الباحث القرآني

﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تَرى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وهو واقِعٌ بِهِمْ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهو الوَلِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فِيهِما مِن دابَّةٍ وهو عَلى جَمْعِهِمْ إذا يَشاءُ قَدِيرٌ﴾ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ . (p-٥٠٧)﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ﴾: اسْتِفْهامُ تَقْرِيرٍ وتَوْبِيخٍ. لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ شَرَعَ لِلنّاسِ ﴿ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣] الآيَةَ، أخَذَ يُنْكِرُ ما شَرَعَ غَيْرُهُ تَعالى. والشُّرَكاءُ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ شُرَكاؤُهم في الكُفْرِ، كالشَّياطِينِ والمُغْوِينَ مِنَ النّاسِ. والضَّمِيرُ في (شَرَعُوا) عائِدٌ عَلى الشُّرَكاءِ، والضَّمِيرُ في (لَهم) عائِدٌ عَلى الكُفّارِ المُعاصِرِينَ لِلرَّسُولِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ الأصْنامُ والأوْثانُ وكُلُّ مَن جَعَلُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ. وأُضِيفَ الشُّرَكاءُ إلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم مُتَّخِذُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ، فَتارَةً إلَيْهِمْ بِهَذِهِ المُلابَسَةِ، وتارَةً إلى اللَّهِ. والضَّمِيرُ في (شَرَعُوا) يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ عَلى الشُّرَكاءِ، و(لَهم) عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، لَمّا كانَتْ سَبَبًا لِضَلالِهِمْ وافْتِتانِهِمْ جُعِلَتْ شارِعَةً لِدِينِ الكُفْرِ، كَما قالَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] . واحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى الكُفّارِ، و(لَهم) عائِدٌ عَلى الشُّرَكاءِ، أيْ: شَرَعَ الكُفّارُ لِأصْنامِهِمْ ومَعْبُوداتِهِمْ، أيْ: رَسَمُوا لَهم غَوايَةً وأحْكامًا في المُعْتَقَداتِ، كَقَوْلِهِمْ: إنَّهم آلِهَةٌ، وإنَّ عِبادَتَهم تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ؛ ومِنَ الأحْكامِ: البَحِيرَةُ والوَصِيلَةُ والحامِي وغَيْرُ ذَلِكَ. ﴿ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ﴾ أيِ: العِدَةُ بِأنَّ الفَصْلَ في الآخِرَةِ، أوْ لَوْلا القَضاءُ بِذَلِكَ لَقُضِيَ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ، أوْ بَيْنَ المُشْرِكِينَ وشُرَكائِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (إنَّ الظّالِمِينَ)، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ والإخْبارِ بِما يَنالُهم في الدُّنْيا مِنَ القَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ، وفي الآخِرَةِ النّارُ. وقَرَأ الأعْرَجُ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ (وأنَّ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَطْفًا عَلى كَلِمَةِ الفَصْلِ، فَهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ، أيْ: ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ وكَوْنُ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ في الآخِرَةِ، لَقُضِيَ بَيْنَهم في الدُّنْيا وفُصِلَ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ بِجَوابِ لَوْلا، كَما فُصِلَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وأجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: ١٢٩] . ﴿تَرى الظّالِمِينَ﴾ أيْ: تُبْصِرُ الكافِرِينَ لِمُقابَلَتِهِ بِالمُؤْمِنِينَ، (مُشْفِقِينَ): خائِفِينَ الخَوْفَ الشَّدِيدَ، (مِمّا كَسَبُوا) مِنَ السَّيِّئاتِ، (وهو) أيِ: العَذابُ، أوْ يَعُودُ عَلى ما كَسَبُوا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وبالٌ كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئاتِ، أوْ جَزاؤُهُ حالٌّ بِهِمْ. ﴿وهُوَ واقِعٌ﴾: فَإشْفاقُهم هو في هَذِهِ الحالِ، فَلَيْسُوا كالمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هم في الدُّنْيا مُشْفِقُونَ مِنَ السّاعَةِ. ولَمّا كانَتِ الرَّوْضاتُ أحْسَنَ ما في الجَنّاتِ وأنْزَهَها وفي أعْلاها، ذَكَرَ أنَّ المُؤْمِنِينَ فِيها. واللُّغَةُ الكَثِيرَةُ تَسْكِينُ الواوِ في رَوْضاتٍ، ولُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ فَتْحُ الواوِ إجْراءً لِلْمُعْتَلِّ مَجْرى الصَّحِيحِ نَحْوُ جَفَناتٍ، ولَمْ يَقْرَأْ أحَدٌ مِمَّنْ عَلِمْناهُ بِلُغَتِهِمْ. و(عِنْدَ) ظَرْفٌ، قالَ الحَوْفِيُّ: مَعْمُولٌ لِـ (يَشاءُونَ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنصُوبٌ بِالظَّرْفِ لا يَشاءُونَ. انْتَهى، وهو الصَّوابُ. ويَعْنِي بِالظَّرْفِ: الجارُّ والمَجْرُورُ، وهو لَهم في الحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْمُولٍ لِلْعامِلِ في لَهم، والمَعْنى: ما يَشاءُونَ مِنَ النَّعِيمِ والثَّوابِ مُسْتَقِرٌّ لَهم. (عِنْدَ رَبِّهِمْ): والعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ المَكانَةِ والتَّشْرِيفِ لا عِنْدِيَّةُ المَكانَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يُبَشِّرُ) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، مِن بَشَّرَ؛ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْمُرَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، والجَحْدَرِيُّ، والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ في رِوايَةٍ، والكِسائِيُّ، وحَمْزَةُ: (يُبَشِّرُ) ثُلاثِيًّا؛ ومُجاهِدٌ، وحَمِيدُ بْنُ قَيْسٍ: بِضَمِّ الياءِ وتَخْفِيفِ الشِّينِ مِن أبْشَرَ، وهو مُعَدًّى بِالهَمْزَةِ مِن بَشِرَ اللّازِمِ المَكْسُورِ الشِّينِ. وأمّا بَشَرَ بِفَتْحِها فَتَعَدَّ، وبَشَّرَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ لا لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ، وهو مُخَفَّفٌ لا يُعَدّى بِالتَّضْعِيفِ إلَيْهِ؛ فالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ لا لِلتَّعْدِيَةِ. (ذَلِكَ): إشارَةٌ إلى ما أعَدَّ لَهم مِنَ الكَرامَةِ، وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ المَوْصُولِ، والعائِدُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أيْ: يُبَشِّرُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ الَّذِي يُبَشِّرُهُ اللَّهُ عِبادَهُ. انْتَهى. ولا يَظْهَرُ هَذا الوَجْهُ، إذْ (p-٥١٦)لَمْ يَتَقَدَّمْ في هَذِهِ السُّورَةِ لَفْظُ البُشْرى، ولا ما يَدُلُّ عَلَيْها مِن تَبْشِيرٍ أوْ شَبَهِهِ. ومِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن جَعْلَ (الَّذِي) مَصْدَرِيَّةً، حَكاهُ ابْنُ مالِكٍ عَنْ يُونُسَ، وتُأوَّلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، أيْ: ذَلِكَ تَبْشِيرُ اللَّهِ عِبادَهُ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ إثْباتٌ لِلِاشْتِراكِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الحَدِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وقَدْ ثَبَتَتِ اسْمِيَّةُ (الَّذِي) فَلا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لا تَقُومُ بِهِ دَلِيلٌ ولا شُبْهَةٌ. ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ . رُوِيَ أنَّهُ اجْتَمَعَ المُشْرِكُونَ في مَجْمَعٍ لَهم، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أتَرَوْنَ مُحَمَّدًا يَسْألُ أجْرًا عَلى ما يَتَعاطاهُ ؟ فَنَزَلَتْ. ورُوِيَ أنَّ الأنْصارَ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمالٍ جَمَعُوهُ وقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَدانا اللَّهُ بِكَ، وأنْتَ ابْنُ أُخْتِنا، وتَعْرُوكَ حُقُوقٌ وما لَكَ سِعَةٌ، فاسْتَعِنْ بِهَذا عَلى ما يَنُوبُكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَرَدَّهُ. وقِيلَ: الخِطابُ مُتَوَجِّهٌ إلى قُرَيْشٍ حِينَ جَمَعُوا لَهُ مالًا وأرادُوا أنْ يَرْشُوهُ عَلَيْهِمْ عَلى أنْ يُمْسِكَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ونَزَلَتْ. فالمَعْنى: لا أسْألُكم مالًا ولا رِياسَةً، ولَكِنْ أسْألُكم أنْ تَرْعَوْا حَقَّ قَرابَتِي وتُصَدِّقُونِي فِيما جِئْتُكم بِهِ، وتُمْسِكُوا عَنْ أذِيَّتِي وأذِيَّةِ مَن تَبِعَنِي، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ وأبُو مالِكٍ والشَّعْبِيُّ وغَيْرُهم. قالَ الشَّعْبِيُّ: أكْثَرَ النّاسُ عَلَيْنا في هَذِهِ الآيَةِ، فَكَتَبْنا إلى ابْنِ عَبّاسٍ نَسْألُهُ عَنْها، فَكَتَبَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ أوْسَطَ النّاسِ في قُرَيْشٍ، لَيْسَ بَطْنٌ مِن بُطُونِهِمْ إلّا وقَدْ ولَدَهُ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا أنْ تَوَدُّونِي في قَرابَتِي مِنكم، فارْعَوْا ما بَيْنِي وبَيْنَكم وصَدِّقُونِي. وقالَ عِكْرِمَةُ: وكانَتْ قُرَيْشٌ تَصِلُ أرْحامَها. وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى إلّا أنْ تَتَوَدَّدُوا إلى اللَّهِ بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ القاسِمِ: إلّا أنْ يَتَوَدَّدَ بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وتَصِلُوا قَراباتِكم. رُوِيَ أنَّ شَبابًا مِنَ الأنْصارِ فاخَرُوا المُهاجِرِينَ وصالُوا بِالقَوْلِ، فَنَزَلَتْ عَلى مَعْنى: أنْ لا تُؤْذُونِي في قَرابَتِي وتَحْفَظُونِي فِيهِمْ. وقالَ بِهَذا المَعْنى عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، واسْتَشْهَدَ بِالآيَةِ حِينَ سِيقَ إلى الشّامِ أسِيرًا، وهو قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ وعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ: مَن قَرابَتُكَ الَّذِينَ أُمِرْنا بِمَوَدَّتِهِمْ ؟ فَقالَ: عَلِيٌّ وفاطِمَةُ وابْناهُما. وقِيلَ: هم ولَدُ عَبْدِ المَطَّلِبِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا المَوَدَّةَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّ المَوَدَّةَ لَيْسَتْ أجْرًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا، أيْ: لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا هَذا: أنْ تَوَدُّوا أهْلَ قَرابَتِي، ولَمْ يَكُنْ هَذا أجْرًا في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ قَرابَتَهُ قَرابَتُهم، فَكانَتْ صِلَتُهم لازِمَةً لَهم في المُرُوءَةِ. وقالَ: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ إلّا مَوَدَّةَ القُرْبى، أوْ إلّا المَوَدَّةَ لِلْقُرْبى ؟ قُلْتُ: جَعَلُوا مَكانًا لِلْمَوَدَّةِ ومَقَرًّا لَها، كَقَوْلِكَ: لِي في آلِ فُلانٍ مَوَدَّةٌ، ولِي فِيهِمْ هَوًى وحُبٌّ شَدِيدٌ، تُرِيدُ: أُحِبُّهم وهم مَكانُ حُبِّي ومَحِلُّهُ. ولَيْسَتْ في صِلَةٍ لِلْمَوَدَّةِ كاللّامِ، إذا قُلْتَ إلّا المَوَدَّةَ لِلْقُرْبى، إنَّما هي مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَعَلَّقَ الظَّرْفِ بِهِ في قَوْلِكَ: المالُ في الكِيسِ، وتَقْدِيرُهُ: إلّا المَوَدَّةَ ثابِتَةً في القُرْبى ومُتَمَكِّنَةً فِيها. انْتَهى، وهو حَسَنٌ وفِيهِ تَكْثِيرٌ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (إلّا مَوَدَّةً) والجُمْهُورُ ﴿إلّا المَوَدَّةَ﴾ . ﴿ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ أيْ: يَكْتَسِبْ، والظّاهِرُ عُمُومُ الحَسَنَةِ عُمُومَ البَدَلِ، فَيَنْدَرِجُ فِيها المَوَدَّةُ في القُرْبى وغَيْرُها. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيِّ، أنَّها المَوَدَّةُ في آلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نَزِدْ) بِالنُّونِ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وعَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وأحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الكِسائِيِّ: (يَزِدْ) بِالياءِ، أيْ: يَزِدِ اللَّهُ. والجُمْهُورُ: (حُسْنًا) بِالتَّنْوِينِ؛ وعَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو: (حُسْنى) بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، عَلى وزْنِ رُجْعى، وزِيادَةُ حُسْنِها: مُضاعَفَةُ أجْرِها. (أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ): ساتِرُ عُيُوبِ عِبادِهِ، (شَكُورٌ): مُجازٍ عَلى الدَّقِيقَةِ، لا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ العامِلِ. وقالَ السُّدِّيُّ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ آلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، شَكُورٌ لِحَسَناتِهِمْ. ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾: أضْرَبَ عَنِ الكَلامِ المُتَقَدِّمِ مِن غَيْرِ إبْطالٍ، واسْتَفْهَمَ اسْتِفْهامَ إنْكارٍ وتَوْبِيخٍ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ، أيْ: مِثْلُهُ لا يُنْسَبُ إلَيْهِ الكَذِبُ (p-٥١٧)عَلى اللَّهِ، مَعَ اعْتِرافِكم لَهُ قَبْلُ بِالصِّدْقِ والأمانَةِ. ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾، قالَ مُجاهِدٌ: يَرْبِطُ عَلى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلى أذاهم، حَتّى لا يَشُقَّ عَلَيْكَ قَوْلُهم: إنَّكَ مُفْتَرٍ. وقالَ قَتادَةُ وجَماعَةٌ: ﴿يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾: يُنْسِيكَ القُرْآنَ، والمُرادُ الرَّدُّ عَلى مَقالَةِ الكُفّارِ وبَيانُ إبْطالِها، وذَلِكَ كَأنَّهُ يَقُولُ: وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مُفْتَرِياتٍ وأنْتَ مِنَ اللَّهِ بِمَرْأًى ومَسْمَعٍ وهو قادِرٌ، ولَوْ شاءَ أنْ يَخْتِمَ عَلى قَلْبِكَ فَلا تَعْقِلُ ولا تَنْطِقُ ولا يَسْتَمِرُّ افْتِراؤُكَ، فَقَصَدَ اللَّفْظُ هَذا المَعْنى، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ اخْتِصارًا واقْتِصارًا. انْتَهى. هَكَذا أوْرَدَ هَذا التَّأْوِيلُ عَنْ قَتادَةَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وفي ألْفاظِهِ فَظاظَةٌ لا تَلِيقُ أنْ تُنْسَبَ لِلْأنْبِياءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَنْ قَتادَةَ: يُنْسِيكَ القُرْآنَ ويَنْقَطِعُ عَنْكَ الوَحْيُ، يَعْنِي لَوِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَجْعَلْكَ مِنَ المَخْتُومِ عَلى قُلُوبِهِمْ حَتّى تَفْتَرِيَ عَلَيْهِ الكَذِبَ، فَإنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلى افْتِراءِ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ إلّا مَن كانَ في مِثْلِ حالِهِمْ، وهَذا الأُسْلُوبُ مُؤَدّاهُ اسْتِبْعادُ الِافْتِراءِ مِن مِثْلِهِ، وأنَّهُ في البُعْدِ مِثْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ والدُّخُولِ في جُمْلَةِ المَخْتُومِ عَلى قُلُوبِهِمْ. ومِثالُ هَذا أنْ يَخُونَ بَعْضُ الأُمَناءِ فَيَقُولُ: لَعَلَّ اللَّهَ خَذَلَنِي، لَعَلَّ اللَّهَ أعْمى قَلْبِي، وهو لا يُرِيدُ إثْباتَ الخِذْلانِ وعَمى القَلْبِ، وإنَّما يُرِيدُ اسْتِبْعادَ أنْ يَخُونَ مِثْلُهُ، والتَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ رَكِبَ مِن تَخْوِينِهِ أمْرٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ قالَ: ومِن عادَةِ اللَّهِ أنْ يَمْحُوَ الباطِلَ ويُثْبِتَ الحَقَّ بِوَحْيِهِ أوْ بِقَضائِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: ١٨]، يَعْنِي: لَوْ كانَ مُفْتَرِيًا، كَما يَزْعُمُونَ، لَكَشَفَ اللَّهُ افْتِراءَهُ ومَحَقَهُ، وقَذَفَ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَدَمَغَهُ. انْتَهى. وقِيلَ: المَعْنى لَوِ افْتَرَيْتَ عَلى اللَّهِ، لَطَبَعَ عَلى قَلْبِكَ حَتّى لا تَقْدِرَ عَلى حِفْظِ القُرْآنِ. وقِيلَ: لَخَتَمَ عَلى قَلْبِكَ بِالصِّدْقِ واليَقِينِ، وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. وذَكَرَ القُشَيْرِيُّ أنَّ المَعْنى: يَخْتِمُ عَلى قُلُوبِ الكُفّارِ وعَلى ألْسِنَتِهِمْ ويُعاجِلُهم بِالعَذابِ. انْتَهى، فَيَكُونُ التِفاتًا مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ومِنَ الجَمْعِ إلى الإفْرادِ، أيْ: يَخْتِمُ عَلى قَلْبِكَ أيُّها القائِلُ أنَّهُ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا. ﴿ويَمْحُو اللَّهُ الباطِلَ﴾: اسْتِئْنافُ إخْبارٍ، أيْ: يَمْحُوهُ إمّا في الدُّنْيا وإمّا في الآخِرَةِ حَيْثُ نازِلُهُ. وكُتِبَ (ويَمْحُ) بِغَيْرِ واوٍ، كَما كَتَبُوا (سَنَدْعُ) بِغَيْرِ واوٍ، اعْتِبارًا بِعَدَمِ ظُهُورِها؛ لِأنَّهُ لا يُوقَفُ عَلَيْها وقْفَ اخْتِيارٍ. ولَمّا سَقَطَتْ مِنَ اللَّفْظِ سَقَطَتْ مِنَ الخَطِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عِدَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأنَّهُ يَمْحُو الباطِلَ الَّذِي هم عَلَيْهِ مِنَ البُهْتِ والتَّكْذِيبِ، ويُثْبِتُ الحَقَّ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ وبِقَضائِهِ الَّذِي لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ نُصْرَتِكَ عَلَيْهِمْ. إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما في صَدْرِكَ وصُدُورِهِمْ، فَيُجْرِي الأمْرَ عَلى حَسَبِ ذَلِكَ. انْتَهى. قِيلَ: ويُحِقُّ الإسْلامَ بِكَلِماتِهِ، أيْ: بِما أنْزَلَ مِنَ القُرْآنِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في شَرائِطِ التَّوْبَةِ، يُقالُ: قَبِلْتُ مِنهُ الشَّيْءَ بِمَعْنى: أخَذْتُهُ مِنهُ، لِقَوْلِهِ: ﴿وما مَنَعَهم أنْ تُقْبَلَ مِنهم نَفَقاتُهُمْ﴾ [التوبة: ٥٤] أيْ: تُؤْخَذَ، أيْ: جَعَلْتُهُ مَبْدَأ قَبُولِي ومَنشَأهُ، وقَبِلْتُهُ عَنْهُ: عَزَلْتُهُ عَنْهُ وأبَنْتُهُ، فَمَعْنى (عَنْ عِبادِهِ) أيْ: يُزِيلُ الرُّجُوعَ عَنِ المَعاصِي. ﴿ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَنِ السَّيِّئاتِ إذا تِيبَ عَنْها، وعَنِ الصَّغائِرِ إذا اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. إنَّ الكَبائِرَ لا يُعْفى عَنْها إلّا بِالتَّوْبَةِ، ﴿ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾، فَيُثِيبُ ويُعاقِبُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ما يَفْعَلُونَ) بِياءِ الغَيْبَةِ؛ وعَبْدُ اللَّهِ، وعَلْقَمَةُ، والأخَوانِ، وحَفْصٌ: بِتاءِ الخِطابِ. والظّاهِرُ أنَّ (الَّذِينَ) فاعِلٌ، (ويَسْتَجِيبُ) أيْ: ويُجِيبُ، (الَّذِينَ آمَنُوا) لِرَبِّهِمْ، كَما قالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤]، فَيَكُونُ (يَسْتَجِيبُ) بِمَعْنى يُجِيبُ، أوْ يَبْقى عَلى بابِهِ مِنَ الطَّلَبِ، أيْ يَسْتَدْعِي الَّذِينَ آمَنُوا الإجابَةَ مِن رَبِّهِمْ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذا في فِعْلِهِمْ إذا دَعاهم. وعَنْ إبْراهِيمَ بْنِ أدْهَمَ أنَّهُ قِيلَ: ما بالُنا نَدْعُو فَلا نُجابُ ؟ قالَ: لِأنَّهُ دَعاكم فَلَمْ تُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ﴾ [يونس: ٢٥] . ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قالَ الزَّجّاجُ: (الَّذِينَ) مَفْعُولٌ، واسْتَجابَ وأجابَ بِمَعْنًى واحِدٍ، فالمَعْنى: ويُجِيبُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، (p-٥١٨)أيْ: لِلَّذِينِ، كَما قالَ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبٌ أيْ: لَمْ يَجُبْهُ. ورُوِيَ هَذا المَعْنى عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ وابْنِ عَبّاسٍ. ﴿ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ أيْ: عَلى الثَّوابِ تَفَضُّلًا. وفي الحَدِيثِ: قَبُولُ الشَّفاعاتِ في المُؤْمِنِينَ والرِّضْوانِ. وقالَ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ: نَظَرْنا إلى أمْوالِ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعَ فَتَمَنَّيْناها، فَنَزَلَتْ: ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ . وقالَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: طَلَبَ قَوْمٌ مِن أهْلِ الصُّفَّةِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ ويَبْسُطَ لَهُمُ الأمْوالَ والأرْزاقَ، فَنَزَلَتْ. أعْلَمُ أنَّ الرِّزْقَ لَوْ جاءَ عَلى اقْتِراحِ البَشَرِ، لَكانَ سَبَبَ بَغْيِهِمْ وإفْسادِهِمْ، ولَكِنَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالمَصْلَحَةِ. فَرُبَّ إنْسانٍ لا يَصْلُحُ ولا يَكْتَفِي شَرُّهُ إلّا بِالفَقْرِ، وآخَرُ بِالغِنى. وفي هَذا المَعْنى والتَّقْسِيمِ حَدِيثٌ رَواهُ أنَسٌ وقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي مِن عِبادِكَ الَّذِينَ لا يُصْلِحُهم إلّا الغِنى، فَلا تُفْقِرْنِي. و(لَبَغَوْا) إمّا مِنَ البَذَخِ والكِبْرِ، أيْ: لَتَكَبَّرُوا في الأرْضِ، فَفَعَلُوا ما يَتْبَعُ الكِبْرَ مَعَ الغِنى. ألا تَرى إلى حالِ قارُونَ ؟ وفي الحَدِيثِ: «أخْوَفُ ما يُخافُ عَلى أُمَّتِي زَهْرَةُ الدُّنْيا» وقالَ الشّاعِرُ: ؎وقَدْ جَعَلُوا الوَسْمِيَّ يَنْبُتُ بَيْنَنا وبَيْنَ بَنِي رُومانَ نَبْعًا وشَوْحَطا يَعْنِي: أنَّهم أحَبُّوا، فَجَذَبُوا أنْفُسَهم بِالبَغْيِ والفِتَنِ. ﴿ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾، يُقالُ: قَدْرَ بِالسُّكُونِ وبِالفَتْحِ، أيْ: يُقَدِّرُ لَهم ما هو أصْلَحُ لَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قَنَطُوا)، بِفَتْحِ النُّونِ؛ والأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ: بِكَسْرِها، ﴿ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾: يُظْهِرُها مِنَ آثارِ الغَيْثِ مِنَ المَنافِعِ والخَصْبِ، والظّاهِرُ أنَّ رَحْمَتَهُ نَشْرُها أعَمُّ مِمّا في الغَيْثِ. وقالَ السُّدِّيُّ: (رَحْمَتَهُ) الغَيْثُ، وعَدَّدَ النِّعْمَةَ بِعَيْنِها بِلَفْظَيْنِ. وقِيلَ: الرَّحْمَةُ هُنا ظُهُورُ الشَّمْسِ؛ لِأنَّهُ إذا دامَ المَطَرُ سُئِمَ، فَتَجِيءُ الشَّمْسُ بَعْدَهُ عَظِيمَةَ المَوْقِعِ، ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. ﴿وهُوَ الوَلِيُّ﴾: الَّذِي يَتَوَلّى عِبادَهُ، (الحَمِيدُ): المَحْمُودُ عَلى ما أسْدى مِن نَعْمائِهِ (وما بَثَّ) الظّاهِرُ أنَّهُ مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلى السَّماواتِ والأرْضِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلى (خَلْقُ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وخَلْقُ ما بَثَّ. وفِيهِما يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِمّا نُسِبَ فِيهِ (دابَّةٍ) إلى المَجْمُوعِ المَذْكُورِ، وإنْ كانَ مُلْتَبِسًا بِبَعْضِهِ. كَما يُقالُ: بَنُو فُلانٍ صَنَعُوا كَذا، وإنَّما صَنْعَهُ واحِدٌ مِنهم، ومِنهُ يَخْرُجُ مِنهُما، وإنَّما يَخْرُجُ مِنَ المِلْحِ، أوْ يَكُونُ مِنَ المَلائِكَةِ. بَعْضٌ يَمْشِي مَعَ الطَّيَرانِ، فَيُوصَفُ بِالدَّبِيبِ كَما يُوصَفُ بِهِ الأناسِيُّ، أوْ يَكُونُ قَدْ خَلَقَ في السَّماواتِ حَيَوانًا يَمْشِي مَعَ مَشْيِ الأناسِيِّ عَلى الأرْضِ، أوْ يُرِيدُ الحَيَوانَ الَّذِي يَكُونُ في السَّحابِ. وقَدْ يَقَعُ أحْيانًا، كالضَّفادِعِ، والسَّحابُ داخِلٌ في اسْمِ السَّماءِ. وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿وما بَثَّ فِيهِما مِن دابَّةٍ﴾: هُمُ النّاسُ والمَلائِكَةُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وما بَثَّ في أحَدِهِما. وقَرَأ الجُمْهُورُ (فِيهِما) بِالفاءِ، وكَذا هي في مُعْظَمِ المَصاحِفِ. واحْتَمَلَ (ما) أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وهو الأظْهَرُ، وأنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، والفاءُ تَدْخُلُ في خَبَرِ المَوْصُولِ إذا أُجْرِيَ مَجْرى الشَّرْطِ بِشَرائِطَ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، وهي مَوْجُودَةٌ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ في رِوايَةٍ، وشَيْبَةُ (بِما) بِغَيْرِ فاءٍ، فَـ (ما) مَوْصُولَةٌ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً؛ وحُذِفَتِ الفاءُ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَخُصُّهُ سِيبَوَيْهِ بِالشِّعْرِ، وأجازَ ذَلِكَ الأخْفَشُ وبَعْضُ نُحاةِ بَغْدادَ وذَلِكَ عَلى إرادَةِ الفاءِ. وتَرَتُّبُ ما أصابَ مِنَ المَصائِبِ عَلى كَسْبِ الأيْدِي مَوْجُودٌ مَعَ الفاءِ ودُونِها هُنا، والمُصِيبَةُ: الرَّزايا والمَصائِبُ في الدُّنْيا، وهي مُجازاةٌ عَلى ذُنُوبِ المَرْءِ وتَمْحِيصٌ لِخَطاياهُ، وأنَّهُ تَعالى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، ولا يُجازِي عَلَيْهِ بِمُصِيبَةٍ. وفي الحَدِيثِ: «لا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْشُ عَوْدٍ أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ ولا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو عَنْهُ أكْثَرُ» . وسُئِلَ عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ مَرَضِهِ فَقالَ؛ إنَّ أحَبَّهُ إلَيَّ أحَبُّهُ إلى اللَّهِ، وهَذا مِمّا كَسَبَتْ يَدايَ. ورُؤِيَ عَلى كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةٌ، فَقِيلَ: بِمَ هَذا ؟ فَقالَ: بِما كَسَبَتْ يَدايَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالمُجْرِمِينَ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَسْتَوْفِيَ اللَّهُ عِقابَ المُجْرِمِ ويَعْفُوَ عَنْ بَعْضٍ. فَأمّا مَن (p-٥١٩)لا جُرْمَ لَهُ، كالأنْبِياءِ والأطْفالِ والمَجانِينِ، فَهو كَما إذا أصابَهم شَيْءٌ مِن ألَمٍ أوْ غَيْرِهِ، فَلِلْعِوَضِ المُوفِي والمُصْلِحَةِ، وعَنْ عَلِيٍّ هَذِهِ أرْجى آيَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقالَ الحَسَنُ: ﴿مِن مُصِيبَةٍ﴾ أيْ: حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، وتِلْكَ مَصائِبُ تَنْزِلُ بِشَخْصِ الإنْسانِ ونَفْسِهِ، فَإنَّما هي بِكَسْبِ أيْدِيكم. (ويَعْفُو) اللَّهُ (عَنْ كَثِيرٍ)، فَيَسْتُرُهُ عَلى العِبادِ حَتّى لا يُحَدَّ عَلَيْهِ. (وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أيْ: أنْتُمْ في قَبْضَةِ القُدْرَةِ. وقِيلَ: لَيْسَتِ المَصائِبُ مِنَ الأسْقامِ والقَحْطِ والغَرَقِ وغَيْرِ ذَلِكَ بِعُقُوباتٍ عَلى الذُّنُوبِ لِقَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧]، ولِاشْتِراكِ الصّالِحِ والطّالِحِ فِيهِما، بَلْ أكْثَرُ ما يُبْتَلى بِهِ الصّالِحُونَ المُتَّقُونَ. وفي الحَدِيثِ: «خُصَّ بِالبَلاءِ الأنْبِياءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ» . ولِأنَّ الدُّنْيا دارُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ حَصَلَ الجَزاءُ فِيها لَكانَتْ دارَ الجَزاءِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ. وهَذا القَوْلُ يُؤَخِّرُهُ نُصُوصُ القُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكُلًّا أخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنهم مَن أرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا﴾ [العنكبوت: ٤٠] الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب