الباحث القرآني
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾، ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ هنا عدول عن الغَيبة إلى الخطاب، أين الغيبة؟ ومن يفعل ذلك نصليه، وأما ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ فهذا للخطاب؛ يخاطب الله سبحانه وتعالى العباد بقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ أي: تبتعدوا عن ﴿كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾. ﴿كَبَائِرَ﴾ جمع (كبيرة). و﴿مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ النهي: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء. أي: ما ينهاكم الله عنه ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي: صغائر ذنوبكم. ﴿نُكَفِّرْ﴾ مأخوذ من (الكَفْر) وهو الستر، فالتكفير إذن معناه ستر السيئات، وذلك بالعفو عنها.
وقوله عز وجل: ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾ جمع (سيئة)، والمراد بها هنا الصغيرة، والدليل على أن المراد بها الصغيرة أنها جاءت في مقابلة الكبائر: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، وإلا فالأصل أن السيئة عامة للكبيرة وللصغيرة، وهذه من بلاغة القرآن أن يُعرف معنى الكلمة بذكر ما يقابلها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء ٧١]. لو قيل: ما معنى ثبات؟
* طالب: فرادى.
* الشيخ: فرادى؟ ما دليلك؟
* الطالب: ﴿جَمِيعًا﴾.
* الشيخ: أنه قُوبل بقوله: ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ مع أنك لو ذهبت تراجعها في القاموس أو غيره من كتب اللغة لأخذت وقتًا، لكن إذا عرفت أن الله عز وجل يذكر الشيء وما يقابله كما في هذه الآية عرفت أن المراد بالثُّبات أي: الفرادى.
وقوله: ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ الْمُدخل الكريم هو الجنة؛ لأنها دار الكرام، دار الفضل، دار الإحسان، دار السلام، وهنا قال: ﴿مُدْخَلًا﴾ ولم يقل: مَدْخلًا؛ لأنه من الرباعي، واسم المكان أو الزمان والمصدر الميمي إذا كان من الرباعي فهو على وزن (مُفْعَل) لا على وزن (مَفْعَل)، ولهذا تقول: أقام الرجل عندنا مُقامًا، أو مَقامًا؟
* طلبة: مُقامًا.
* الشيخ: مُقامًا، وتقول: قام الرجل فينا مَقامًا؛ لأنه من الثلاثي، على هذا ﴿نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا﴾ صارت بضم الميم؛ لأنها من الرباعي من (أَدْخَل يُدْخِل) ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ أي: ندخلكم في مكان دخول كريم بناءً على أن مُدْخَل هنا اسم مكان، ويجوز أن تكون مصدرًا ميميًّا أي: ندخلكم إدخالًا كريمًا، ويجوز أن يراد بها هذا وهذا؛ أي: أن الكرم وصف للإدخال ولمكان الدخول.
فإذا قال قائل: ما هي الكبائر؟ قلنا: الكبائر جمع (كبيرة)، وقد جاءت الأحاديث بِعدّها بثلاث، وأربع، وسبع، وتسع، وتفاوتت الأحاديث في هذا، ومن ثم اختلف العلماء، فقيل: إن الكبائر ما نُص على أنه من الكبائر، وما سوى ذلك فهو من الصغائر، ففي حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وكان مُتكئًا فجلس وقال: «أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٩٧٦)، ومسلم (٨٧ / ١٤٣) من حديث أبي بكرة الثقفي.]]. وورد عنه أيضًا: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٧٦٦)، ومسلم (٨٩ / ١٤٥) من حديث أبي هريرة.]] وعدّها، وسئل عن الكبائر فقال: «تِسْع»[[أخرجه أبو داود (٢٨٧٥) من حديث عمير بن قتادة.]]، وعدّها؛ ومن ثم اختلف العلماء، فمنهم من قال: ما ورد أنه من الكبائر فهو كبيرة وما لا فهو صغيرة، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الكبائر هل هي سبع؟ فقال:« هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ»[[أخرجه معمر في الجامع (١٩٧٠٢).]]. وفي رواية أخرى قال: «هِيَ إِلَى السَّبْعِ مئة أقربُ منها إلى السّبْعِ، ولكن لا كبيرةَ مع الاستغفارِ ولا صغيرةَ مع الإصرارِ»[[أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١٩١٩)٠]].
وقال الإمام أحمد: الكبيرة محدودة لا معدودة، وهي ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة وما لا فلا؛ فالزنا مثلًا كبيرة، السرقة كبيرة، القذف كبيرة، من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه؛ كبيرة، فما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فإنه من كبائر الذنوب.
قال ابن عبد القوي في منظومته الدالية التي تقع في نحو أربعة عشر ألف بيت في الفقه قال:
؎فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنَا............. ∗∗∗ ..............................
يعني في الدنيا.
؎..................... أَوْ تَوَعُّـــــــــــــــدٌ ∗∗∗ بِأُخْرَى فَسِمْ كُبْرَى عَلَى نَصِّأَحْمَدِ
سِمْ يعني سَمِّه أو أعلمه؛ لأنه يجوز أن تكون من السمة أو العلامة، فسم كبرى، يعني صفه بأنه من كبائر الذنوب، على نص أحمد.
؎وَزَادَ حَفِيـــــــــــــــدُالْمَجْــــــــــــــــــدِ أَوْ جَــــــــــــــــا ∗∗∗ وَعِيدُهُ بِنَفْيٍ لِإيمَانٍ وَلَعْنٍمُؤَبَّــــــــــــــــــــــدِ
من هو حفيد المجد؟
* طلبة: شيخ الإسلام ابن تيمية.
* الشيخ: شيخ الإسلام ابن تيمية، وزاد حفيد المجد أو جا وعيده بنفي لإيمان مثل: لا يؤمن من فعل كذا وكذا، ليس منا من فعل كذا وكذا، ولعن مؤبد؛ يعني ما ذُكر فيه اللعن مثل: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ»[[أخرجه مسلم (١٩٨٧ / ٤٤) من حديث علي بن أبي طالب.]] وأشبه ذلك، فزاد كم؟
* طلبة: أربع يا شيخ.
* الشيخ: زاد، كم زاد؟
* طلبة: اثنين.
* الشيخ: زاد ثنتين مع الثنتين الأوليين تكون أربعة، ولشيخ الإسلام -رحمه الله- كلام آخر قال فيه: ما رُتّب عليه عقوبة خاصة دينية أو دنيوية فهو من كبائر الذنوب، وما كان فيه مجرد التحريم أو مجرد النهي فهو من الصغائر، ووجه ذلك: أن تخصيص الذنب بالعقوبة يدل على عظمه، وإلا لاكتُفي بالعقوبات العامة على الذنوب لكونه ينصّ على عقوبة خاصة فيه يدل على عظمه، وهذا الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام ضابط لا بأس به، لكنه سوف يدخل فيه ذنوب كثيرة، ولكننا لم نجد فارقًا يفرق بين الكبائر والصغائر إلا بمثل ذلك، فإذا رُتّبت عقوبة خاصة دنيوية أو دينية أو أخروية فهو كبيرة؛ دينية مثل أن يقال: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[[أخرجه البخاري (٦٠١٦) من حديث أبي شريح الخزاعي.]] هذه دينية؛ نفي إيمان، دنيوية كالحد، أُخروية كالوعيد: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٧٢)، ومسلم (١٠٨ / ١٧٣) من حديث أبي هريرة.]] وهذا تعريف للكبيرة بالعدّ أو بالحد؟
* طلبة: بالحد.
* الشيخ: بالحد، نعم.
* طالب: شيخ، عفا الله عنك يا شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا﴾ ربما يعود هذا على قتل النفس وأكل التجارة بالباطل؟
* الشيخ: نعم، أكل المال بالباطل.
* الطالب: أكل المال بالباطل، طيب يا شيخ لو يعني إنسان قتل له شخص مثلًا وعرف القاتل، ثم ذهب يقتل هذا القاتل، هذا ما يدخل في العدوان والظلم خصوصًا إذا كان ولي الأمر لا يقيم الحدود، كيف (...)؟
* الشيخ: يعنى معناه أن من له حق القتل اقتص بنفسه؟
* الطالب: إي نعم، لكن هذا من العدوان والظلم؟
* الشيخ: طيب نسأل هل هذا عدوان وظلم؟
* طالب: لا لا لا، حقه.
* الشيخ: حق له، حق له لكنه في القتل قال العلماء: لا يستوفى إلا بحضرة السلطان أو نائبه لئلا تحمل المقتص الغيرة على أن يمثّل بالقاتل أو ما أشبه ذلك.
* طالب: شيخ، ما رأيك في قول بعضهم يا شيخ بأن الكبائر ما كانت فيها المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما كانت فيها المظالم بينك وبين الله، وقال: إن كل الكبائر اللي وردت غالبها في المظالم اللي بيني وبينك.. قطيعة الرحم؟
* الشيخ: ما هو بصحيح، أقول: هذا غير صحيح، يقول: إذا كانت المظالم بينك وبين العباد فهي من الكبائر وما كان بينك وبين الله فمن الصغائر.
* طالب: الإسبال يا شيخ.. الإسبال يدخل في الحكم؟
* الشيخ: أقول: هذا غير صحيح هذا؛ لأن «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦٦٥)، ومسلم (٢٠٨٥ / ٤٤) من حديث عبد الله بن عمر.]] ما ظلمت أحدًا.
* طالب: شيخ، سيئات الصغائر في مقابل ذُكرت في مقابلة الكبائر ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ وجه المقابلة؟
* الشيخ: كيف ما (...)؟
* الطالب: يعني التكفير للسيئات مطلقًا.
* الشيخ: إي، لكن كبائر وسيئات ذكرت ما قال: نكفر عنكم كبائرها أو نكفّرها عنكم، قال: إن تجتنبوا نكفّر السيئات؛ يعني نكفّر الصغائر.
* طالب: (...) يشمل الأمرين الكبائر والصغائر؟
* الشيخ: لا لا، طيب كيف نقول: مجتنب الكبائر وهو فعلها؟! واضح؟
* طالب: يا شيخ، السطر الثالث من أسفل من فوائد قوله تعالى مكتوب: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾.
* الشيخ: من فوائد قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا﴾.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)﴾ [النساء ٣١ - ٣٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ هل العدوان هو الظلم أو غيره؟
* طالب: قيل: إنهما مترادفان.
* الشيخ: قيل: إنهما مترادفان، وقيل؟
* طالب: أن العدوان يكون عن عمد وقصد ومتعدي لغيره، أما الظلم فللنفس مثل المعاصي.
* الشيخ: يعني قيل: متباينان؛ العدوان باعتبار التعدّي على الغير عن قصد، وعمد، والظلم ظلم النفس، أيهما أصح؟
* طالب: شو السؤال يا شيخ؟
* الشيخ: متباينان أم مترادفان؟
* الطالب: لا (...) يا شيخ.
* الشيخ: أيهما أصح؟
* طالب: متباينان.
* الشيخ: متباينان بناءً على إيه؟
* الطالب: بمعنى هذا؟
* الشيخ: بمعنى بناءً على أي شيء صحّحت أنهما متباينان؟
* طالب: أن الأصل في الكلام التأسيس والمغايرة.
* الشيخ: نعم، بناءً على أن الأصل في الكلام التأسيس والمغايرة؛ يعني دون التوكيد والمرادفة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما نهي عنه ينقسم إلى كبائر وصغائر؛ لقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾.
* ومن فوائدها: تفاضل الناس في الإيمان، وجهه: أن الإيمان يزداد بزيادة العمل كمية أو كيفية أو نوعًا؛ هنا قسم الله المعاصي إلى قسمين، وكلما كان الإنسان في معصية أشد كان إيمانه أنقص وأقل، فيؤخذ منه أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل السنة؛ أن الإيمان يزيد وينقص، بدليل الكتاب والسنة والواقع، عرفتم؟ الكتاب قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [التوبة ١٢٤]، وقال تعالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر ٣١] وهل في الآيتين دليل على النقص؟ نعم، لأنه لا تتصور الزيادة إلا بما نقص عنها، لا بد من نقص، وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ _يعني النساء_ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»[[أخرجه البخاري (٣٠٤) من حديث أبي سعيد الخدري.]].
وأما الواقع فظاهر؛ الأعمال عند أهل السنة من الإيمان، والأعمال تتفاضل بالزيادة، أليس كذلك؟ المصلي عشر ركعات لا يساويه من صلى ست ركعات، وهذا ظاهر محسوس، كذلك أيضًا في القلب، الإيمان يزيد وينقص في القلب، دليل ذلك أن إبراهيم قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة ٢٦٠] ليزيد ثباتًا وإيمانًا، وأنت بنفسك تحس أن إيمانك بالشيء يزداد في القلب، فإذا جاءك مخبر بخبر وهو عندك ثقة آمنت بخبره، فإذا جاء آخر مثله وأخبرك بنفس الخبر ازداد إيمانك لا شك، ولو أخبرك بعكسه ضعف إيمانك الأول الذي أخبرك به الثقة، أليس كذلك؟ هذا شيء مشاهَد، كذلك أيضًا بالنسبة لمراقبة الله عز وجل، مراقبة الله، يجد الإنسان من نفسه أحيانًا أن قلبه حاضر بين يدي ربه، وأنه في أحلى ما يكون وألذ ما يكون، وأنه قد ذاق طعم الإيمان حتى يتمنى أنه لا يكون إلا في هذا السرور، ولا يريد لا دنيا ولا آخرة، ما يرى أحسن ولا أطيب من الساعة التي هو فيها سواء كان في صلاة أو في قراءة قرآن أو في تدبّر سيرة النبي عليه الصلاة والسلام..
دليل ذلك أن إبراهيم قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة ٢٦٠] ليزيد ثباتًا وإيمانًا، وأنت بنفسك تحس أن إيمانك بالشيء يزداد في القلب، فإذا جاءك مخبر بخبر وهو عندك ثقة آمنت بخبره، فإذا جاء آخر مثله وأخبرك بنفس الخبر ازداد إيمانك لا شك، ولو أخبر بعكسه ضعف إيمانك الأول الذي أخبرك به الثقة، أليس كذلك؟ هذا شيء مشاهد.
كذلك أيضًا بالنسبة لمراقبة الله عز وجل، مراقبة الله، يجد الإنسان من نفسه أحيانًا أن قلبه حاضر بين يدي ربه وأنه في أحلى ما يكون، وألذ ما يكون، وأنه قد ذاق طعم الإيمان حتى يتمنى أنه لا يكون إلا في هذا السرور، ولا يريد لا دنيا ولا آخرة، ما يرى أحسن ولا أطيب من الساعة التي هو فيها، سواء كان في الصلاة أو كان في قراءة القرآن أو في تدبر سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
أحيانًا تستولي عليه الغفلة فيصلي بنفس القراءة التي قرأها بالأمس ولكن قلبه حجر ما يلين، والوقت هو الوقت، والمكان هو المكان، والعمل هو العمل.
يصلي الإنسان في آخر الليل، ليلة يجد لذة عظيمة في هذه الصلاة ويحس أنه قرب من الله عز وجل، وليلة أخرى بالعكس يرى أنه في شيء محسوس ما يذق معنى من المعاني، أيهما أشد إيمانًا: بالأمس، أو باليوم؟ بالأمس أشد بكثير، حتى الصحابة قالوا: يا رسول الله، إذا كنا عندك وسمعنا ما تقول، فإننا كأننا نرى رأي العين، ولكن إذا ذهبنا وعافسنا الأهل والأولاد نسينا؟ فقال: «لَوْ كُنْتُمْ عَلَى مَا تُكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحْتُكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَكِنْ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ»[[أخرجه مسلم (١٢ / ٢٧٥٠) من حديث حنظلة الأسيدي بنحو هذا اللفظ.]] ساعة وساعة.
إذن فالإيمان يزيد حسًّا، يزيد حسًّا بلا شك، ولكن الطاعة لا شك أنها تزيد في الإيمان بشرط أن تكون مصحوبة بعمل القلب، أما عمل الجوارح إذا لم يكن مصحوبًا بعمل القلب، فإنه لا يزيد في الإيمان وربما ينقص في الإيمان -والعياذ بالله- لأنه يصبح عبثًا، لكن إذا كانت أعمال الجوارح مصحوبة بعمل القلب من الخوف والرغبة واحتساب الثواب، فإنه بلا شك يزداد قلبه بالطاعة؛ لهذا يجب النظر في هذه المسألة.
من الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص؟ طائفتان من الناس بل ثلاث طوائف: المرجئة قالوا: لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأعمال الصالحة وغير الصالحة لا دخل لها في الإيمان، فالناس عندهم في الإيمان شيء واحد كالمشط، كما قال ابن القيم في النونية قال:
؎وَالنَّاسُ فِي الْإِيمَانِ شَيْءٌوَاحِــــــــــــــدُ ∗∗∗ كَالْمُشْطِ عِنْدَ تَمَاثُلِ الْأَسْنَانِ
المشط أسنانه متماثلة، فالناس عندهم سواء، وما هو الإيمان عندهم بعد؟ ما هو الإيمان؟ مجرد التصديق والإقرار، حتى الشيطان عندهم مؤمن؛ لأنه مصدق، ولهذا قال ابن القيم:
؎اسْأَلْ أَبَا الْجِنِّ اللَّعِينَ أَتَعْرِفُ الْـ ∗∗∗ خَلَّاقَ أَمْ أَصْبَحْتَ ذَا نُكْرَانِ
وأبو الجن اللعين يعرف الخلاق ولَّا لا؟ يعرفه ويدعوه يقول: رب أنظرني، ومع ذلك هو أكفر خلق الله.
الطائفة الثانية التي خالفت: الخوارج، وما أدراك ما الخوارج! أصحاب الأعمال الظاهرة وخراب القلوب الباطنة، الخوارج يقولون: ما فيه، إذا فعل الإنسان الكبيرة خرج من الإيمان وأبيح دمه وماله؛ لأنه كافر مرتد، فعندهم أن الإيمان لا يزيد، إما أن يوجد كله، وإما أن يعدم كله، إن سلم الإنسان من الكبائر والإصرار على الصغائر وقام بالواجبات والمفروضات فمعه أيش؟ الإيمان كله كامل، وإن أتى كبيرة واحدة انهدم الإيمان كله، هؤلاء من؟ الخوارج.
الطائفة الثالثة: المعتزلة أشبهوا الخوارج من جهة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لكنهم لا يقولون بكفر فاعل الكبيرة، يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إما مؤمن كامل، وإلا ليس بمؤمن ولا كافر، فاعل الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر؛ لأنهم نظروا بعين عوراء، نظروا إلى أن معه أصل الإيمان، قالوا: راح منه الإيمان بالكبيرة، ولكنه معه أصل الإيمان فلا نقول: إنه كافر، ولا نقول: إنه مؤمن، نقول: في منزلة بين منزلتين، وين المنزلة؟ أين هي في القرآن والسنة؟ أحدثوها، قالوا: كما لو خرج رجل من مكة متجهًا إلى المدينة ووقف في أثناء الطريق، ماذا يكون؟ ليس في مكة ولا في المدينة، في منزلة بين منزلتين. لكن اتفقوا مع الخوارج في أنه يكون مخلدًا في النار، فأحكامه في الآخرة كأحكامه عند الخوارج.
أما أهل السنة والجماعة -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على قولهم إلى الممات- فقالوا: لا، الإيمان يزيد وينقص، والكفر درجات، والإنسان قد يكون معه خصال إيمان وخصال كفر، ولا يخرج فاعل الكبيرة من الإيمان، بل صِفْهُ بأنه إما مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو بأنه مؤمن ناقص الإيمان، لا تعطيه الاسم المطلق ولا تسلبه مطلق الاسم، قلْ: معه إيمان ناقص، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل والميزان: أن يوصف الإنسان بما يقتضيه عمله من إيمان أو كفر.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الصغائر تقع مكفرة باجتناب الكبائر؛ لقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء ٣١]، فإن لم يجتنب الكبائر يؤخذ بالصغائر؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، يؤخذ بالصغائر، لكن الكبائر والصغائر تحت المشيئة ما لم تكن كفرًا.
إذن ما الفائدة من قولنا: يؤخذ بها؟ الفائدة أنه يجتنب الكبائر جزمنا بأن الله كفَّر عنه الصغائر، وإذا لم يجتنب الكبائر فهو تحت المشيئة والخطر.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)﴾ [النساء ٣٢ - ٣٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، من فوائد الآية: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾.
* من فوائدها: إثبات عظمة الله عز وجل؛ لقوله: ﴿نُكَفِّرْ﴾ ﴿وَنُدْخِلْكُمْ﴾؛ لأن (النون) هنا للتعظيم، وقد قال النصراني الخبيث: إن هذا يدل على تعدد الآلهة؛ لأن الضمير هنا للجمع، فنحن أحق بالحق منكم أيها الموحدون، فنقول له: إن هذا من باب التعظيم، وأنت قد طبع الله على قلبك، وغفلت عن قول الله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة ١٦٣].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: سعة فضل الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لتكفير السيئات باجتناب كبائر الذنوب، وإلا لو جازى الناس بالعدل لعاقبهم على الصغائر وعلى الكبائر، كل منها بحسبه، الكبائر عقوبتها شديدة، والصغائر دون ذلك، ولكن من فضله عز وجل جعل الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر، وهذا من أثر قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٢٢)، ومسلم (١٥ / ٢٧٥١) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من كفر الله عنه السيئات فهو من أهل الجنة؛ لقوله: ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾.
* ومن فوائدها: بيان أن الجنة هي أعلى ما يكون، بل هي من المداخل الكريمة، والكريم كل شيء بحسبه، فكرائم الأموال أحاسنها، وكرائم المساكن أحاسنها، قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل: «فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٩٦)، ومسلم (٢٩ / ١٩) من حديث ابن عباس عن معاذ بن جبل.]].
{"ayah":"إِن تَجۡتَنِبُوا۟ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق