمًا وهو في الحَقِيقَةِ احْتِقارٌ وازْدِراءٌ وانْتِهاكٌ لِحُرُماتِ اللَّهِ، ورَسُولِهِ - ﷺ: لَيْسَ ﴿بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ١٢٣ - ١٢٤] .
واعْلَمْ أيْضًا رَحِمَكَ اللَّهُ: أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ ما ذَكَرْنا مِن إجابَةِ المُضْطَرِّ وكَشْفِ السُّوءِ عَنِ المَكْرُوبِ، وبَيْنَ تَحْصِيلِ المَطالِبِ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا اللَّهُ، كالحُصُولِ عَلى الأوْلادِ والأمْوالِ وسائِرِ أنْواعِ الخَيْرِ.
(p-٤١٠)فَإنَّ التِجاءَ العَبْدِ إلى رَبِّهِ في ذَلِكَ أيْضًا مِن خَصائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وعَلا - كَما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [يونس: ٣١] وقالَ تَعالى: ﴿فابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ﴾ [العنكبوت: ١٧] وقالَ تَعالى: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: ٤٩] وقالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [النحل: ٧٢] وقالَ تَعالى: ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٢] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَفِي الحَدِيثِ: «إذا سَألْتَ فاسْألِ اللَّهَ» .
وَقَدْ أثْنى اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - عَلى نَبِيِّهِ ﷺ وأصْحابِهِ بِالتِجائِهِمْ إلَيْهِ وقْتَ الكَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكم فاسْتَجابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٩]، فَنَبِيُّنا ﷺ كانَ هو وأصْحابُهُ إذا أصابَهم أمْرٌ أوْ كَرْبٌ التَجَئُوا إلى اللَّهِ وأخْلَصُوا لَهُ الدُّعاءَ، فَعَلَيْنا أنْ نَتَّبِعَ ولا نَبْتَدِعَ.
* تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَتَأمَّلَ في مَعْنى العِبادَةِ، وهي تَشْمَلُ جَمِيعَ ما أمَرَ اللَّهُ أنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِهِ مِن جَمِيعِ القُرُباتِ فَيُخْلِصَ تَقَرُّبَهُ بِذَلِكَ إلى اللَّهِ ولا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنهُ لِغَيْرِ اللَّهِ كائِنًا ما كانَ.
والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ هَيْئاتِ العِبادَةِ فَلا يَنْبَغِي لِلْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ ﷺ أنْ يَضَعَ يَدَهُ اليُمْنى عَلى اليُسْرى كَهَيْئَةِ المُصَلِّي، لِأنَّ هَيْئَةَ الصَّلاةِ داخِلَةٌ في جُمْلَتِها فَيَنْبَغِي أنْ تَكُونَ خالِصَةً لِلَّهِ، كَما كانَ ﷺ هو وأصْحابُهُ يُخْلِصُونَ العِباداتِ وهَيْئاتِها لِلَّهِ وحْدَهُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَرۡفَعُوۤا۟ أَصۡوَ ٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِیِّ وَلَا تَجۡهَرُوا۟ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق