الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ﴾ أيْ: كَثِيرُ اللُّطْفِ بِهِمْ بالِغُ الرَّأْفَةِ لَهم. قالَ مُقاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالبارِّ والفاجِرِ حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهم جُوعًا بِمَعاصِيهِمْ. قالَ عِكْرِمَةُ: بارٌّ بِهِمْ. وقالَ السُّدِّيُّ: رَفِيقٌ بِهِمْ، وقِيلَ: حَفِيٌّ بِهِمْ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: لَطِيفٌ بِهِمْ في العَرْضِ والمُحاسَبَةِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. والمَعْنى: أنَّهُ يُجْرِي لُطْفَهُ عَلى عِبادِهِ في كُلِّ أُمُورِهِمْ، ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ الرِّزْقُ الَّذِي يَعِيشُونَ بِهِ في الدُّنْيا، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿يَرْزُقُ مَن يَشاءُ﴾ مِنهم كَيْفَ يَشاءُ، فَيُوَسِّعُ عَلى هَذا ويُضَيِّقُ عَلى هَذا ﴿وهُوَ القَوِيُّ﴾ العَظِيمُ القُوَّةِ الباهِرَةِ القادِرَةِ العَزِيزُ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ ولا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ. ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ الحَرْثُ في اللُّغَةِ: الكَسْبُ، يُقالُ: هو يَحْرُثُ لِعِيالِهِ ويَحْتَرِثُ أيْ: يَكْتَسِبُ. ومِنهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ حارِثًا، وأصْلُ مَعْنى الحَرْثِ: إلْقاءُ البَذْرِ في الأرْضِ، فَأُطْلِقَ عَلى ثَمَراتِ الأعْمالِ وفَوائِدِها بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ: والمَعْنى: مَن كانَ يُرِيدُ بِأعْمالِهِ وكَسْبِهِ ثَوابَ الآخِرَةِ يُضاعِفِ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أمْثالِها إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وقِيلَ: مَعْناهُ يَزِيدُ في تَوْفِيقِهِ وإعانَتِهِ وتَسْهِيلِ سُبُلِ الخَيْرِ لَهُ ﴿ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها﴾ أيْ: مَن كانَ يُرِيدُ بِأعْمالِهِ وكَسْبِهِ ثَوابَ الدُّنْيا وهو مَتاعُها، وما يَرْزُقُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ مِنها نُعْطِهِ مِنها ما قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُنا وقُسِمَ لَهُ في قَضائِنا. قالَ قَتادَةُ: مَعْنى نُؤْتِهِ مِنها: نُقَدِّرْ لَهُ ما قُسِمَ لَهُ كَما قالَ ﴿عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ﴾ [الإسراء: ١٨] وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: إنَّ اللَّهَ يُعْطِي عَلى نِيَّةِ الآخِرَةِ ما شاءَ مِن أمْرِ الدُّنْيا، ولا يُعْطِي عَلى نِيَّةِ الدُّنْيا إلّا الدُّنْيا قالَ القُشَيْرِيُّ: والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ في الكافِرِ، وهو تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ. ثُمَّ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّ هَذا الَّذِي يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيا لا نَصِيبَ لَهُ في الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ لِأنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلْآخِرَةِ فَلا نَصِيبَ لَهُ فِيها، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ الإسْراءِ. ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ لَمّا بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - القانُونَ في أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ أرْدَفَهُ بِبَيانِ ما هو الذَّنْبُ العَظِيمُ المُوجِبُ لِلنّارِ، والهَمْزَةُ لِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِ والتَّقْرِيعِ، وضَمِيرُ شَرَعُوا عائِدٌ إلى الشُّرَكاءِ، وضَمِيرُ لَهم إلى الكُفّارِ، وقِيلَ: العَكْسُ، والأوَّلُ أوْلى. ومَعْنى ﴿ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي ﴿ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ﴾ وهي تَأْخِيرُ عَذابِهِمْ حَيْثُ قالَ ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهم﴾ [القمر: ٤٦]، ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ في الدُّنْيا فَعُوجِلُوا بِالعُقُوبَةِ، والضَّمِيرُ في بَيْنَهم راجِعٌ إلى المُؤْمِنِينَ والمُشْرِكِينَ، أوْ إلى المُشْرِكِينَ وشُرَكائِهِمْ ﴿وإنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ أيِ: المُشْرِكِينَ والمُكَذِّبِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. قَرَأ الجُمْهُورُ وإنَّ الظّالِمِينَ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ. وقَرَأ (p-١٣٢٧)مُسْلِمٌ والأعْرَجُ وابْنُ هُرْمُزَ بِفَتْحِها عَطْفًا عَلى كَلِمَةِ الفَصْلِ. ﴿تَرى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا﴾ أيْ: خائِفِينَ وجِلِينَ مِمّا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئاتِ، وذَلِكَ الخَوْفُ والوَجَلُ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿وهُوَ واقِعٌ بِهِمْ﴾ الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى ما كَسَبُوا بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، قالَهُ الزَّجّاجُ أيْ: وجَزاءُ ما كَسَبُوا واقِعٌ مِنهم نازِلٌ عَلَيْهِمْ لا مَحالَةَ أشْفَقُوا أوْ لَمْ يُشْفِقُوا، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ولَمّا ذَكَرَ حالَ الظّالِمِينَ ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ فَقالَ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ﴾ رَوْضاتٌ: جَمْعُ رَوْضَةٍ. قالَ أبُو حَيّانَ: اللُّغَةُ الكَثِيرَةُ تَسْكِينُ الواوِ، ولُغَةُ هُذَيْلٍ فَتْحُها، والرَّوْضَةُ: المَوْضِعُ النَّزِهُ الكَثِيرُ الخُضْرَةِ، وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا في سُورَةِ الرُّومِ، ورَوْضَةُ الجَنَّةِ: أطْيَبُ مَساكِنِها كَما أنَّها في الدُّنْيا لَأحْسَنُ أمْكِنَتِها ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ مِن صُنُوفِ النِّعَمِ وأنْواعِ المُسْتَلَذّاتِ، والعامِلُ في عِنْدَ رَبِّهِمْ يَشاءُونَ، أوِ العامِلُ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ وهو الِاسْتِقْرارُ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ المَذْكُورَةُ بَعْدَهُ وهي ﴿هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ أيِ: الَّذِي لا يُوَصَفُ ولا تَهْتَدِي العُقُولُ إلى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ﴾ إلى الفَضْلِ الكَبِيرِ أيْ: يُبَشِّرُهم بِهِ. ثُمَّ وصَفَ العِبادَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ فَهَؤُلاءِ الجامِعُونَ بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ وتَرْكِ ما نَهى عَنْهُ هُمُ المُبَشَّرُونَ بِتِلْكَ البِشارَةِ. قَرَأ الجُمْهُورُ يُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مِن بَشَّرَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وسُكُونِ المُوَحَّدَةِ وكَسْرِ الشِّينِ مِن أبْشَرَ. وقَرَأ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وضَمِّ الشِّينِ بَعْضُ السَّبْعَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ القِراءاتِ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما أخْبَرَ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِن هَذِهِ الأحْكامِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْها كِتابُهُ أمَرَهُ بِأنَّهُ يُخْبِرُهم بِأنَّهُ لا يَطْلُبُ مِنهم بِسَبَبِ هَذا التَّبْلِيغِ ثَوابًا مِنهم فَقالَ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا﴾ أيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ: لا أطْلُبُ مِنكم عَلى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ جُعْلًا ولا نَفْعًا ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ هَذا الِاسْتِثْناءُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا أيْ: إلّا أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَتِي بَيْنَكم أوْ تَوَدُّوا أهْلَ قَرابَتِي، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا. قالَ الزَّجّاجُ: إلّا المَوَدَّةَ اسْتِثْناءٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ أيْ: إلّا أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَتِي فَتَحْفَظُونِي، والخِطابُ لِقُرَيْشٍ، وهَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ ومُجاهِدٍ وأبِي مالِكٍ والشَّعْبِيِّ، فَيَكُونُ المَعْنى عَلى الِانْقِطاعِ: لا أسْألُكم أجْرًا قَطُّ، ولَكِنْ أسْألُكُمُ المَوَدَّةَ في القُرْبى الَّتِي بَيْنِي وبَيْنَكم، ارْقُبُونِي فِيها ولا تُعَجِّلُوا إلَيَّ ودَعَوْنِي والنّاسَ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ والسُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم، وهو الثّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ كَما سَيَأْتِي. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُ: هم آلُ مُحَمَّدٍ، وسَيَأْتِي ما اسْتَدَلَّ بِهِ القائِلُونَ بِهَذا. وقالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: مَعْنى الآيَةِ: إلّا التَّوَدُّدَ إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - والتَّقَرُّبَ بِطاعَتِهِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: ورَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ، وإنَّما نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وكانَ المُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَأمَرَهُمُ اللَّهُ بِمَوَدَّتِهِ، فَلَمّا هاجَرَ أوَتْهُ الأنْصارُ ونَصَرُوهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٩] وأنْزَلَ عَلَيْهِ ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ [سبأ: ٤٧] . وسَيَأْتِي في آخِرِ البَحْثِ ما يَتَّضِحُ بِهِ الثَّوابُ ويَظْهَرُ بِهِ مَعْنى الآيَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ ﴿ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا﴾ أصْلُ القَرْفِ الكَسْبُ، يُقالُ: فُلانٌ يَقْرِفُ لِعِيالِهِ أيْ: يَكْتَسِبُ، والِاقْتِرافُ: الِاكْتِسابُ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ رَجُلٌ قِرْفَةٌ: إذا كانَ مُحْتالًا. والمَعْنى: مَن يَكْتَسِبْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ هَذِهِ الحَسَنَةَ حُسْنًا بِمُضاعَفَةِ ثَوابِها. قالَ مُقاتِلٌ: المَعْنى مَن يَكْتَسِبْ حَسَنَةً واحِدَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا نُضاعِفْها بِالواحِدَةِ عَشْرًا فَصاعِدًا. وقِيلَ: المُرادُ بِهَذِهِ الحَسَنَةِ هي المَوَدَّةُ في القُرْبى، والحَمْلُ عَلى العُمُومِ أوْلى، ويَدْخُلُ تَحْتَهُ المَوَدَّةُ في القُرْبى دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أيْ: كَثِيرُ المَغْفِرَةِ لِلْمُذْنِبِينَ كَثِيرُ الشُّكْرِ لِلْمُطِيعِينَ. قالَ قَتادَةُ: غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ شَكُورٌ لِلْحَسَناتِ. وقالَ السُّدِّيُّ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ آلِ مُحَمَّدٍ. ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أمْ هي المُنْقَطِعَةُ أيْ: بَلْ أيَقُولُونَ افْتَرى مُحَمَّدٌ عَلى اللَّهِ كَذِبًا بِدَعْوى النُّبُوَّةِ، والإنْكارُ لِلتَّوْبِيخِ. ومَعْنى افْتِراءِ الكَذِبِ: اخْتِلاقُهُ. ثُمَّ أجابَ - سُبْحانَهُ - عَنْ قَوْلِهِمْ هَذا فَقالَ: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ أيْ: لَوِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لَشاءَ عَدَمَ صُدُورِهِ مِنهُ وخَتَمَ عَلى قَلْبِهِ بِحَيْثُ لا يَخْطُرُ بِبالِهِ شَيْءٌ مِمّا كَذَبَ فِيهِ كَما تَزْعُمُونَ. قالَ قَتادَةُ: يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فَيُنْسِيكَ القُرْآنَ. فَأخْبَرَهم أنَّهُ لَوِ افْتَرى عَلَيْهِ لَفَعَلَ بِهِ ما أخْبَرَهم بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ: إنْ يَشَأْ يَرْبِطْ عَلى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلى أذاهم حَتّى لا يَدْخُلَ قَلْبَكَ مَشَقَّةٌ مِن قَوْلِهِمْ. وقِيلَ: الخِطِابُ لَهُ، والمُرادُ الكُفّارُ أيْ: إنْ يَشَأْ يَخْتِمْ عَلى قُلُوبِ الكُفّارِ ويُعاجِلْهم بِالعُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ القُشَيْرِيُّ. وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ أنْ تَفْتَرِيَ عَلى اللَّهِ كَذِبًا لَطَبَعَ عَلى قَلْبِكَ، فَإنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلى الكَذِبِ إلّا مَن كانَ مَطْبُوعًا عَلى قَلْبِهِ، والأوَّلُ أوْلى، وقَوْلُهُ: ﴿ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ﴾ اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ مِن نَفْيِ الِافْتِراءِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ تامٌّ، يَعْنِي وما بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ. وقالَ الكِسائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ أيْ: واللَّهُ يَمْحُو الباطِلَ. وقالَ الزَّجّاجُ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ تامٌّ. وقَوْلُهُ: ﴿ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ﴾ احْتِجاجٌ عَلى مَن أنْكَرَ ما أتى بِهِ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أيْ: لَوْ كانَ ما أتى بِهِ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - باطِلًا لَمَحاهُ كَما جَرَتْ بِهِ عادَتُهُ في المُفْتَرِينَ ﴿ويُحِقُّ الحَقَّ﴾ أيِ: الإسْلامَ فَيُبَيِّنُهُ بِكَلِماتِهِ أيْ: بِما أنْزَلَ مِنَ القُرْآنِ ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ عالِمٌ بِما في قُلُوبِ العِبادِ، وقَدْ سَقَطَتِ الواوُ مِن ويَمْحُو في بَعْضِ المَصاحِفِ كَما حَكاهُ الكِسائِيُّ. ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ﴾ أيْ: يَقْبَلُ مِنَ المُذْنِبِينَ مِن عِبادِهِ تَوْبَتَهم إلَيْهِ مِمّا عَمِلُوا مِنَ المَعاصِي واقْتَرَفُوا مِنَ السَّيِّئاتِ، والتَّوْبَةُ النَّدَمُ عَلى المَعْصِيَةِ والعَزْمُ عَلى عَدَمِ المُعاوَدَةِ لَها. وقِيلَ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ أوْلِيائِهِ وأهْلِ طاعَتِهِ. والأوَّلُ أوْلى، فَإنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مِن جَمِيعِ العِبادِ مُسْلِمِهِمْ (p-١٣٢٨)وكافِرِهِمْ إذا كانَتْ صَحِيحَةً صادِرَةً عَنْ خُلُوصِ نِيَّةٍ وعَزِيمَةٍ صَحِيحَةٍ ﴿ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ عَلى العُمُومِ لِمَن تابَ عَنْ سَيِّئَتِهِ ﴿ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ فَيُجازِي كُلًّا بِما يَسْتَحِقُّهُ. قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ وخَلَفٌ تَفْعَلُونَ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الخَبَرِ، واخْتارَ القِراءَةَ الثّانِيَةَ أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ لِأنَّ هَذا الفِعْلَ وقَعَ بَيْنَ خَبَرَيْنِ. ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ المَوْصُولُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أيْ: يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِلَّذِينِ آمَنُوا ويُعْطِيهِمْ ما طَلَبُوهُ مِنهُ، يُقالُ: أجابَ واسْتَجابَ بِمَعْنًى. وقِيلَ: المَعْنى يَقْبَلُ عِبادَةَ المُخْلِصِينَ، وقِيلَ التَّقْدِيرُ: ويَسْتَجِيبُ لَهم، فَحُذِفَ اللّامُ كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ ﴿وإذا كالُوهُمْ﴾ [المطففين: ٣] أيْ: كالُوا لَهم، وقِيلَ: إنَّ المَوْصُولَ في مَحَلِّ رَفْعٍ أيْ: يُجِيبُونَ رَبَّهم إذا دَعاهم كَقَوْلِهِ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤] قالَ المُبَرِّدُ: مَعْنى ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويَسْتَدْعِي الَّذِينَ آمَنُوا الإجابَةَ، هَكَذا حَقِيقَةُ مَعْنى اسْتَفْعَلَ، فالَّذِينَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، والأوَّلُ أوْلى ﴿ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ أيْ: يَزِيدُهم عَلى ما طَلَبُوهُ مِنهُ، أوْ عَلى ما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوابِ تَفَضُّلًا مِنهُ، وقِيلَ: يُشَفِّعُهم في إخْوانِهِمْ ﴿والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ هَذا لِلْكافِرِينَ مُقابِلًا ما ذَكَرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيما قَبْلَهُ. ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ أيْ: لَوْ وسَّعَ اللَّهُ لَهم رِزْقَهم لَبَغَوْا في الأرْضِ، لَعَصَوْا فِيها وبَطَرُوا النِّعْمَةَ وتَكَبَّرُوا وطَلَبُوا ما لَيْسَ لَهم طَلَبُهُ، وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ جَعَلَهم سَواءً في الرِّزْقِ لَما انْقادَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ولَتَعَطَّلَتِ الصَّنائِعُ، والأوَّلُ أوْلى. والظّاهِرُ عُمُومُ أنْواعِ الرِّزْقِ، وقِيلَ: هو المَطَرُ خاصَّةً ﴿ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ أيْ: يُنَزِّلُ مِنَ الرِّزْقِ لِعِبادِهِ بِتَقْدِيرٍ عَلى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ البالِغَةُ ﴿إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ﴾ بِأحْوالِهِمْ بَصِيرٌ بِما يُصْلِحُهم مِن تَوْسِيعِ الرِّزْقِ وتَضْيِيقِهِ، فَيُقَدِّرُ لِكُلِّ أحَدٍ مِنهم ما يُصْلِحُهُ ويَكُفُّهُ عَنِ الفَسادِ بِالبَغْيِ في الأرْضِ. ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ أيِ: المَطَرَ الَّذِي هو أنْفَعُ أنْواعِ الرِّزْقِ وأعَمُّها فائِدَةً وأكْثَرُها مَصْلَحَةً ﴿مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا﴾ أيْ: مِن بَعْدِ ما أيِسُوا عَنْ ذَلِكَ فَيَعْرِفُونَ بِهَذا الإنْزالِ لِلْمَطَرِ بَعْدَ القُنُوطِ مِقْدارَ رَحْمَتِهِ لَهم، ويَشْكُرُونَ لَهُ ما يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهِ ﴿وهُوَ الوَلِيُّ﴾ لِلصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ وجَلْبِ المَنافِعِ لَهم، ودَفْعِ الشُّرُورِ عَنْهُمُ الحَمِيدُ المُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ مِنهم عَلى إنْعامِهِ خُصُوصًا وعُمُومًا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ قالَ: عَيْشَ الآخِرَةِ ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها﴾ الآيَةَ. قالَ: مَن يُؤْثِرُ دُنْياهُ عَلى آخِرَتِهِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نَصِيبًا في الآخِرَةِ إلّا النّارَ، ولَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ مِنَ الدُّنْيا شَيْئًا إلّا رِزْقًا فُرِغَ مِنهُ وقُسِمَ لَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ حِبّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّناءِ والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأرْضِ ما لَمْ يَطْلُبُوا الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، فَمَن عَمِلَ مِنهم عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ» . وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: قالَ «تَلا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ الآيَةَ، ثُمَّ قالَ: " يَقُولُ اللَّهُ: ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبادَتِي أمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وأسُدَّ فَقْرَكَ، وإنْ لا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا ولَمْ أسُدَّ فَقْرَكَ "» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ عَساكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: الحَرْثُ حَرْثِانِ، فَحَرْثُ الدُّنْيا المالُ والبَنُونَ، وحَرْثُ الآخِرَةِ الباقِياتُ الصّالِحاتُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبى آلِ مُحَمَّدٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَجِلْتُ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِن قُرَيْشٍ إلّا كانَ لَهُ فِيهِمْ قَرابَةٌ، فَقالَ: إلّا أنْ تَصِلُوا ما بَيْنِي وبَيْنَكم مِنَ القَرابَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قالَ: قالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا أنْ تَوَدُّونِي في نَفْسِي لِقَرابَتِي وتَحْفَظُوا القَرابَةَ الَّتِي بَيْنِي وبَيْنَكم» . وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ سَعْدٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: «أكْثَرَ النّاسُ عَلَيْنا في هَذِهِ الآيَةِ ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ فَكَتَبْنا إلى ابْنِ عَبّاسٍ نَسْألُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ واسِطَ النَّسَبِ في قُرَيْشٍ لَيْسَ بَطْنٌ مِن بُطُونِهِمْ إلّا ولَهُ فِيهِ قَرابَةٌ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا﴾ عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَتِي مِنكم وتَحْفَظُونِي بِها» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: «كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قَرابَةٌ مِن جَمِيعِ قُرَيْشٍ، فَلَمّا كَذَّبُوهُ وأبَوْا أنْ يُبايِعُوهُ قالَ: يا قَوْمِ إذا أبَيْتُمْ أنْ تُبايِعُونِي فاحْفَظُوا قَرابَتِي مِنكم، ولا يَكُونُ غَيْرُكم مِنَ العَرَبِ أوْلى بِحِفْظِي ونُصْرَتِي مِنكم»، وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا مِن طَرِيقٍ أُخْرى نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قالَتِ الأنْصارُ فَعَلْنا وفَعَلْنا وكَأنَّهم فَخَرُوا، فَقالَ العَبّاسُ: لَنا الفَضْلُ عَلَيْكم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَأتاهم في مَجالِسِهِمْ فَقالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ألَمْ تَكُونُوا أذِلَّةً فَأعَزَّكُمُ اللَّهُ ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: أفَلا تُجِيبُونَ ؟ قالُوا: ما نَقُولُ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: ألا تَقُولُونَ ألَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْناكَ ؟ ألَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْناكَ ؟ ألَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْناكَ ؟ فَما زالَ يَقُولُ حَتّى جَثَوْا عَلى الرُّكَبِ وقالُوا: أمْوالُنا وما في أيْدِينا لِلَّهِ ورَسُولِهِ، فَنَزَلَتْ ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾» وفي (p-١٣٢٩)إسْنادِهِ يَزِيدُ بْنُ أبِي زِيادٍ، وهو ضَعِيفٌ، والأوْلى أنَّ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ لا مَدَنِيَّةٌ، وقَدْ أشَرْنا في أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ وما بَعْدَها مَدَنِيَّةٌ، وهَذا مُتَمَسَّكُهم. وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ والدَّيْلَمِيُّ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ أيْ: تَحْفَظُونِي في أهْلِ بَيْتِي وتَوَدُّونَهم بِي» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ. قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن قَرابَتُكَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ وجَبَتْ عَلَيْنا مَوَدَّتُهم ؟ قالَ: عَلِيٌّ وفاطِمَةُ ووَلَداهُما» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَكَّةَ، وكانَ المُشْرِكُونَ يَوَدُّونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَأنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿لا أسْألُكم عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ أجْرًا عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ إلّا الحِفْظَ لِي في قَرابَتِي فِيكم، فَلَمّا هاجَرَ إلى المَدِينَةِ أحَبَّ أنْ يُلْحِقَهُ بِإخْوَتِهِ مِنَ الأنْبِياءِ فَقالَ: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ [سبأ: ٤٧] يَعْنِي: ثَوابَهُ وكَرامَتَهُ في الآخِرَةِ كَما قالَ نُوحٌ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٩] وكَما قالَ هُودٌ وصالِحٌ وشُعَيْبٌ لَمْ يَسْتَثْنُوا أجْرًا كَما اسْتَثْنى النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وهي مَنسُوخَةٌ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في الآيَةِ: قُلْ لا أسْألُكم عَلى ما أتَيْتُكم بِهِ مِنَ البَيِّناتِ والهُدى أجْرًا إلّا أنْ تَوَدُّوا اللَّهَ وأنْ تَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِطاعَتِهِ. هَذا حاصِلُ ما رُوِيَ عَنْ حَبْرِ الأُمَّةِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. والمَعْنى الأوَّلُ هو الَّذِي صَحَّ عَنْهُ، ورَواهُ عَنْهُ الجَمْعُ الجَمُّ مِن تَلامِذَتِهِ فَمَن بَعْدَهم، ولا يُنافِيهِ ما رُوِيَ عَنْهُ مِنَ النَّسْخِ، فَلا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ القُرْآنُ في مَكَّةَ بِأنْ يَوَدَّهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ لِما بَيْنَهُ وبَيْنَهم مِنَ القُرْبى ويَحْفَظُوهُ بِها، ثُمَّ يُنْسَخُ ذَلِكَ ويَذْهَبُ هَذا الِاسْتِثْناءُ مِن أصْلِهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذَكَرْنا مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَسْألْ عَلى التَّبْلِيغِ أجْرًا عَلى الإطْلاقِ، ولا يَقْوى ما رُوِيَ مِن حَمْلِها عَلى آلِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى مُعارَضَةِ ما صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن تِلْكَ الطُّرُقِ الكَثِيرَةِ، وقَدْ أغْنى اللَّهُ آلَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذا بِما لَهم مِنَ الفَضائِلِ الجَلِيلَةِ والمَزايا الجَمِيلَةِ، وقَدْ بَيَّنّا بَعْضَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِنا لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ﴾ [الأحزاب: ٣٣] وكَما لا يَقْوى هَذا عَلى المُعارَضَةِ، فَكَذَلِكَ لا يَقْوى ما رُوِيَ عَنْهُ أنَّ المُرادَ بِالمَوَدَّةِ في القُرْبى أنْ يَوَدُّوا اللَّهَ وأنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِطاعَتِهِ، ولَكِنَّهُ يَشُدُّ مِن عَضُدِ هَذا أنَّهُ تَفْسِيرٌ مَرْفُوعٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وإسْنادُهُ عِنْدَ أحْمَدَ في المُسْنَدِ هَكَذا: حَدَّثَنا حَسَنُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا قَزَعَةُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. ورَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إبْراهِيمَ عَنْ قَزَعَةَ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ. قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أبِي هانِئٍ الخَوْلانِيِّ قالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ حُرَيْثٍ وغَيْرَهُ يَقُولُونَ: إنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أصْحابِ الصُّفَّةِ ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ وذَلِكَ أنَّهم قالُوا لَوْ أنَّ لَنا، فَتَمَنَّوُا الدُّنْيا. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب