الباحث القرآني

فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدت بها عليهم الباب أبلغ سد وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أبدا. وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو شريكا لمالكها، أو ظهيرا أو وزيرا أو معاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده. فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السماوات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكة للمالك الحق. فنفى شركها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيرا أو وزيرا، أو معاونا. فقال: ﴿وَما لَهُ مِنهم مِن ظَهِيرٍ﴾. ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين. فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع وإلى معاونته له فيقبل شفاعته، وإن لم يأذن له منها. وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته فهو الغني بذاته عن كل ما سواه. فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟ * (فصل) وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعالى كُلَّ الأسْبابِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِها المُشْرِكُونَ جَمِيعًا، قَطْعًا يَعْلَمُ مَن تَأمَّلَهُ وعَرَفَهُ أنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا، أوْ شَفِيعًا، فَهو كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ فَقالَ تَعالى ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ وما لَهم فِيهِما مِن شِرْكٍ وما لَهُ مِنهم مِن ظَهِيرٍ - ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: ٢٢-٢٣]. فالمُشْرِكُ إنَّما يَتَّخِذُ مَعْبُودَهُ لِما يَعْتَقِدُ أنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، والنَّفْعُ لا يَكُونُ إلّا مِمَّنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِن هَذِهِ الأرْبَعِ إمّا مالِكٌ لِما يُرِيدُهُ عِبادُهُ مِنهُ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مالِكًا كانَ شَرِيكًا لِلْمالِكِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُ كانَ مُعِينًا لَهُ وظَهِيرًا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُعِينًا ولا ظَهِيرًا كانَ شَفِيعًا عِنْدَهُ. فَنَفى سُبْحانَهُ المَراتِبَ الأرْبَعَ نَفْيًا مُتَرَتِّبًا، مُتَنَقِّلًا مِنَ الأعْلى إلى ما دُونَهُ، فَنَفى المِلْكَ، والشِّرْكَةَ، والمُظاهَرَةَ، والشَّفاعَةَ، الَّتِي يَظُنُّها المُشْرِكُ، وأثْبَتَ شَفاعَةً لا نَصِيبَ فِيها لِمُشْرِكٍ، وهي الشَّفاعَةُ بِإذْنِهِ. فَكَفى بِهَذِهِ الآيَةِ نُورًا، وبُرْهانًا ونَجاةً، وتَجْرِيدًا لِلتَّوْحِيدِ، وقَطْعًا لِأُصُولِ الشِّرْكِ ومُوَدّاهُ لِمَن عَقَلَها، والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن أمْثالِها ونَظائِرِها، ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْعُرُونَ بِدُخُولِ الواقِعِ تَحْتَهُ، وتَضَمُّنِهِ لَهُ، ويَظُنُّونَهُ في نَوْعٍ وفي قَوْمٍ قَدْ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَمْ يُعْقِبُوا وارِثًا، وهَذا هو الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ القَلْبِ وبَيْنَ فَهْمِ القُرْآنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب