الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهو الوَلِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فِيهِما مِن دابَّةٍ وهو عَلى جَمْعِهِمْ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ في الآيَةِ الأُولى: إنَّهُ يُجِيبُ دُعاءَ المُؤْمِنِينَ ورَدَ عَلَيْهِ سُؤالٌ، وهو أنَّ المُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ في شِدَّةٍ وبَلِيَّةٍ وفَقْرٍ ثُمَّ يَدْعُو فَلا يُشاهِدُ أثَرَ الإجابَةِ، فَكَيْفَ الحالُ فِيهِ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ؟ فَأجابَ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ أيْ: ولَأقْدَمُوا عَلى المَعاصِي، ولَمّا كانَ ذَلِكَ مَحْذُورًا وجَبَ أنْ لا يُعْطِيَهم ما طَلَبُوهُ، قالَ الجُبّائِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُجْبِرَةِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ حاصِلَ الكَلامِ أنَّهُ تَعالى ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ والبَغْيُ في الأرْضِ غَيْرُ مُرادٍ، فَإرادَةُ بَسْطِ الرِّزْقِ غَيْرُ حاصِلَةٍ، فَهَذا الكَلامُ إنَّما يَتِمُّ إذا قُلْنا إنَّهُ تَعالى يُرِيدُ البَغْيَ في الأرْضِ، وذَلِكَ يُوجِبُ فَسادَ قَوْلِ المُجْبِرَةِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما لَمْ يُرِدْ بَسْطَ الرِّزْقِ لِأنَّهُ يُفْضِي إلى المَفْسَدَةِ، فَلَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا يُرِيدُ ما يُفْضِي إلى المَفْسَدَةِ فَبِأنْ لا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْمَفْسَدَةِ كانَ أوْلى، أجابَ أصْحابُنا بِأنَّ المَيْلَ الشَّدِيدَ إلى البَغْيِ والقَسْوَةِ والقَهْرِ صِفَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، فَلا بُدَّ لَها مِن فاعِلٍ، وفاعِلُ هَذِهِ الأحْوالِ إمّا العَبْدُ أوِ اللَّهُ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَفْعَلُ هَذِهِ الأشْياءَ لَوْ مالَ طَبْعُهُ إلَيْها، فَيَعُودُ السُّؤالُ في أنَّهُ مَنِ المُحْدِثِ لِذَلِكَ المِيلِ الثّانِي ؟ ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وأيْضًا فالمَيْلُ الشَّدِيدُ إلى الظُّلْمِ والقَسْوَةِ عُيُوبٌ ونُقْصاناتٌ، والعاقِلُ لا يَرْضى بِتَحْصِيلِ مُوجِباتِ النُّقْصانِ لِنَفْسِهِ، ولَمّا بَطَلَ هَذا ثَبَتَ أنَّ مُحْدِثَ هَذا المَيْلِ والرَّغْبَةِ هو اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ أوْرَدَ الجُبّائِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ عَلى نَفْسِهِ سُؤالًا، قالَ: فَإنْ قِيلَ ألَيْسَ قَدْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِبَعْضِ عِبادِهِ مَعَ أنَّهُ بَغى ؟ وأجابَ عَنْهُ بِأنَّ الَّذِي عِنْدَهُ الرِّزْقُ وبَغى كانَ المَعْلُومُ مِن حالِهِ أنَّهُ يَبْغِي عَلى كُلِّ حالٍ، سَواءٌ أُعْطِي ذَلِكَ الرِّزْقَ أوْ لَمْ يُعْطَ، وأقُولُ: هَذا الجَوابُ فاسِدٌ، ويَدُلْ عَلَيْهِ القُرْآنُ (p-١٤٧)والعَقْلُ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العَلَقِ: ٦، ٧] حَكَمَ مُطْلَقًا بِأنَّ حُصُولَ الغِنى سَبَبٌ لِحُصُولِ الطُّغْيانِ. وأمّا العَقْلُ فَهو أنَّ النَّفْسَ إذا كانَتْ مائِلَةً إلى الشَّرِّ لَكِنَّها كانَتْ فاقِدَةً لِلْآلاتِ والأدَواتِ كانَ الشَّرُّ أقَلَّ، وإذا كانَتْ واجِدَةً لَها كانَ الشَّرُّ أكْثَرَ، فَثَبَتَ أنَّ وِجْدانَ المالِ يُوجِبُ الطُّغْيانَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في بَيانِ الوَجْهِ الَّذِي لِأجْلِهِ كانَ التَّوَسُّعُ مُوجِبًا لِلطُّغْيانِ، ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ سَوّى في الرِّزْقِ بَيْنَ الكُلِّ لامْتَنَعَ كَوْنُ البَعْضِ خادِمًا لِلْبَعْضِ، ولَوْ صارَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَخَرِبَ العالَمُ وتَعَطَّلَتِ المَصالِحُ. الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالعَرَبِ، فَإنَّهُ كُلَّما اتَّسَعَ رِزْقُهم ووَجَدُوا مِنَ المَطَرِ ما يَرْوِيهِمْ ومِنَ الكَلَأِ والعُشْبِ ما يُشْبِعُهم أقْدَمُوا عَلى النَّهْبِ والغارَةِ. الثّالِثُ: أنَّ الإنْسانَ مُتَكَبِّرٌ بِالطَّبْعِ، فَإذا وجَدَ الغِنى والقُدْرَةَ عادَ إلى مُقْتَضى خِلْقَتِهِ الأصْلِيَّةِ، وهو التَّكَبُّرُ، وإذا وقَعَ في شِدَّةٍ وبَلِيَّةٍ ومَكْرُوهٍ انْكَسَرَ، فَعادَ إلى الطّاعَةِ والتَّواضُعِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ: فِينا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وذَلِكَ أنّا نَظَرْنا إلى أمْوالِ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعَ فَتَمَنَّيْناها، وقِيلَ: نَزَلَتْ في أهْلِ الصُّفَّةِ، تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ والغِنى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ”يُنْزِلُ“ خَفِيفَةً، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ نَقُولُ: ”بِقَدَرٍ“ بِتَقْدِيرٍ، يُقالُ: قَدَرَهُ قَدْرًا وقَدَرًا ﴿إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ يَعْنِي أنَّهُ عالِمٌ بِأحْوالِ النّاسِ وبِطِباعِهِمْ وبِعَواقِبِ أُمُورِهِمْ فَيُقَدِّرُ أرْزاقَهم عَلى وفْقِ مَصالِحِهِمْ، ولَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا يُعْطِيهِمْ ما زادَ عَلى قَدْرِ حاجَتِهِمْ لِأجْلِ أنَّهُ عَلِمَ أنَّ تِلْكَ الزِّيادَةَ تَضُرُّهم في دِينِهِمْ بَيَّنَ أنَّهم إذا احْتاجُوا إلى الرِّزْقِ فَإنَّهُ لا يَمْنَعُهم مِنهُ فَقالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ ﴿يُنَزِّلُ﴾ مُشَدَّدَةً، والباقُونَ مُخَفَّفَةً، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”قَنَطُوا“ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِها، وإنْزالُ الغَيْثِ بَعْدَ القُنُوطِ أدْعى إلى الشُّكْرِ؛ لِأنَّ الفَرَحَ بِحُصُولِ النِّعْمَةِ بَعْدَ البَلِيَّةِ أتَمُّ، فَكانَ إقْدامُ صاحِبِهِ عَلى الشُّكْرِ أكْثَرَ ﴿ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أيْ بَرَكاتِ الغَيْثِ ومَنافِعَهُ وما يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الخِصْبِ، وعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قِيلَ لَهُ ”اشْتَدَّ القَحْطُ وقَنِطَ النّاسُ، فَقالَ: إذَنْ مُطِرُوا“ أرادَ هَذِهِ الآيَةَ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ رَحْمَتَهُ الواسِعَةَ في كُلِّ شَيْءٍ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: يُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ الَّتِي هي الغَيْثُ ويَنْشُرُ سائِرَ أنْواعِ الرَّحْمَةِ ﴿وهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ﴾، ”الوَلِيُّ“ الَّذِي يَتَوَلّى عِبادَهُ بِإحْسانِهِ، و”الحَمِيدُ“ المَحْمُودُ عَلى ما يُوَصِّلُ لِلْخَلْقِ مِن أقْسامِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ آيَةً أُخْرى تَدُلُّ عَلى إلَهِيَّتِهِ، فَقالَ: ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فِيهِما