﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ يُؤْذِنُ بِشُفَعاءَ ومَشْفُوعٍ لَهم وأنَّ هُناكَ اِسْتِئْذانًا في الشَّفاعَةِ ضَرُورَةَ أنَّ وُقُوعَ الإذْنِ يَسْتَدْعِي سابِقِيَّةِ ذَلِكَ وهو مُسْتَدْعٍ لِلتَّرَقُّبِ والِانْتِظارِ لِلْجَوابِ وحَيْثُ إنَّهُ كَلامٌ صادِرٌ عَنْ مَقامِ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ كَيْفَ وقَدْ تَقَدَّمَهُ ما تَقَدَّمَهُ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ الكُلِّ في ذَلِكَ المَوْقِفِ خَلْفَ سُرادِقِ العَظَمَةِ مُلْقًى عَلَيْهِمْ رِداءُ الهَيْبَةِ، وما بَعْدَ حَرْفِ الغايَةِ أيْضًا شَدِيدُ الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ فَكَأنَّهُ قِيلَ: تَقِفُ الشُّفَعاءُ والمَشْفُوعُ لَهم في ذَلِكَ المَوْقِفِ الَّذِي يَتَشَبَّثُ فِيهِ المُسْتَشْفِعُونَ بِأذْيالِ الرَّجاءِ مِنَ المُسْتَشْفَعِ بِهِمْ، ويَقُومُ فِيهِ المُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلى قَدَمِ الِالتِجاءِ إلى اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ فَيَطْرُقُ بابَ الشَّفاعَةِ بِالِاسْتِئْذانِ فِيها ويَبْقَوْنَ جَمِيعًا مُنْتَظَرِينَ وجِلِينَ فَزِعِينَ لا يَدْرُونَ ما يُوَقِّعُ لَهُمُ المَلِكُ الأعْظَمُ جَلَّ وعَلا عَلى رُقْعَةِ سُؤالِهِمْ وماذا يَصِحُّ لَهم بَعْدَ عَرْضِ حالِهِمْ حَتّى إذا أُزِيلَ الفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الشُّفَعاءِ والمَشْفُوعِ لَهم بِظُهُورِ تَباشِيرِ حُسْنِ التَّوْقِيعِ وسُطُوعِ أنْوارِ الإجابَةِ والِارْتِضاءِ مِن آفاقِ رَحْمَةِ المَلِكِ الرَّفِيعِ، قالُوا أيْ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، والظّاهِرُ أنَّ البَعْضَ القائِلَ المَشْفُوعُ لَهم وإنْ شِئْتَ فَأعِدِ الضَّمِيرَ إلَيْهِمْ مِن أوَّلِ الأمْرِ إذْ هُمُ الأشَدُّ اِحْتِياجًا إلى الإذْنِ والأعْظَمُ اِهْتِمامًا بِأمْرِهِ ماذا قالَ رَبُّكم في شَأْنِ الإذْنِ بِالشَّفاعَةِ قالُوا أيِ الشُّفَعاءُ فَإنَّهُمُ المُباشِرُونَ لِلِاسْتِئْذانِ بِالذّاتِ المُتَوَسِّطُونَ لِأُولَئِكَ السّائِلِينَ بِالشَّفاعَةِ عِنْدَهُ عَزَّ وجَلَّ: قالَ رَبُّنا القَوْلَ الحَقَّ أيِ الواقِعَ بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ وهو الإذْنُ بِالشَّفاعَةِ لِمَنِ اِرْتَضى.
والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ مِن تَتِمَّةِ كَلامِ الشُّفَعاءِ، قالُوهُ اِعْتِرافًا بِعَظَمَةِ جَنابِ العِزَّةِ جَلَّ جَلالُهُ وقُصُورِ شَأْنِ كُلِّ مَن سِواهُ، أيْ هو جَلَّ شَأْنُهُ المُتَفَرِّدُ بِالعُلُوِّ والكِبْرِياءِ لا يُشارِكُهُ في ذَلِكَ أحَدٌ مِن خَلْقِهِ ولَيْسَ لِكُلٍّ مِنهم كائِنًا مَن كانَ أنْ يَتَكَلَّمَ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ جَلَّ وعَلا، وفِيهِ مِن تَواضُعِهِمْ بَعْدَ تَرْفِيعِ قَدْرِهِمْ بِالإذْنِ لَهم بِالشَّفاعَةِ ما فِيهِ، وفِيهِ أيْضًا نَوْعٌ مِنَ الحَمْدِ كَما لا يَخْفى، وهَذِهِ الجُمْلَةُ المُغَيّاةُ بِما ذُكِرَ لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ جَوابًا بِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الإذْنُ في ذَلِكَ المَوْقِفِ لِلْمُسْتَأْذِنِينَ؟ وكَيْفَ الحالُ فِيهِ لِلشّافِعِينَ والمُسْتَشْفَعِينَ؟ فَقِيلَ: يَقِفُونَ مُنْتَظَرِينَ وجِلِينَ فَزِعِينَ حَتّى إذا الخ، والآياتُ دالَّةٌ عَلى أنَّ المَشْفُوعَ لَهم هُمُ المُؤْمِنُونَ وأمّا الكَفَرَةُ فَهم عَنْ مَوْقِفِ الِاسْتِشْفاعِ بِمَعْزِلٍ وعَنِ التَّفْزِيعِ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِألْفِ ألْفِ مَنزِلٍ، وجَعَلَ بَعْضُهم عَلى هَذا الوَجْهِ مِن كَوْنِ المُغَيّا ما ذُكِرَ ضَمِيرَ ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ لِلْمَلائِكَةِ، وخُصَّ الشُّفَعاءُ بِهِمْ، وضَمِيرُ ﴿قالُوا﴾ الأوَّلُ لَهم أيْضًا وضَمِيرُ قالُوا الثّانِي لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فَوْقَهم وهُمُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، وقالَ: إنَّ فَزَعَهم إمّا لِما يُقْرَنْ بِهِ الإذْنُ مِنَ الأمْرِ الهائِلِ أوْ لِغَشْيَةٍ تُصِيبُهم عِنْدَ سَماعِ كَلامِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ أوْ مِن مُلاحَظَةِ وُقُوعِ التَّقْصِيرِ في تَعْيِينِ المَشْفُوعِ لَهم بِناءً عَلى وُرُودِ الإذْنِ بِالشَّفاعَةِ إجْمالًا وهو كَما تَرى.
وقالَ الزَّجّاجُ: تَفْسِيرُ هَذا أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا نَزَلَ إلى النَّبِيِّ ﷺ بِالوَحْيِ ظَنَّتِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أنَّهُ نَزَلَ بِشَيْءٍ مِن أمْرِ السّاعَةِ فَفَزِعَتْ لِذَلِكَ فَلَمّا اِنْكَشَفَ عَنْها الفَزَعُ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ، سَألَتْ لِأيِّ شَيْءٍ (p-138)نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالُوا: الحَقُّ، اه.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ ومُقاتِلٍ وابْنِ السّائِبِ، بَيْدَ أنَّهم قالُوا: إنَّ المَلائِكَةَ صَعِقُوا لِذَلِكَ فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمُرُّ بِكُلِّ سَماءٍ ويَكْشِفُ عَنْهُمُ الفَزَعَ ويُخْبِرُهم أنَّهُ الوَحْيُ، ولَمْ يُبَيِّنِ الزَّجّاجُ وجْهَ اِتِّصالِ الآيَةِ بِما قَبْلَها ولا بَحَثَ عَنِ الغايَةِ بِشَيْءٍ، وقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ الإمامُ الرّازِيُّ ثُمَّ قالَ في ذَلِكَ: إنَّ ﴿حَتّى﴾ غايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ﴾ لِأنَّهُ تَبَيَّنَهُ بِالوَحْيِ فَلَمّا قالَ سُبْحانَهُ ﴿قُلِ﴾ فَزِعَ مَن في السَّماواتِ وهو لَعَمْرِي مِنَ العَجَبِ العُجابِ.
وقالَ الفاضِلُ الطِّيبِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ: وعَلَيْهِ أكْثَرُ كَلامِ المُفَسِّرِينَ ويُعَضِّدُهُ ما رَوَيْنا عَنِ البُخارِيِّ واَلتِّرْمِذِيِّ وابْنِ ماجَهْ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««إذا قَضى اللَّهُ تَعالى الأمْرَ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ أجْنِحَتَها خُضْعانًا لِقَوْلِهِ تَعالى كَأنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلى صَفْوانٍ فَإذا فُزِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ، قالُوا الَّذِي قالَ الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ»».
وعَنْ أبِي داوُدَ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «إذا تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعالى بِالوَحْيِ سَمِعَ أهْلُ السَّماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلى الصَّفا فَيُصْعَقُونَ فَلا يَزالُونَ كَذَلِكَ حَتّى يَأْتِيَهم جِبْرِيلُ فَإذا أتاهم جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فُزِّعَ﴾ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ: يا جِبْرِيلُ ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ: الحَقَّ الحَقَّ».
ثُمَّ ذَكَرَ في أمْرِ الغايَةِ واتِّصالِ الآيَةِ بِما قَبْلَها عِلَّةَ ذَلِكَ أنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مَعْنى المُغَيّا مِنَ المَفْهُومِ، وذَلِكَ إنَّ المُشْرِكِينَ لِما اِدَّعَوْا شَفاعَةَ الآلِهَةِ والمَلائِكَةِ وأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ مِنَ الأصْنامِ والمَلائِكَةِ وسَمَّيْتُمُوهم بِاسْمِهِ تَعالى والتَجَئُوا إلَيْهِمْ فَإنَّهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ مِن هَؤُلاءِ إلّا لِلْمَلائِكَةِ لَكِنْ مِنَ الإذْنِ والفَزَعِ العَظِيمِ وهم لا يَشْفَعُونَ إلّا لِلْمَرْضِيِّينَ، فَعَبَّرَ عَنِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا لِمَن أذِنَ لَهُ حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ الآيَةُ كِنايَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا لِمَن هَذا شَأْنُهُ ودَأْبُهُ، وأنَّهُ لا يَثْبُتُ عِنْدَ صَدْمَةٍ مِن صَدَماتِ هَذا الكِتابِ المُبِينِ وعِنْدَ سَماعِ كَلامِ الحَقِّ، يَعْنِي الَّذِينَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِمُ الوَحْيُ يَفْزَعُونَ ويَصْعَقُونَ حَتّى إذا أتاهم جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ: الحَقَّ، اِنْتَهى.
ولا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى تَمْيِيزٍ حالَهُ، وأنَّهُ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
وقَوْلُ اِبْنِ عَطِيَّةَ: إنَّ تَأْوِيلَ الآيَةِ بِالمَلائِكَةِ إذا سَمِعَتِ الوَحْيَ إلى جِبْرِيلَ، أوِ الأمْرَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى بِهِ، فَتَسْمَعُ كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلى الحَدِيدِ فَتَفْزَعُ تَعْظِيمًا وهِيبَةً، وقِيلَ خَوْفُ قِيامِ السّاعَةِ هو الصَّحِيحُ وهو الَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ الأحادِيثُ ناشِئٌ مِن حِرْمانِ عَطِيَّةِ سَلامَةِ الذَّوْقِ وتَدْقِيقِ النَّظَرِ، والتَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوَّلًا بِمَراحِلَ في الحُسْنِ عَمّا ذُكِرَ عَنْ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ، وما سَمِعْتَ مِنَ الرِّوايَةِ لا يُنافِيهِ إذْ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذَكَرَ ذَلِكَ في مَعْرِضِ تَفْسِيرِ الآيَةِ، ولا تَنافِيَ بَيْنَ التَّفْزِيعَيْنِ، وكَأنَّ الأكْثَرَ مِنَ المُفَسِّرِينَ نَظَرُوا إلى ظاهِرِ طِباقِ اللَّفْظِ مَعَ الحَدِيثِ فَنَزَّلُوا الآيَةَ عَلى ذَلِكَ فَوَقَعُوا فِيما وقَعُوا فِيهِ، وإنْ كَثُرُوا وجَلُّوا، والقائِلُ بِما سَبَقَ نَظَرَ إلى طِباقِ المَقامِ وحَقَّقَ عَدَمَ المُنافاةِ وظَهَرَ لَهُ حالُ ما قالُوهُ فَعَدَلَ عَنْهُ.
وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الضَّحّاكِ، أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: زَعَمَ اِبْنُ مَسْعُودٍ أنَّ المَلائِكَةَ المُعَقِّباتِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إلى أهْلِ الأرْضِ يَكْتُبُونَ أعْمالَهم إذا أرْسَلَهُمُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى فانْحَدَرُوا سُمِعَ لَهم صَوْتٌ شَدِيدٌ فَيَحْسَبُ بِاَلَّذِينِ أسْفَلَ مِنهم مَنِ المَلائِكَةِ أنَّهُ مِن أمْرِ السّاعَةِ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، وهَذا كُلَّما مَرُّوا عَلَيْهِمْ فَيَفْعَلُونَ مِن خَوْفِ رَبِّهِمْ تَبارَكَ وتَعالى، وابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدِي أجَلُّ مِن أنْ يَحْمِلَ الآيَةَ عَلى هَذا، فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَصِحُّ عَنْهُ. (p-139)
ومِثْلُ هَذا ما زَعَمَهُ بَعْضُهم أنَّ ذاكَ فَزَعُ مَلائِكَةِ أدْنى السَّماواتِ عِنْدَ نُزُولِ المُدَبِّراتِ إلى الأرْضِ، وقِيلَ: إنَّ ﴿حَتّى﴾ غايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿زَعَمْتُمْ﴾ أيْ زَعَمْتُمُ الكُفْرَ إلى غايَةِ التَّفْزِيعِ ثُمَّ تَرَكْتُمْ ما زَعَمْتُمْ وقُلْتُمْ قالَ الحَقَّ، وإلَيْهِ يُشِيرُ ما أخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: حَتّى إذا فُزِّعَ الشَّيْطانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَفارَقَهم وأمانِيَهم وما كانَ يُضِلُّهم بِهِ، قالُوا ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ، ثُمَّ قالَ: وهَذا في بَنِي آدَمَ أيْ كُفّارِهِمْ عِنْدَ المَوْتِ أقَرُّوا حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ الإقْرارُ، والظّاهِرُ أنَّ في الكَلامِ عَلَيْهِ اِلْتِفاتًا مِنَ الخِطابِ في ﴿زَعَمْتُمْ﴾ إلى الغَيْبَةِ في ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ وأنَّ ضَمِيرَ ﴿قالُوا﴾ الأوَّلَ لِلْمَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ أرْواحِهِمْ، والمُرادُ بِالتَّفْزِيعِ عَنِ القُلُوبِ كَشْفُ الغِطاءِ ومَوانِعِ إدْراكِ الحَقِّ عَنْها. وما نُقِلَ عَنِ الحَسَنِ مِن أنَّهُ قالَ: إنَّما يُقالُ لِلْمُشْرِكِينَ ماذا قالَ رَبُّكَ، أيْ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَأقَرُّوا حِينَ لا يَنْفَعُ، يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كالقَوْلِ المَذْكُورِ في أنَّ ذَلِكَ عِنْدَ المَوْتِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا بِأنَّ ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا أنَّ في جَعْلِ حَتّى غايَةً لِلزَّعْمِ عَلَيْهِ غَيْرُ ظاهِرٍ إذْ لا يَسْتَصْحِبُهم ذَلِكَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ حَقِيقَةً كَما لا يَخْفى، وأبْعَدُ مِن هَذا القَوْلِ كَوْنُ ذَلِكَ غايَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِمَّنْ هو مِنها في شَكٍّ﴾ وضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ لِمَن بِاعْتِبارِ مَعْناهُ، والتَّفْزِيعُ كَشْفُ الغِطاءِ ومَواقِعِ إدْراكِ الحَقِّ، بَلْ هو مِمّا لا يَنْبَغِي حَمْلُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ المَعْنى إذا دَعاهم إسْرافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قُبُورِهِمْ قالُوا مُجِيبِينَ ماذا قالَ رَبُّكم حَكاهُ في البَحْرِ، ثُمَّ قالَ: والتَّفْزِيعُ مِنَ الفَزَعِ الَّذِي هو الدُّعاءُ والِاسْتِصْراخُ كَما قالَ زُهَيْرٌ:
؎إذا فَزِعُوا طارُوا إلى مُسْتَغِيثِهِمْ طِوالَ الرِّماحِ لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ التَّفْزِيعَ بِالمَعْنى المَذْكُورِ لا يَتَعَدّى بِعَنْ، وأمْرُ الغايَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ ظاهِرٍ، وبِالجُمْلَةِ ذَلِكَ الزَّعْمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
واخْتارَ أبُو حَيّانَ أنَّ المُغَيّا الِاتِّباعُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ وضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ الرَّفْعِ في (اِتَّبَعُوهُ) أعْنِي الكُفّارَ وكَذا ضَمِيرُ ﴿قالُوا﴾ الثّانِي وضَمِيرُ ﴿قالُوا﴾ الأوَّلُ لِلْمَلائِكَةِ، وكَذا ضَمِيرُ ﴿رَبُّكُمْ﴾ وجُمْلَةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ﴾ إلخ اِعْتِراضِيَّةٌ بَيْنَ الغايَةِ والمُغَيّا، والتَّفْزِيعُ حالُ مُفارَقَةِ الحَياةِ أوْ يَوْمُ القِيامَةِ، وبِجَعْلِ اِتِّباعِهِمْ إبْلِيسَ مُسْتَصْحِبًا لَهم إلى ذَلِكَ اليَوْمِ مَجازًا، ولا يَخْفى بُعْدُهُ، والوَجْهُ عِنْدِي ما ذُكِرَ أوَّلًا، وماذا تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً بِ قالَ أيْ أيُّ شَيْءٍ قالَ رَبُّكُمْ، وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّ ما اِسْمُ اِسْتِفْهامٍ مُبْتَدَأٌ، وذا اِسْمُ مَوْصُولٍ خَبَرُهُ، وجُمْلَةُ قالَ صِلَةُ المَوْصُولِ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ ما الَّذِي قالَهُ رَبُّكم.
وقَرَأ اِبْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ وطَلْحَةُ وأبُو المُتَوَكِّلِ النّاجِي وابْنُ السَّمَيْقَعِ وابْنُ عامِرٍ ويَعْقُوبُ «فَزَّعَ» بِالتَّشْدِيدِ والبِناءِ لِلْفاعِلِ، والفاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ تَعالى المُسْتَتِرُ، أيْ أزالَ اللَّهُ تَعالى الفَزَعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وقالَ أبُو حَيّانَ: هو ضَمِيرُهُ تَعالى إنْ كانَ ضَمِيرَ قُلُوبِهِمْ لِلْمَلائِكَةِ، وإنْ كانَ لِلْكَفّارِ فَهو ضَمِيرُ مُغْرِيهِمْ، .
وقَرَأ الحَسَنُ «فُزِعَ» بِالتَّخْفِيفِ والبِناءِ لِلْمَفْعُولِ فَعَنْ قُلُوبِهِمْ نائِبُ الفاعِلِ، كَما في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وقَرَأ هو وأبُو المُتَوَكِّلِ أيْضًا وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ «فَرَّغَ» بِالفاءِ والرّاءِ المُهْمَلَةِ والغَيْنِ المُعْجَمَةِ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ بِمَعْنى أزالَ.
وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ خَفَّفَ الرّاءَ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما والحَسَنُ أيْضًا وأيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ وقَتادَةُ أيْضًا وأبُو مِجْلَزٍ «فُرِّغَ» كَذَلِكَ إلّا أنَّهم بَنَوْهُ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ اِبْنُ مَسْعُودٍ في رِوايَةٍ وعِيسى «اِفْرَنْقَعَ» قِيلَ بِمَعْنى تَفَرَّقَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنى اِنْكَشَفَ، والكَلِمَةُ مُرَكَّبَةٌ مِن حُرُوفِ المُفارَقَةِ مَعَ زِيادَةِ العَيْنِ كَما رُكِّبَ اِقْمَطَرَّ مِن حُرُوفِ القَمْطِ مَعَ زِيادَةِ الرّاءِ، وفِيهِ إيهامٌ أنَّ العَيْنَ والرّاءَ مِن حُرُوفِ الزِّيادَةِ ولَيْسَ كَذَلِكَ.
وقَرَأ اِبْنُ أبِي عَبْلَةَ «اَلْحَقُّ» (p-140)بِالرَّفْعِ أيْ مَقُولُهُ الحَقُّ
{"ayah":"وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُۥۤ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰۤ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُوا۟ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُوا۟ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ"}