الباحث القرآني

* (لطيفة) وَتَأمَّلْ قَوْله تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ بِألْطَفِ دَلالَةٍ وأدَقِّها وأحْسَنِها أنَّهُ مَن اجْتَنَبَ الشِّرْكَ جَمِيعَهُ كُفِّرَتْ عَنْهُ كَبائِرُهُ، وأنَّ نِسْبَةَ الكَبائِرِ إلى الشِّرْكِ كَنِسْبَةِ الصَّغائِرِ إلى الكَبائِرِ فَإذا وقَعَتْ الصَّغائِرُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنابِ الكَبائِرِ فالكَبائِرُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنابِ الشِّرْكِ، وتَجِدُ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ كَأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن هَذا المَعْنى، وهو قَوْلُهُ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ - تَبارَكَ وتَعالى -: «ابْنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا ثُمَّ لَقِيَتْنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً». وَقَوْلُهُ: «إنّ اللَّهَ حَرَّمَ النّارَ عَلى مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ خالِصًا مِن قَلْبِهِ». بَلْ مَحْوُ التَّوْحِيدِ الَّذِي هو تَوْحِيدُ الكَبائِرِ أعْظَمُ مِن مَحْوِ اجْتِنابِ الكَبائِرِ لِلصَّغائِرِ. * [فَصْلٌ: الذُّنُوبُ كَبائِرُ وصَغائِرُ] وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ والسُّنَّةُ وإجْماعُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ بَعْدَهم والأئِمَّةِ، عَلى أنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبائِرَ وصَغائِرَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكم ونُدْخِلْكم مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: ٣١]. وَقالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢]. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ مُكَفِّراتٌ لِما بَيْنَهُنَّ إذا اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ». وَهَذِهِ الأعْمالُ المُكَفِّرَةُ لَها ثَلاثُ دَرَجاتٍ: إحْداها: أنْ تَقْصُرَ عَنْ تَكْفِيرِ الصَّغائِرِ لِضَعْفِها وضَعْفِ الإخْلاصِ فِيها والقِيامِ بِحُقُوقِها، بِمَنزِلَةِ الدَّواءِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَنْقُصُ عَنْ مُقاوَمَةِ الدّاءِ كَمِّيَّةً وكَيْفِيَّةً. الثّانِيَةُ: أنْ تُقاوِمَ الصَّغائِرَ ولا تَرْتَقِيَ إلى تَكْفِيرِ شَيْءٍ مِنَ الكَبائِرِ. الثّالِثَةُ: أنْ تَقْوى عَلى تَكْفِيرِ الصَّغائِرِ وتَبْقى فِيها قُوَّةٌ تُكَفَّرُ بِها بَعْضُ الكَبائِرِ. فَتَأمَّلْ هَذا فَإنَّهُ يُزِيلُ عَنْكَ إشْكالاتٍ كَثِيرَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قِيلَ: وما هُنَّ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: الإشْراكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ، وأكْلُ مالِ اليَتِيمِ، وأكْلُ الرِّبا، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ: «أيُّ الذَّنْبِ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قِيلَ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قِيلَ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ» فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى تَصْدِيقَها: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨]. [عَدَدُ الكَبائِرِ] واخْتَلَفَ النّاسُ في الكَبائِرِ: هَلْ لَها عَدَدٌ يَحْصُرُها؟ عَلى قَوْلَيْنِ. ثُمَّ الَّذِينَ قالُوا بِحَصْرِها اخْتَلَفُوا في عَدَدِها، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: هي أرْبَعٌ، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هي سَبْعٌ، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: هي تِسْعَةٌ، وقالَ غَيْرُهُ: هي إحْدى عَشْرَةَ، وقالَ آخَرُ: هي سَبْعُونَ. وَقالَ أبُو طالِبٍ المَكِّيُّ: جَمَعْتُها مِن أقْوالِ الصَّحابَةِ، فَوَجَدْتُها: أرْبَعَةً في القَلْبِ، وهى: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والإصْرارُ عَلى المَعْصِيَةِ، والقُنُوطُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، والأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ. وَأرْبَعَةٌ في اللِّسانِ، وهى: شَهادَةُ الزُّورِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ، والسِّحْرُ. وَثَلاثٌ في البَطْنِ: شُرْبُ الخَمْرِ، وأكْلُ مالِ اليَتِيمِ، وأكْلُ الرِّبا. واثْنَتانِ في الفَرْجِ، وهُما: الزِّنا، واللِّواطُ. واثْنَتانِ في اليَدَيْنِ، وهُما: القَتْلُ، والسَّرِقَةُ. وَواحِدَةٌ في الرِّجْلَيْنِ، وهى: الفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ. وَواحِدٌ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الجَسَدِ، وهُوَ: عُقُوقُ الوالِدَيْنِ. والَّذِينَ لَمْ يَحْصُرُوها بِعَدَدٍ، مِنهم مَن قالَ: كُلُّ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ في القُرْآنِ فَهو كَبِيرَةٌ، وما نَهى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ فَهو صَغِيرَةٌ. وَقالَتْ طائِفَةٌ: ما اقْتَرَنَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وعِيدٌ مِن لَعْنٍ أوْ غَضَبٍ أوْ عُقُوبَةٍ فَهو كَبِيرَةٌ، وما لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَهو صَغِيرَةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ ما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ في الدُّنْيا أوْ وعِيدٌ في الآخِرَةِ، فَهو كَبِيرَةٌ، وما لَمْ يُرَتَّبْ عَلَيْهِ لا هَذا ولا هَذا، فَهو صَغِيرَةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ ما اتَّفَقَتِ الشَّرائِعُ عَلى تَحْرِيمِهِ فَهو مِنَ الكَبائِرِ، وما كانَ تَحْرِيمُهُ في شَرِيعَةٍ دُونَ شَرِيعَةٍ فَهو صَغِيرَةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ ما لَعَنَ اللَّهُ أوْ رَسُولُهُ فاعِلَهُ فَهو كَبِيرَةٌ. وَقِيلَ: كُلُّ ما ذُكِرَ مِن أوَّلِ سُورَةِ النِّساءِ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١]. الَّذِينَ لَمْ يُقَسِّمُوها إلى كَبائِرَ والَّذِينَ لَمْ يُقَسِّمُوها إلى كَبائِرَ وصَغائِرَ، قالُوا: الذُّنُوبُ كُلُّها بِالنِّسْبَةِ إلى الجَراءَةِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ ومَعْصِيَتِهِ ومُخالَفَةِ أمْرِهِ، كَبائِرُ، فالنَّظَرُ إلى مَن عَصى أمْرَهُ وانْتَهَكَ مَحارِمَهُ، يُوجِبُ أنْ تَكُونَ الذُّنُوبُ كُلُّها كَبائِرَ، وهي مُسْتَوِيَةٌ في هَذِهِ المَفْسَدَةِ. قالُوا: ويُوَضِّحُ هَذا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ ولا يَتَأثَّرُ بِها، فَلا يَكُونُ بَعْضُها بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أكْبَرَ مِن بَعْضٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا مُجَرَّدُ مَعْصِيَتِهِ ومُخالَفَتِهِ، ولا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ ذَنْبٍ وذَنْبٍ. قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ مَفْسَدَةَ الذُّنُوبِ إنَّما هي تابِعَةٌ لِلْجَراءَةِ والتَّوَثُّبِ عَلى حَقِّ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى، ولِهَذا لَوْ شَرِبَ رَجُلٌ خَمْرًا، أوْ وطِئَ فَرْجًا حَرامًا، وهو لا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، لَكانَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الجَهْلِ وبَيْنَ مَفْسَدَةِ ارْتِكابِ الحَرامِ، ولَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَن يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، لَكانَ آتِيًا بِإحْدى المَفْسَدَتَيْنِ، وهو الَّذِي يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ دُونَ الأوَّلِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ تابِعَةٌ لِلْجَراءَةِ والتَّوَثُّبِ. قالُوا: ويَدُلُّ عَلى هَذا أنَّ المَعْصِيَةَ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِهانَةَ بِأمْرِ المُطاعِ ونَهْيِهِ وانْتِهاكِ حُرْمَتِهِ، وهَذا لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ ذَنْبٍ وذَنْبٍ. قالُوا: فَلا يَنْظُرُ العَبْدُ إلى كِبَرِ الذَّنْبِ وصِغَرِهِ في نَفْسِهِ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قَدْرِ مَن عَصاهُ وعَظَمَتِهِ، وانْتِهاكِ حُرْمَتِهِ بِالمَعْصِيَةِ، وهَذا لا يَفْتَرِقُ فِيهِ الحالُ بَيْنَ مَعْصِيَةٍ ومَعْصِيَةٍ، فَإنَّ مَلِكًا مُطاعًا عَظِيمًا لَوْ أمَرَ أحَدَ مَمْلُوكَيْهِ أنْ يَذْهَبَ في مُهِمٍّ لَهُ إلى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وأمَرَ آخَرَ أنْ يَذْهَبَ في شُغُلٍ لَهُ إلى جانِبِ الدّارِ، فَعَصَياهُ وخالَفا أمْرَهُ، لَكانا في مَقْتِهِ والسُّقُوطِ مِن عَيْنِهِ سَواءً. قالُوا: ولِهَذا كانَتْ مَعْصِيَةُ مَن تَرَكَ الحَجَّ مِن مَكَّةَ وتَرَكَ الجُمُعَةَ وهو جارُ المَسْجِدِ، أقْبَحَ عِنْدَ اللَّهِ مِن مَعْصِيَةِ مَن تَرَكَ مِنَ المَكانِ البَعِيدِ، والواجِبُ عَلى هَذا أكْثَرُ مِنَ الواجِبِ عَلى هَذا، ولَوْ كانَ مَعَ رَجُلٍ مِائَتا دِرْهَمٍ ومَنَعَ زَكاتَها، ومَعَ آخَرَ مِائَتا ألْفِ دِرْهَمٍ فَمَنَعَ مِن زَكاتِها؛ لاسْتَوَيا في مَنعِ ما وجَبَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، ولا يَبْعُدُ اسْتِواؤُهُما في العُقُوبَةِ، إذا كانَ كُلٌّ مِنهُما مُصِرًّا عَلى مَنعِ زَكاةِ مالِهِ، قَلِيلًا كانَ المالُ أوْ كَثِيرًا. * [فَصْلٌ: الحَقُّ في المَسْألَةِ الحَقُّ في المَسْألَةِ] وَكَشْفُ الغِطاءِ عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أرْسَلَ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ كُتُبَهُ، وخَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لِيُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّدَ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، والطّاعَةُ كُلُّها لَهُ، والدَّعْوَةُ لَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]. وَقالَ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الحجر: ٨٥]. وَقالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢]. وَقالَ تَعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٧]. فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ القَصْدَ بِالخَلْقِ والأمْرِ: أنْ يُعْرَفَ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ويُعْبَدَ وحْدَهُ لا يُشْرَكَ بِهِ، وأنْ يَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ، وهو العَدْلُ الَّذِي قامَتْ بِهِ السَّماواتُ والأرْضُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]. فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ أرْسَلَ رُسُلَهُ وأنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وهو العَدْلُ، ومِن أعْظَمِ القِسْطِ التَّوْحِيدُ، وهو رَأْسُ العَدْلِ وقِوامُهُ، وإنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، فالشِّرْكُ أظْلَمُ الظُّلْمِ، والتَّوْحِيدُ أعْدَلُ العَدْلِ، فَما كانَ أشَدَّ مُنافاةً لِهَذا المَقْصُودِ فَهو أكْبَرُ الكَبائِرِ، وتَفاوُتُها في دَرَجاتِها بِحَسَبِ مُنافاتِها لَهُ، وما كانَ أشَدَّ مُوافَقَةً لِهَذا المَقْصُودِ فَهو أوْجَبُ الواجِباتِ وأفْرَضُ الطّاعاتِ. فَتَأمَّلْ هَذا الأصْلَ حَقَّ التَّأمُّلِ، واعْتَبِرْ تَفاصِيلَهُ تَعْرِفْ بِهِ حِكْمَةَ أحْكَمِ الحاكِمِينَ، وأعْلَمِ العالِمِينَ فِيما فَرَضَهُ عَلى عِبادِهِ، وحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وتَفاوُتَ مَراتِبِ الطّاعاتِ والمَعاصِي. فَلَمّا كانَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ مُنافِيًا بِالذّاتِ لِهَذا المَقْصُودِ كانَ أكْبَرَ الكَبائِرِ عَلى الإطْلاقِ، وحَرَّمَ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلى كُلِّ مُشْرِكٍ، وأباحَ دَمَهُ ومالَهُ وأهْلَهُ لِأهْلِ التَّوْحِيدِ، وأنْ يَتَّخِذُوهم عَبِيدًا لَهم لَمّا تَرَكُوا القِيامَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وأبى اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يَقْبَلَ مِن مُشْرِكٍ عَمَلًا أوْ يَقْبَلَ فِيهِ شَفاعَةً أوْ يَسْتَجِيبَ لَهُ في الآخِرَةِ دَعْوَةً، أوْ يُقِيلَ لَهُ عَثْرَةً، فَإنَّ المُشْرِكَ أجْهَلُ الجاهِلِينَ بِاللَّهِ، حَيْثُ جَعَلَ لَهُ مِن خَلْقِهِ نِدًّا، وذَلِكَ غايَةُ الجَهْلِ بِهِ، كَما أنَّهُ غايَةُ الظُّلْمِ مِنهُ، وإنْ كانَ المُشْرِكُ لَمْ يَظْلِمْ رَبَّهُ وإنَّما ظَلَمَ نَفْسَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب