الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللهِ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللهِ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُورِ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَوْبَةَ عن عِبادِهِ ويَعْفُو عن السَيِّئاتِ ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ "أمْ" هَذِهِ أيْضًا مُنْقَطِعَةٌ مُضَمِّنَةٌ إضْرابًا عن كَلامٍ مُتَقَدِّمٍ، وتَقْرِيرًا عَلى هَذِهِ المَقالَةِ (p-٥١٤)مِنهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ﴾ مَعْناهُ: في قَوْلِ قَتادَةَ وفِرْقَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ: يُنْسِيكَ القُرْآنُ، والمُرادُ الرَدُّ عَلى مَقالَةِ الكُفّارِ وبَيانِ إبْطالِها، وذَلِكَ كَأنَّهُ يَقُولُ: وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مُفْتَرِيًا وأنْتَ بِمَرْأى مِنَ اللهِ تَعالى ومَسْمَعٍ، وهو قادِرٌ لَوْ شاءَ عَلى أنْ يَخْتِمَ عَلى قَلْبِكَ، فَلا تَعْقِلُ ولا تَنْطِقُ ولا يَسْتَمِرُّ افْتِراؤُكَ، فَمَقْصَدُ اللَفْظِ هَذا المَعْنى وحُذِفَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ اخْتِصارًا واقْتِصارًا. وقالَ مُجاهِدٌ في كِتابِ الثَعْلَبِيِّ وغَيْرِهِ: المَعْنى: فَإنْ يَشَإ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ بِالصَبْرِ لِأذى الكُفّارِ ويَرْبُطُ عَلَيْهِ بِالجَلَدِ، فَهَذا تَأْوِيلٌ لا يَتَضَمَّنُ الرَدَّ عَلى مَقالَتِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَمْحُ اللهُ الباطِلَ﴾ فِعْلُ مُسْتَقْبَلٍ، خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعالى أنْ يَمْحُوَ الباطِلَ ولا بُدَّ، إمّا في الدُنْيا وإمّا في الآخِرَةِ، وهَذا بِحَسَبِ نازِلَةٍ نازِلَةٍ. وكُتِبَتْ "يَمْحُ في المُصْحَفِ بِحاءٍ مُرْسَلَةٍ كَما كَتَبُوا: "وَيَدْعُ الإنْسانُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا ذَهَبُوا فِيهِ إلى الحَذْفِ والِاخْتِصارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِكَلِماتِهِ﴾ مَعْناهُ: بِما سَبَقَ في قَدِيمِ عِلْمِهِ وإرادَتِهِ مِن كَوْنِ الأشْياءِ، فالكَلِماتُ: المَعانِي القائِمَةُ القَدِيمَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُورِ﴾ خَبَرٌ مُضَمَّنُهُ وعِيدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى النِعْمَةَ في تَفَضُّلِهِ بِقَبُولِ التَوْبَةِ عن عِبادِهِ، وقَبُولِ التَوْبَةِ فِيما يَسْتَأْنِفُ العَبْدُ مِن زَمَنِهِ وأعْمالِهِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وأمّا ما سَلَفَ مِن أعْمالِهِ فَيَنْقَسِمُ: فَأمّا التَوْبَةُ مِنَ الكُفْرِ فَماحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمُها مِن مَظالِمِ العِبادِ الفانِيَةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ، وأمّا التَوْبَةُ مِنَ المَعاصِي فَلِأهْلِ السُنَّةِ قَوْلانِ: هَلْ تَذْهَبُ المَعاصِي السالِفَةُ لِلْعَبْدِ بَيْنَهُ وبَيْنَ خالِقِهِ سُبْحانَهُ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مُذْهَبَةٌ لَها، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو في مَشِيئَةِ اللهِ تَعالى، وأجْمَعُوا عَلى أنَّها لا تُذْهِبُ مَظالِمَ العِبادِ، وحَقِيقَةُ التَوْبَةِ: الإقْلاعُ عَنِ المَعاصِي والإقْبالُ والرُجُوعُ إلى الطاعاتِ، ويُلْزِمُها النَدَمَ عَلى ما فاتَ، والعَزْمَ عَلى مُلازَمَةِ الخَيِّراتِ. وقالَ سِرِّي السَقْطِي: التَوْبَةُ: العَزْمُ عَلى تَرْكِ الذُنُوبِ، والإقْبالُ بِالقَلْبِ إلى عَلّامِ الغُيُوبِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: التائِبُ مِن كَسَرَ شَبابَهُ عَلى رَأْسِهِ، وكَسَرَ الدُنْيا عَلى رَأْسِ الشَيْطانِ، ولَزَمَ الفِطامُ حَتّى أتاهُ الحِمامُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عن (p-٥١٥)عِبادِهِ﴾ بِمَعْنى: مِن عِبادِهِ، وكَأنَّهُ تَعالى قالَ: التَوْبَةُ الصادِرَةُ عن عِبادِهِ، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والجَحْدَرِيِّ، وقَتادَةُ: "يَفْعَلُونَ" بِالياءِ عَلى الكِنايَةِ عن غائِبٍ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلْقَمَةُ: "تَفْعَلُونَ" بِالتاءِ عَلى المُخاطَبَةِ، وفي الآيَةِ تَوَعُّدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَيَسْتَجِيبُ"﴾ قالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: يُجِيبُ، والعَرَبُ تَقُولُ: أجابَ واسْتَجابَ بِمَعْنى ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وداعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ النَدى ∗∗∗ فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ و"الَّذِينَ" -عَلى هَذا القَوْلِ- مَفْعُولٌ بِـ "يَسْتَجِيبُ"، ورُوِيَ هَذا المَعْنى عن مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رِضى اللهِ عنهُ، ونَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: ويَسْتَدْعِي الَّذِينَ آمَنُوا الإجابَةَ مِن رَبِّهِمْ بِالأعْمالِ الصالِحَةِ، ودَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ عَلى أنَّ المَعْنى: "فَيُجِيبُهُمْ" وحَمَلَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ "اسْتَجابَ" عَلى المَعْهُودِ مِن بابِ "اسْتَفْعَلَ"، أيْ / طَلَبُ الشَيْءِ. و"الَّذِينَ" -عَلى هَذا القَوْلِ- فاعِلٌ بِـ "يَسْتَجِيبُ". وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: ويُجِيبُ المُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ، فَــ (p-٥١٦)"الَّذِينَ": فاعِلٌ بِمَعْنى: يُجِيبُونَ دَعْوَةَ شَرْعِهِ ورِسالَتِهِ، والزِيادَةَ مَن فَضْلِهِ هي تَضْعِيفُ الحَسَناتِ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "هِيَ قَبُولُ الشَفاعاتِ في المُذْنِبِينَ والرِضْوانِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾، قالَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وغَيْرُهُ: «إنَّها نَزَلَتْ لِأنَّ قَوْمًا مِن أهْلِ الصِفَةِ طَلَبُوا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنْ يُغْنِيَهُمُ اللهُ تَعالى، ويَبْسُطَ لَهُمُ الأرْزاقَ والأمْوالَ،» فَأعْلَمَهم تَعالى أنَّهُ لَوْ جاءَ الرِزْقُ عَلى اخْتِيارِ البَشَرِ واقْتِراحِهِمْ لَكانَ سَبَبَ بَغْيِهِمْ وإفْسادِهِمْ، ولَكِنَّهُ عَزَّ وجَلَّ أعْلَمُ بِالمَصْلَحَةِ في كُلِّ أحَدٍ، ولَهُ بِعَبِيدِهِ خِبْرَةٌ وبَصَرٌ بِأخْلاقِهِمْ ومَصالِحِهِمْ، فَهو يُنْزِلُ لَهم مِنَ الرِزْقِ القَدْرُ الَّذِي بِهِ صَلاحُهُمْ، فَرُبَّ إنْسانٍ لا يَصْلُحْ ولا تَكْتَفِ عادِيَتُهُ إلّا بِالفَقْرِ، وآخَرُ بِالغِنى. ورَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ في هَذا المَعْنى والتَقَسُّمِ حَدِيثًا عَنِ النَبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قالَ أنَسُ رِضى اللهُ عنهُ: اللهُمَّ إنِّي مِن عِبادِكَ الَّذِينَ لا يُصْلِحُهم إلّا الغِنى، فَلا تُفْقِرُنِي. وقالَ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ: فِينا نَزَلَتْ لِأنّا نَظَرْنا إلى أحْوالِ بَنِي قُرَيْظَةَ وبَنِي النَضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعٍ فَتَمَنَّيْناها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب