﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ وما لَهم فِيهِما مِن شِرْكٍ وما لَهُ مِنهم مِن ظَهِيرٍ﴾ ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ وإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قُلْ لا تُسْألُونَ عَمّا أجْرَمْنا ولا نُسْألُ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبإ: ٢٥] ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالحَقِّ وهو الفَتّاحُ العَلِيمُ﴾ [سبإ: ٢٦] ﴿قُلْ أرُونِيَ الَّذِينَ ألْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلّا بَلْ هو اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [سبإ: ٢٧] ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ونَذِيرًا ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سبإ: ٢٨] ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنَّ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [سبإ: ٢٩] ﴿قُلْ لَكم مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً ولا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سبإ: ٣٠] ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذا القُرْآنِ ولا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سبإ: ٣١] ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا أنَحْنُ صَدَدْناكم عَنِ الهُدى بَعْدَ إذْ جاءَكم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سبإ: ٣٢] ﴿وقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ونَجْعَلَ لَهُ أنْدادًا وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ وجَعَلْنا الأغْلالَ في أعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سبإ: ٣٣] .
(p-٢٧٥)لَمّا بَيَّنَ حالَ الشّاكِرِينَ وحالَ الكافِرِينَ، وذَكَرَ قُرَيْشًا ومَن لَمْ يُؤْمِن بِمَن مَضى، عادَ إلى خِطابِهِمْ فَقالَ (قُلْ)، يا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمُ المَثَلُ بِقِصَّةِ سَبَأٍ المَعْرُوفَةِ عِنْدَهم بِالنَّقْلِ في أخْبارِهِمْ وأشْعارِهِمْ، ﴿ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾، وهم مَعْبُوداتُهم مِنَ المَلائِكَةِ والأصْنامِ، وهو أمْرٌ بِدُعاءٍ هو تَعْجِيزٌ وإقامَةٌ لِلْحُجَّةِ. ورُوِيَ أنَّ ذَلِكَ نَزَلَ عِنْدَ الجُوعِ الَّذِي أصابَ قُرَيْشًا، أيِ ادْعُوهم لِيَكْشِفُوا عَنْكم ما حَلَّ بِكم، والجَئُوا إلَيْهِمْ فِيما يَعِنُّ لَكم. وزَعَمَ: مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ إذا كانَتِ اعْتِقادِيَّةً، والمَفْعُولُ الأوَّلُ هو الضَّمِيرُ المَحْذُوفُ العائِدُ عَلى الَّذِينَ، والثّانِي مَحْذُوفٌ أيْضًا لِدَلالَةِ المَعْنى، ونابَتْ صِفَتُهُ مَنابَهُ، التَّقْدِيرُ: الَّذِي زَعَمْتُمُوهم آلِهَةً مِن دُونِهِ؛ وحَسَّنَ حَذْفَ الثّانِي قِيامُ صِفَتِهِ مَقامَهُ، ولَوْلا ذَلِكَ ما حَسُنَ، إذْ في حَذْفِ إحْدى مَفْعُولَيْ ظَنَّ وأخَواتِها اخْتِصارًا خِلافٌ، مَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ مَلَكُوتٍ، وأجازَهُ الجُمْهُورُ، وهو مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الثّانِي مِن دُونِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَقِلُّ كَلامًا. لَوْ قُلْتُ: هم مِن دُونِهِ، لَمْ يَصِحَّ، ولا الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ مَزْعُومَةً لَهم لَكانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالحَقِّ قائِلِينَ لَهُ. ولَوْ (p-٢٧٦)كانَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا مِنهم، وأنَّ آلِهَتَهم ومَعْبُوداتِهِمْ لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا بِاعْتِرافِهِمْ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ آلِهَتِهِمْ أنَّهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وهو أحْقَرُ الأشْياءِ، وإذا انْتَفى مِلْكُ الأحْقَرِ عَنْهم، فَمِلْكُ الأعْظَمِ أوْلى. ثُمَّ ذَكَرَ مَقَرَّ ذَلِكَ المِثْقالِ، وهو السَّماواتُ والأرْضُ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهم ما لَهم في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ مِن شِرْكَةٍ، فَنَفى نَوْعَيِ المُلْكِ مِنَ الِاسْتِبْدادِ والشِّرْكَةِ. ثُمَّ نَفى الإعانَةَ مِنهم لَهُ تَعالى في شَيْءٍ مِمّا أنْشَأ بِقَوْلِهِ ﴿وما لَهُ مِنهم مِن ظَهِيرٍ﴾، فَبَيَّنَ عَجْزَ مَعْبُوداتِهِمْ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ.
ولَمّا كانَ مِنَ العَرَبِ مَن يَعْبُدُ المَلائِكَةَ لِتَشْفَعَ لَهُ، نَفى أنَّ شَفاعَتَهم تَنْفَعُ، والنَّفْيُ مُنْسَحِبٌ عَلى الشَّفاعَةِ، أيْ لا شَفاعَةَ لَهم فَتَنْفَعُ، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهم يَشْفَعُونَ، ولا تَنْفَعُ شَفاعَتُهم، أيْ لا يَقَعُ مِن مَعْبُوداتِهِمْ شَفاعَةٌ أصْلًا. ولِأنَّ عابِدِيهِمْ كُفّارٌ، فَإنْ كانَ المَعْبُودُونَ أصْنامًا أوْ كُفّارًا، كَفِرْعَوْنَ، فَسَلْبُ الشَّفاعَةِ عَنْهم ظاهِرٌ، وإنْ كانُوا مَلائِكَةً أوْ غَيْرَهم مِمَّنْ عُبِدَ، كَعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَشَفاعَتُهم إذا وُجِدَتْ تَكُونُ لِمُؤْمِنٍ. و﴿إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ، فالمُسْتَثْنى مِنهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ لِأحَدٍ ﴿إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ . واحْتَمَلَ قَوْلُهُ لِأحَدٍ أنْ يَكُونَ مَشْفُوعًا لَهُ، وهو الظّاهِرُ، فَيَكُونَ قَوْلُهُ ﴿إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾، أيِ المَشْفُوعِ، أذِنَ لِأجْلِهِ أنْ يَشْفَعَ فِيهِ؛ والشّافِعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وإنَّما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ شافِعًا، فَيَكُونَ قَوْلُهُ ﴿إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ بِمَعْنى: إلّا لِشافِعٍ أذِنَ لَهُ أنْ يَشْفَعَ، والمَشْفُوعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، إنَّما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى. وعَلى هَذا الِاحْتِمالِ تَكُونُ اللّامُ في (أذِنَ لَهُ) لامَ التَّبْلِيغِ، لا لامَ العِلَّةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقُولُ: الشَّفاعَةُ لِزَيْدٍ عَلى مَعْنى أنَّهُ الشّافِعُ، كَما يَقُولُ: الكَرَمُ لِزَيْدٍ، وعَلى مَعْنى أنَّهُ المَشْفُوعُ لَهُ، كَما تَقُولُ: القِيامُ لِزَيْدٍ، فاحْتَمَلَ قَوْلُهُ ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ أنْ يَكُونَ عَلى أحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، أيْ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا كائِنَةً لِمَن أذِنَ لَهُ مِنَ الشّافِعِينَ ومُطْلَقَةً لَهُ، أوْ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا كائِنَةً لِمَن أذِنَ لَهُ، أيْ لِشَفِيعِهِ، أوْ هي اللّامُ الثّانِيَةُ في قَوْلِكَ: أذِنَ لِزَيْدٍ لِعَمْرٍو، أيْ لِأجْلِهِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: إلّا لِمَن وقَعَ الإذْنُ لِلشَّفِيعِ لِأجْلِهِ، وهَذا وجْهٌ لَطِيفٌ، وهو الوَجْهُ، وهَذا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. انْتَهى. فَجَعَلَ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ اسْتِثْناءً مُفَرَّغًا مِنَ الأحْوالِ، ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ: إلّا كائِنَةً، وعَلى ما قَرَّرْناهُ اسْتِثْناءٌ مِنَ الذَّواتِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: المَذاهِبُ المُفْضِيَةُ إلى الشِّرْكِ أرْبَعَةٌ: قائِلٌ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وجَعَلَ الأرْضَ والأرْضِيّاتِ في حُكْمِها، ونَحْنُ مِن جُمْلَةِ الأرْضِيّاتِ، فَنَعْبُدُ الكَواكِبَ والمَلائِكَةَ السَّماوِيَّةَ، وهم إلَهُنا، واللَّهُ إلَهُهم، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ ﴿لا يَمْلِكُونَ﴾، ﴿فِي السَّماواتِ﴾، كَما اعْتَرَفْتُمْ، ﴿ولا في الأرْضِ﴾، خِلافَ ما زَعَمْتُمْ. وقائِلٌ: السَّماواتُ مِنَ اللَّهِ اسْتِبْدادًا، والأرْضِيّاتُ مِنهُ بِواسِطَةِ الكَواكِبِ، فَإنَّهُ تَعالى خَلَقَ العَناصِرَ والتَّرْكِيباتِ الَّتِي فِيها بِالِاتِّصالاتِ وحَرَكاتٍ وطَوالِعَ، فَجَعَلُوا مَعَ اللَّهِ شُرَكاءَ في الأرْضِ، والأوَّلُونَ جَعَلُوا الأرْضَ لِغَيْرِهِ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ ﴿وما لَهم فِيهِما مِن شِرْكٍ﴾، أيِ الأرْضُ، كالسَّماءِ لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ، ولا لِغَيْرِهِ فِيهِما نَصِيبٌ. وقائِلٌ: التَّرْكِيباتُ والحَوادِثُ مِنَ اللَّهِ، لَكِنْ فَوَّضَ إلى الكَواكِبِ، وفِعْلُ المَأْذُونِ يُنْسَبُ إلى الآذِنِ، ويُسَلَبُ عَنِ المَأْذُونِ لَهُ فِيهِ، جَعَلُوا السَّماواتِ مُعَيَّنَةً لِلَّهِ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ ﴿وما لَهُ مِنهم مِن ظَهِيرٍ﴾ وقائِلٌ: نَعْبُدُ الأصْنامَ الَّتِي هي صُوَرُ المَلائِكَةِ لِيَشْفَعُوا لَنا، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ﴾، الجُمْلَةُ، و(ألْ) في الشَّفاعَةِ الظّاهِرُ أنَّها لِلْعُمُومِ، أيْ شَفاعَةُ جَمِيعِ الخَلْقِ. وقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أيْ شَفاعَةُ المَلائِكَةِ الَّتِي زَعَمُوها شُرَكاءَ وشُفَعاءَ. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقالَ أبُو البَقاءِ: اللّامُ في ﴿لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِالشَّفاعَةِ، لِأنَّكَ تَقُولُ: أشْفَعْتُ لَهُ، وأنْتَ تَعَلَّقَ بِـ (تَنْفَعُ) . انْتَهى، وهَذا فِيهِ قِلَّةٌ؛ لِأنَّ المَفْعُولَ مُتَأخِّرٌ، فَدُخُولُ اللّامِ عَلَيْهِ قَلِيلٌ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: أُذِنَ بِضَمِّ الهَمْزَةِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِها، أيْ أذِنَ اللَّهُ لَهُ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ (قُلُوبِهِمْ) عائِدٌ عَلى ما عادَتْ عَلَيْهِ (p-٢٧٧)الضَّمائِرُ الَّتِي لِلْغَيْبَةِ في قَوْلِهِ (لا يَمْلِكُونَ)، وفي (ما لَهم)، و(ما لَهُ مِنهم)، وهُمُ المَلائِكَةُ الَّذِينَ دَعَوْهم آلِهَةً وشُفَعاءَ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ مِنهم.
و(حَتّى) تَدُلُّ عَلى الغايَةِ، ولَيْسَ في الكَلامِ عائِدٌ عَلى أنَّ حَتّى غايَةٌ لَهُ. فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في الكَلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ، كَأنَّهُ قالَ: ولا هم شُفَعاءُ كَما تُحِبُّونَ أنْتُمْ، بَلْ هم عَبْدَةٌ أوْ مُسْلِمُونَ أبَدًا، يَعْنِي مُنْقادُونَ، ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ . قالَ: وتَظاهَرَتِ الأحادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ قَوْلَهُ ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾، إنَّما هي في المَلائِكَةِ إذا سَمِعَتِ الوَحْيَ، أيْ جِبْرِيلَ، وبِالأمْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ سَمِعَتْ، كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلى الصَّفْوانِ، فَتَفْزَعُ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا وهَيْبَةً. وقِيلَ: خَوْفٌ أنْ تَقُومَ السّاعَةُ، فَإذا فُزِّعَ ذَلِكَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أيْ أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْها وكُشِفَ، يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ولِ جِبْرِيلَ ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ ؟ فَيَقُولُ المَسْئُولُونَ: قالَ ﴿الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾، وبِهَذا المَعْنى مِن ذِكْرِ المَلائِكَةِ في صَدْرِ الآياتِ تَتَّسِقُ هَذِهِ الآيَةُ عَلى الأُولى، ومَن لَمْ يَشْعُرْ أنَّ المَلائِكَةَ مُشارٌ إلَيْهِمْ مِن أوَّلِ قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ لَمْ تَتَّصِلْ لَهُ هَذِهِ الآيَةُ بِما قَبْلَها، فَلِذَلِكَ اضْطَرَبَ المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِها حَتّى قالَ بَعْضُهم في الكُفّارِ، بَعْدَ حُلُولِ المَوْتِ: فَفُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِفَقْدِ الحَياةِ، فَرَأوُا الحَقِيقَةَ، وزالَ فَزَعُهم مِمّا يُقالُ لَهم في حَياتِهِمْ، فَيُقالُ لَهم حِينَئِذٍ ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ ؟ فَيَقُولُونَ: قالَ الحَقَّ، يُقِرُّونَ حِينَ لا يَنْفَعُكُمُ الإقْرارُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ في جَمِيعِ العالَمِ. وقَوْلُهُ (حَتّى)، يُرِيدُ في الآخِرَةِ، والتَّأْوِيلُ الأوَّلُ في المَلائِكَةِ هو الصَّحِيحُ، وهو الَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ الأحادِيثُ، وهَذا بِعِيدٌ. انْتَهى. وإذا كانَ الضَّمِيرُ في ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ لا يَعُودُ عَلى ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾، كانَ عائِدًا عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ﴾ [سبإ: ٢٠]، ويَكُونُ الضَّمِيرُ في (عَلَيْهِمْ) عائِدًا عَلى جَمِيعِ الكُفّارِ، ويَكُونُ حَتّى غايَةً لِقَوْلِهِ ﴿فاتَّبَعُوهُ﴾ [سبإ: ٢٠]، ويَكُونُ التَّفْزِيعُ حالَةَ مُفارَقَةِ الحَياةِ، أوْ يُجْعَلُ اتِّباعُهم إيّاهُ مُسْتَصْحِبًا لَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَجازًا.
والجُمْلَةُ بَعْدَ مِن قَوْلِهِ ﴿قُلِ ادْعُوا﴾ اعْتِراضِيَّةٌ بَيْنَ المُغَيّا والغايَةِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: أقَرُّوا بِاللَّهِ حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ الإقْرارُ، فالمَعْنى: فَزَّعَ الشَّيْطانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وفارَقَهم ما كانَ يَطْلُبُهم بِهِ، ﴿قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ . وقالَ الحَسَنُ: وإنَّما يُقالُ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ، فَأقَرُّوا حِينَ لا يَنْفَعُ. وقِيلَ (حَتّى) غايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿زَعَمْتُمْ﴾، أيْ زَعَمْتُمُ الكُفْرَ إلى غايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ ما زَعَمْتُمْ وقُلْتُمْ: قالَ الحَقَّ. انْتَهى. فَيَكُونُ في الكَلامِ التِفاتٌ مِن خِطابٍ في ﴿زَعَمْتُمْ﴾ إلى غَيْبَةٍ في ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: فَإذا أُذِّنَ فَزِعَ ودامَ فَزَعُهُ حَتّى إذا أُزِيلَ التَّفْزِيعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قالَ بَعْضُ الشّافِعِينَ مِنَ المَلائِكَةِ لِبَعْضِ المَلائِكَةِ ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ في قَبُولِ شَفاعَتِنا ؟ فَيُجِيبُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: قالَ أيِ اللَّهُ الحَقَّ، أيِ القَوْلَ الحَقَّ، وهو قَبُولُ شَفاعَتِهِمْ، إذا كانَ تَعالى أذِنَ لَهم في ذَلِكَ، ولا يَأْذَنُ إلّا وهو مُرِيدٌ لِقَبُولِ الشَّفاعَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ ؟ ولا شَيْءَ وقَعَتْ حَتّى غايَةً لَهُ. قُلْتُ: بِما فُهِمَ مِن هَذا الكَلامِ مِن أنَّ ثَمَّ انْتِظارَ الإذْنِ وتَوَقُّفًا وتَمَهُّلًا وفَزَعًا مِنَ الرّاجِينَ لِلشَّفاعَةِ والشُّفَعاءِ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهم أوْ لا يُؤْذَنُ ؟ وأنَّهُ لا يُطْلَقُ الإذْنُ إلّا بَعْدَ مَلِيٍّ مِنَ الزَّمانِ وطُولٍ مِنَ التَّرَبُّصِ. ومِثْلُ هَذِهِ الحالِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، عَزَّ مِن قائِلٍ: (p-٢٧٨)﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا﴾ [النبإ: ٣٧] ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقالَ صَوابًا﴾ [النبإ: ٣٨]، كَأنَّهُ قِيلَ: يَتَرَبَّصُونَ ويَتَوَقَّفُونَ مَلِيًّا فَزِعِينَ وهِلِينَ.
﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ أيْ كُشِفَ الفَزَعُ مِن قُلُوبِ الشّافِعِينَ والمَشْفُوعِ لَهم بِكَلِمَةٍ يَتَكَلَّمُ بِها رَبُّ العِزَّةِ في إطْلاقِ الإذِنِ. تَباشَرُوا بِذَلِكَ وسَألَ بَعْضُهم بَعْضًا ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ ؟ قالَ الحَقَّ، أيِ القَوْلَ الحَقَّ، وهو الإذْنُ بِالشَّفاعَةِ لِمَنِ ارْتَضى. انْتَهى. وتَلَخَّصَ مِن هَذا أنَّ حَتّى غائِيَّةٌ إمّا لِمَنطُوقٍ وهو زَعَمْتُمْ، ويَكُونُ الضَّمِيرُ في ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ التِفاتًا، وهو لِلْكُفّارِ، أوْ هو فاتَّبَعُوهُ، وفِيهِ تَناسُقُ الضَّمائِرِ لِغائِبٍ. والفَصْلُ بِالِاعْتِراضِ والضَّمِيرُ أيْضًا لِلْكُفّارِ، والضَّمِيرُ في (قالُوا) لِلْمَلائِكَةِ، وضَمِيرُ الخِطابِ في (رَبُّكم)، والغائِبِ في (قالُوا) الثّانِيَةِ لِلْكُفّارِ. وإمّا لِمَحْذُوفٍ، فَما قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لا يَصِحُّ أنْ يُغَيّا؛ لِأنَّ ما بَعْدَ الغايَةِ مُخالِفٌ لِما قَبْلَها، وهم عَبْدَةٌ مُنْقادُونَ دائِمًا لا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذَلِكَ، لا إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، ولا إذا لَمْ يُفَزَّعْ، وحَمْلُ ذَلِكَ عَلى المَلائِكَةِ حالَ الوَحْيِ لا يُناسِبُ الآيَةَ، وكَوْنُ النَّبِيِّ ﷺ في قِصَّةِ الوَحْيِ قالَ: «فَإذا جاءَهم جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ»، لا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في المَلائِكَةِ حالَةَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالوَحْيِ. والحَدِيثُ رَواهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”إذا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِالوَحْيِ سَمِعَ أهْلُ السَّماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلى الصَّفا، فَيُصْعَقُونَ، فَلا يَزالُونَ كَذَلِكَ حَتّى يَأْتِيَهم جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإذا جاءَهم جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: يا جِبْرِيلُ ماذا قالَ رَبُّكَ ؟ قالَ: فَيَقُولُ الحَقَّ:“ فَيُنادُونَ الحَقَّ ”. وما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُحْتَمَلُ، إلّا أنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ بِالمَلائِكَةِ، والَّذِينَ عَبَدُوهم مَلائِكَةٌ وغَيْرُهم، وتَخْصِيصَ مَن أذِنَ لَهُ بِالمَلائِكَةِ أيْضًا، والمَأْذُونُ لَهم في الشَّفاعَةِ المَلائِكَةُ وغَيْرُهم. ألا تَرى إلى ما حَكى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في“ الشَّفاعَةِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ " .
وقُرِئَ: فُزِّعَ مُشَدَّدًا، مِنَ الفَزَعِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أيْ أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وفُعِّلَ تَأْتِي لِمَعانٍ مِنها: الإزالَةُ، وهَذا مِنهُ نَحْوُهُ: قَرَّدْتُ البَعِيرَ، أيْ أزَلْتُ القُرادَ عَنْهُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وطَلْحَةُ، وأبُو المُتَوَكِّلِ النّاجِيُّ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ، وابْنُ عامِرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِنَ الفَزَعِ أيْضًا، والضَّمِيرُ الفاعِلُ في فَزَعَ إنْ كانَ الضَّمِيرُ في عَنْ قُلُوبِهِمْ لِلْمَلائِكَةِ، فَهو اللَّهُ، وإنْ كانَ لِلْكُفّارِ، فالضَّمِيرُ لِمُغْوِيهِمْ. وقَرَأ الحَسَنُ (فُزِعَ) مِنَ الفَزَعِ، بِتَخْفِيفِ الزّايِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِهِ، كَقَوْلِكَ: انْطَلَقَ يَزِيدُ. وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا، وأبُو المُتَوَكِّلِ أيْضًا، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: فَزَّعَ مُشَدَّدًا، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِنَ الفَزَعِ. وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا: كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ خَفَّفَ الزّايَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ أيْضًا، وأيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ، وقَتادَةُ أيْضًا، وأبُو مِجْلَزٍ: فُرِّغَ مِنَ الفَراغِ، مُشَدَّدَ الرّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعِيسى افْرَنْقَعَ: عَنْ قُلُوبِهِمْ، بِمَعْنى انْكَشَفَ عَنْها، وقِيلَ: تَفَرَّقَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والكَلِمَةُ مُرَكَّبَةٌ مِن حُرُوفِ المُفارَقَةِ مَعَ زِيادَةِ العَيْنِ، كَما رُكِّبَ قَمْطَرَ مِن حُرُوفِ القَمْطِ مَعَ زِيادَةِ الرّاءِ. انْتَهى. فَإنْ عَنِيَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ العَيْنَ مِن حُرُوفِ الزِّيادَةِ، وكَذَلِكَ الرّاءُ، وهو ظاهِرُ كَلامِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ العَيْنَ والرّاءَ لَيْسَتا مِن حُرُوفِ الزِّيادَةِ. وإنْ عَنى أنَّ الكَلِمَةَ فِيها حُرُوفٌ، وما ذَكَرُوا زائِدًا إلى ذَلِكَ العَيْنِ والرّاءِ كَمادَّةِ فَرْقَعَ وقَمْطَرَ، فَهو صَحِيحٌ لَوْلا إيهامُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذِهِ الكَلِمَةِ، لَمْ أذْكُرْ هَذِهِ القِراءَةَ لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ. وقالُوا أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ﴾ أقْوالًا غَيْرَ ما سَبَقَ. قالَ كَعْبٌ: إذا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِلا كَيْفٍ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بِأجْنِحَتِها وخَرَّتْ فَزَعًا، قالُوا فِيما بَيْنَهم ﴿ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا الحَقَّ﴾ . وقِيلَ: إذا دَعاهم إسْرافِيلُ مِن قُبُورِهِمْ، قالُوا مُجِيبِينَ ماذا، وهو مِنَ الفَزَعِ الَّذِي هو الدُّعاءُ والِاسْتِصْراخُ، كَما قالَهُ زُهَيْرٌ: (p-٢٧٩)
؎إذا فَزِعُوا طارُوا إلى مُسْتَغِيثِهِمْ طِوالَ الرِّماحِ لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ
وقِيلَ: هو فَزَعُ مَلائِكَةِ أدْنى السَّماواتِ عِنْدَ نُزُولِ المُدَبِّراتِ إلى الأرْضِ. وقِيلَ: لَمّا كانَتِ الفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ ﷺ وبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، أنْزَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ بِالوَحْيِ، فَظَنَّتِ المَلائِكَةُ أنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِشَيْءٍ مِن أمْرِ السّاعَةِ، وصَعِقُوا لِذَلِكَ، فَجُعِلَ جِبْرِيلُ يَمُرُّ بِكُلِّ سَماءٍ ويَكْشِفُ عَنْهُمُ الفَزَعَ ويُخْبِرُهم أنَّهُ الوَحْيُ، قالَهُ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ وابْنُ السّائِبِ. وقِيلَ: المَلائِكَةُ المُعَقِّباتُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إلى أهْلِ الأرْضِ، ويَكْتُبُونَ أعْمالَهم إذا أرْسَلَهُمُ اللَّهُ فانْحَدَرُوا، سُمِعَ لَهم صَوْتٌ شَدِيدٌ، فَيَحْسَبُ الَّذِينَ هم أسْفَلُ مِنهم مِنَ المَلائِكَةِ أنَّهُ مِن أمْرِ السّاعَةِ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا يُصْعَقُونَ، رَواهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وهَذِهِ الأقْوالُ والَّتِي قَبْلَها لا تَكادُ تُلائِمُ ألْفاظَ القُرْآنِ، فاللَّهَ أسْألُ أنْ يَرْزُقَنا فَهْمَ كِتابِهِ، وأقْرَبُها عِنْدِي أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في (قُلُوبِهِمْ) عائِدًا عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ اتَّبَعُوهُ وعَلَيْهِمْ، ومِمَّنْ هو مِنها في شَكٍّ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِراضًا. وقَوْلُهُ (قالُوا)، أيِ المَلائِكَةُ، لِأُولَئِكَ المُتَّبِعِينَ الشّاكِينَ يَسْألُونَهم سُؤالَ تَوْبِيخٍ ﴿ماذا قالَ رَبُّكُمْ﴾، عَلى لِسانِ مَن بُعِثَ إلَيْكم بَعْدَ أنْ كُشِفَ الغِطاءُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيُقِرُّونَ إذْ ذاكَ أنَّ الَّذِي قالَهُ، وجاءَتْ بِهِ أنْبِياؤُهُ، وهو الحَقُّ، لا الباطِلُ الَّذِي كُنّا فِيهِ مِنِ اتِّباعِ إبْلِيسَ وشَكِّنا في البَعْثِ. (ماذا) يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ما مَنصُوبَةً بِقالَ، أيْ أيَّ شَيْءٍ قالَ رَبُّكم، وأنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّ (ذا) مَوْصُولَةٌ، أيْ ما الَّذِي قالَ رَبُّكم، وذا خَبَرُهُ، ومَعْمُولُ قالَ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عائِدٌ عَلى المَوْصُولِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: قالُوا الحَقُّ، بِرَفْعِ الحَقِّ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أيْ مَقُولُهُ الحَقُّ، ﴿وهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾، تَنْزِيهٌ مِنهم لَهُ تَعالى وتَمْجِيدٌ. ثُمَّ رَجَعَ إلى خِطابِ الكُفّارِ فَسَألَهم عَمَّنْ يَرْزُقُهم، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِأنَّ رازِقَهم هو اللَّهُ، إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَقُولُوا إنَّ آلِهَتَهم تَرْزُقُهم وتَسْألُهم أنَّهم ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾، وأمَرَهُ بِأنْ يَتَوَلّى الإجابَةَ والإقْرارَ عَنْهم بِقَوْلِهِ (قُلِ اللَّهُ)؛ لِأنَّهم قَدْ لا يُجِيبُونَ حُبًّا في العِنادِ وإيثارًا لِلشِّرْكِ. ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا جَوابَ لَهم ولا لِأحَدٍ إلّا بِأنْ يَقُولَ هو اللَّهُ. (وإنّا) أيِ المُوَحِّدِينَ الرّازِقَ العابِدِينَ، ﴿أوْ إيّاكُمْ﴾ المُشْرِكِينَ العابِدِينَ الأصْنامَ والجَماداتِ.
﴿لَعَلى هُدًى﴾ أيْ طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، أوْ في حَيْرَةٍ واضِحَةٍ بَيِّنَةٍ. والمَعْنى: أنَّ أحَدَ الفَرِيقَيْنِ مِنّا ومِنكم لَعَلى أحَدِ الأمْرَيْنِ مِنَ الهُدى والضَّلالِ، أُخْرِجَ الكَلامُ مُخْرَجَ الشَّكِّ والِاحْتِمالِ. ومَعْلُومٌ أنَّ مَن عَبَدَ اللَّهَ ووَحَّدَهُ هو عَلى الهُدى، وأنَّ مَن عَبَدَ غَيْرَهُ مِن جَمادٍ أوْ غَيْرِهِ في ضَلالٍ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَضَمَّنَتِ الإنْصافَ واللُّطْفَ في الدَّعْوى إلى اللَّهِ، وقَدْ عَلِمَ مَن سَمِعَها أنَّها جُمْلَةُ اتِّصافٍ، والرَّدُّ بِالتَّوْرِيَةِ والتَّعْرِيضِ أبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ بِالتَّصْرِيحِ، ونَحْوُهُ قَوْلُ العَرَبِ: أخْزى اللَّهُ الكاذِبَ مِنِّي ومِنكَ، يَقُولُ ذاكَ مَن يَتَيَقَّنُ أنَّ صاحِبَهُ هو الكاذِبُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎فَأيِّيَ ما وأيَّكَ كانَ شَرًّا ∗∗∗ فَسِيقَ إلى المَقادَةِ في هَوانِ
وقالَ حَسّانُ:
؎أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ∗∗∗ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ
وهَذا النَّوْعُ يُسَمّى في عِلْمِ البَيانِ: اسْتِدْراجُ المُخاطَبِ. يَذْكُرُ لَهُ أمْرًا يُسَلِّمُهُ، وإنْ كانَ بِخِلافِ ما ذَكَرَ حَتّى يُصْغِيَ إلَيْهِ إلى ما يُلْقِيهِ إلَيْهِ، إذْ لَوْ بَدَأ بِهِ بِما يَكْرَهُ لَمْ يُصْغِ، ولا يَزالُ يَنْقُلُهُ مِن حالٍ إلى حالٍ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ ويَقْبَلَهُ. وهُنا لَمّا سَمِعُوا التَّرْدادَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم، ظَهَرَ لَهم أنَّهُ غَيْرُ جازِمٍ أنَّ الحَقَّ مَعَهُ، فَقالَ لَهم بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ: إنَّ آلِهَتَكم لا تَمْلِكُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، ولا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ؛ لِأنَّها جَمادٌ، وهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَتَحَقَّقَ أنَّ الرّازِقَ لَهم والنّافِعَ والضّارَّ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ. وقِيلَ: مَعْنى الجُمْلَةِ اسْتِنْقاصُ المُشْرِكِينَ والِاسْتِهْزاءُ بِهِمْ، وقَدْ بَيَّنُوا أنَّ آلِهَتَهم لا تَرْزُقُهم شَيْئًا ولا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، فَأرادَ اللَّهُ مِن نَبِيِّهِ، وأمَرَهُ أنْ يُوَبِّخَهم ويَسْتَنْقِصَهم ويُكَذِّبَهم بِقَوْلٍ غَيْرِ مَكْشُوفٍ، إنْ كانَ ذَلِكَ أبْلَغُ في اسْتِنْقاصِهِمْ، كَقَوْلِكَ: إنَّ أحَدَنا لَكاذِبٌ، وقَدْ (p-٢٨٠)عَلِمْتَ أنَّ مَن خاطَبْتَهُ هو الكاذِبُ، ولَكِنَّكَ وبَّخْتَهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ مَكْشُوفٍ. و(أوْ) هَنا عَلى مَوْضُوعِها لِكَوْنِها لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أوِ الأشْياءِ. وخَبَرُ ﴿إنّا أوْ إيّاكُمْ﴾ هو ﴿لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إذِ المَعْنى: أنَّ أحَدَنا لَفي أحَدِ هَذَيْنِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أوْ عَمْرٌو في القَصْرِ، أوْ في المَسْجِدِ، لا يَحْتاجُ هَذا إلى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إذْ مَعْناهُ: أحَدُ هَذَيْنِ في أحَدِ هَذَيْنِ. وقِيلَ: الخَبَرُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: خَبَرُ لا (ولَهَ)، والتَّقْدِيرُ: وإنّا لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ، فَحُذِفَ لِدَلالَةِ خَبَرِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ المُثْبَتُ خَبَرٌ عَنْهُ، أوْ إيّاكم، إذْ هو عَلى تَقْدِيرِ إنّا، ولَكِنَّها لَمّا حُذِفَتِ اتَّصَلَ الضَّمِيرُ، وقِيلَ: خَبَرُ الثّانِي، والتَّقْدِيرُ: أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ خَبَرِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، وهو هَذا المُثْبَتُ ﴿لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، ولا حاجَةَ لِهَذا التَّقْدِيرِ مِنَ الحَذْفِ لَوْ كانَ ما بَعْدَ (أوْ) غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِها، نَحْوُ: زَيْدٌ أوْ عَمْرٌو قائِمٌ، كانَ يَحْتاجُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ، وإنَّ مَعَ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأنَّ اسْمَها عُطِفَ عَلَيْهِ بِأوْ، والخَبَرُ مَعْطُوفٌ بِأوْ، فَلا يَحْتاجُ إلَيْهِ. وذَهَبَ أبُو عُبَيْدَةَ إلى أنَّ أوْ بِمَعْنى الواوِ، فَيَكُونُ مِن بابِ اللَّفِّ والنَّشْرِ، والتَّقْدِيرُ: وإنّا لَعَلى هُدًى، وإيّاكم في ضَلالٍ مُبِينٍ، فَأخْبَرَ عَنْ كُلٍّ بِما ناسَبَهُ، ولا حاجَةَ إلى إخْراجِ أوْ عَنْ مَوْضُوعِها. وجاءَ في الهُدى بِعَلى؛ لِأنَّ صاحِبَهُ ذُو اسْتِعْلاءٍ، وتَمَكُّنٍ مِمّا هو عَلَيْهِ، يَتَصَرَّفُ حَيْثُ شاءَ. وجاءَ في الضَّلالِ بِعَنْ لِأنَّهُ مُنْغَمِسٌ في حَيْرَةٍ مُرْتَبِكٌ فِيها لا يَدْرِي أيْنَ يَتَوَجَّهُ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ لَا یَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِیهِمَا مِن شِرۡكࣲ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِیرࣲ","وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُۥۤ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰۤ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُوا۟ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُوا۟ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ","۞ قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّاۤ أَوۡ إِیَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ"],"ayah":"وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُۥۤ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰۤ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُوا۟ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُوا۟ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ"}