مِن دابَّةٍ﴾ فَنَقُولُ: أمّا دَلالَةُ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ الحَكِيمِ فَقَدْ ذَكَرْناها، وكَذَلِكَ دَلالَةُ وُجُودِ الحَيَواناتِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ الحَكِيمِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ إطْلاقُ لَفْظِ الدّابَّةِ عَلى المَلائِكَةِ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ قَدْ يُضافُ الفِعْلُ إلى جَماعَةٍ، وإنْ كانَ فاعِلُهُ واحِدًا مِنهم، يُقالُ بَنُو فُلانٍ فَعَلُوا كَذا، وإنَّما فَعَلَهُ واحِدٌ مِنهم، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنهُما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٢٢] . الثّانِي: أنَّ الدَّبِيبَ هو الحَرَكَةُ، والمَلائِكَةُ لَهم حَرَكَةٌ. الثّالِثُ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى خَلَقَ في السَّماواتِ أنْواعًا مِنَ الحَيَواناتِ يَمْشُونَ مَشْيَ الأناسِيِّ عَلى الأرْضِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”إذا“ تَدْخُلُ عَلى المُضارِعِ كَما تَدْخُلُ عَلى الماضِي، قالَ تَعالى: ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [اللَّيْلِ: ١] ومِنهُ ﴿إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَها مُتَفَرِّقَةً، لا لِعَجْزٍ، ولَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ، فَلِهَذا قالَ: ﴿وهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ يَعْنِي الجَمْعَ لِلْحَشْرِ (p-١٤٨)والمُحاسَبَةِ، وإنَّما قالَ: ﴿عَلى جَمْعِهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: عَلى جَمْعِها، لِأجْلِ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الجَمْعِ المُحاسَبَةُ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: وهو عَلى جَمْعِ العُقَلاءِ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ، واحْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِقَوْلِهِ ﴿إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ عَلى أنَّ مَشِيئَتَهُ تَعالى مُحْدَثَةٌ بِأنْ قالَ: إنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ تُفِيدُ ظَرْفَ الزَّمانِ، وكَلِمَةُ ”يَشاءُ“ صِيغَةُ المُسْتَقْبَلِ، فَلَوْ كانَتْ مَشِيئَتُهُ تَعالى قَدِيمَةً لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِها بِذَلِكَ الوَقْتِ المُعَيَّنِ مِنَ المُسْتَقْبَلِ فائِدَةٌ، ولَمّا دَلَّ قَوْلُهُ ﴿إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ عَلى هَذا التَّخْصِيصِ عَلِمْنا أنَّ مَشِيئَتَهُ تَعالى مُحْدَثَةٌ. والجَوابُ: أنَّ هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ كَما دَخَلَتا عَلى المَشِيئَةِ، أيْ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَقَدْ دَخَلَتا أيْضًا عَلى لَفْظِ ”القَدِيرِ“ فَلَزِمَ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ كَوْنُهُ قادِرًا صِفَةً مُحْدَثَةً، ولَمّا كانَ هَذا باطِلًا، فَكَذا القَوْلُ فِيما ذَكَرَهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ ”بِما كَسَبَتْ“ بِغَيْرِ فاءٍ، وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ الشّامِ والمَدِينَةِ، والباقُونَ بِالفاءِ، وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِهِمْ، وتَقْدِيرُ الأوَّلِ أنَّ ”ما“ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنى ”الَّذِي“، و”بِما كَسَبَتْ“ خَبَرُهُ، والمَعْنى: والَّذِي أصابَكم وقَعَ بِما كَسَبَتْ أيْدِيكم، وتَقْدِيرُ الثّانِي تَضْمِينُ كَلِمَةِ ”ما“ مَعْنى الشَّرْطِيَّةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ بِهَذِهِ المَصائِبِ الأحْوالُ المَكْرُوهَةُ؛ نَحْوَ الآلامِ والأسْقامِ والقَحْطِ والغَرَقِ والصَّواعِقِ وأشْباهِها، واخْتَلَفُوا في نَحْوِ الآلامِ أنَّها هَلْ هي عُقُوباتٌ عَلى ذُنُوبٍ سَلَفَتْ أمْ لا ؟ مِنهم مَن أنْكَرَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اليَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [غافِرٍ: ١٧] بَيَّنَ تَعالى أنَّ الجَزاءَ إنَّما يَحْصُلُ في يَوْمِ القِيامَةِ، وقالَ تَعالى في سُورَةِ الفاتِحَةِ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتِحَةِ: ٤] أيْ يَوْمِ الجَزاءِ، وأطْبَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ يَوْمُ القِيامَةِ. والثّانِي: أنَّ مَصائِبَ الدُّنْيا يَشْتَرِكُ فِيها الزِّنْدِيقُ والصِّدِّيقُ، وما يَكُونُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مِن بابِ العُقُوبَةِ عَلى الذُّنُوبِ، بَلِ الِاسْتِقْراءُ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ هَذِهِ المَصائِبِ لِلصّالِحِينَ والمُتَّقِينَ أكْثَرُ مِنهُ لِلْمُذْنِبِينَ، ولِهَذا قالَ ﷺ: «خُصَّ البَلاءُ بِالأنْبِياءِ، ثُمَّ الأوْلِياءِ، ثُمَّ الأمْثَلِ فالأمْثَلِ» . الثّالِثُ: أنَّ الدُّنْيا دارُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ جُعِلَ الجَزاءُ فِيها لَكانَتِ الدُّنْيا دارَ التَّكْلِيفِ ودارَ الجَزاءِ مَعًا، وهو مُحالٌ، وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ هَذِهِ المَصائِبَ قَدْ تَكُونُ أجْزِيَةً عَلى الذُّنُوبِ المُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ ولا غَيْرُهُ إلّا بِذَنْبٍ» أوْ لَفْظٌ هَذا مَعْناهُ، وتَمَسَّكُوا أيْضًا بِهَذِهِ الآيَةِ، وتَمَسَّكُوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ﴾ [النساء: ١٦٠] وتَمَسَّكُوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا﴾ [الشُّورى: ٣٤] وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ ذَلِكَ الإهْلاكَ كانَ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ، وأجابَ الأوَّلُونَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: إنَّ حُصُولَ هَذِهِ المَصائِبِ يَكُونُ مِن بابِ الِامْتِحانِ في التَّكْلِيفِ، لا مِن بابِ العُقُوبَةِ كَما في حَقِّ الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ، ويُحْمَلُ قَوْلُهُ ﴿فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ عَلى أنَّ الأصْلَحَ عِنْدَ إتْيانِكم بِذَلِكَ الكَسْبِ إنْزالُ هَذِهِ المَصائِبِ عَلَيْكم، وكَذا الجَوابُ عَنْ بَقِيَّةِ الدَّلائِلِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أهْلُ التَّناسُخِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الأطْفالَ والبَهائِمَ لا تَتَألَّمُ، فَقالُوا: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ حُصُولَ المَصائِبِ لا يَكُونُ إلّا لِسابِقَةِ الجُرْمِ، ثُمَّ إنَّ أهْلَ التَّناسُخِ قالُوا: لَكِنَّ هَذِهِ المَصائِبَ حاصِلَةٌ لِلْأطْفالِ والبَهائِمِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَها ذُنُوبٌ في الزَّمانِ السّابِقِ، وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ الأطْفالَ والبَهائِمَ لَيْسَ لَها ألَمٌ، قالُوا: قَدْ ثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الأطْفالَ والبَهائِمَ ما كانَتْ مَوْجُودَةً في بَدَنٍ آخَرَ لِفَسادِ القَوْلِ بِالتَّناسُخِ فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّها لا تَتَألَّمُ إذِ الألَمُ مُصِيبَةٌ. والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى (p-١٤٩): ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ خِطابٌ مَعَ مَن يَفْهَمُ ويَعْقِلُ، فَلا يَدْخُلُ فِيهِ البَهائِمُ والأطْفالُ، ولَمْ يَقُلْ تَعالى: إنَّ جَمِيعَ ما يُصِيبُ الحَيَوانَ مِنَ المَكارِهِ فَإنَّهُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ سابِقٍ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ ﴿فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ يَقْتَضِي إضافَةَ الكَسْبِ إلى اليَدِ، قالَ: والكَسْبُ لا يَكُونُ بِاليَدِ، بَلْ بِالقُدْرَةِ القائِمَةِ بِاليَدِ، وإذا كانَ المُرادُ مِن لَفْظِ اليَدِ هَهُنا القُدْرَةَ، وكانَ هَذا المَجازُ مَشْهُورًا مُسْتَعْمَلًا كانَ لَفْظُ اليَدِ الوارِدُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى القُدْرَةِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعالى عَنِ الأعْضاءِ والأجْزاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى قَدْ يَتْرُكُ الكَثِيرَ مِن هَذِهِ التَّشْدِيداتِ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، وعَنِ الحَسَنِ قالَ: دَخَلْنا عَلى عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ في الوَجَعِ الشَّدِيدِ، فَقِيلَ لَهُ: إنّا لَنَغْتَمُّ لَكَ مِن بَعْضِ ما نَرى، فَقالَ: لا تَفْعَلُوا، فَواللَّهِ إنَّ أحَبَّهُ إلى اللَّهِ أحَبُّهُ إلَيَّ، وقَرَأ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ فَهَذا بِما كَسَبَتْ يَدايَ وسَيَأْتِينِي عَفْوُ رَبِّي، وقَدْ رَوى أبُو سَخْلَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ: «ما عَفا اللَّهُ عَنْهُ فَهو أعَزُّ وأكْرَمُ مِن أنْ يَعُودَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ، وما عاقَبَ عَلَيْهِ في الدُّنْيا فاللَّهُ أكْرَمُ مِن أنْ يُعِيدَ العَذابَ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ» رَواهُ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“، وقالَ: إذا كانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أرْجى آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ ذُنُوبَ المُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ كَفَّرَهُ عَنْهم بِالمَصائِبِ في الدُّنْيا، وصِنْفٌ عَفا عَنْهُ في الدُّنْيا، وهو كَرِيمٌ لا يَرْجِعُ في عَفْوِهِ، وهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ المُؤْمِنِينَ، وأمّا الكافِرُ فَلِأنَّهُ لا يُعَجِّلُ عَلَيْهِ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ حَتّى يُوافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ﴾ يَقُولُ ما أنْتُمْ مَعْشَرَ المُشْرِكِينَ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ، أيْ: لا تُعْجِزُونَنِي حَيْثُما كُنْتُمْ، فَلا تَسْبِقُونَنِي بِسَبَبِ هَرَبِكم في الأرْضِ ﴿وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ والمُرادُ مَن يَعْبُدُ الأصْنامَ، بَيَّنَ أنَّهُ لا فائِدَةَ فِيها البَتَّةَ، والنَّصِيرُ هو اللَّهُ تَعالى، فَلا جَرَمَ هو الَّذِي تَحْسُنُ عِبادَتُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب