الباحث القرآني

(p-٤٩٢)﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أنْطَقَنا اللَّهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿وذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا فالنّارُ مَثْوًى لَهم وإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذابًا شَدِيدًا ولَنَجْزِيَنَّهم أسْوَأ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿ذَلِكَ جَزاءُ أعْداءِ اللَّهِ النّارُ لَهم فِيها دارُ الخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضَلّانا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ . لَمّا بَيَّنَ تَعالى كَيْفِيَّةَ عُقُوبَةِ أُولَئِكَ الكُفّارِ في الدُّنْيا، أرْدَفَهُ بِكَيْفِيَّةِ عُقُوبَةِ الكُفّارِ أُولَئِكَ وغَيْرِهِمْ. وانْتَصَبَ (يَوْمَ) بِـ ﴿اذْكُرْ﴾ [المائدة: ١١٠] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يُحْشَرُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و(أعْداءُ) رَفْعًا، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ونافِعٌ، والأعْرَجُ، وأهْلُ المَدِينَةِ: بِالنُّونِ، (أعْداءً) نَصْبًا، وكَسَرَ الشِّينَ الأعْرَجُ. وتَقَدَّمَ مَعْنى (يُوزَعُونَ) في النَّمْلِ، و(حَتّى) غايَةٌ لِـ ﴿يُحْشَرُوا﴾ [الأنعام: ٥١] ﴿أعْداءُ اللَّهِ﴾: هُمُ الكُفّارُ مِنَ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، و(ما) بَعْدَ إذا زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى التَّأْكِيدِ فِيها أنَّ وقْتَ مَجِيئِهِمُ النّارَ لا مَحالَةَ أنْ يَكُونَ وقْتَ الشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ، ولا وجْهَ لِأنْ يَخْلُو مِنها ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ آمَنتُمْ بِهِ﴾ [يونس: ٥١] أيْ: لا بُدَّ لِوَقْتِ وُقُوعِهِ مِن أنْ يَكُونَ وقْتَ إيمانِهِمْ بِهِ. انْتَهى. ولا أدْرِي أنَّ مَعْنى زِيادَةِ (ما) بَعْدَ، (إذا) التَّوْكِيدُ فِيها، ولَوْ كانَ التَّرْكِيبُ بِغَيْرِ (ما)، كانَ بِلا شَكٍّ حُصُولُ الشَّرْطِ مِن غَيْرِ تَأخُّرٍ؛ لِأنَّ أداةَ الشَّرْطِ ظَرْفٌ، فالشَّهادَةُ واقِعَةٌ فِيهِ لا مَحالَةَ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: ﴿حَتّى إذا ما جاءُوها﴾، أيْ: النّارَ، وسُئِلُوا عَمّا أجْرَمُوا فَأنْكَرُوا، ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهُمْ﴾ بِما اكْتَسَبُوا مِنَ الجَرائِمِ، وكانُوا حَسِبُوا أنْ لا شاهِدَ عَلَيْهِمْ. فَفِي الحَدِيثِ: «أنَّ أوَّلَ ما يَنْطِقُ مِنَ الإنْسانِ فَخِذُهُ اليُسْرى، ثُمَّ تَنْطِقُ الجَوارِحُ فَيَقُولُ: تَبًّا لَكِ، وعَنْكِ كُنْتُ أُدافِعُ» . ولَمّا كانْتِ الحَوّاسُّ خَمْسَةٌ: السَّمْعُ والبَصَرُ والشَّمُّ والذَّوْقُ واللَّمْسُ، وكانَ الذَّوْقُ مُنْدَرِجًا في اللَّمْسِ، إذْ بِمُماسَّةِ جِلْدَةِ اللِّسانِ والحَنَكِ لِلْمَذُوقِ يَحْصُلُ إدْراكُ المَذُوقِ، وكانَ حُسْنُ الشَّمِّ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ ولا أمْرٌ ولا نَهْيٌ، وهو ضَعِيفٌ، اقْتَصَرَ مِنَ الحَواسِّ عَلى السَّمْعِ والبَصَرِ واللَّمْسِ، إذْ هَذِهِ هي الَّتِي جاءَ فِيها التَّكْلِيفُ، ولَمْ يَذْكُرْ حاسَّةَ الشَّمِّ؛ لِأنَّهُ لا تَكْلِيفَ فِيهِ، فَهَذِهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - حِكْمَةُ الِاقْتِصارِ عَلى هَذِهِ الثَّلاثَةِ. والظّاهِرُ أنَّ الجُلُودَ هي المَعْرُوفَةُ. وقِيلَ: هي الجَوارِحُ كَنّى بِها عَنْها. وقِيلَ: كَنّى بِها عَنِ الفُرُوجِ. قِيلَ: وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، كَما (p-٤٩٣)كَنّى عَنِ النِّكاحِ بِالسِّرِّ. ﴿بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الجَرائِمِ. ثُمَّ سَألُوا جُلُودَهم عَنْ سَبَبِ شَهادَتِها عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبًا غَيْرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْطَقَها. ولَمّا صَدَرَ مِنها ما صَدَرَ مِنَ العُقَلاءِ، وهي الشَّهادَةُ، خاطَبُوها بِقَوْلِهِمْ: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ ؟ مُخاطَبَةَ العُقَلاءِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (لِمَ شَهِدْتُنَّ) ؟ بِضَمِيرِ المُؤَنَّثاتِ ؟ و(كُلَّ شَيْءٍ): لا يُرادُ بِهِ العُمُومُ، بَلِ المَعْنى: كُلُّ ناطِقٍ بِما ذَلِكَ لَهُ عادَةً، أوْ كانَ ذَلِكَ فِيهِ خَرْقَ عادَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادَ بِـ (كُلَّ شَيْءٍ): كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الحَيَوانِ، كَما أرادَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، مِنَ المَقْدُوراتِ. والمَعْنى: أنَّ نُطْقَنا لَيْسَ بِعَجَبٍ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ الَّذِي قَدَرَ عَلى إنْطاقِ كُلِّ حَيَوانٍ، وعَلى خَلْقِكم وإنْشائِكم، وعَلى إعادَتِكم ورَجْعِكم إلى جَزائِهِ، وإنَّما قالُوا لَهم: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ لِتَعاظُمِهِمْ مِنَ شَهادَتِها وكَبُرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِافْتِضاحِ عَلى ألْسِنَةِ جَوارِحِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أبْصارُهم وكَيْفَ تَنْطِقُ ؟ (قُلْتُ): اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - يُنْطِقُها، كَما أنْطَقَ الشَّجَرَةَ بِأنْ يُخْلَقَ فِيها كَلامٌ. انْتَهى، وهَذا الرَّجُلُ مُولَعٌ بِمَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ، يُدْخِلُهُ في كُلِّ ما يَقْدِرُ أنَّهُ يُدْخِلُ. وإنَّما أشارَ بِقَوْلِهِ: كَما أنْطَقَ الشَّجَرَةَ بِأنْ يَخْلُقَ فِيها كَلامًا إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُكَلِّمْ مُوسى حَقِيقَةً، وإنَّما الشَّجَرَةُ هي الَّتِي سَمِعَ مِنها الكَلامَ بِأنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيها كَلامًا خاطَبَتْهُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ مِن كَلامِ الجَوارِحِ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى تَوْبِيخًا لَهم، أوْ مِن كَلامِ مَلَكٍ يَأْمُرُهُ تَعالى. و﴿أنْ يَشْهَدَ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: خِيفَةً أوْ لِأجْلِ أنْ يَشْهَدَ إنْ كُنْتُمْ غَيْرُ عالِمَيْنِ بِأنَّها تَشْهَدُ، ﴿ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ﴾، فانْهَمَكْتُمْ وجاهَدْتُمْ، وإلى هَذا نَحا مُجاهِدٌ، والسِّتْرُ يَأْتِي في هَذا المَعْنى، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎والسِّتْرُ دُونَ الفاحِشاتِ وما يَلْقاكَ دُونَ الخَيْرِ مِنَ سِتْرِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: عَنْ أنْ يَشْهَدَ، أيْ: وما كُنْتُمْ تَمْتَنِعُونَ، ولا يُمْكِنُكُمِ الِاخْتِفاءُ عَنْ أعْضائِكم والِاسْتِتارُ عَنْها بِكُفْرِكم ومَعاصِيكم، ولا تَظُنُّونَ أنَّها تَصِلُ بِكم إلى هَذا الحَدِّ مِنَ الشَّهادَةِ عَلَيْكم. وإلى هَذا نَحا السُّدِّيُّ، أوْ ما كُنْتُمْ تَتَوَقَّعُونَ بِالِاخْتِفاءِ والسِّتْرِ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم؛ لِأنَّ الجَوارِحَ لَزِيمَةً لَكم. وعَبَّرَ قَتادَةُ عَنْ ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾ بِتَظُنُّونَ، أيْ: وما كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أنْ يَشْهَدَ، وهَذا تَفْسِيرٌ مِن حَيْثُ المَعْنى لا مِن حَيْثُ مُرادَفَةُ اللَّفْظِ، ﴿ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا﴾، وهو الخَفِيّاتُ مِن أعْمالِكم، وهَذا الظَّنُّ كُفْرٌ وجَهْلٌ بِاللَّهِ وسُوءُ مُعْتَقَدٍ يُؤَدِّي إلى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ والشَّكِّ في عِلْمِ الإلَهِ. (وذَلِكم): إشارَةٌ إلى ظَنِّهِمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِن أعْمالِهِمْ، وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (أرْداكم)، و(ظَنُّكم) بَدَلٌ مِن (ذَلِكم) أيْ: وظَنُّكم بِرَبِّكم ذَلِكم أهْلَكَكم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(ظَنُّكم) و(أرْداكم) خَبْرانِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (أرْداكم) يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. انْتَهى. ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ظَنُّكم بِرَبِّكم خَبَرًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (وذَلِكم) إشارَةٌ إلى ظَنِّهِمُ السّابِقِ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وظَنُّكم بِأنَّ رَبَّكم لا يَعْلَمُ ظَنَّكم بِرَبِّكم، فاسْتُفِيدَ مِنَ الخَبَرِ ما اسْتُفِيدَ مِنَ المُبْتَدَأِ، وهو لا يَجُوزُ؛ وصارَ نَظِيرَ ما مَنَعَهُ النُّحاةُ مِن قَوْلِكَ: سَيِّدُ الجارِيَةِ مالِكُها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجَوَّزَ الكُوفِيُّونَ أنْ يَكُونَ مَعْنى (أرْداكم) في مَوْضِعِ الحالِ، والبَصْرِيُّونَ لا يُجِيزُونَ وُقُوعَ الماضِي حالًا إلّا إذا اقْتَرَنَ بِـ (قَدْ)، وقَدْ يَجُوزُ تَقْدِيرُها عِنْدَهم إنْ لَمْ يَظْهَرْ. انْتَهى. وقَدْ أجازَ الأخْفَشُ مِنَ البَصْرِيِّينَ وُقُوعَ الماضِي حالًا بِغَيْرِ تَقْدِيرِ قَدْ وهو الصَّحِيحُ، إذْ كَثُرَ ذَلِكَ في لِسانِ العَرَبِ كَثْرَةً تُوجِبُ القِياسَ، ويَبْعُدُ فِيها التَّأْوِيلُ، وقَدْ ذَكَرْنا كَثْرَةَ الشَّواهِدِ عَلى ذَلِكَ في كِتابِنا المُسَمّى (بِالتَّذْيِيلِ والتَّكْمِيلِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا﴾: خِطابٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قِيلَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أوْ لا يَصْبِرُوا، كَقَوْلِهِ: ﴿فاصْبِرُوا أوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور: ١٦]، وذَلِكَ في يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَإنْ يَصْبِرُوا عَلى تَرْكِ دِينِكَ واتِّباعِ أهْوائِهِمْ، ﴿فالنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ أيْ: مَكانُ إقامَةٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وإنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ﴿فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ . (p-٤٩٤)اسْمُ مَفْعُولٍ. قالَ الضَّحّاكُ: إنْ يَعْتَذِرُوا فَما هم مِنَ المَعْذُورِينَ. وقِيلَ: وإنْ طَلَبُوا العُتْبى، وهي الرِّضا، فَما هم مِمَّنْ يُعْطاها ويَسْتَوْجِبُها. وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ومُوسى الأسْوارِيُّ: ﴿وإنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾: مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ: اسْمُ فاعِلٍ، أيْ: طَلَبَ مِنهم أنْ يُرْضُوا رَبَّهم، فَما هم فاعِلُونَ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ لِأنَّهم قَدْ فارَقُوا الدُّنْيا دارَ الأعْمالِ. كَما قالَ: «لَيْسَ بَعْدَ المَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ» . وقالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِها تَتَوَجَّعُ ∗∗∗ والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَن يَجْزَعُ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِراءَةُ بِمَعْنى: ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى الوَعِيدَ الشَّدِيدَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ عَلى كُفْرِ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ، أرْدَفَهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي أوْقَعَهم في الكُفْرِ، فَقالَ: ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ﴾ أيْ: سَبَّبْنا لَهم مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا. وقِيلَ: سَلَّطْنا ووَكَّلْنا عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: قَدَّرْنا لَهم. وقُرَناءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، أيْ: قُرَناءَ سُوءٍ مِن غُواةِ الجِنِ والإنْسِ؛ ﴿فَزَيَّنُوا لَهُمْ﴾ أيْ: حَسَّنُوا وقَدَرُوا في أنْفُسِهِمْ؛ ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن أمْرِ الآخِرَةِ، أنَّهُ لا جَنَّةَ ولا نارَ ولا بَعْثَ. ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن أمْرِ الدُّنْيا، مِنَ الضَّلالَةِ والكُفْرِ ولَذّاتِ الدُّنْيا. وقالَ الكَلْبِيُّ: ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾: أعْمالُهُمُ الَّتِي يُشاهِدُونَها، ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾: ما هم عامِلُوهُ في المُسْتَقْبَلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾، مِن مُعْتَقَداتِ السُّوءِ في الرُّسُلِ والنُّبُوّاتِ ومَدْحِ عِبادَةِ الأصْنامِ، واتِّباعِ فِعْلِ الآباءِ، ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾: ما يَأْتِي بَعْدَهم مِن أمْرِ القِيامَةِ والمَعادِ. انْتَهى، مُلَخَّصًا، وهو شَرْحُ قَوْلِ الحَسَنِ، قالَ: ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ مِن أمْرِ الدُّنْيا، ﴿وما خَلْفَهُمْ﴾ مِن أمْرِ الآخِرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ جازَ أنْ يُقَيِّضَ لَهُمُ القُرَناءَ مِنَ الشَّياطِينِ، وهو يَنْهاهم عَنِ اتِّباعِ خُطُواتِهِمْ ؟ (قُلْتُ): مَعْناهُ أنَّهُ خَذَلَهم ومَنَعَهُمُ التَّوْفِيقَ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلى الكُفْرِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهم قُرَناءُ سِوى الشَّياطِينِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا﴾ [الزخرف: ٣٦] . انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. ﴿وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ: كَلِمَةُ العَذابِ، وهو القَضاءُ المُحَتِّمُ، بِأنَّهم مُعَذَّبُونَ. ﴿فِي أُمَمٍ﴾ أيْ: في جُمْلَةِ أُمَمٍ، وعَلى هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إنْ تَكُ عَنْ أحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو ∗∗∗ كًا فَفي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا أيْ: فَأنْتَ في جُمْلَةِ آخَرِينَ، أوْ فَأنْتَ في عَدَدِ آخَرِينَ، لَسْتَ في ذَلِكَ بِأوْحَدَ. وقِيلَ: في بِمَعْنى مَعَ، ولا حاجَةَ لِلتَّضْمِينِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنى في. ومَوْضِعُ ﴿فِي أُمَمٍ﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ، أيْ: كائِنِينَ في جُمْلَةِ أُمَمٍ، وذُو الحالِ الضَّمِيرُ في (عَلَيْهِمْ) . (إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ): الضَّمِيرُ لَهم ولِلْأُمَمِ، وهَذا تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ. ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا﴾ أيْ: لا تُصْغُوا، ﴿لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾: إذا تَلاهُ مُحَمَّدٌ ﷺ . قالَ أبُو العالِيَةِ: وقَعُوا فِيهِ وعِيبُوهُ. وقالَ غَيْرُهُ: كانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا قَرَأ في المَسْجِدِ أصْغى إلَيْهِ النّاسُ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، فَخَشِيَ الكُفّارُ اسْتِمالَةَ القُلُوبِ بِذَلِكَ فَقالُوا: مَتى قَرَأ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَلْنَلْغَطْ نَحْنُ بِالمُكاءِ والصَّفِيرِ والصِّياحِ وإنْشادِ الشِّعْرِ والأرْجازِ حَتّى يَخْفى صَوْتُهُ، وهَذا الفِعْلُ هو اللَّغْوُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ والفَرّاءُ: بِفَتْحِ الغَيْنِ مُضارِعُ لَغِيَ بِكَسْرِها؛ وبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ كَذا في كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وفي كِتابِ اللَّوامِحِ. وأمّا في كِتابِ ابْنِ خالَوَيْهِ، فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، وقَتادَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، والزَّعْفَرانِيُّ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ وعِيسى: بِخِلافٍ عَنْهُما، بِضَمِّ الغَيْنِ مُضارِعُ لَغى بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ، أيْ: أدْخِلُوا فِيهِ اللَّغْوَ، وهو اخْتِلافُ القَوْلِ بِما لا فائِدَةَ فِيهِ. وقالَ الأخْفَشُ: يُقالُ لَغا يَلْغى بِفَتْحِ الغَيْنِ وقِياسُهُ الضَّمُّ، لَكِنَّهُ فُتِحَ لِأجْلِ حَرْفِ الحَلْقِ، فالقِراءَةُ الأُولى مِن يَلْغِي. والثّانِيَةُ مِن يَلْغُو. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفَتْحُ مِن لَغى بِالشَّيْءِ يَلْغى بِهِ إذا رَمى بِهِ، فَيَكُونُ (فِيهِ) بِمَعْنى بِهِ، أيْ: ارْمُوا بِهِ وانْبُذُوهُ. ﴿لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾: (p-٤٩٥)أيْ: تَطْمِسُونَ أمْرَهُ وتُمِيتُونَ ذِكْرَهُ. ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: وعِيدٌ شَدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، والعَذابُ الشَّدِيدُ في الدُّنْيا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وغَيْرِها، والأسْوَأُ يَوْمَ القِيامَةِ. أقْسَمَ تَعالى عَلى الجُمْلَتَيْنِ، وشَمَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا القائِلِينَ والمُخاطَبِينَ في قَوْلِهِ: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا﴾ . (ذَلِكَ) أيْ: جَزاؤُهم في الآخِرَةِ، فالنّارُ بَدَلٌ أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: الأمْرُ ذَلِكَ، و(جَزاءُ) مُبْتَدَأٌ و(النّارُ) خَبَرُهُ. ﴿فِيها دارُ الخُلْدِ﴾ أيْ: فَكَيْفَ قِيلَ فِيها ؟ والمَعْنى أنَّها دارُ الخُلْدِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، والرَّسُولُ نَفْسُهُ هو الأُسْوَةُ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎وفِي اللَّهِ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ والمَعْنى أنَّ اللَّهَ هو الحَكَمُ العَدْلُ ومَجازُ ذَلِكَ أنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ، بِاعْتِبارِ مُتَعَلِّقِهِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، كَأنَّ ذَلِكَ المُتَعَلِّقَ صارَ الشَّيْءُ مُسْتَقِرًّا لَهُ، وهو أبْلَغُ مِن نِسْبَةِ ذَلِكَ المُتَعَلِّقِ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الإخْبارِيَّةِ عَنْهُ. ﴿جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ جَزاءَهم بِما كانُوا يَلْغُونَ فِيها، فَذَكَرَ الجَحُودَ الَّذِي هو سَبَبُ اللَّغْوِ. ولَمّا رَأى الكُفّارُ عِظَمَ ما حَلَّ بِهِمْ مِن عَذابِ النّارِ، سَألُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُرِيَهم مَن كانَ سَبَبَ إغْوائِهِمْ وإضْلالِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ (، اللَّذِينَ) يُرادُ بِهِما الجِنْسُ، أيْ: كُلُّ مُغْوٍ مِن هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وعَنْ عَلِيٍّ، وقَتادَةَ: أنَّهُما إبْلِيسُ وقابِيلُ، إبْلِيسُ سَنَّ الكُفْرَ، وقابِيلُ سَنَّ القَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قِيلَ: وهَلْ يَصِحُّ هَذا القَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ: وقابِيلُ مُؤْمِنٌ عاصٍ، وإنَّما طَلَبُوا المُضِلِّينَ بِالكُفْرِ المُؤَدِّي إلى الخُلُودِ، وقَدْ أصْلَحَ هَذا القَوْلَ بِأنْ قالَ: طَلَبَ قابِيلُ كُلَّ عاصٍ مِن أهْلِ الكَبائِرِ، وطَلَبَ إبْلِيسُ كُلَّ كافِرٍ، ولَفْظُ الآيَةِ يَنْبُو عَنْ هَذا القَوْلِ وعَنْ إصْلاحِهِ، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في قِراءَةِ (أرِنا) في قَوْلِهِ: ﴿وأرِنا مَناسِكَنا﴾ [البقرة: ١٢٨] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَكَوْا عَنِ الخَلِيلِ أنَّكَ إذا قُلْتَ: أرِنِي ثَوْبَكَ بِالكَسْرِ، فالمَعْنى: بَصَّرْنِيهِ، وإذا قَلَتْهُ بِالسُّكُونِ، فَهو اسْتِعْطاءٌ مَعْناهُ: أعْطِنِي ثَوْبَكَ؛ ونَظِيرُهُ اشْتِهارُ الإيتاءِ في مَعْنى الإعْطاءِ، وأصْلُهُ الإحْضارُ. انْتَهى. ﴿نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا﴾: يُرِيدُونَ في أسْفَلِ طَبَقَةٍ مِنَ النّارِ، وهي أشَدُّ عَذابًا، وهي دَرْكُ المُنافِقِينَ. وتَشْدِيدُ النُّونِ في، اللَّذَيْنِ واللَّتَيْنِ وهَذَيْنِ وهاتَيْنِ حالَةَ كَوْنِهِما بِالياءِ لا تُجِيزُهُ البَصْرِيُّونَ، والقِراءَةُ بِذَلِكَ في السَّبْعَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب