الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكم ونُدْخِلْكم مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قَدَّمَ ذِكْرَ الوَعِيدِ أتْبَعَهُ بِتَفْصِيلِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: جَمِيعُ الذُّنُوبِ والمَعاصِي كَبائِرُ. رَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ فَهو كَبِيرَةٌ، فَمَن عَمِلَ شَيْئًا مِنها فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُخَلِّدُ في النّارِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ إلّا راجِعًا عَنِ الإسْلامِ، أوْ جاحِدًا فَرِيضَةً، أوْ مُكَذِّبًا بِقَدَرٍ. واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ، فَإنَّ الذُّنُوبَ لَوْ كانَتْ بِأسْرِها كَبائِرَ لَمْ يَصِحَّ الفَصْلُ بَيْنَ ما يُكَفَّرُ بِاجْتِنابِ الكَبائِرِ وبَيْنَ الكَبائِرِ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٣] وقَوْلُهُ: ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها﴾ [الكهف: ٤٩] .
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - نَصَّ عَلى ذُنُوبٍ بِأعْيانِها أنَّها كَبائِرُ، كَقَوْلِهِ: ”«الكَبائِرُ: الإشْراكُ بِاللَّهِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ» “، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ مِنها ما لَيْسَ مِنَ الكَبائِرِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ﴾ [الحجرات: ٧] وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ المَنهِيّاتِ أقْسامٌ ثَلاثَةٌ:
أوَّلُها: الكُفْرُ.
وثانِيها: الفُسُوقُ.
وثالِثُها: العِصْيانُ.
فَلا بُدَّ مِن فَرْقٍ بَيْنَ الفُسُوقِ وبَيْنَ العِصْيانِ؛ لِيَصِحَّ العَطْفُ، وما ذاكَ إلّا لِما ذَكَرْنا مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ الصَّغائِرِ وبَيْنَ الكَبائِرِ، فالكَبائِرُ هي الفُسُوقُ، والصَّغائِرُ هي العِصْيانُ. واحْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ بِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: كَثْرَةُ نِعَمِ مَن عَصى.
والثّانِي: إجْلالُ مَن عَصى، فَإنِ اعْتَبَرْنا الأوَّلَ، فَنِعَمُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، كَما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] وإنِ اعْتَبَرْنا الثّانِي فَهو أجَلُّ المَوْجُوداتِ وأعْظَمُها، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ وجَبَ أنْ يَكُونَ عِصْيانُهُ في غايَةِ الكِبَرِ، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فَهو كَبِيرَةٌ.
والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: كَما أنَّهُ تَعالى أجَلُّ المَوْجُوداتِ وأشْرَفُها، فَكَذَلِكَ هو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ وأكْرَمُ الأكْرَمِينَ، وأغْنى الأغْنِياءِ عَنْ طاعاتِ المُطِيعِينَ وعَنْ ذُنُوبِ المُذْنِبِينَ، وكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ خِفَّةَ الذَّنْبِ.
الثّانِي: هَبْ أنَّ الذُّنُوبَ كُلَّها كَبِيرَةٌ مِن حَيْثُ إنَّها ذُنُوبٌ، ولَكِنَّ بَعْضَها أكْبَرُ مِن بَعْضٍ، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّفاوُتَ (p-٦١)إذا ثَبَتَ أنَّ الذُّنُوبَ عَلى قِسْمَيْنِ بَعْضُها صَغائِرُ وبَعْضُها كَبائِرُ، فالقائِلُونَ بِذَلِكَ فَرِيقانِ: مِنهم مَن قالَ: الكَبِيرَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الصَّغِيرَةِ في نَفْسِها وذاتِها، ومِنهم مَن قالَ: هَذا الِامْتِيازُ إنَّما يَحْصُلُ لا في ذَواتِها، بَلْ بِحَسَبِ حالِ فاعِلِيها، ونَحْنُ نَشْرَحُ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ.
أمّا القَوْلُ الأوَّلُ: فالذّاهِبُونَ إلَيْهِ والقائِلُونَ بِهِ اخْتَلَفُوا اخْتِلافًا شَدِيدًا، ونَحْنُ نُشِيرُ إلى بَعْضِها:
فالأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ ما جاءَ في القُرْآنِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الوَعِيدِ فَهو كَبِيرَةٌ، نَحْوَ قَتْلِ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، وقَذْفِ المُحْصَنَةِ، والزِّنا، والرِّبا، وأكْلِ مالِ اليَتِيمِ، والفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ مَسْعُودَ: افْتَتِحُوا سُورَةَ النِّساءِ، فَكُلُّ شَيْءٍ نَهى اللَّهُ عَنْهُ حَتّى ثَلاثٍ وثَلاثِينَ آيَةً فَهو كَبِيرَةٌ، ثُمَّ قالَ: مِصْداقُ ذَلِكَ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ .
الثّالِثُ: قالَ قَوْمٌ: كُلُّ عَمْدٍ فَهو كَبِيرَةٌ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الأقْوالَ ضَعِيفَةٌ.
أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ كُلَّ ذَنْبٍ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ في العاجِلِ والعِقابِ في الآجِلِ، فالقَوْلُ بِأنَّ كُلَّ ما جاءَ في القُرْآنِ مَقْرُونًا بِالوَعِيدِ فَهو كَبِيرَةٌ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً وقَدْ أبْطَلْناهُ.
وأمّا الثّانِي: فَهو أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ كَثِيرًا مِنَ الكَبائِرِ في سائِرِ السُّوَرِ، ولا مَعْنى لِتَخْصِيصِها بِهَذِهِ السُّورَةِ.
وأمّا الثّالِثُ: فَضَعِيفٌ أيْضًا؛ لِأنَّهُ إنْ أرادَ بِالعَمْدِ أنَّهُ لَيْسَ بِساهٍ عَنْ فِعْلِهِ، فَما هَذا حالُهُ هو الَّذِي نَهى اللَّهُ عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً، وقَدْ أبْطَلْناهُ، وإنْ أرادَ بِالعَمْدِ أنْ يَفْعَلَ المَعْصِيَةَ مَعَ العِلْمِ بِأنَّها مَعْصِيَةٌ، فَمَعْلُومٌ أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى يَكْفُرُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وهم لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وهو مَعَ ذَلِكَ كُفْرٌ كَبِيرٌ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ.
وذَكَرَ الشَّيْخُ الغَزالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مُنْتَخَباتِ كِتابِ إحْياءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا في الفَرْقِ بَيْنَ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ، فَقالَ: فَهَذا كُلُّهُ قَوْلُ مَن قالَ: الكَبائِرُ تَمْتازُ عَنِ الصَّغائِرِ بِحَسَبِ ذَواتِها وأنْفُسِها.
وأمّا القَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ مَن يَقُولُ: الكَبائِرُ تَمْتازُ عَنِ الصَّغائِرِ بِحَسَبِ اعْتِبارِ أحْوالِ فاعِلِيها، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لِكُلِّ طاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوابِ، ولِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ العِقابِ، فَإذا أتى الإنْسانُ بِطاعَةٍ واسْتَحَقَّ بِها ثَوابًا، ثُمَّ أتى بِمَعْصِيَةٍ واسْتَحَقَّ بِها عِقابًا، فَهَهُنا الحالُ بَيْنَ ثَوابِ الطّاعَةِ وعِقابِ المَعْصِيَةِ بِحَسَبِ القِسْمَةِ العَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنْ يَتَعادَلا ويَتَساوَيا، وهَذا وإنْ كانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ العَقْلِيِّ إلّا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلى أنَّهُ لا يُوجَدُ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧] ولَوْ وُجِدَ مِثْلُ هَذا المُكَلَّفِ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ في الجَنَّةِ ولا في السَّعِيرِ.
والقِسْمُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ ثَوابُ طاعَتِهِ أزْيَدُ مِن عِقابِ مَعْصِيَتِهِ، وحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ العِقابُ بِما يُساوِيهِ مِنَ الثَّوابِ، ويَفْضُلُ مِنَ الثَّوابِ شَيْءٌ، ومِثْلُ هَذِهِ المَعْصِيَةِ هي الصَّغِيرَةُ، وهَذا الِانْحِباطُ هو المُسَمّى بِالتَّكْفِيرِ.
والقِسْمُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ عِقابُ مَعْصِيَتِهِ أزْيَدَ مِن ثَوابِ طاعَتِهِ، وحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوابُ بِما يُساوِيهِ مِنَ العِقابِ، ويَفْضُلُ مِنَ العِقابِ شَيْءٌ، ومِثْلُ هَذِهِ المَعْصِيَةِ هي الكَبِيرَةُ، وهَذا الِانْحِباطُ هو المُسَمّى بِالإحْباطِ، وبِهَذا الكَلامِ ظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ الكَبِيرَةِ وبَيْنَ الصَّغِيرَةِ. وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُعْتَزِلَةِ.
(p-٦٢)واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ مَبْنِيٌّ عَلى أُصُولٍ كُلُّها باطِلَةٌ عِنْدَنا.
أوَّلُها: أنَّ هَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الطّاعَةَ تُوجِبُ ثَوابًا والمَعْصِيَةَ تُوجِبُ عِقابًا، وذَلِكَ باطِلٌ؛ لِأنّا بَيَّنّا في كَثِيرٍ مِن مَواضِعِ هَذا الكِتابِ أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ عَنِ العَبْدِ لا يُمْكِنُ إلّا إذا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ داعِيَةً تُوجِبُ ذَلِكَ الفِعْلَ، ومَتى كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ الطّاعَةِ مُوجِبَةً لِلثَّوابِ، وكَوْنُ المَعْصِيَةِ مُوجِبَةً لِلْعِقابِ.
وثانِيها: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ، إلّا أنّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ أنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وتَقْدِيسِهِ وخِدْمَتِهِ وطاعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإنَّ ثَوابَ مَجْمُوعِ هَذِهِ الطّاعاتِ الكَثِيرَةِ في هَذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ أكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِن عِقابِ شُرْبِ قَطْرَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الخَمْرِ، مَعَ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ شُرْبَ هَذِهِ القَطْرَةِ مِنَ الكَبائِرِ، فَإنْ أصَرُّوا وقالُوا: بَلْ عِقابُ شُرْبِ هَذِهِ القَطْرَةِ أزْيَدُ مِن ثَوابِ التَّوْحِيدِ وجَمِيعِ الطّاعاتِ سَبْعِينَ سَنَةً فَقَطْ - أبْطَلُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أصْلَهم، فَإنَّهم يَبْنُونَ هَذِهِ المَسائِلَ عَلى قاعِدَةِ الحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، ومِنَ الأُمُورِ المُتَقَرِّرَةِ في العُقُولِ أنَّ مَن جَعَلَ عِقابَ هَذا القَدْرِ مِنَ الجِنايَةِ أزْيَدَ مِن ثَوابِ تِلْكَ الطّاعاتِ العَظِيمَةِ فَهو ظالِمٌ، فَإنْ دَفَعُوا حُكْمَ العَقْلِ في هَذا المَوْضِعِ فَقَدْ أبْطَلُوا عَلى أنْفُسِهِمُ القَوْلَ بِتَحْسِينِ العَقْلِ وتَقْبِيحِهِ، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ هَذِهِ القَواعِدِ.
وثالِثُها: أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى كَثِيرَةٌ وسابِقَةٌ عَلى طاعاتِ العَبِيدِ، وتِلْكَ النِّعَمُ السّابِقَةُ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ الطّاعاتِ، فَكانَ أداءُ الطّاعاتِ أداءٌ لِما وجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السّابِقَةِ، ومِثْلُ هَذا لا يُوجِبُ في المُسْتَقْبَلِ شَيْئًا آخَرَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الطّاعاتِ مُوجِبًا لِلثَّوابِ أصْلًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ يُؤْتى بِها فَإنَّ عِقابَها يَكُونُ أزْيَدُ مِن ثَوابِ فاعِلِها، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ المَعاصِي كَبائِرَ، وذَلِكَ أيْضًا باطِلٌ.
ورابِعُها: أنَّ هَذا الكَلامَ مَبْنِيٌّ عَلى القَوْلِ بِالإحْباطِ، وقَدْ ذَكَرْنا الوُجُوهَ الكَثِيرَةَ في إبْطالِ القَوْلِ بِالإحْباطِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا الَّذِي ذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إلَيْهِ في الفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ والكَبِيرَةِ قَوْلٌ باطِلٌ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى هَلْ مَيَّزَ جُمْلَةَ الكَبائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغائِرِ أمْ لا ؟ فالأكْثَرُونَ قالُوا: إنَّهُ تَعالى لَمْ يُمَيِّزْ جُمْلَةَ الكَبائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغائِرِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الِاجْتِنابَ عَنِ الكَبائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ الصَّغائِرِ، فَإذا عَرَفَ العَبْدُ أنَّ الكَبائِرَ لَيْسَتْ إلّا هَذِهِ الأصْنافَ المَخْصُوصَةَ، عَرَفَ أنَّهُ مَتى احْتَرَزَ عَنْها صارَتْ صَغائِرُهُ مُكَفِّرَةً، فَكانَ ذَلِكَ إغْراءً لَهُ بِالإقْدامِ عَلى تِلْكَ الصَّغائِرِ، والإغْراءُ بِالقَبِيحِ لا يَلِيقُ بِالجُمْلَةِ، أمّا إذا لَمْ يُمَيِّزِ اللَّهُ تَعالى كُلَّ الكَبائِرِ عَنْ كُلِّ الصَّغائِرِ، ولَمْ يُعْرَفْ في شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أنَّهُ صَغِيرَةٌ، ولا ذَنْبَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلّا ويَجُوزُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ زاجِرًا لَهُ عَنِ الإقْدامِ عَلَيْهِ. قالُوا: ونَظِيرُ هَذا في الشَّرِيعَةِ إخْفاءُ الصَّلاةِ الوُسْطى في الصَّلَواتِ ولَيْلَةِ القَدْرِ في لَيالِي رَمَضانَ، وساعَةِ الإجابَةِ في ساعاتِ الجُمُعَةِ، ووَقْتِ المَوْتِ في جَمِيعِ الأوْقاتِ. والحاصِلُ أنَّ هَذِهِ القاعِدَةَ تَقْتَضِي أنْ لا يُبَيِّنَ اللَّهُ تَعالى في شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أنَّهُ صَغِيرَةٌ، وأنْ لا يُبَيِّنَ أنَّ الكَبائِرَ لَيْسَتْ إلّا كَذا وكَذا، فَإنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَكانَ ما عَداها صَغِيرَةً، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الصَّغِيرَةُ مَعْلُومَةً، ولَكِنْ يَجُوزُ أنْ يُبَيِّنَ في بَعْضِ الذُّنُوبِ أنَّهُ كَبِيرَةٌ. رُوِيَ أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«ما تَعُدُّونَ الكَبائِرَ ؟“ فَقالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَقالَ: ”الإشْراكُ بِاللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، والفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ، والسِّحْرُ، وأكْلُ مالِ اليَتِيمِ، وقَوْلُ الزُّورِ، وأكْلُ الرِّبا، وقَذْفُ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ» “ . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ ذَكَرَها وزادَ فِيها: اسْتِحْلالُ آمِّينَ البَيْتِ الحَرامِ، وشُرْبُ الخَمْرِ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ زادَ فِيها: القُنُوطُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، واليَأْسُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، والأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ. وذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها سَبْعَةٌ، ثُمَّ قالَ: هي إلى السَّبْعِينَ أقْرَبُ. وفي رِوايَةٍ أُخْرى: إلى السَّبْعِمِائَةِ أقْرَبُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-٦٣)
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أبُو القاسِمِ الكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ أصْحابِ الكَبائِرِ، فَقالَ: قَدْ كَشَفَ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ الشُّبْهَةَ في الوَعِيدِ؛ لِأنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ قَدَّمَ ذِكْرَ الكَبائِرِ، بَيَّنَ أنَّ مَنِ اجْتَنَبَها يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم إذا لَمْ يَجْتَنِبُوها فَلا تُكَفَّرُ، ولَوْ جازَ أنْ يَغْفِرَ تَعالى لَهُمُ الكَبائِرَ والصَّغائِرَ مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ لَمْ يَصِحَّ هَذا الكَلامُ.
وأجابَ أصْحابُنا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: إنَّكم إمّا أنْ تَسْتَدِلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ مِن حَيْثُ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّ عِنْدَ اجْتِنابِ الكَبائِرِ يُكَفِّرُ السَّيِّئاتِ، وجَبَ أنَّ عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنابِ الكَبائِرِ لا يُكَفِّرُها؛ لِأنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الحُكْمِ عَمّا عَداهُ، وهَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ هَذا الأصْلَ باطِلٌ، وعِنْدَنا أنَّهُ دَلالَةٌ ظَنِّيَّةٌ ضَعِيفَةٌ، وإمّا أنْ تَسْتَدِلُّوا بِهِ مِن حَيْثُ أنَّ المُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ ”إنَّ“ عَلى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ آياتٌ:
إحْداها: قَوْلُهُ: ﴿واشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢] فالشُّكْرُ واجِبٌ سَواءٌ عُبِدَ اللَّهُ أوْ لَمْ يُعْبَدْ.
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وأداءُ الأمانَةِ واجِبٌ سَواءٌ ائْتَمَنَهُ أوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ.
وثالِثُها: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] والِاسْتِشْهادُ بِالرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ جائِزٌ سَواءٌ حَصَلَ الرَّجُلانِ أوْ لَمْ يَحْصُلا.
ورابِعُها: ﴿ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] والرَّهْنُ مَشْرُوعٌ سَواءٌ وُجِدَ الكاتِبُ أوْ لَمْ يُوجَدْ.
وخامِسُها: ﴿ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكم عَلى البِغاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور: ٣٣] والإكْراهُ عَلى البِغاءِ مُحَرَّمٌ، سَواءٌ أرَدْنَ التَّحَصُّنَ أوْ لَمْ يُرِدْنَ.
وسادِسُها: ﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] والنِّكاحُ جائِزٌ سَواءٌ حَصَلَ ذَلِكَ الخَوْفُ أوْ لَمْ يَحْصُلْ.
وسابِعُها: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: ١٠١] والقَصْرُ جائِزٌ، سَواءٌ حَصَلَ الخَوْفُ أوْ لَمْ يَحْصُلْ.
وثامِنُها: ﴿فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ﴾ [النساء: ١١] والثُّلُثانِ كَما أنَّهُ حَقُّ الثَّلاثَةِ فَهو أيْضًا حَقُّ الثِّنْتَيْنِ.
وتاسِعُها: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ﴾ ( النِّساءِ: ٣٥ ] وذَلِكَ جائِزٌ سَواءٌ حَصَلَ الخَوْفُ أوْ لَمْ يَحْصُلْ.
وعاشِرُها: قَوْلُهُ: ﴿إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ [النساء: ٣٥] وقَدْ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بِدُونِ إرادَتِهِما.
والحادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ [النساء: ١٣٠] وقَدْ يَحْصُلُ الغِنى بِدُونِ ذَلِكَ التَّفَرُّقِ، وهَذا الجِنْسُ مِنَ الآياتِ فِيهِ كَثْرَةٌ، فَثَبَتَ أنَّ المُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ ”إنَّ“ عَلى الشَّيْءِ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، والعَجَبُ أنَّ مَذْهَبَ القاضِي عَبْدِ الجَبّارِ في أُصُولِ الفِقْهِ هو أنَّ المُعَلَّقَ بِكَلِمَةِ ”إنَّ“ عَلى الشَّيْءِ لا يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ إنَّهُ في التَّفْسِيرِ اسْتَحْسَنَ اسْتِدْلالَ الكَعْبِيِّ بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُبَّ الإنْسانِ لِمَذْهَبِهِ قَدْ يُلْقِيهِ فِيما لا يَنْبَغِي.
الوَجْهُ الثّانِي مِنَ الجَوابِ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما جاءَتْ عَقِيبَ الآيَةِ الَّتِي نَهى اللَّهُ فِيها عَنْ نِكاحِ المُحَرَّماتِ، وعَنْ عَضْلِ النِّساءِ وأخْذِ أمْوالِ اليَتامى وغَيْرِ ذَلِكَ، فَقالَ تَعالى: إنْ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ الكَبائِرَ الَّتِي نَهَيْناكم عَنْها كَفَّرْنا عَنْكم ما كانَ مِنكم في ارْتِكابِها سالِفًا. وإذا كانَ هَذا الوَجْهُ مُحْتَمَلًا، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلى ما ذَكَرَهُ المُعْتَزِلَةُ. وطَعَنَ القاضِي في هَذا الوَجْهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ عامٌّ، فَقَصْرُهُ عَلى المَذْكُورِ المُتَقَدِّمِ لا يَجُوزُ.
الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: إنَّ بِاجْتِنابِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ هَذِهِ المُحَرَّماتِ يُكَفِّرُ اللَّهُ ما حَصَلَ مِنها في الماضِي كَلامٌ بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ لا يَخْلُو حالُهم مِن أمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونُوا قَدْ تابُوا مِن كُلِّ ما تَقَدَّمَ، فالتَّوْبَةُ قَدْ أزالَتْ عِقابَ ذَلِكَ لِاجْتِنابِ هَذِهِ الكَبائِرِ، أوْ لا يَكُونُوا (p-٦٤)قَدْ تابُوا مِن كُلِّ ما تَقَدَّمَ، فَمِن أيْنَ أنَّ اجْتِنابَ هَذِهِ الكَبائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئاتِ ؟ هَذا لَفْظُ القاضِي في تَفْسِيرِهِ.
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنّا لا نَدَّعِي القَطْعَ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ مَحْمُولٌ عَلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لَكِنّا نَقُولُ: إنَّهُ مُحْتَمَلٌ، ومَعَ هَذا الِاحْتِمالِ لا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرُوهُ.
وعَنِ الثّانِي: أنَّ قَوْلَكَ: مِن أيْنَ أنَّ اجْتِنابَ هَذِهِ الكَبائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئاتِ ؟ سُؤالٌ لا اسْتِدْلالَ عَلى فَسادِ هَذا القِسْمِ، وبِهَذا القَدْرِ لا يَبْطُلُ هَذا الِاحْتِمالُ، وإذا حَضَرَ هَذا الِاحْتِمالُ بَطَلَ ما ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلالِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: مِنَ الجَوابِ عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ: هو أنّا إذا أعْطَيْناهم جَمِيعَ مُراداتِهِمْ لَمْ يَكُنْ في الآيَةِ زِيادَةٌ عَلى أنْ نَقُولَ: إنَّ مَن لَمْ يَجْتَنِبِ الكَبائِرَ لَمْ تُكَفَّرْ سَيِّئاتُهُ، وحِينَئِذٍ تَصِيرُ هَذِهِ الآيَةُ عامَّةً في الوَعِيدِ، وعُمُوماتُ الوَعِيدِ لَيْسَتْ قَلِيلَةً، فَما ذَكَرْناهُ جَوابًا عَنْ سائِرِ العُمُوماتِ كانَ جَوابًا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَلا أعْرِفُ لِهَذِهِ الآيَةِ مَزِيدَ خاصِّيَّةٍ في هَذا البابِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الكَعْبِيِّ إنَّ اللَّهَ قَدْ كَشَفَ الشُّبْهَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ وجْهٌ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ هَذِهِ الكَبائِرَ قَدْ يَكُونُ فِيها ما يَكُونُ كَبِيرًا، بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ، ويَكُونُ صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ آخَرَ، وكَذا القَوْلُ في الصَّغائِرِ، إلّا أنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كَبِيرًا عَلى الإطْلاقِ هو الكُفْرُ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الكُفْرَ ؟ وذَلِكَ لِأنَّ الكُفْرَ أنْواعٌ كَثِيرَةٌ: مِنها الكُفْرُ بِاللَّهِ، وبِأنْبِيائِهِ، وبِاليَوْمِ الآخِرِ وشَرائِعِهِ، فَكانَ المُرادُ أنَّ مَنِ اجْتَنَبَ عَنِ الكُفْرِ كانَ ما وراءَهُ مَغْفُورًا، وهَذا الِاحْتِمالُ مُنْطَبِقٌ مُوافِقٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] وإذا كانَ هَذا مُحْتَمَلًا بَلْ ظاهِرًا، سَقَطَ اسْتِدْلالُهم بِالكُلِّيَّةِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّ عِنْدَ اجْتِنابِ الكَبائِرِ يَجِبُ غُفْرانُ الصَّغائِرِ، وعِنْدَنا أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بَلْ كُلُّ ما يَفْعَلُهُ فَهو فَضْلٌ وإحْسانٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دَلائِلِ هَذِهِ المَسْألَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ونُدْخِلْكم مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ المُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ ”يُكَفَّرْ ويُدْخِلْكم“ بِالياءِ في الحَرْفَيْنِ عَلى ضَمِيرِ الغائِبِ، والباقُونَ بِالنُّونِ عَلى اسْتِئْنافِ الوَعْدِ، وقَرَأ نافِعٌ (مَدْخَلًا) بِفَتْحِ المِيمِ، وفي الحَجِّ مِثْلُهُ، والباقُونَ بِالضَّمِّ، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في ﴿مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ بِالضَّمِّ. فَبِالفَتْحِ المُرادُ مَوْضِعُ الدُّخُولِ، وبِالضَّمِّ المُرادُ المَصْدَرُ وهو الإدْخالُ، أيْ: ويُدْخِلْكم إدْخالًا كَرِيمًا، وصَفَ الإدْخالَ بِالكَرَمِ بِمَعْنى أنَّ ذَلِكَ الإدْخالَ يَكُونُ مَقْرُونًا بِالكَرَمِ عَلى خِلافِ مَن قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: ٣٤]
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ مُجَرَّدَ الِاجْتِنابِ عَنِ الكَبائِرِ لا يُوجِبُ دُخُولَ الجَنَّةِ، بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الطّاعاتِ، فالتَّقْدِيرُ: إنْ أتَيْتُمْ بِجَمِيعِ الواجِباتِ، واجْتَنَبْتُمْ عَنْ جَمِيعِ الكَبائِرِ، كَفَّرْنا عَنْكم بَقِيَّةَ السَّيِّئاتِ وأدْخَلْناكُمُ الجَنَّةَ، فَهَذا أحَدُ ما يُوجِبُ الدُّخُولَ في الجَنَّةِ. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ عَدَمَ السَّبَبِ الواحِدِ لا يُوجِبُ عَدَمَ المُسَبِّبِ، بَلْ هَهُنا سَبَبٌ آخَرُ هو السَّبَبُ الأصْلِيُّ القَوِيُّ، وهو فَضْلُ اللَّهِ وكَرَمُهُ ورَحْمَتُهُ، كَما قالَ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"إِن تَجۡتَنِبُوا۟ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق