الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ . ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ أيْ: إذا نَطَقَ ونَطَقْتُمْ، فَلْتَكُنْ أصْواتُكم قاصِرَةً عَنِ الحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ، لِيَكُونَ عالِيًا لِكَلامِكُمْ، لا أنْ تَغْمُرُوا صَوْتَهُ بِلَغَطِكُمْ، وتُبَلِّغُوا أصْواتَكم إلى أسْماعِ الحاضِرِينَ قَبْلَ صَوْتِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ مِن سُوءِ الأدَبِ بِمَكانٍ كَبِيرٍ: ﴿ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ﴾ أيْ: بَلْ تَعَمَّدُوا في مُخاطَبَتِهِ القَوْلَ اللَّيِّنَ، القَرِيبَ مِنَ الهَمْسِ، الَّذِي يُضادُّ الجَهْرَ، كَما تَكُونُ مُخاطَبَةُ المَهِيبِ المُعَظَّمِ. ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ تَفْسِيرُهُ بِنِدائِهِ بِاسْمِهِ، أيْ: لا تُنادُوهُ كَما يُنادِي بَعْضُكم بَعْضًا: يا مُحَمَّدُ! يا مُحَمَّدُ! بَلْ يا نَبِيَّ اللَّهِ! يا رَسُولَ اللَّهِ! ونَظَرَ فِيهِ شُرّاحُ (الكَشّافِ) بِأنْ ذَكَرَ الجَهْرَ حِينَئِذٍ (p-٥٤٤١)لا يَظْهَرُ لَهُ وجْهٌ، إذِ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ: لا تَجْعَلُوا خِطابَهُ كَخِطابِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ، كَما مَرَّ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] انْتَهى. ولَكَ أنْ تَقُولَ: إنَّما أفْرَغَ هَذا المَعْنى المَرْوِيَّ عَنْ مُجاهِدٍ في قالَبِ ذاكَ اللَّفْظِ الكَرِيمِ جَرْيًا عَلى سُنَّةِ التَّنْزِيلِ في إيثارِ أرَقِّ الألْفاظِ والجُمَلِ، وألْطَفِها في ذَلِكَ، فَإنَّ أُسْلُوبَهُ فَوْقَ كُلِّ أُسْلُوبٍ، وقَدْ قالَ: إذا جاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْمُجاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ﴾ أيْ: مَخافَةَ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ، بِرَفْعِ صَوْتِكم فَوْقَ صَوْتِهِ، وجَهْرِكم لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِكم لِبَعْضِكُمْ: ﴿وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ أيْ: لا تَعْلَمُونَ، ولا تَدْرُونَ بِحُبُوطِها. تَنْبِيهٌ: اسْتَدَلَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الكَبائِرَ مُحْبِطَةٌ الأعْمالَ، لِأنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ ولا فَرْقَ بَيْنَها وبَيْنَ غَيْرِها. ولَمّا كانَ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، المُحْبِطُ لِلْأعْمالِ هو الكُفْرُ خاصَّةً، تَأوَّلُوا الآيَةَ بِأنَّها لِلتَّغْلِيظِ والتَّخْوِيفِ، إذْ جُعِلَتْ بِمَنزِلَةِ الكُفْرِ المُحْبِطِ، أوْ هي لِلتَّعْرِيضِ بِالمُنافِقِينَ المُقاصِدِينَ بِالجَهْرِ والرَّفْعُ الِاسْتِهانَةُ، فَإنَّ فِعْلَهم مُحْبَطٌ قَطْعًا. وقالَ النّاصِرُ: المُرادُ في الآيَةِ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلى الإطْلاقِ. ومَعْلُومٌ أنَّ حُكْمَ النَّهْيِ الحَذَرُ مِمّا يُتَوَقَّعُ في ذَلِكَ مِن إيذاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والقاعِدَةُ المُخْتارَةُ أنَّ إيذاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَبْلُغُ مَبْلَغَ الكُفْرِ المُحْبِطِ لِلْعَمَلِ بِاتِّفاقٍ. فَوَرَدَ النَّهْيُ عَمّا هو مَظِنَّةٌ لِأذى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، سَواءٌ وُجِدَ هَذا المَعْنى أوْ لا، حِمايَةً لِلذَّرِيعَةِ، وحَسْمًا لِلْمادَّةِ. ثُمَّ لَمّا كانَ هَذا المَنهِيُّ عَنْهُ -وهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ- مُنْقَسِمًا إلى ما يَبْلُغُ ذَلِكَ المَبْلَغَ أوَّلًا، ولا دَلِيلَ يُمَيِّزُ أحَدَ القِسْمَيْنِ عَنِ الآخَرِ، لَزِمَ المُكَلَّفُ أنْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وخَوَّفَ أنْ يَقَعَ فِيما هو مُحْبِطٌ لِلْعَمَلِ، وهو البالِغُ حَدَّ الإيذاءِ، إذْ لا دَلِيلَ ظاهِرٌ يُمَيِّزُهُ. وإنْ كانَ، فَلا يَتَّفِقُ تَمْيِيزُهُ في كَثِيرٍ مِنَ الأحْيانِ، وإلى التِباسِ أحَدِ القِسْمَيْنِ بِالآخَرِ وقَعَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ وإلّا فَلَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما تَعْتَقِدُهُ المُعْتَزِلَةُ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمْ (p-٥٤٤٢)لا تَشْعُرُونَ﴾ مَوْقِعٌ؛ إذِ الأمْرُ بَيْنَ أنْ يَكُونَ رَفْعُ الصَّوْتِ مُؤْذِيًا، فَيَكُونُ كُفْرًا مُحْبِطًا قَطْعًا، وبَيْنَ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُؤْذٍ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً مُحْبَطَةً عَلى رَأْيِهِمْ قَطْعًا. فَعَلى كِلا حالَيْهِ، الإحْباطُ بِهِ مُحَقَّقٌ، إذَنْ فَلا مَوْقِعَ لِإدْغامِ الكَلامِ بِعَدَمِ الشُّعُورِ، مَعَ أنَّ الشُّعُورَ ثابِتٌ مُطْلَقًا -واللَّهُ أعْلَمُ-. ثُمَّ قالَ: وهَذا التَّقْرِيرُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَدُورُ عَلى مُقَدِّمَتَيْنِ، كِلْتاهُما صَحِيحَةٌ: إحْداهُما- أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مِن جِنْسِ ما يَحْصُلُ بِهِ الإيذاءُ، وهَذا أمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ النَّقْلُ والمُشاهَدَةُ الآنَ، حَتّى إنَّ الشَّيْخَ لَيَتَأذّى بِرَفْعِ التِّلْمِيذِ صَوْتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَكَيْفَ بِرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ، وما تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الإجْلالِ والإعْظامِ. المُقَدِّمَةُ الأُخْرى -أنَّ إيذاءَ النَّبِيِّ ﷺ كُفْرٌ. وهَذا أمْرٌ ثابِتٌ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أئِمَّتُنا -يَعْنِي المالِكِيَّةَ- وأفْتَوْا بِقَتْلِ مَن تَعَرَّضَ لِذَلِكَ كُفْرًا، ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَما أتاهُ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وأكْبَرُ، واللَّهُ المُوَفِّقُ. انْتَهى. ولا يَخْفى أنَّ الإنْصافَ هو الوُقُوفُ مَعَ ما أوْضَحَهُ النَّصُّ وأبانَهُ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ نُصَّ فِيهِ عَلى الإحْباطِ وجَبَ قَبُولُهُ بِدُونِ تَأْوِيلٍ، وامْتَنَعَ القِياسُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ مَقامُ تَوَعُّدٍ وخُسْرانٍ، ولا مَجالَ لِلرَّأْيِ في مِثْلِ ذَلِكَ. هَذا ما أعْتَقِدُهُ وأراهُ. واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب