الباحث القرآني

﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ﴾ أيْ لَتَكَبَّرُوا فِيها بَطَرًا وتَجاوَزُوا اَلْحَدَّ اَلَّذِي يَلِيقُ بِالعَبِيدِ أوْ لَظَلَمَ بَعْضُهم بَعْضًا فَإنَّ اَلْغِنى مَبْطَرَةٌ مَأْشَرَةٌ، وكَفى بِحالِ قارُونَ عِبْرَةً، وفي اَلْحَدِيثِ «(أخْوَفُ ما أخافُ عَلى أُمَّتِي زَهْرَةُ اَلدُّنْيا وكَثْرَتُها)» ولِبَعْضِ اَلْعَرَبِ: ؎وقَدْ جَعَلَ اَلْوَسْمِيُّ يَنْبُتُ بَيْنَنا وبَيْنَ بَنِي رُومانَ نَبْعًا وشَوْحَطا وأصْلُ اَلْبَغْيُ طَلَبُ أكْثَرَ مِمّا يَجِبُ بِأنْ يَتَجاوَزَ في اَلْقَدْرِ والكَمِّيَّةِ أوْ في اَلْوَصْفِ والكَيْفِيَّةِ ﴿ولَكِنْ يُنَزِّلُ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ اِبْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ مِنَ اَلْإنْزالِ ﴿بِقَدَرٍ﴾ بِتَقْدِيرٍ ﴿ما يَشاءُ﴾ وهو ما اِقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ جَلَّ شَأْنُهُ ﴿إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ مُحِيطٌ بِخَفِيّاتِ أُمُورِهِمْ وجَلاياها فَيُقَدِّرُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم في كُلِّ وقْتٍ مِن أوْقاتِهِمْ ما يَلِيقُ بِشَأْنِهِ فَيُفْقِرُ ويُغْنِي ويَمْنَعُ ويُعْطِي ويَقْبِضُ ويَبْسُطُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ اَلْحِكْمَةُ اَلرَّبّانِيَّةُ ولَوْ أغْناهم جَمِيعًا لَبَغَوْا ولَوْ أفْقَرَهم لَهَلَكُوا. واسْتَشْكَلَتِ اَلْآيَةُ بِأنَّ اَلْغِنى كَما يَكُونُ سَبَبَ اَلْبَغْيِ فَكَذَلِكَ اَلْفَقْرُ قَدْ يَكُونُ فَلا يَظْهَرُ اَلشَّرْطِيَّةُ، وأجابَ جارُ اَللَّهِ بِأنَّهُ لا شُبْهَةَ أنَّ اَلْبَغْيَ مَعَ اَلْفَقْرِ أقَلُّ ومَعَ اَلْبَسْطِ أكْثَرُ وأغْلَبُ وكِلاهُما سَبَبٌ ظاهِرٌ لِلْإقْدامِ عَلى اَلْبَغْيِ والإحْجامِ عَنْهُ فَلَوْ عَمَّ اَلْبَسْطُ لَغَلَبَ اَلْبَغْيُ حَتّى يَنْقَلِبَ اَلْأمْرُ إلى عَكْسِ ما عَلَيْهِ اَلْآنَ وأرادَ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّ نِظامَ اَلْعالَمِ عَلى ما هو عَلَيْهِ يَسْتَمِرُّ وإنْ كانَ قَدْ يَصْدُرُ مِنَ اَلْغَنِيِّ في بَعْضِ اَلْأحْيانِ بَغْيٌ ومِنَ اَلْفَقِيرِ كَذَلِكَ لَكِنْ في أحَدِهِما ما يَدْفَعُ اَلْآخَرَ أمّا لَوْ أفْقَرَهم كُلَّهم لَكانَ اَلضَّعْفُ والهَلَكُ لازِمًا ولَوْ بَسَطَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ مَعَ أنَّ اَلْحاجَةَ طَبِيعِيَّةٌ لَكانَ مِنَ اَلْبَغْيِ ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ لِأنَّ نِظامَ اَلْعالَمِ بِالفَقْرِ أكْثَرُ مِنهُ بِالغِنى، وهَذا أمْرٌ ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ ثُمَّ إنَّ اَلْفَقْرَ اَلْكُلِّيَّ لا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ اَلْبَغْيُ لِلضَّعْفِ اَلْعامِّ ولِأنَّهُ لا يَجِدُ حاجَتَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ لِيَظْلِمَهُ، وأمّا اَلْغِنى اَلْكُلِّيُّ فَعِنْدَهُ اَلْبَغْيُ اَلتّامُّ، وأمّا اَلَّذِي عَلَيْهِ سُنَّةُ اَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَهو اَلَّذِي جَمَعَ اَلْأمْرَيْنِ مُشْتَمِلًا عَلى خَوْفٍ لِلْغَنِيِّ مِنَ اَلْفُقَراءِ يَزَعُهُ عَنِ اَلظُّلْمِ وخَوْفٍ لِلْفَقِيرِ مِنَ اَلْأغْنِياءِ أكْثَرَ مِنهُ يَدْعُوهُ إلى اَلتَّعاوُنِ لِيَفُوزَ بِمُبْتَغاهُ ويَزَعَهُ عَنِ اَلْبَغْيِ، ثُمَّ قَدْ يَتَّفِقُ بَغْيٌ مِن هَذا أوْ ذاكَ كَذا قَرَّرَهُ صاحِبُ اَلْكَشْفِ ثُمَّ قالَ: وهَذا جَوابٌ حَسَنٌ لا تَكَلُّفَ فِيهِ وهو إشارَةٌ إلى رَدِّ اَلْعَلّامَةِ اَلطَّيِّبِيِّ فَإنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ جَوابٌ مُتَكَلَّفٌ وأنَّ اَلسُّؤالَ قَوِيٌّ، وذَهَبَ هو إلى أنَّ اَلْمُرادَ ﴿بِعِبادِهِ﴾ مَن خَصَّهُمُ اَللَّهُ تَعالى بِالكَرامَةِ وجَعَلَهم مِن أوْلِيائِهِ ثُمَّ قالَ: ويَنْصُرُهُ اَلتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (p-39)ووَضَعَ اَلْمُظْهَرَ مَوْضِعَ اَلْمُضْمَرِ أيْ إنَّهُ تَعالى خَبِيرٌ بِأحْوالِ عِبادِهِ اَلْمُكْرَمِينَ بَصِيرٌ بِما يُصْلِحُهم وما يُرْدِيهِمْ، وإلَيْهِ يُنْظَرُ ما ورَدَ عَنْهُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا أحَبَّ اَللَّهُ تَعالى عَبْدًا حَماهُ اَلدُّنْيا كَما يَظَلُّ أحَدُكم يَحْمِي سَقِيمَهُ اَلْماءَ، ويَشُدُّ مِن عَضُدِهِ قَوْلُ خَبّابِ بْنِ اَلْأرَتِّ نَظَرْنا إلى أمْوالِ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعَ فَتَمَنَّيْناها فَنَزَلَتْ ﴿ولَوْ بَسَطَ﴾ اَلْآيَةَ وقَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ طَلَبَ قَوْمٌ مِن أهْلِ اَلصُّفَّةِ مِنَ اَلرَّسُولِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يُغْنِيَهُمُ اَللَّهُ تَعالى ويَبْسُطَ لَهُمُ اَلْأمْوالَ والأرْزاقَ فَنَزَلَتْ وعَلَيْهِ تَفْسِيرُ مُحْيِي اَلسُّنَّةِ اِنْتَهى. ولا يَخْفى أنَّ اَلْأنْسَبَ بِحالِ اَلْمُكْرَمِينَ اَلْمُصْطَفَيْنَ مِن عِبادِهِ تَعالى أنْ لا يُبْطِرَهُمُ اَلْغِنى لِصَفاءِ بَواطِنِهِمْ وقُوَّةِ تَوَجُّهِهِمْ إلى حَظائِرِ اَلْقُدْسِ ومَزِيدِ تَعَلُّقِ قُلُوبِهِمْ بِمَحْبُوبِهِمْ ووُقُوفِهِمْ عَلى حَقائِقِ اَلْأشْياءِ وكَمالِ عِلْمِهِمْ بِمُنْتَهى زَخارِفِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا، وأبْناءُ اَلدُّنْيا لَوْ فَكَّرُوا في ذَلِكَ حَقَّ اَلتَّفَكُّرِ لَهانَ أمْرُهم وقَلَّ شَغَفُهم كَما قِيلَ: ؎لَوْ فَكَّرَ اَلْعاشِقُ في مُنْتَهى ∗∗∗ حُسْنِ اَلَّذِي يَسْبِيهِ لَمْ يَسْبِهْ فَلَعَلَّ اَلْأوْلى ما تَقَدَّمَ أوْ يُقالُ إنَّ هَذا في بَعْضِ اَلْعِبادِ اَلْمُؤْمِنِينَ فَتَأمَّلْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب