الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ بسط بمعنى وسع، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة ٢٤٥]، وقال عز وجل: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الشورى ١٢]؛ أي: يضيق، فالبسط بمعنى التوسيع؛ يعني لو وسَّع الله الرزق للعباد لبغوا في الأرض. وقوله: ﴿لِعِبَادِهِ﴾ قال المفسِّر: (جميعهم) يعني لو كان كل الناس أغنياء بسط لهم في الرزق لبغوا في الأرض، قال: (﴿لَبَغَوْا﴾ جميعهم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: طغوا فيها) وتجاوزوا حدودهم؛ وذلك لأن الجميع كانوا في رفاهية وفي رزق واسع، ولا رادع ولا اعتبار ولا اتعاظ، وأيضًا لو بسط الله الرزق لجميع العباد لفسدت الدنيا؛ لأنه لولا هذا التفاضل بين العباد في الرزق ما خدم أحد أحدًا ولا استقامت الأحوال، لو كان الناس كلهم على حد واحد في الغنى وطلبت من شخص أن يعمل لك فإنه لن يستجيب. لماذا؟ لاستغنائه بما عنده، لكن الله تبارك وتعالى فضل بعض الناس على بعض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا. هذا ما ذهب إليه المؤلف، ولكن قد يقال: إن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾ شامل للجميع أو للأفراد، فإن الإنسان إذا بسط الله له الرزق بغى واستغنى، ولذلك تجدون أكثر من يكذب الأنبياء هم الملأ الأغنياء الكبراء، وأما الفقراء الضعفاء فالغالب هم الذين يتبعون الأنبياء، فيكون المراد بقوله: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾ المراد الجنس؛ يعني لواحد من عباده لبغى في الأرض. ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ قال: (﴿يُنَزِّلُ﴾ بالتخفيف وضده) ما ضده؟ التشديد، يعني ﴿يُنَزِّلُ﴾ و﴿﴿يُنْزِلُ﴾ ﴾؛ ﴿يُنَزِّلُ﴾ مِن: نَزَّلَ، و﴿﴿يُنْزِلُ﴾ ﴾ مِن: أَنْزَلَ. وقوله: (بالتخفيف وضده) اصطلاح المؤلف رحمه الله أنه إذا أتى بمثل هذا التعبير فالقراءتان سبعيتان، وكذلك إذا قال: (وفي قراءة) فالقراءتان سبعيتان، أما إذا قال: (وقُرِئَ) فالقراءة شاذة؛ لأنه أتى بها بصيغة التمريض، انتبهوا للاصطلاح، هذا التعبير الذي معنا (بالتخفيف وضده) على حدٍّ سواء؛ يعني ساوى بين القراءتين، وعلى هذا فهما سبعيتان. قال: (من الأرزاق) بيانٌ للمُنزَّل، فالمُضمر إذن من الأرزاق، ويدل على أن المُضمر من الأرزاق قوله: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ﴾، ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ﴾؛ أي: بتقديرٍ مكتوبٍ في الأزلِ لا يتغيَّر ولا يتبدَّل. (﴿مَا يَشَاءُ﴾ فيبسطها لبعض عباده دون بعض، وينشأ عن البسطِ البغيُ، ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ). قوله: ﴿بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ هذه المشيئة -كما سبق- مقرونة بالحكمة، فمن اقتضت حكمة الله أن يغنيه أغناه، ومن اقتضت حكمة الله أن يفقره أفقره، وفي الحديث القدسي: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْغِنَى، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْفَقْرُ»[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٢٣١) من حديث أنس بن مالك.]]، فالله تبارك وتعالى حكيم، وكم من إنسان رجع إلى الله تعالى بسبب المصائب من فقر أو موت قريب أو صديق، أو ما أشبه ذلك ﴿مَا يَشَاءُ﴾. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فيبسطها لبعض عباده دون بعض، وينشأ عن البسط) يعني: توزيع الرزق (البغيُ)، هذا كالتعليل لكون الجواب ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا﴾ بأنه ينشأ عن البسط البغيُ والطغيان والاستكبار عن العبادة والتكذيب بالحق. ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ الجملة استئنافية تُبَيِّن أن بسطه الرزق وعدمه ناشئ عن علم وخبرة، والخبرة أخص من العلم؛ لأنها العلم ببواطن الأمور. ولكن نقول: إن العلم ببواطن الأمور يدل بالالتزام على العلم بظواهر الأمور من باب أولى. ﴿بَصِيرٌ﴾ مأخوذة من الإبصار بالعين، ومن البصيرة وهي العلم، فيكون (بصير) لها معنيان: الأول من الإبصار وهو الرؤية بالعين، والثاني من البصيرة وهي العلم، ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ وهذا يعني أنه يُضَيِّق على من شاء ويوسِّع على من شاء. * من فوائد الآية الكريمة: أن بسط الرزق وتضييقه من عند الله وحده؛ لقوله: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾. فإن قال قائل: أَلَا يَرِدُ على هذا أننا نرى الرجل يعمل ويكدح ويتجر فيزيد ماله؟ قلنا: لا يَرِدُ؛ لأن أصل عمله من عند الله عز وجل، هو الذي أوقع في قلبه النية وأقدره على العمل، فهو من فضل الله عز وجل، هذا وجه. وجه آخر أننا نجد بعض الناس يكدح ويعمل ويتعب ولكن لا يُوَفَّق، كلما ضرب وجهًا ازداد خُسرانًا، وحينئذٍ ينتفي هذا الإيراد من أصله. الإيراد؟ يرد علينا أن الإنسان قد يتَّجر ويعمل ويكسب فيكون انبساط الرزق من عمله، فكيف تقولون: إن بسط الرزق من الله عز وجل، هذا الإيراد، ما الجواب؟ * طالب: نقول: إن التقدير هو من فضل الله عز وجل على العبد. * الشيخ: يعني كون الله تبارك وتعالى أوقع في قلبه العزيمة على هذا ويسَّر له هذا الاتجار هو من الله عز وجل، لو شاء الله لم يجعل في قلبه العزيمة، ولو شاء الله لأعجزه عن العمل. هذا وجه. وجه آخر؟ * طالب: الوجه الآخر أننا نرى في الواقع من يكدح ويكسب ومن يكدح ولا يكسب. * الشيخ: نعم، أننا نرى في الواقع من يبذل الجهد والطاقة في التجارة والأخذ والإعطاء، ومع ذلك لا يزداد إلا خسرانًا. إذن فالبسط كله من الله عز وجل، لا من أصله ولا مما يتفرع عنه. * من فوائد الآية الكريمة: الحذر من الترف وسعة الرزق، وجه ذلك أن الله تعالى أخبر بأن بسط الرزق سبب للبغي، وهذا كقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق ٦، ٧]، وأخبر النبي ﷺ «أن أخوف ما يخاف علينا ما يُفْتَحُ علينا من زهرة الدنيا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٦٥)، ومسلم (١٠٥٢ / ١٢٢) من حديث أبي سعيد الخدري.]]، فليحذر الإنسان ما يبسط له من الرزق؛ فلعل شقاءه يكون بسببه، نسأل الله السلامة والعافية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حكمة الله تبارك وتعالى فيما ينزل من الرزق؛ لقوله: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾. * ومن فوائدها: إثبات المشيئة لله تبارك وتعالى حتى فيما يحصل للعبد. * ومن فوائدها: الإشارة إلى أن توسيع الرزق لشخص وتضييقه لآخر مبني على خبرة وعلمٍ؛ لقوله: ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب