الباحث القرآني
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [فصلت ٢٩]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا﴾ كفروا بمن؟ كفروا بالله عز وجل بسبَب إضلالِ الشيطان من الجِنِّ والإنس.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي يقول المؤلف: (في النار)، ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا﴾ قوله: (في النار) هذا قيد لا يدل عليه القرآن فإنه يحتمل أنهم يقولون ذلك في النار أو في عرصات القيامة، الله أعلم، لكنَّهم لا بد أن يقولوا هذا القول.
قال: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ ﴿أَرِنَا﴾ أي: اجعَلْنا نرَى، و﴿اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ ﴿اللَّذَيْنِ﴾ اسم موصول مثَنى، والمراد الجنس لا الواحد.
وقوله: ﴿أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ بيانٌ لـ(الذين)، قال المؤلف: (أي: إبليس وقابيل سنَّا الكفر والقتل) يعني معناه: أن المؤلف رحمه الله حمَل هذا العموم على التَّعْيِين، فقال: ﴿اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا﴾ مثنَّى (اثنين)؛ أحدُهما إبليس سَن الكفر، هو أوَّل مَن كفَرَ، والثاني: قابيل سَنَّ القتل، فالأول عدوانه في حق الله، والثاني عدوانه في حق عباد الله.
أمَّا إبليس فأوَّل من سَنَّ الكفر؛ لأن الله أمره أن يسجد لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين، وأما قابيل فأوَّلُ مَن سَنَّ القتل بغير حَقٍّ؛ لأنه قتَلَ أخاه حسدًا وبغْيًا، قرَّبا قربانًا فتُقُبِّل مِن أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر. وكيف عَلِما أنه تُقُبِّلَ من أحدهما دون الآخر؟ الله أعلم، إما أن يكون بنارٍ نزلت، فأكلَت ما تُقُبِّل، كما يكون ذلك في الغنائم سابقًا، وإما بغيرِ ذلك من العلامات، المهم أن أحدَهما تُقُبِّل منه، الثاني لم يُتَقَبِّل؛ الذي تُقُبِّلَ منه هو هابيل، والثاني قابيل لم يُتَقَبَّلْ منه، فحسدَه وقال: لأقتلنك. لماذا؟ حسدًا؛ لأن الله تقبَّل منه، فقال له أخوه هابيل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة ٢٧]. كأنَّه يقول له: اتَّقِ الله فيتقَبَّل منك، ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة ٢٨]؛ يعني أنك إن أرَدت أن تقتلني (...) لأني أخاف الله، ولعلَّ هذا كان في شريعة مَن سبَقَ.
الذي تُقُبل منه هو هابيل، والثاني قابيل لم يُتقبل منه، فحسده، وقال: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ [المائدة ٢٧]، لماذا؟ حسدًا؛ لأن الله تقبل منه فقال له أخوه هابيل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة ٢٧]، كأنه يقول له: اتق الله فيتقبل منك.
ثم قال له: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة ٢٨] يعني: أنك إن أردت أن (...) لأني أخاف الله، ولعل هذا كان في شريعة من سبق أنه لا يجوز للإنسان أن يدافع عن نفسه، أو أنه خاف من مفسدة أكبر، ومعلوم أن دفع المفسدة الأكبر أمر واجب.
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ [المائدة ٢٩، ٣٠] أي: سهلته له ﴿فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة ٣٠]، فكان قابيل أول من سن القتل بغير حق، وصارت كل نفس تُقتل بغير حق فعلى قابيل شيء من وزرها، والعياذ بالله؛ لأنه أول من سن القتل، ومن سن سُنَّة سيئة فعليه وزرُها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، لكن هل الأمر -كما قال المؤلف- إنه الشيطان؛ يعني إبليس الذي أبى واستكبر عن السجود لآدم وقابيل، أو المراد الجنس؟
الصواب: الثاني بلا شك؛ لأن كثيرًا من الكافرين لا يخطر ببالهم أنهم كفروا تأسيًا بالشيطان الذي أبى واستكبر، وكثير من القتلة لا يتأتى بباله أنه فعل ذلك تأسيًا بقابيل، فإذا كانت الآية تدلُ بلفظها على العموم والمعنى يقتضي ذلك فإنه لا وجه لكوننا نخُصُها بمعين.
وهذه قاعدة يجب أن نفهمها من قواعد التفسير: أن اللفظ العام لا يجوز أن يُقتصر فيه على بعض أفراده إلا بدليل، فإن لم يكن دليلٌ فالواجب العموم.
هنا نقول: الواجب العموم؛ لأن اللفظ عام؛ ولأن المعنى يقتضيه؛ لأن كُل إنسان كافر قد لا يخطُر بباله أنه متأسٍّ بالشيطان؛ بإبليس، كلُ إنسان يقتُل عمدًا بلا حق لا يخطُر بباله أنه قتل تأسيًا بقابيل، وحينئذ فاللفظ لا يساعد، والمعنى لا يساعد؛ أعني: لا يساعدان على التخصيص بإبليس وقابيل.
وقولُه: ﴿أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [فصلت ٢٩]، (الجن) -على كلام المؤلف- هو إبليس، والإنس: قابيل.
والصواب: العموم.
فإن قال قائل: نحن نعلم أن الإنسان يضله البشر، يأتي إنسان سيء ويضله، لكن كيف يكون من الجن؟
نقول: لأن الجن وعلى رأسهم الشيطان يأمر الإنسان بالفحشاء ويأمره بالمنكر ويأمره بالكفر فيكون بذلك مُضلًّا له، أرأيتم ما حصل من آدم وزوجه ألم يكُن الشيطان قد أضلهما؟ بلى، قد أضلهما؛ نهاهما الله عن الأكل من الشجرة فجاء الشيطان ودلاهما بغرور وجعل يُقسم لهما أنه ناصح، ووسوس إليهما حتى أكلا من الشجرة.
﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ [فصلت ٢٩] (نجعلهما): بالجزم جواب الأمر في قوله: ﴿أَرِنَا﴾ [فصلت ٢٩] يعني: إن أريتنا إياهما نجعلهما تحت أقدامنا في النار، ولا شك أن الذي يجعله الإنسان تحت قدمه قد أذله أعظم إذلال، ولهذا من الأمثال السائرة أن الإنسان إذا أراد إعزاز شخص قال: أنت مني على الرأس، وإذا أراد إذلاله قال: أنت تحت قدمي، فهم يقولون: أرنا هذين الذين أضلانا نجعلهما تحت أقدامنا.
﴿لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ [فصلت ٢٩] (أي: أشد عذابًا منا)، كما كانا عاليين علينا من قبل فلنجعلهما نحن الآن تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: إقرار الكفار بربوبية الله، وأنه المجيب للدعاء لقولهم: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا﴾ [فصلت ٢٩] وهذا كلام الكفار.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان ينبغي له أن يبتعد، بل يجب عليه أن يبتعد عن قُرناء السوء؛ لقوله: ﴿اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [فصلت ٢٩]، وقد حذر النبي ﷺ من جليس السوء فقال: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمُ مَنْ يُخَالِلُ»[[أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨) من حديث أبي هريرة.]] أي: على دين صديقه ومحبه «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمُ مَنْ يُخَالِلُ»، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ كَنَافِخِ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ خَبِيثَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٣٤)، ومسلم (٢٦٢٨ / ١٤٦) من حديث أبي موسى الأشعري.]]، فاحذر قرين السوء، لا تجتمع به، لا تُصادقه، لا تستأمنه على أي شيء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تبرؤ التابعين من المتبوعين يوم القيامة، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [البقرة ١٦٦]، فالمتبوعون في آية البقرة يتبرؤون من التابعين، كما أن التابعين أيضًا يتبرؤون من المتبوعين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإضلال يكون من الجن والإنس؛ لقوله: ﴿أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [فصلت ٢٩] فمصاحبة الإنسي للإنسي واضحة، مُصاحبة الجني للإنسي أيضًا مستفادة من قوله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت ٢٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: شدة حنق هؤلاء الضالين على المضلين؛ لقوله: ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ [فصلت ٢٩].
{"ayah":"وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ رَبَّنَاۤ أَرِنَا ٱلَّذَیۡنِ أَضَلَّانَا مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ نَجۡعَلۡهُمَا تَحۡتَ أَقۡدَامِنَا لِیَكُونَا مِنَ ٱلۡأَسۡفَلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق