الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ونُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ۝﴾ [النساء: ٣١]. بعدَما ذكَرَ اللهُ حدودَهُ والذنوبَ والكبائرَ، بيَّنَ وجوبَ الإقلاعِ عنها لنَيْلِ عفوِ اللهِ وصَفْحِهِ ومسامَحتِه، ومَن اجتنَبَ الكبائرَ، كان تركُهُ لها موجِبًا لعفوِ اللهِ له عن الصغائرِ واللَّمَمِ. التوبةُ من الصغائر، مع وجود الكبائر: ومَن تاب مِن صغيرةٍ مستوفيًا شروطَ التوبةِ، قُبِلَتْ توبتُهُ ولو كان مقيمًا على كبيرةٍ أُخرى، لأنّ اللهَ اشترَطَ لتكفيرِهِ وعفوِهِ عن ذنوبِ عبدِهِ الصغائرِ إنْ لم يتُبْ منها أنْ يَجتنِبَ الكبائرَ ولو لم يَتُبْ مِن صغائرِهِ بنفسِه. تكفيرُ الصغائر بالأعمالِ الصالحةِ، مع وجودِ الكبائر: وقد اختلَفَ العلماءُ في تكفيرِ الأعمالِ الصالحةِ للصغائرِ، مع وجودِ الكبائرِ: فذهَبَ أكثرُ العلماءِ ـ وحَكى ابنُ عبدِ البَرِّ إجماعَ العلماءِ[[«التمهيد» (٤/٤٩).]] ـ إلى أنّ الصلواتِ الخمسَ والجمعةَ ورمضانَ لا تُكفِّرُ الصغائرَ لِمَن هو مقيمٌ على كبائرَ، وأنّ اجتنابَ الكبائرِ شرطٌ لتكفيرِ الأعمالِ الصالحةِ للصغائرِ، وذلك لِما ثبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ: مُكَفِّراتٌ ما بَيْنَهُنَّ إذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ)[[أخرجه مسلم (٢٣٣) (١/٢٠٩).]]. وبنحوِه عندَ مسلمٍ عن عثمانَ في الصلاةِ[[أخرجه مسلم (٢٢٨) (١/٢٠٦).]]. وجاء عندَ النَّسائيِّ، مِن حديثِ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ: تقييدُ الاجتنابِ للسبعِ المُوبِقاتِ خاصَّةً لتكفيرِ الصغائرِ، قال ﷺ: (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ـ ثَلاثَ مَرّاتٍ ـ ما مِن عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخَمْسَ، ويَصُومُ رَمَضانَ، ويُخْرِجُ الزَّكاةَ، ويَجْتَنِبُ الكَبائِرَ السَّبْعَ، إلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أبْوابُ الجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلامٍ)[[أخرجه النسائي (٢٤٣٨) (٥/٨).]]. ورواهُ أحمدُ وغيره مِن حديثِ أبي أيوبَ[[أخرجه أحمد (٢٣٥٠٢) (٥/٤١٣)، والنسائي (٤٠٠٩) (٧/٨٨).]]. وجاء موقوفًا عن ابنِ مسعودٍ وسَلْمانَ الفارسيِّ اشتراطُ تقييدِ التكفيرِ باجتنابِ الكبائرِ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٧٦٤٣) و(٧٦٤٤) (٢/١٥٩).]]. ومِن العلماءِ: مَن يَرى تكفيرَ الصلواتِ والجمعةِ ورمضانَ للصغائرِ بكلِّ حالٍ ولو لم تُجتنَبِ الكبائرُ: والأولُ أصحُّ، لظاهِرِ الأدلَّةِ وتصريحِها. ويُستثنى مِن هذا: ما جاء مُطلَقًا بتكفيرِ الذنوبِ مِن غيرِ قيدٍ، كالحَجِّ، كما في قولِه ﷺ: (مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَما ولَدَتْهُ أُمُّهُ)[[أخرجه البخاري (١٨١٩) (٣/١١)، ومسلم (١٣٥٠) (٢/٩٨٣).]]، وكما في تكفيرِ صومِ يومِ عرفةَ وعاشوراءَ. فتُحمَلُ هذه النصوصُ على عمومِها وسَعَتِها، فرحمةُ اللهِ أوسَعُ. تقسيمُ الذنوبِ إلى كبائر وصغائِرَ: وقد ذهَبَ بعضُ المتكلِّمينَ: إلى عدمِ تقسيمِ الذنوبِ إلى كبائرَ وصغائرَ، كالباقِلاَّنِيِّ والإسْفَرايِينِيِّ وإمامِ الحرَمَيْنِ الجُوَيْنِيِّ. والنصوصُ دالَّةٌ صريحةٌ متواترةٌ على تقسيمِ الذنوبِ إلى صغائرَ وكبائرَ، كما في قولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢]، واللممُ هي الصغائرُ، وفي قولِه تعالى: ﴿وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ﴾ [الحجرات: ٧]، وفي هذه الآيةِ تقسيمُ الذنوبِ إلى كفرٍ وفسقٍ، وهي الكبائرُ، وعصيانٍ، وهي الصغائرُ، وتنويعُها بالاسمِ دليلٌ على اختلافِ قَدْرِها. وقد تواتَرَتِ الأحاديثُ على ذلك في «الصحيحَيْنِ»، وغيرِهما، وتقسيمُ الذنوبِ إلى ذلك محلُّ اتِّفاقٍ عندَ السلفِ، ونسبةُ غيرِ ذلك إلى بعضِ الصحابةِ، كابنِ عبّاسٍ، ليس المرادُ مِنه نفيَ تبايُنِ الذنوبِ في عِظَمِها وكِبَرِها، وإنّما حتى لا يتساهَلَ الناسُ في مُقارَفةِ الصغائرِ، وله أقوالٌ كثيرةٌ ورواياتٌ متعدِّدةٌ في تقسيمِ الذنوبِ إلى كبائرَ وصغائرَ. وإنّما يَختلِفُ السلفُ في حدِّها وعدِّها، فالكبائرُ فيها مُوبِقاتٌ، وفيها كبائرُ لم تُوصَفْ بالمُوبِقَةِ، وفي الذُّنوبِ صغائرُ تتبايَنُ في صِغَرِها، وتبايُنُ الذُّنوبِ كتبايُنِ الطاعاتِ، والقولُ بعدمِ تبايُنِ الذُّنوبِ كالقولِ بعدمِ تبايُنِ الطاعاتِ، لأنّ لكلِّ طاعةٍ مأمورٍ بها ذنبًا يُقابِلُها مِثلَها، سواءٌ بتركِ الطاعةِ، أو الابتداعِ فيها، أو التساهُلِ في أدائِها. اختلافُ الذنوبِ، بحَسَبِ القلوبِ: والذنوبُ تختلفُ بحسَبِ أعمالِ القلوبِ، فقد يكونُ الذنبُ عظيمًا فيَقترِفُهُ العبدُ بقلبٍ خائفٍ وجِلٍ مِن عقوبتِهِ وأثرِه، فهذا الذنبُ في حقِّه أقلُّ مِن غيرِه، وقد يَقترِفُ العبدُ الصغيرةَ وهو مستهينٌ بها غيرُ مبالٍ بمَن عَصى، فتكونُ في حقِّه أكبَرَ مِن غيرِه. كما دخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ[[أخرجه البخاري (٢٣٦٥) (٣/١١٢)، ومسلم (٢٢٤٢) (٤/١٧٦٠).]]، وعفا اللهُ عمَّن لم يَعمَلْ خيرًا قَطُّ وأمَرَ أبناءَهُ بتحريقِه، لأنّه فعَلَ ذلك خوفًا مِن اللهِ[[أخرجه البخاري (٣٤٨١) (٤/١٧٦)، ومسلم (٢٧٥٦) (٤/٢١١٠).]]، والحديثانِ في «الصحيحَيْنِ». وهذا كما أنّه في بابِ مقاديرِ الذنوبِ، فكذلك في تكفيرِها، فقد يَعظُمُ العملُ الصالحُ القليلُ في مقابلِ ذنبٍ عظيمٍ مُوبِقٍ، فيُكفِّرُ اللهُ الذنبَ العظيمَ بالعملِ الصالحِ القليلِ، كما كفَّرَ اللهُ للبَغِيِّ زِناها لأجلِ سَقْيِها الكلبَ، والحديثُ في «الصحيحينِ»[[أخرجه البخاري (٣٤٦٧) (٤/١٧٣)، ومسلم (٢٢٤٥) (٤/١٧٦١).]]. ويُشكِلُ عندَ كثيرٍ مِن الفقهاءِ: أنّ الصلواتِ والجمعةَ ورمضانَ وهي أركانُ الإسلامِ ـ لا تُكَفِّرُ الصغائرَ إلاَّ باجتنابِ الكبائرِ، والحجُّ دونَها وقد جاء في الحديثِ في الحاجِّ: (مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَما ولَدَتْهُ أُمُّهُ)[[سبق تخريجه.]]، وظاهرُه العمومُ، ولكنْ يَحمِلُونَ حديثَ الحجِّ على حديثِ الصلاةِ والجمعةِ ورمضانَ، لأنّه دونَها في الرُّكْنِيَّةِ والفضلِ، ويَظنُّونَ أنّ التكفيرَ يكونُ بحجمِ العملِ، وهذا ليس بلازمٍ، ففضلُ العبادةِ في ذاتِهِ لا يَعني فَضْلَها على ما دونَها في تكفيرِ السيِّئاتِ، فالفضلُ للعملِ الصالحِ خاصٌّ لا يَلزَمُ منه مماثلةُ التكفيرِ، فالتكفيرُ يحتاجُ إلى نصٍّ خاصٍّ لمعرفةِ ما يأتي عليه مِن الذُّنوبِ ونوعِها، ولا يُؤخَذُ بالقياسِ المجرَّدِ لبابِ التفاضُلِ، فالأذكارُ تتفاضَلُ، وأَفْضَلُها قولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، ولكنَّ الاستغفارَ أقْوى في تكفيرِ الذنبِ المُعَيَّنِ مع فضلِ كلمةِ الإخلاصِ على الاستغفارِ، ولذا أرشَدَ الشارعُ عندَ الذُّنوبِ إلى الإكثارِ مِن الاستغفارِ والتوبةِ، لأنّه أظهَرُ في قصدِ الذنبِ وتعيينِ طلبِ تكفيرِه، مع أنّ كلمةَ الإخلاصِ تُكَفِّرُ أعظَمَ الذنوبِ، وهو الشِّرْكُ، لأنّ كلمةَ التوحيدِ أظهَرُ في قصدِ نفيِ الشركِ والبراءةِ منه، ولذا قد يُكَفِّرُ اللهُ بالعملِ المفضولِ ذنبًا أعظَمَ ممّا يُكَفِّرُهُ العملُ الفاضلُ، والأجرُ في العملِ الفاضلِ أكثَرُ، ولكنْ في التكفيرِ أقلُّ، والمفضولُ في الأجرِ أقَلُّ، وفي التكفيرِ أكثَرُ، لظهورِ قصدِ التوبةِ وطلبِ العَفْوِ والغُفْرانِ فيه أكثَرَ. وقد يأتي التكفيرُ في الدليلِ للذُّنوبِ بالإطلاقِ، ويُقصَدُ منها الصغائرُ، كتكفيرِ الذنوبِ وتَحاتِّها بالوُضوءِ، كما في الحديثِ: (إذا تَوَضَّأَ العَبْدُ، تَحاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ، كَما تَحاتُّ ورَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)[[أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢٤٨٢).]]. والمقصودُ مِن ذلك الصغائرُ بلا شكٍّ، وذلك مِن وجهَيْنِ: الأولُ: أنّ ورَقَ الشجرِ، يعني: خفيفَ حَمْلِها وصغيرَه، لا موتَ شجرِ الذُّنوبِ وسقوطَ أغصانِه. الثاني: أنّ الوضوءَ لازمٌ للصلاةِ، فلا صلاةَ بغيرِ طُهورٍ، كما في الحديثِ[[أخرجه مسلم (٢٢٤) (١/٢٠٤).]]، والصلواتُ تُكفِّرُ ما بينَها إنِ اجْتُنِبَتِ الكبائرُ، فإذا كان الوضوءُ يُكفِّرُ الذنوبَ كلَّها الكبائرَ والصغائرَ، فالأَوْلى الاكتفاءُ بذِكْرِهِ وتعظيمِهِ في بابِ التكفيرِ على الصلاةِ، والنصوصُ في تكفيرِ الصلاةِ للذنوبِ أكثَرُ مِن الوضوءِ. وعلى هذا يُحمَلُ حديثُ أبي هريرةَ في «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (أرَأَيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْرًا بِبابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ، هَلْ يَبْقى مِن دَرَنِهِ شَيْءٌ؟)، قالُوا: لا يَبْقى مِن دَرَنِهِ شَيْءٌ، قالَ: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطايا)[[أخرجه البخاري (٥٢٨) (١/١١٢)، ومسلم (٦٦٧) (١/٤٦٢).]]. وإنْ كان اللهُ قد جعَلَ في كلِّ عملِ طاعةٍ نوعَ تكفيرٍ لنوعٍ مِن الذنوبِ، لأنّ اللهَ يُكفِّرُ الذنوبَ بالطاعاتِ والقُرُباتِ أوْلى مِن تكفيرِهِ لها بالمصائبِ والهمومِ، ولذا قال تعالى: ﴿إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ [هود: ١١٤]. وكلَّما كانتِ العبادةُ أظهَرَ في الخضوعِ وظهورِ التوبةِ والندمِ والتعبُّدِ للهِ، كان أثرُها في التكفيرِ أعظَمَ. وأعظَمُ المُكفِّراتِ التوحيدُ بعدَ الشِّركِ، فيأتي على الذُّنوبِ كلِّها، والحجُّ والهجرةُ، لظهورِ التعلُّقِ والخضوعِ والرجوعِ إلى اللهِ فيها، كما في حديثِ عمرِو بنِ العاصِ في «الصحيحِ»: (أما عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟! وأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها؟! وأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟)[[أخرجه مسلم (١٢١) (١/١١٢).]]. واللهُ أعلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب