الباحث القرآني

(p-٤٥١)سُورَةُ الحُجُراتِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ رَوى ثَوْبانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ اللَّهَ أعْطانِي السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكانَ التَّوْراةِ، وأعْطانِي المِئِينَ مَكانَ الإنْجِيلِ، وأعْطانِي مَكانَ الزَّبُورِ المَثانِيَ، وفَضَّلَنِي رَبِّي بِالمُفَصَّلِ.» أمّا السَّبْعُ الطُّوَلُ فَقَدْ ذَكَرْناها ["عِنْدَ قَوْلِهِ"]: (p-٤٥٢)﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ [الحِجْرِ: ٨٧] . وأمّا المُئُونَ، فَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هي ما ولِيَ الطُّوَلَ، وإنَّما سُمِّيَتْ بِالمِئِينَ؛ لِأنَّ كُلَّ سُورَةٍ تَزِيدُ عَلى مِائَةِ آيَةٍ أوْ تُقارِبُها، والمَثانِي: ما ولِيَ المِئِينَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي دُونَ المِائَةِ، كَأنَّ المِئِينَ مَبادٍ، وهَذِهِ مَثانٍ، وأمّا المُفَصَّلُ: فَهو ما يَلِي المَثانِيَ مِن قِصارِ السُّوَرِ، وإنَّما سَمِّيَتْ مُفَصَّلًا لِقِصَرِها وكَثْرَةِ الفُصُولِ فِيها بِسَطْرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَدْ ذَكَرَ الماوَرْدِيُّ في أوَّلِ تَفْسِيرِهِ في المُفَصَّلِ ثَلاثَةَ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ مِن أوَّلِ سُورَةٍ " مُحَمَّد " إلى آخِرِ القُرْآنِ. قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: مِن سُورَةِ [قافْ] إلى آخِرِهِ، حَكاهُ عِيسى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحابَةِ. والثّالِثُ: مِنَ [الضُّحى] إلى آخِرِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. (p-٤٥٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ في سَبَبِ نُزُولِها أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: «أنْ رَكْبًا مِن بَنِي تَمِيمٍ قَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: أمِّرِ القَعْقاعَ بْنَ مَعْبِدٍ، وقالَ عُمَرُ: أمِّرِ الأقْرَعَ بْنَ حابِسٍ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: ما أرَدْتَ إلّا خِلافِي، وقالَ عُمَرُ: ما أرَدْتُ خِلافَكَ، فَتَمارَيا حَتّى ارْتَفَعَتْ أصْواتُهُما، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أنَّهم صَبَرُوا﴾، فَما كانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ [بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ] حَتّى يَسْتَفْهِمَهُ،» رَواهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. والثّانِي: «أنَّ قَوْمًا ذَبَحُوا قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ،» قالَهُ الحَسَنُ. (p-٤٥٥)والثّالِثُ: أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ كانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أنْزَلَ اللَّهُ في كَذا وكَذا! فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ، وقَدَّمَ فِيهِ، قالَهُ قَتادَةُ. والرّابِعُ: [أنَّها] نَزَلَتْ في عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضُّمْرِيِّ، وكانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِن بَنِي سَلِيمٍ قَبْلَ أنْ يَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. ورَوى ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لا تَقُولُوا خِلافَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. ورَوى العَوْفِيُّ عَنْهُ قالَ: نُهُوا أنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلامِهِ. ورُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في هَذِهِ الآيَةِ قالَتْ: لا تَصُومُوا قَبْلَ أنْ يَصُومَ نَبِيُّكم. ومَعْنى الآيَةِ عَلى جَمِيعِ الأقْوالِ. لا تَعْجَلُوا بِقَوْلٍ أوْ فِعْلٍ قَبْلَ أنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوْ يَفْعَلَ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ فُلانٌ يُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ الإمامِ وبَيْنَ يَدَيْ أبِيهِ، أيْ: يَعْجَلُ بِالأمْرِ والنَّهْيِ دُونَهُ. فَأمّا "تُقَدِّمُوا" فَقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وأبُو رَزِينٍ، وعائِشَةُ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، وابْنُ سِيرِينَ، وقَتادَةُ، وابْنُ يَعْمَرَ، ويَعْقُوبُ: بِفَتْحِ التّاءِ والدّالِ. وقَرَأ الباقُونَ: بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الدّالِ. قالَ الفَرّاءُ: (p-٤٥٦)كِلاهُما صَوابٌ، يُقالُ: قَدَّمْتُ، وتَقَدَّمْتُ؛ وقالَ الزَّجّاجُ: كِلاهُما واحِدٌ؛ فَأمّا "بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ" فَهو عِبارَةٌ عَنِ الأمامِ، لِأنَّ ما بَيْنَ يَدَيِ الإنْسانِ أمامَهُ؛ فالمَعْنى: لا تَقَدَّمُوا قُدّامَ الأمِيرِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ﴾ في سَبَبِ نُزُولِها قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ رَفَعا أصْواتَهُما فِيما ذَكَرْناهُ آنِفًا في حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ. والثّانِي: [أنَّها] نَزَلَتْ في ثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وكانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، فَرُبَّما كانَ إذا تَكَلَّمَ تَأذّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصَوْتِهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. (p-٤٥٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ الجَهْرُ بِالصَّوْتِ في المُخاطَبَةِ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: لا تَدْعُوهُ بِاسْمِهِ: يا مُحَمَّدُ، كَما يَدْعُو بَعْضُكم بَعْضًا، ولَكِنْ قُولُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ويا نَبِيَّ اللَّهِ، وهو مَعْنى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكِ، ومُقاتِلٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تَحْبَطَ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِئَلّا تَحْبَطَ. وقالَ الأخْفَشُ: مَخافَةَ أنْ تَحْبَطَ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: وقَدْ قِيلَ مَعْنى الإحْباطِ هاهُنا: نَقْصُ المَنزِلَةِ، لا إسْقاطُ العَمَلِ مَن أصْلِهِ كَما يَسْقُطُ بِالكُفْرِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ﴾ تَأْلّى أبُو بَكْرٍ أنْ لا يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلّا كَأخِي السِّرارِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ في أبِي بَكْرٍ: "إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ"، والغَضُّ: النَّقْصُ كَما بَيَّنّا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا﴾ [النُّورِ: ٣٠] . (p-٤٥٨)﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أخْلَصَها ﴿لِلتَّقْوى﴾ مِنَ المَعْصِيَةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: اخْتَبَرَ قُلُوبَهم فَوَجَدَهم مُخْلِصِينَ، كَما تَقُولُ: قَدِ امْتَحَنْتُ هَذا الذَّهَبَ والفِضَّةَ، أيِ: اخْتَبَرَتَهُما بِأنْ أذَبْتَهُما حَتّى خَلَصا، فَعَلِمْتَ حَقِيقَةَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَبَرَها بِامْتِحانِهِ إيّاها، فاصْطَفاها وأخْلَصَها لِلتَّقْوى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب