الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ قال: ﴿صَدَقَ﴾ بالتخفيف والتشديد، ﴿صَدَقَ﴾ بمعنى أيش؟ أخبر بالصدق، و﴿صَدَّقَ﴾ مَنْ أخبر بالصدق، فالإنسان إما مُخبِر وإما مُخبَر، فالمخبِر نقول: صَدَق، والمُخبَر نقول: صَدَّق، يقول الله عز وجل: ﴿صَدَقَ﴾ وَ﴿صَدَّقَ﴾، والقراءاتان هنا تحملان معنى الصِّدْق والتَّصْدِيق، فالفائدة من هاتين القرائتين أنهما تدلان على معنيين يتبين ذلك بشرحهما؛ قال: (﴿صَدَقَ عَلَيْهِمْ﴾ أو ﴿صَدَّقَ عَلَيْهِمْ﴾ أي الكفار منهم سبأ ﴿إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أنهم بإغوائه يتبعونه ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾، فصَدَق بالتخفيف في ظنه، أو صَدَّق بالتشديد ظَنَّه أي: وَجَدَه صادقًا). إبليس له ظن في بني آدم ما هو ظنه؟ ظنه أنه يغويهم أجمعين، قال الله تعالى عنه: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص ٨٢، ٨٣]، وقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف ١٦، ١٧] هذا ما كان يُؤَمِّله ويرجوه، ويظنه إما ظنًّا راجحًا وإما ظنًّا متيقنًا لكن لا يمكن أن يتيقن وإنما يظنُّ ظنًّا راجحًا، فهنا صدَّق ظنه ويش ظنه؟ الذي كان يقول: إنه سيغويهم فصدَّقه؛ لأنه أغواهم. أو ﴿صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أنه لما ظَنَّ نفذ ما قال فيكون صَدَق حيث أغواهم، والحاصل أن الظنَّ الذي ظنَّه إبليس ما هو؟ إغواؤهم، هذا هو الظن، هذا الظن إما أن يكون بإغوائه إياهم قد صَدَّقه حيث وقع منه أولًا بتطبيقه فعلًا، أو ﴿صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أنه لما ظن ذلك الظن طبَّقه وفعَّله. والمعنى أن ما توقعه الشيطان وظنه من إغواء الكفار ومنهم سبأ وقع مُؤكَّدًا باللام و(قد) والقَسَم. ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ اتبعوا الشيطان، والشيطان لو نظرنا ما هو الجامع لما يأمر به؟ يأمر بالفحشاء ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة ٢٦٨]، فهو يأمر بالفحشاء والمنكر وكلِّ فعلٍ قبيح، فإذا اتبعه الإنسان بالفحشاء والمنكر والفعل القبيح فقد تبعه وضل عنه دوابه، وإن خالفه فقد خالفه؛ ولهذا قال: ﴿فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا﴾ (﴿إِلَّا﴾ بمعنى لكن ﴿فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ للبيان). قال المؤلف: ﴿إِلَّا﴾ يعني (لكن) إشارة إلى أن الاستثناء هنا منقطع؛ لأن الاستثناء إذا كان بمعنى (لكن) صار منقطعًا، ولكن الذي حَمَل المؤلف على هذا؛ لأن قوله: ﴿صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ظاهره أنه صَدَّق عليهم جميعًا، وعليه فالمؤمنون لم يدخلوا في ذلك فيكون الاستثناء هنا منقطعًا؛ لأن إبليس لم يصدُق الظنَّ إلا على الكفار، أما لو جعلنا ﴿صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ عامٌ للقبيلة لكلها أو لبني آدم كلهم ثم قال: ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لكان هذا الاستثناء متصلًا. والحاصل إذا جعلنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إذا جعلنا الضمير عائدًا على الكفار الذين اتبعوا إبليس فإن الاستثناء يجب أن يكون هنا منقطعًا، وإن جعلناه عامًّا لبني آدم أو جنس هذه القبيلة (سبأ) صار الاستثناء متصلًا. وقوله: ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المؤلف يقول رحمه الله: (﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ للبيان) كيف للبيان؟ يعني ﴿مِنَ﴾ بيانية وليست تَبْعِيضِيَّة؛ لأنها لو كانت للتبعيض لكان المعنى إلا فريقًا من المؤمنين نجا منه وفريق آخر لم ينجُ، وهذا المعنى فاسد، وعلى هذا فتكون (مِن) للبيان. ﴿إِلَّا فَرِيقًا﴾ مَن هؤلاء الفريق؟ المؤمنون قال المؤلف: (أي هم المؤمنون لم يتبعوه) انتبه إلى هذا المعنى الدقيق المؤلف رحمه الله جيد في.. أقول مرة ثانية: ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذا قلت: جاء فريق من القوم، كلهم جاؤوا ولَّا لا؟ لا، فـ(من) للتبعيض، ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذا جعلنا (من) للتبعيض كما في قولك: جاء فريق من القوم، إذا جعلناها للتبعيض فسد المعنى؛ لأن المؤمنين كلهم لم يتبعوه، ولهذا احتاج المؤلف أن يجعل (من) بيانية، وتكون (المؤمنون) بيانًا لقوله: ﴿فَرِيقًا﴾، كأنه قال فاتبعوه إلا المؤمنين هذا معنى الآية. (﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ تسليط) ﴿وَمَا كَانَ لَهُ﴾ الضمير يعود على إبليس، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: على القوم الذين أغواهم، ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة لفظًا لا معنى، و﴿سُلْطَانٍ﴾ اسم كان مُؤَخَّر؛ أي: ما كان له سلطان عليهم، والمراد بالسلطان هنا التسلط أو التسليط؛ ولهذا قال: تسليط، فهي إذن اسم مصدر، وليس المراد بها السلطان الذي هو المعنى. المعنى ما كان للشيطان عليهم تسليط ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾، وعلى تقدير المؤلف أن سلطان بمعنى تسليط يكون الاستثناء متصلًا؛ أي: ما جعلنا للشيطان تسليطًا عليهم إلا لنعلم، وإذا جعلنا السطان بمعنى التسلط أو القدرة فالاستثناء يكون منقطعًا أي: ما كان له عليهم سلطة لكن لنعلم مَنْ يتبعه إلى آخره. وقوله ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ﴾ اللام هنا للتعليل أو للعاقبة؟ يحتمل أن تكون للتعليل أو للعاقبة، وعلى كلا التقديرين فيها إشكال؛ الإشكال هو أن ظاهرها تَجَدُّد علم الله، ومعلوم أن علم الله أزليٌّ أبدي أي قديم مستمر، لا بد أن يستمر، فكيف صحَّ أن تكون اللام هنا للتعليل أو للعاقبة؟ يقول المؤلف في تفسيرها: (علم ظهور)؛ وذلك لأن تَعَلُّق علم الله بالشيء له حالان: الحال الأولى: قبل وجوده. والحال الثانية: بعد وجوده. فتعلق علم الله به بعد الوجود يُسَمَّى علم ظهور أي: علمه بعد أن ظهر وبان، وعلم الله تعالى قبل وجوده عِلْمُ تَقْدِير أي أنه قَدَّر أن يكون، وعلم التقدير ثابت بلا شك، فإن الله لن يزل ولا يزال عالمًا بكل ما يكون. انتبه إذا قلنا: إن العلم علمُ تقديرٍ وعلم ظهور زال الإشكال، وصار علم الله للشيء بعد وقوعه بأنه ظهر ووقع، وعلم الله قبل وقوعه علمًا بأنه سيقع، وفرق بين المتعلقين. وقيل إن المراد بالعلم هنا: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وذلك لا يكون إلا بعد الامتحان، فإن علم الله تعالى بالشيء قبل أن يقع علم لا يترتب عليه لا ثواب ولا عقاب؛ لأن المكلف لم يؤمر ولم ينهَ، فإذا أُمِر ففعل أو أُمِر فلم يفعل حينئذ صار مثابًا أو معاقبًا، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد ٣١]، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤٢] وعلى هذا الوجه يكون علم الله تعالى علمين: علم معناه أن الله تعالى عالم بأن هذا الشيء سيقع، ولكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب. وعلم يترتب عليه الثواب والعقاب، وذلك لا يكون إلا بعد امتحان المكلف به وهل يَفْعَل أو لا يَفْعَل؛ يعني: هل يمتثل أو لا يمتثل؟ فتبين أن في هذه المسألة التي ظاهرها تجدد علم الله أن عنها جوابين: الجواب الأول.. مَنْ يعرف الجواب الأول؟ العلم الذي يَتَبَيَّن به الخفيُّ؛ لأن الأمر لم يزل ولا يزال أمام الله سبحانه واضحًا ظاهرًا. قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ هنا ضُمِّنَت ﴿نَعْلَمَ﴾ معنى (نُمَيِّز)، ولهذا قال: ﴿مِمَّنْ هُوَ﴾ يعني: إلا لنُمَيِّز مَن يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. والناس بالنسبة للآخرة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم آمنوا بها. وقسم كفروا بها وأنكروا. وقسم في شكٍّ وتردُّد. الذين آمنوا بها أمرهم واضح، والذين كفروا بها وقالوا: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء ٤٩] هذا لا يمكن، هذا أيضًا أمرهم واضح، والذين تردَّدوا قالوا: يمكن أن تكون حقًّا ويمكن أن تكون باطلًا، بأي القسمين يلحقون بالكافر ولا بالمؤمن؟ بالكافر نعم؛ لأن الواجب أن يؤمن؛ ولهذا قال عز وجل: ﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ فكيف ممن هو منها مُنْكِرًا وجاحدًا ومكذِّبًا؟ فالله عز وجل جعل للشيطان سُلْطَة على بني آدم؛ لأجل أن يمتحن هؤلاء الناس فيعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، الذي في شك من الآخرة يَتْبَع من؟ يتبع الشيطان قطعًا؛ لأنه لا يؤمن بأن هناك يومًا آخر يثاب الناس فيه ويعاقَبون، فهو يري أن لنفسه الحرية المطلقة، وهي في الحقيقة حرية من شيء وَرِقٌّ في شيء، قال ابن القيم رحمه الله: ؎هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ ∗∗∗ ........................... ما هو الرق الذي خُلِقْنا له؟ العبودية لله عز وجل. ؎..................... ∗∗∗ وَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ نسأل الله العافية؛ لأنهم صاروا عبيدًا لأنفسهم وشياطينهم، فلا يمكن أن يتحرر الإنسان من عبادة الله على زعمه إلا كان رقيقًا لغيره للنفس والشيطان، والحاصل أن هؤلاء الذين كانوا في شك من الآخرة لا يمكن أن يعملوا ولا أن يقوموا بطاعة الله؛ ذلك لأن الذي يقوم بطاعة هو الذي يؤمن بأنه سوف يُحْشَر ويثاب أو يعاقب. قال: (﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ فنجازي كُلًّا منهما ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ ) الجملة خبرية تفيد معنى ولازمَ ذلك المعنى؛ فهي خبرية تفيد أن الله على كل شيء حفيظ أي: مراقب ومُطَّلِع ومُهَيْمِنٌ على كل شيء، سواء كان ذلك مما يتعلق بفعله أو مما يتعلق بفعل الخَلْق، فهو جل وعلا رقيب على كل شيء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هذا المعنى يستلزم معنى آخر وهو التحذير من المخالفة، لأن الإنسان متى عَلِم أن الله سبحانه وتعالى حفيظ على كل شيء خاف ولم يخالف، أما إذا كان في شك من هذا فإنه يعمل كما يشاء. ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ﴿قُلِ﴾ قال: (يا محمد لكفار مكة) فهنا المؤلف جعل الخطاب خاصًّا من وجهين: من جهة المخاطَب ومن جهة المدعوِّ؛ المخاطب قال: (﴿قُلِ﴾ يا محمد) والمدعو (كفار مكة)، ولكن هذا غير مُسَلَّم للمؤلف أو للمفسر، بل نقول: إن (قل) يمكن أن تكون موجهة لك مَنْ يتوجه الخطاب إليه من الرسول ﷺ أو غيره ممن وَرِثه في أمته؛ أي: قل أيها الناس، أما بالنسبة للمدعوِّين فنقول: الأصح أنه عام لكل مَنْ دَعا مع الله غيرَه من كفار مكة وغيرهم. وهكذا يجب أن يكون لدينا قاعدة وهو: (أنه إذا دار الأمر أن يكون الخطاب خاصًّا أو عامًّا وجب أن يكون عامًّا)؛ لأن العام يدخل فيه الخاص ولا عكس، وكلما كان معنى القرآن أوسع كان أوجه. إذن نقول: قل أيها المخاطب ممن تدعو إلى الله، قل للذين يدعون مع الله غيره: ادعوا الذين زعمتم، (﴿ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أي: زعمتموهم آلهة) ادعوهم، هل المراد بالدعاء هنا دعاء المسألة أو دعاء الإحضار؟ ادعوهم أي أحضروهم، أو دعاء المسألة؛ يعني: اسألوهم اطلبوا منهم الحوائج هل يستجيبون لكم أم لا؟ نعم، يحتمل المعنيين، يحتمل المعنى: أحضروهم لنناقشهم، أو ادعوهم دعاء مسألة؛ يعني: اسألوهم، كما تقول: ادعُ الله، أي: اسأله. وقول المؤلف: (أي زعمتموهم آلهة)، شوف ماذا قدَّر المؤلف؟ قدَّر ضميرًا واسمًا ظاهرًا؛ الضمير زعمتموهم (هم)، هذا الضمير، والاسم الظاهر: (آلهة)، فأفادنا رحمه الله بأن (زعم) تنصب مفعولين، وأن المفعولين محذوفان، وتقدير الكلام زعمتموهم آلهة؛ لأن (زعم) من الأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر فهي من أخوات ظن، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال: (من غيره لينفعوكم بزعمكم). ..لهؤلاء المشركين أن تنفعهم هذه الآلهة، فهل تنفعهم؟ لا، لا يمكن أن تنفعهم؛ وذلك لانتفاء أسباب النفع من عدة أوجه: أولًا: لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض استقلالًا، ولا يملكون ذلك مشاركة، وليس لهم معونة يعينون الله تعالى بها، والرابع ليس لهم شفاعة إلا بعد إِذْن الله، فبيَّن الله تعالى أن أسباب النفع في هذه الآلهة منتفية. فقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾ الجملة استئنافية لبيان حال هؤلاء الآلهة، (﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ وزن ذرة من خير أو شر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ) صح هذا، لا يملكون مثقال ذرة لا في السماوات ولا في الأرض، ويملكون دون المثقال! ولا دون المثقال؟! نعم؛ لأن التقدير إذا قُصِدَ به المبالغة فلا مفهوم له سواء كان في الكثرة أو في القلة، فهنا ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يعني: ولا دونها واضح؟ طيب، في الكثرة: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ﴾ [التوبة ٨٠]، ولو أكثر من سبعين ما يغفر الله لهم؛ ولهذا قال في آية (المنافقين): ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [المنافقون ٦]، فإذا جاء القيد للمبالغة قلة أو كثرة فليس له مفهوم. إذن لا يملكون مثقال ذرة ولا دونها في السماوات ولا في الأرض، ولو كانوا يملكون ذلك لقلتم: نتعلق بهم لعلهم يعطوننا مما يملكون، صحَّ ولَّا لا؟ طيب، هل لهم شرك في السماوات أو في الأرض؟ لا، ولو كان لهم شرك لقلتم: لعلهم يعطوننا من نصيبهم، ولهذا قال: (﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ شركة) ﴿مِنْ﴾ هذه زائدة لفظًا لا معنى، وعلى هذا فـ﴿شِرْكٍ﴾ مبتدأ مؤخر، وخبره الجار والمجرور المقدم ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ ما لهم شرك في السماوات ولا في الأرض. (﴿وَمَا لَهُ﴾ تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ من الآلهة ﴿مِنْ ظَهِيرٍ﴾ ) ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ ﴿مِنْ ظَهِيرٍ﴾ أيضًا نقول في إعرابها كما قلنا ﴿مِنْ شِرْكٍ﴾؛ أي: أن ﴿مِنْ﴾ زائدة لفظًا لا معنى، و﴿ظَهِيرٍ﴾ مبتدأ مؤخر، والظهير بمعنى المعين، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء ٨٨]، إذن ليس لهم مع الله معونة حتى يُدْلُوا على الله بها، ويقولون: أعطنا عوض معونتنا لننفع مَن أيش؟ من يدعونا، ما لهم مساعدة مع الله، (﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ معين). (﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ﴾ تعالى ردًّا لقولهم: إن آلهتهم تشفع عنده ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ﴾ بفتح الهمزة وضمها ﴿أُذِنَ لَهُ﴾ فِيهَا) إذا قالوا: نعم آلهتنا لا تملك شيئًا في السماوات ولا في الأرض، آلهتنا ليس لها مشاركة مع الله، آلهتنا لم تُعِن الله، لكنها تشفع، كما قالوا؛ ﴿يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس ١٨]، تشفع، قطع الله هذه الوسيلة الأخيرة ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ إذن هذه الآلهة ما تستطيع أن تشفع إلا بعد إِذْنِ الله، وهل يمكن أن يأذن؟ لا، لا يمكن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم ٢٦]، ويقول عز وجل: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء ٢٨]، ومعلوم أنه سبحانه وتعالى لا يرضى عن الكافرين لا أن يشفعوا، ولا أن يُشْفَع فيهم، فتبين أن جميع ما يتعلق به المشركون في شركهم مع الله كلُّه باطل وكلُّه ممتنع؛ فإن الأسباب التي يمكن أن ينتفعوا بها واحد من أمور أربعة -نعدها-: الملك استقلالًا، الملك مشاركة، الإعانة، الشفاعة، وكل هذه الأربعة منتفية في عبادة هذه المدعُوَّة من دون الله، فانقطع جميع كل سبب يتشبث به المشركون، وحينئذ فيجب أن تكون العبادة والدعاء لمن؟ لله تعالى وحده؛ لأنه هو الذي له ملك السماوات والأرض. طيب، ما هي الشفاعة عنده؟ الشفاعة في اللغة: جَعْل الفرد شِفْعًا، أو جَعل الوِتْر شفعًا، ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر ٣]، فضموا واحدٍ إلى واحد؟ * طلبة: شفع. * الشيخ: وضم واحد إلى ثلاثة؟ * طلبة: شفع. * الشيخ: شفع، وهكذا. لكنها في الاصطلاح: التوسط للغير في جلب منفعة أو دفع مضرة، هذه الشفاعة؛ أن تتوسَّط لغيرك إما بجلب منفعة له أو دفع مضرة، فالشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة في جلب منفعة، والشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها وفيمن دخلها أن يُخْرَج هذه شفاعة لدفع الضرر، فلا تخرج الشفاعة عن هذين الأمرين: إما لجلب النفع، وإما لدفع الضرر. إنسان شفع لشخض في أن تُعْلَى مرتبتُه؟ جلب منفعة. شفع لشخص أن كتب عليه غرامة أن ترفع عنه الغرامة، هذه دفع مضرة. وقوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ أو ﴿أُذِنَ لَهُ﴾ الإذن هنا الكوني ولَّا الشرعي؟ الكوني يعني: إلا لمن رَخَّص الله له في أن يشفع، وشرط الإذن أن يكون الله تعالى راضيًا عن الشافع أيش؟ والمشفوع له، فيأذن فيها سبحانه وتعالى كرامةً للشافع وبيانًا لفضله ورحمة بالمشفوع له وإحسانًا إليه، والله (...). ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الدعاء هنا (...). يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ﴾ [سبأ ٢٠] يستفاد من هذا أن إبليس يوصف بالصدق ويوصف بالكذب وما هو الوصف اللازم له؟ الكذب؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء ١٢٠]، وقال النبي ﷺ: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ»[[أخرجه البخاري (٢٨٠٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، ولكن قد يصدُق. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حكمة الله عز وجل في تسليط الشيطان على بني آدم؛ وهي أن يعلم من يؤمن بالآخرة فيعمل لها ممن لا يؤمن ويكون في شك فلا يَعْمَل؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإيمان حاجز عن اتباع الشيطان؛ لقوله: ﴿فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ولهذا يمر بكم كثيرًا: لا يؤمن أحدكم حتى يكون كذا وكذا، من كان يؤمن بالله واليوم فليقل كذا وكذا أو فليفعل كذا كذا، مما يدل على أن الإيمان حاجز عن اتباع الشيطان وموجب لاتباع هديِ الرُّسل عليهم الصلاة والسلام. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الشيطان إمام لكل ضالٍّ؛ لقوله: ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾، فكل الضالين إمامهم الشيطان وهم مُتَّبِعون له. * ومن فوائد الآية الكريمة -على إذا قلنا بأن ﴿مِنَ﴾ للتبعيض، وأن المراد بالاتباع الاتباع المطلق- من فوائدها: أن بعض المؤمنين قد يتبع الشيطان في بعض الأمور، لأنه قلنا: ربما يكون الاستثناء متصلًا، وتكون ﴿مِنَ﴾؛ إذ إن بعض المؤمنين قد يتبعون الشيطان في بعض الأمور مثال ذلك: «لَا يَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبْ بِشِمَالِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» »[[أخرجه ابن ماجه (٣٢٦٦) عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: «ليأكلْ أحدُكم بيمينه، وليشربْ بيمينه، وليأخذْ بيمينه، وليعطِ بيمينه؛ فإن الشيطان يأكلُ بشماله، ويشربُ بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذُ بشماله».]] إذا فعل أحد ذلك صار متبعًا للشيطان، ولهاذ كان القولُ الراجح تحريمَ الأكل بالشمال والشرب بالشمال، وأنه ليس مكروهًا بل هو حرام، والإنسان يكون عاصيًا بذلك، إلَّا إذا كان أفندينًا تَقَدُّمِيًّا حضاريًّا فإنه يأكل بالشمال. * طالب: بالشوكة. * الشيخ: لا، الشوكة ما تخالف، لكن الكلام على الشمال، إذا أكلت باليمين كُلْ بثلاث شوك ما يهم، لكن إذا أكلت باليسار هذه هي المشكلة الذي يزعم فاعلوها أنهم تقدميون وحضاريون، نعم، ولكن ليس كل تقدُّمٍ محمودًا؛ فإن الله يقول عن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ [هود ٩٨]، طيب، إذن على هذا القول الأخير: أن ﴿مِنْ﴾ للتبعيض يكون الاستثناء متصلًا ويكون لبعض المؤمنين شيء من اتباع الشيطان لا الاتباع الكامل. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات علم الله؛ لقوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾، وتعلق علم الله تعالى بالموجودات سبق لنا أمس أنه ينقسم إلى قسمين: تعلق بها قبل الوجود، وتعلق بها بعد الوجود؛ فالتعلق بها بعد الوجود يكون علمه بها علم أمر واقع، والأول يكون تعلق علمه بها أنه علم بما سيقع، وبهذا يزول الإشكال في مثل هذه الآية حيث إن ظاهرها يفيد تجدد علم الله سبحانه وتعالى، لأنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء علمًا أزلًا وأبدًا، ومن ظن أن الله لا يعلم الشيء إلا بعد وجوده فقد كفر. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الآخرة ووجوب الإيمان بها، تؤخذ.. منين تؤخذ؟ * طالب: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾. * الشيخ: إذن فيه إثبات الآخرة ووجوب الإيمان بها. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الشك فيما يجب فيه اليقين كفر؛ لقوله: ﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾، ولم يقل: ممن هو منكر لها؛ لأنه قد تقول: ظاهر الحال إنه لما قال: يؤمن بالآخرة كان يقول اللي يقابله: (يكفر بالآخرة)، لكن قال: ﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ لنستفيد منها فائدة وهو أن ما يُطلَب فيه اليقين يكون الشك فيه كالإنكار كفرًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: عموم رعاية الله ومراقبته لكل شيء، تؤخذ منين؟ * طالب: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾. * الشيخ: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ صح. * ومن فوائدها: أن ربوبية الله عز وجل تنقسم إلى خاصة وعامة، والخاصة إلى أَخَصّ وإلى خاصة؛ لقوله: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ فهذه ربوبية أخص من الخاصة، فإن ربوببة الله عز وجل لخواص عباده كالأنبياء أخص من ربوبيته لعموم المؤمنين، وربوبيته للمؤمنين أخص من ربوبيته لعامة الناس؛ شوف ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ [النمل ٩١] خاصَّة ولَّا عامة؟ * طالب: عامة. * الشيخ: يا إخوان، رب هذه البلدة خاصة كيف عامة؟ ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ بعدئذٍ لما كانت الربوبية الخاصة هنا قد تُوهِم اختصاص ربوبيته لهذه البلدة، بعد هذا قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ عامٌّ. ثم قال الله عز وجل: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [سبأ ٢٢] في هذا دليل على أنه ينبغي في المناظرة التحدي للمناظر فيما يُعْلَم أنه لن يكون؛ لقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾؛ فيجب على كل دعاة حق أن يتحدوا هؤلاء المبطلين بأن يُبْرِزوا لباطلهم شيئًا من النفي، وهذا كما أنه في الشرك يكون أيضًا فيما دونه، فإنه ينبغي أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم بالأمور حتى يستطيع الجدل فيها؛ لأن من لم يكن على علم فيها فإنه سيقف حيران ولا يتمكن من مقابلة الخصم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الأصنام المدعوة من دون الله لا تملك شيئًا لنفسها فلا تملك شيئًا لغيرها، ليس لها ملك ولا شرك في الملك ولا معاونة على تَصَرُّف ولا شفاعة، والأمر في هذا واضح ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ﴾ أي ما لله ﴿مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾. * ومن فوائدها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، ولو كانت الشفاعة لا تنفع مطلقًا ما صح الاستثناء، ولو كانت تنفع مطلقًا ما صح النفي، انتبه لو كانت الشفاعة مطلقًا تنفع، أذن الله فيها أم لم يأذن، ما صحَّ النفي، ولو كانت تنفع مطلقًا ما صح الاستثناء، إذن فهي تنفع بإذن الله. * * * ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ﴾ أي: عند الله ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، وهنا ﴿لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾؛ لكمال سلطانه، فالنفي هنا متضمن لإثباتٍ وهو كمال السلطان؛ لأن من كمال السلطان ألا يتكلم أحد عند الملِك المشفوع إليه أبدًا إلا بإذنه؛ ولهذا تجد الإنسان إذا كان ذا هيبة عند الناس وكان في مجلس تجد الناس لا يتكلمون هيبةً له، وتجد السلطان إذا كان ذا هيبة ما أحد يقدر يتكلم في مكان جلوسه ولا مع أخيه سرًّا؛ لأنهم يهابونه، فلكمال سلطان الله عز وجل لا يستطيع أحد يشفع إلا بإذنه، حتى أخص عباده به وهم الأنبياء، وأخصهم محمد ﷺ لا يمكن أن يشفع إلا إذا أَذِن الله، حتى في مقام الرحمة يوم القيامة فإن الله تعالى يجعل مئة رحمة يرحم بها الخلق، في مقام الرحمة وعند شدة الهَمِّ والغم المقتضي لرحمة الله ما يمكن يشفع الرسول ﷺ إلا بإذن الله أبدًا؛ لماذا؟ لكمال سلطان الله عز وجل إذا كانت الشفاعة لا تنفع إلا بإذن الله، فهل هذه الأصنام المكروهة عند الله المُنْحَطَّة عنده قَدْرًا هل يمكن أن تشفع لعابديها؟ أبدًا، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام الذي عُبِدَ من دون الله لا يمكن أن يشفع لعابديه؛ ولهذا يقول يوم القيامة: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة ١١٧]، ولا يمكن أن يشفع لهم. ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ وقد سبق في الدرس الماضي أن الله لا يأذن إلا إذا كان الشافع والمشفوع له من أهل الشفاعة؛ قال الله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم ٢٦]، وقال عز وجل: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء ٢٨]؛ ولهذا قال العلماء: إن شروط الشفاعة ثلاثة: رضا الله عن الشافع، ورضاه عن المشفوع له، والثالث إذنه بالشفاعة. قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ ﴿حَتَّى﴾ هنا ابتدائية، وليست غائية؛ لأن (حتى) تأتي للغاية، وتأتي للابتداء، وتأتي للتعليل، ولها معانٍ متعددة مَنْ أحب الوقوف عليها فليرجع إلى كتاب المغني، أعني: مغني اللبيب لابن هشام رحمه الله فإنه مفيد لطالب العلم. يقول: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ﴾ فيها قراءتان ﴿فُزِّعَ﴾ و﴿فَزَّعَ﴾ كما قال المؤلف: (بالبناء للفاعل والمفعول). ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ أي: قلوب الخلق أو عن قلوب الملائكة، فيها قولان لأهل العلم وسيأتي إن شاء الله بيانهما. ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ قال: (كشف عنها الفزع بالإذن فيها)، ﴿فَزَّع﴾ و﴿فُزِّعَ﴾ بمعنى: أزال الفزع، وليس ﴿فَزَّع﴾ بمعنى ألحق الفزع، بل بمعنى أزاله، وهو فعل يُراد به السلب؛ لأن هناك أفعالًا يراد بها سلب المعنى؛ يعني ضد هذا المعنى، قالوا: ومنه قولهم: قَرَّد البعير، ويش معنى (قَرَّدَ)؟ أزال منهم القراد، (...) والله تعرفون البعير والقراد اللي فيها؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: معروف، والقراد معروف. * طالب: ما أدري. * الشيخ: البعير تعرفه. القراض هذا شيء يكون في جِلْد البعير دابة حشرة صغيرة تعض البعير وتشرب الدم منها، اسمه؟ * طالب: جراد. * الشيخ: جراد؟ لا، لا. * طالب: مثل القمل، يا شيخ؟ * الشيخ: مثل القمل للإنسان، هو قمل الإبل. * الطالب: يمسك (...). * الشيخ: إي نعم، هو إذا مسك الجلد ما عاد يطلقه أبدًا، إلا كنت تمسكه أنت وتجره جرًّا. على كل حال إن شاء الله ربما نطلع على البر ونشوف بعيرًا فيها قراض ونوريك إياها. طيب المهم أن قرد البعير ما هو معناه وضع القراض فيها، معناه أزاله عنها، فـ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ أو ﴿فَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ يعني: أزال الفزع. ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ قال المؤلف: (بالإذن فيها) أي: في الشفاعة، وعلى هذا فيكون الضمير هنا عائدًا على المشفوع له؛ يعني: إذا لَحِقَ المشفوع له من الهم والكرب والغم ما لحقه، وكذلك الخوف والفزع فأذن الله في الشفاعة زال الفزع عن القلوب؛ لأنه قَرُب الفرج. قال: (﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ ) بالإذن فيها ﴿قَالُوا﴾ بعضهم لبعض استبشارًا ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ فيها -أي: في الشفاعة- ﴿قَالُوا﴾ القول ﴿الْحَقَّ﴾ أي: قد أذن فيها ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ فوق خلقه بالقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم). أفادنا المؤلف رحمه الله أن الضمير في (بِهِمْ) يعود على من؟ المشفوع له، فإن المشفوع قبل الشفاعة يلحقه الفزع والخوف من ذنوبه أو من غير ذلك، فإذا أُذِن في الشفاعة زال الفزع، وقالوا: ماذا قال الله؟ يقول ذلك: فيقول بعضهم لبعض: ﴿قَالُوا الْحَقَّ﴾ أي: قالوا القول الحق، ﴿الْحَقَّ﴾ بمعنى الثابت الموافِق لمحله. وقد سبق لنا أن الحق في الأخبار هو الصدق، والحق في الأحكام هو العدل؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام ١١٥]. طيب، هذا ما ذهب إليه المؤلف على أن الضمير في قلوبهم يعود إلى المشفوع لهم، وأن التفزيع بمعنى إزالة الفزع وهو الخوف بالإذن في الشفاعة، نعم، والسياق لا يأباه، لكن قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن المراد به غيرُ ذلك، وأن المراد به الملائكةُ الذين هم عند الله، إذا تكلم الله بالوحي صعقوا فإذا صعقوا فُزِّع عن قلوبهم، يعني: أُزيل الفزع عنها ثم صاروا يتساءلون: ماذا قال الله؟ فيقال: قال الحق وهو العلي الكبير. وإذا جاءت السنة في تفسير القرآن كانت أولى، على أننا سبق أن قلنا: إن القرآن إذا دلَّ على عدة معانٍ لا تتناقض حُمِلَ على جميع المعاني؛ لأنه أوسع وأعظم مما يصل إليه فكر الإنسان، فقد يصل فكري إلى شيء ويصل الفكر الآخر إلى شيء آخر وفكر الثالث إلى شيء ثالث والآية كلها تحتمل هذه المعاني فتُحْمَل عليها، أما إذا كان لا يحتمل إلا معنى فإنه يجب أن يُحْمَل على ما قام الدليل عليه. وقال بعض أهل العلم: حتى إذا فزع عن قلوبهم عند الموت، ما هو ليس يوم القيامة عند الإذن بالشفاعة، ولكن إذا فُزِّع عن قلوبهم عند الموت، لكن هذا ضعيف، وإن كان قد يرد فيُفَزَّع عن القلب عند الموت ويعترف بالحق، فإن فرعون حين غَرِقَ ماذا قال؟ ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس ٩٠]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ [غافر ٨٤]، لكن هذا المعنى ضعيف، فالآية دائرة بين ما قاله المؤلف وما ثبت به الحديث الصحيح، وهي دالة قطعًا على ما جاء به الحديث الصحيح، وما ذكره المؤلف فهو محتمل ولا تأباه الآية. وقوله تعالى: ﴿قَالُوا الْحَقَّ﴾ ﴿الْحَقَّ﴾ ما إعرابهًا؟ أيش؟ صفة لمصدر محذوف، أي: قالوا القول الحق، ولا يصح أن تكون مفعولًا لقال؛ لأن القول لا يَنْصِب إلا جملة أو ما بمعنى الجملة، القول لا ينصب إلا جملة أو ما بمعناها؛ إلا جملة: كقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم ٣٠]، أين مقول القول؟ ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ جملة، أو بمعنى الجملة كقولك: قلت قصيدة، قلت كلمة، هذه بمعنى الجملة؛ لأن الكلمة والقصيدة والشعر لا يكون إلا جملة. طيب، فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ [النحل ٣٠]؟ نقول: هذه ليست مفعولًا لقال، لكنها مفعول لفعل محذوف ويش التقدير؟ * طالب: قالوا قولًا خيرًا. * الشيخ: لا. * طالب: أنزل خيرًا. * الشيخ: أنزل خيرًا، ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾. يقول المؤلف رحمه الله: (﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ فوق خلقه بالقهر) هذا فيه إما تقصير وإما قصور؛ لأن علو الله عز وجل ليس بالقهر، بل علوه ثلاثة أقسام: علو القهر، وعلو القَدْر، وعلو الذات، لكن المؤلف -عفا الله عنا وعنه- كأنه لا يرى علوَّ الذات، والمنكرون لعلو ذات الله سبحانه وتعالى يَنْقَسِمون إلى قسمين: حلولية، ومعطلة تعطيلًا محضًا. فالحلولية يقولون: إنه يجب عليك أن تؤمن بأن الله في كل مكان بذاته، وتُنْكِر علوه، في كل مكان بذاته؛ إن كنت في المسجد أو كنت في السوق أو كنت في البر أو كنت في البحر، فالله سبحانه وتعالى بذاته في ذلك المكان، وإن كنت في الحُش فهو في الحش، الحش ما هو؟ مكان التخلي يعني -والعياذ بالله- ما نزهوا الله عن الأنتان والأقذار، نسأل الله العافية ولا شك أن هذا كفر محض، ولا يشك أحد في كفر مَنِ اعتقد هذه العقيدة. الطائفة الثانية المنكرة للعلو يقولون: إنه لا يجوز لنا أن نقول: إن الله فوق العالم ولا تحته، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف، ولا متصل ولا منفصل، وهذا أيش؟ هذا تعطيل محض؛ يعني: لو قيل لك: صف لنا المعدوم ما وجدت أشد إحاطة بالمعدوم من هذا الوصف؛ الذي ليس فوق العالم ولا تحته، ولا يمين ولا شمال، ولا خلف ولا أمام، ولا متصل ولا منفصل، هذا ليس بموجود قطعًا، أمَّا الرسل وأتباعهم فيؤمنون بأن الله عز وجل بذاته فوق كل شيء، وهذا هو الذي دلَّ عليه العقل والفطرة والإجماع والكتاب والسنة، ولنستعرض لهذا الأمر، وإن كان -الحمد لله- الأمر ظاهرًا، لكن.. الكتاب دلَّ على أن الله بذاته فوق عرشه من وجوه متنوعة؛ فتارة بذكر العلو مثل: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة ٢٥٥]، وتارة بذكر الفوقية ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام ١٨]، وتارة بذكر صعود الأشياء إليه؛ مثل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر ١٠]، وتارة بذكر نزول الأشياء منه ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [السجدة ٥]، فقد تنوعت الأدلة من كتاب الله على علو الله سبحانه وتعالى. وأما السنة فكذلك دلت السنة على علو الله بذاته من قول الرسول ﷺ وفعله وإقراره؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ»[[أخرج أبو داود (٣٨٩٢) عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنِ اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكاه أخٌ له فليقلْ ربنا الله الذي في السماء..» الحديث.]] وقال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٥١)، ومسلم (١٠٦٤ / ١٤٤) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.]]. وأما فعله فإنه في يوم عرفة وهو يخطب الناس عندما خطب تلك الخطبة العظيمة «قال لهم: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قالوا: نعم. قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»، يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى السماء. «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[[أخرجه مسلم (١٢١٨ / ١٤٧) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.]] هذا أيش؟ سنة فعلية، لإشارته عليه الصلاة والسلام حين ذكر الله، وأما الإقرارية فإنه« أُتِيَ إليه بجارية فسألها فقال: «أَيْنَ اللَّهُ؟» قالت: في السماء. قال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»[[أخرجه مسلم (٥٣٧ / ٣٣) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.]]. هكذا قال، ويعتبر هذا أيش؟ إقرارًا، فقد تنوعت السنة بالدلالة أو في الدلالة على علو الله تعالى بذاته. وأما الإجماع فقد أجمع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الأمة على أن الله تعالى في السماء بذاته ولم يقل أحد منهم بحرف واحد إن الله ليس في السماء أو إن الله في كل مكان بذاته أبدًا. وأما العقل فاسأل عقلك هل الكمال في علو الذات أو في نفي العلو عنها؟ الأول بلا شك، علو الذات تدل على الكمال، بل هي الكمال، فإذا كان العلو هو الكمال فإن من المعلوم عقلًا أن الرب متصف بماذا؟ بالكمال، وحينئذ يَثْبُت له العلو عقلًا، أما الفطرة فاسأل فطرتك عندما تسأل الله شيئًا، افرض إنك ما درست ولا حضرت في المساجد ولا شيء، إذا سألت الله عز وجل شيئًا أين يَنْصَرِفُ قلبُك؟ إلى الأعلى؛ ولهذا كان أبو المعالي الجويني كان يقرر فيقول: كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء. يريد بذلك أن ينكر استواء الله على العرش الذي مِنْ لازمه الإقرار بالعلو فقال له أبو العلاء الهمداني رحمه الله: دعْنَا من ذكر العرش، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في نفوسنا، ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد مِنْ قلبه ضرورة بطلب العلو، صح، فلطم الجويني لطم على رأسه وصرخ، وقال: حيرني الهمداني. ليش؟ لأن الدليل الفطري لا يمكن النزاع فيه، الدليل الفطري لو نازعك منازع قلت: هذا مجنون. * الطالب: هل في الحديث الذي سرد (...)؟ * الشيخ: كيف؟ * الطالب: (...). * الشيخ: لا، لما قال: وكان عرشه على الماء، وكان الله لم يكن شيء قبله. يعني ما ذكر استوى على العرش، لم يذكر استواءه على العرش، هذا يريد أن يُقَرِّر أن الله تعالى لم يستوِ على العرش فينتفي علوه. * الطالب: حذف شيئًا من الحديث يعني؟ * الشيخ: لا، أبدًا هو نفس الحديث، لكن هو أراد أن يقرر أن الله كان ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء؛ يعني: ولا فيه استواء وعلو. فالآن نقول: إن الأمر الفطري لا يمكن أبدًا لأحدٍ أن يُنْكِرَه، لو أن أحدًا أنكر طلبَ الطعام للجائع يُصَدَّق؟ لو قال: الجائع ما هو بيطلب الطعام؟ ما يُصَدَّق؛ ولهذا تحيَّر أبو المعالي الجويني وعجز عن الإجابة؛ لأن هذا دليل فطري لا ينازع فيه أحد. إذن فقد تطابقت الأدلة على علو الله تعالى بذاته، أما علوه بصفاته؛ سواء كانت صفات قدر أو قهر، فهذا يقرُّ به جميع المنتسبين إلى الإسلام حتى الجهمية والأشاعرة وغيرهم يُقِرُّون بأن الله سبحانه وتعالى عالٍ علوًّا معنويًّا؛ وهو علو الصفات. قال المؤلف رحمه الله: (﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ فوق خلقه بالقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم) (﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم) لا شك أن هذا ليس تفسيرًا مطابقًا، ولكنه كأن المؤلف أخذه من قَرْنِ العظيم بالعليِّ في آية الكرسي؛ حيث قال: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة ٢٥٥] وهنا قال: ﴿الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾، ففسَّر ﴿الْكَبِيرُ﴾ بأيش؟ بالعظيم، ولكن الصحيح أن ﴿الْكَبِيرُ﴾ ليس معناه العظيم، بل معناه ذو الكبرياء، ومعناه أن الله تعالى لا يماثله شيء في ذاته، فالسماوات السبع والأرضين السبع في كفه سبحانه وتعالى كخردلة في كفِّ أحدنا؛ يعني: السماوات السبع على عظمها، والأرضين السبع مثل ما لو وضع الإنسان في يده خردلة. حب الخردل تعرفونه، حب الخردل صغير. كبر أيش؟ * طالب: السمسم. * طالب آخر: حبات العدس. * الشيخ: كبر السمسم، هذا الخردلة لو حطتها في كفك ليست بشيء، وهذا أيضًا تمثيل على سبيل التقريب، وإلَّا فالله تعالى أعظم وأجل، فكل المخلوقات بالنسبة له سبحانه وتعالى ليست بشيء، فينبغي أن نقول: إن ﴿الْكَبِيرُ﴾ ليس هو العظيم، بل يفيد معنىً آخر، وهو الذي له الكبرياء، وهو الذي لا يُنْسَب إلى شيء من خلقه، فالسماوات السبع والأراضين السبع في كفه كخردلة في كف أحدنا. (...) في هذه الآية دليل على إثبات الشفاعة؛ لقوله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ﴾، فإن قلت: ما وجه الدلالة على إثبات الشفاعة مع أنها نفي ﴿لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾؟ (...) ولم يقل: ولا تكون الشفاعة، ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾، دلَّ على إثباتها، لكن لا تنفع إلا بإذنه. * ومن فوائد الآية الكريمة: عظمة الله تعالى وقوة سلطانه، من أين يؤخذ؟ * طالب: (...). * الشيخ: وجه ذلك أنها تدل على عظمة الله وقوة سلطانه، وجه الدلالة؟ * طالب: (...). * الشيخ: هذا ما فيها.. ما قال: إن الله قوي ذو سلطان أو عظيم ذو سلطان، لكن هي تدل على ذلك باللازم، فما وجه الدلالة؟ * الطالب: (...). * الشيخ: ما (...). * طالب: (...). * الشيخ: بخلاف المخلوقين مهما عَظُم ملكهم فإنه يدخل الشافع على الملك والسلطان ويشفع بدون إذن، فكلما عظم السلطان ازدادت الهيبة، وصار لا يتكلم أحد إلا بإذن الله؛ كما قال تعالى في سورة (عم يتساءلون): ﴿وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ ٣٨]. * ومن فوائد الآية الكريمة: قطع كل سبب يتعلق به المشركون في آلهتهم، ما وجهه؟ * طالب: (...). * الشيخ: نعم، قطع كل الأسباب التي يستدلون بها على أنها تنفعهم، وهي: * الطالب: (...). * الشيخ: نعم، وأنه لا تنفع الشفاعة، هذا آخر سبب يمكن ومع ذلك نفاها الله. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيانُ كرم الله عز وجل على كلٍّ من الشافع والمشفوع له، منين تأخذ كرم الله على الشافع والمشفوع له؟ * طالب: (...). * الشيخ: أحسنت. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام مسموع، ونحن الآن نأخذ الفوائد بناء على القول الراجح في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾. * طالب: (...). * الشيخ: كيف؟ * الطالب: (...). * الشيخ: والله ممكن ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، ولكن أنا أردت في الآية: ﴿إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾. * الطالب: (...). * الشيخ: أيش بين؟ * الطالب: (...) صعق الملائكة. * الشيخ: صعق الملائكة، ولولا أنهم يسمعون كلامه لم يصعقوا. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن كلام الله عز وجل ليس ككلام المخلوقين، بل هو أعظم؛ لأن السامع له يَصْعَق إلا أن يُثَبِّتَه الله عز وجل؛ لقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾. * ومن فوائدها: أن قول الله عز وجل كله حق؛ لقوله: ﴿قَالُوا الْحَقَّ﴾. * ومن فوائدها: إثبات الربوبية؛ لقوله: ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾. * ومن فوائدها: إثبات علوه سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾، وهو ينقسم إلى: علو الذات، وعلو الصفات، وكلاهما ثابت لله عز وجل. * ومن فوائدها: إثبات الكبرياء لله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن للملائكة عقولًا وفَهْمًا وإدراكًا وقلوبًا؛ لقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾، ولكن هل قلوبهم كقلوب الآدميين؟ الله أعلم، لا نعلم كيفيتها، والملائكة صمت لا يشربون ولا يتكلمون وليس لهم أجواف ولا أمعاء؛ لأنه لا يحتاج إلى الجوف والأمعاء إلا مَنْ يأكل ويشرب. * الطالب: (...)؟ * الشيخ: لا. يتكلمون، أنا قلت: لا يتكلمون؟! يتكلمون، لا أنا أقول: إنهم لا يأكلون ولا يشربون. * ومن فوائد الآية: أن الملائكة يتكلمون؛ ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب