الباحث القرآني
ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [آل عمران ١٣٥]، ﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو هذه حرف عطف، والأصل في المعطوف أن يكون مغايرًا للمعطوف عليه، ولكن المغايرة قد تكون في المعنى، وقد تكون في الصفة، وقد تكون في اللفظ، وقد تكون في الذات، فلا يلزم من المغايرة إذا قلنا: إن العطف يقتضي المغايرة أن يكون المغايرة بالذات، بل قد يكون التغاير في الصفة وفي اللفظ وفي المعنى، فإذا قلنا: قدم زيد وعمرو، فهنا العطف اقتضى المغايرة في الذات؛ لأن هذا غير هذا لا شك، وفي هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ المغايرة بالصفة فهي كقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ [الأعلى ١ - ٤]، هل الذي قدّر فهدى والذي أخرج المرعى هو الله ولَّا غيره؟ هو الله، لكن هذا عطف صفة على صفة، التغاير في اللفظ مثل قول الشاعر:
؎فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنا ∗∗∗ ......................
كذبًا ومينًا، المين هو الكذب، ولكنه عطفه عليه من باب عطف المترادفين، ولهذا لا يأتي في اللغة العربية (كذبًا وكذبًا)، إنما يأتي (كذبًا ومينًا)، لا بد من تغاير في اللفظ.
التغاير في المعنى قريب من التغاير في الصفة، فالذي معنا الآن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ من باب تغاير الصفة.
من صفاتهم أنهم ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ﴿فَاحِشَةً﴾ هي ما يُستفحش شرعًا أو عرفًا مثل الزنا، فإن الزنا فاحشة شرعية وفاحشة عرفية، واضح؟ كذلك اللواط فاحشة شرعية وعرفية، قال لوط لقومه: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ [الأعراف ٨٠]، كذلك نكاح ما نكح الآباء هو أيضًا فاحشة: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾ [النساء ٢٢] ولهذا نقول: الفاحشة كل ما يستفحش عقلًا أو شرعًا وعادة، ولكن في باب الثواب والعقاب المرجع إلى الشرع، ولهذا قال بعض العلماء: المراد بالفاحشة الكبيرة، المراد الكبيرة.
وقوله: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ المراد به ما دون الفاحشة؛ وهي الصغائر، وعلى هذا فالعطف بين قوله: ﴿فَاحِشَةً﴾ ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ عطف بين متغايرين، وليس من باب عطف العام على الخاص، وإن كانت الفاحشة لا شك أنها داخلة في ظلم النفس، لكن المراد هنا التنويع: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وإذا كان المراد التنويع لزم أن يكون كل نوع سوى النوع الآخر.
وقوله: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قد يقول قائل: كيف يتصوّر أن الإنسان يظلم نفسه؟ الإنسان يدفع عن نفسه الظلم، فكيف يظلم نفسه؟!
والجواب على ذلك أن نقول: كل من خالف أمر الله بفعل محرّم أو ترك واجب فقد ظلم نفسه، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق ١]، لماذا؟ لأن النفس عندك أمانة تجب عليك رعايتها، وقد أوصاك الله بها فقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء ٢٩].
وقال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة ٣٦] فنهى الله عن قتل النفس وعن ظلم النفس؛ لأنها أمانة عندك.
وبالمناسبة قال العلماء: إن الله أرحم بك من أبيك وولدك ونفسك، الدليل؟ أما كونه أرحم بك من أبيك فإن الله قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء ١١]، فأوصى الآباء والأمهات بمن؟ بالأولاد، إذن فهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وأما بالعكس أن يكون أرحم بك من أبنائك فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ [العنكبوت ٨]، وأما أرحم بك من نفسك فلأن الله قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء ٢٩]، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة ١٩٥]، إذن نقول: وجه كون الإنسان ظالمًا نفسه أن نفسك عندك أمانة، فإذا فرطت في هذه الأمانة بأن أقحمت نفسك فيما حرم الله عليك، أو تأخّرت عما أوجب الله عليك فقد أيش؟ فقد ظلمت نفسك، ظلم النفس هو في نفس الواقع ظلم في حق الغير؛ لأن ظلم النفس إما في حق يتعلق بالله عز وجل، وإما في حق يتعلق بالمخلوق، فإن كان في حق الله فإنك ظالم في حق الله، وإن كان في حق المخلوق فإنك ظالم في حق المخلوق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٨٧) ومسلم (١٥٦٤ / ٣٣) من حديث أبي هريرة.]] وبهذا نعرف أن من ظلم نفسه فقد ظلم ثلاثة: ظلم نفسه، وظلم حق الله عز وجل، وظلم المخلوق؛ لأن كل هذه تتعلق بأوامر الله ونواهيه.
﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ بماذا يذكرون الله؟ باللسان أو بالجوارح أو بالقلب أو بالجميع؟
* طلبة: بالجميع.
* الشيخ: بالجميع، ذكروا الله بالجميع، أما ذكر الله بالقلب فإنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا عظمة الله وما أعد للمخالفين من العقاب، وذكروا كذلك رحمة الله وما أعد للطائعين من الثواب، حطوا بالكم يا جماعة، هذا ذكر بالقلب، فإذا ذكروا الله بالمعنى الأول، ذكروا عظمته فخافوا من عقابه، استقاموا على دينه هربًا من عقابه، وإذا ذكروا الله بالمعنى الثاني وهو ذكر رحمته وثوابه فإنهم يستقيمون على شرعه طلبًا للوصول إليه، فذكر الأول من باب الهرب، والثاني من باب الطلب، والعبادة بمقتضى الطلب أو العابد بمقتضى الطلب أعلى حالًا من العابد بمقتضى الهرب، قالوا: لأن الطالب ناصح في غيبة المطلوب وفي حضوره، والهارب ناصح في حضور المخوف، لكن في غير حضوره لا يهتم، ويمكن أن يؤخذ هذا من قول الرسول ﷺ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠) واللفظ له ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]]، إذن ذكر القلب يكون على وجهين، الوجه الأول أيش؟ ذكر عظمة الله عز وجل وعقوبته فيستقيم على شرعه هربًا من عقوبته، والثاني: ذكر رحمة الله عز وجل وفضله ومنّته وثوابه العظيم، فيستقيم على شرعه أيش؟ طلبًا لثوابه ورجاء له.
ذكر الله باللسان يمكن أن يكون المراد به الذكر الخاص مثل: لا إله إلا الله، كما «يُروى عن الشيطان أنه قال: أهلكتُ بني آدمَ بالمعاصي وأهلكُوني بِلا إلهَ إلا اللهُ والاستغفارِ».[[أخرجه أبو يعلى (136)، والطبراني في الدعاء (1780) من حديث أبي بكر الصديق.]] فذِكر الله لا شك أنه من أسباب مغفرة الذنوب، فيذكرون الله بألسنتهم يقول: لا إله إلا الله، فيقولون كلمة الإخلاص، وهذه إذا قالها الإنسان مخلصًا غفر الله له، وكذلك أيضًا ذكر الله باللسان بالاستغفار: اللهم اغفر لي، إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله بالاستغفار، اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله أو ما أشبه ذلك.
الذكر بالفعل هو أنهم يفعلون ما يكفّر هذه الذنوب والخطايا، ومن ذلك الصدقة، فإن النبي ﷺ قال: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ»[[أخرجه الترمذي (٦١٤) من حديث كعب بن عجرة.]]، وكذلك أيضًا الصلاة فإن الإنسان إذا توضّأ وأسبغ الوضوء، ثم صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فصار الذكر يتناول..
* طالب: الذكر يتناول أول شيء ذكر الله باللسان، أول شيء ذكر القلب وهو على نوعين.
* الشيخ: بالقلب، والثاني؟
* الطالب: باللسان.
* الشيخ: والثالث؟
* الطالب: بالجوارح.
* الشيخ: والذكر بالقلب على وجهين.
﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ (الفاء) للترتيب والتعقيب؛ يعني فإذا ذكروا الله استغفروا لذنوبهم أي: طلبوا المغفرة من الله سبحانه وتعالى لذنوبهم، وتقدم لنا مرارًا أن المغفرة تعني ستر الذنب والتجاوز عنه، وقوله: ﴿لِذُنُوبِهِمْ﴾ الذنوب هي المعاصي والآثام، فيسألون الله تعالى أن يغفر لهم هذه المعاصي والآثام، وإذا استغفر الإنسان ربه بِنيّة صادقة وافتقار إليه فإن الله تعالى يغفر له، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (من) هذه اسم استفهام وليست اسم شرط، والدليل على أنها اسم استفهام لا اسم شرط أن الفعل بعدها وقع أيش؟ مرفوعًا ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ﴾، ثم إن أداة الإثبات جاءت بعدها وهي (إلا)، وعلى هذا فنقول: (من) اسم استفهام بمعنى النفي، ويدل على أنها بمعنى النفي إتيان الإثبات بعدها وهي: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾.
فإذا قال قائل: ما الفائدة من أن يأتي النفي بصيغة الاستفهام؟ فلماذا لم تكن الآية: ولا يغفر الذنوب إلا الله كما في حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي علّمه النبي ﷺ حيث قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٦٣٢٦) ومسلم (٢٧٠٥ / ٤٨) من حديث أبي بكر الصديق.]]؟
الشاهد نريد قوله: «وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ»، » وهذه الآية جاءت في قوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، فنقول: لأن النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من النفي المجرد، لماذا؟ لأنه إذا جاء النفي بصيغة الاستفهام صار مشربًا بالتحدي، كأن المستفهم يقول: ائتِ لي بكذا وكذا، ائتِ لي بأحد يغفر الذنوب إلا الله عز وجل، فيكون الاستفهام هنا دالًّا على النفي مشربًا بالتحدي.
﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ إلا الله بالرفع مع أنه وقع بعد (إلا)؛ لأن الكلام مفرغ، ما معنى المفرغ؟ المفرغ هو الذي لم يذكر فيه المستثنى منه، هذا المفرغ، الاستثناء المفرغ هو الذي لا يذكر فيه المستثنى منه، واضح؟ فإذا قلت: ما قام إلا زيد، فهنا الاستثناء مفرغ، ليش؟ لم يذكر فيه المستثنى منه، وإذا قلت: ما قام أحد إلا زيد، فهذا غير مفرغ؛ لأنه ذكر المستثنى منه، وإذا قلت: ما رأيت إلا زيدًا، مفرغ ليش؟ لأنه لم يذكر المستثنى منه، وإذا قلت: ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، فهذا غير مفرغ، هنا: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
* طلبة: مفرغ.
* الشيخ: مفرغ؟ كيف؟ لو قال.. الذنوب الموجودة؟ ليست هي المستثنى منه، هي موجودة لكن الذنوب هنا واقع عليها الفعل، والغافر واقع منه الفعل.
﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ يعني لا أحد يغفر الذنوب إلا الله، لو تستغفر كل الخلق من ذنبك ما نفعوك، لو أنك مثلًا أتيت إلى كل اللي في المسجد وقلت: أستغفركم من الذنب الذي فعلت، هل ينفع مغفرتهم؟ لنفرض أن رجلًا أساء في المسجد إساءة محرّمة تؤذي المصلين، فجاء فقال: أيها المصلّون، أستغفركم مما فعلت، هل يمكن أن يغفروا له؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: الذي يتعلق بهم يمكن أن يغفروا له ما يتعلق بهم، لكن أصل الذنب ما يمكن أن يغفروه له؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران ١٣٥] قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ معطوفة على قوله: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ على قوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.
﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ معطوفة على قوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾.
﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ﴿يُصِرُّوا﴾ أي: يستمروا على ما فعلوا ويبقوا عليه؛ لأن طالب المغفرة لا يمكن أن يُصرّ، كيف تقول: اللهم اغفر لي وأنت مُصرّ على معصيتك؟ هذا سخرية واستهزاء، ولهذا قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ فعلوا منين؟ من الفاحشة وظلم النفس، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يحتمل أن تكون استثنائية. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ يعني أتى بجملة مستأنفة، فقال: وهؤلاء يعلمون عظم الذنوب ويعلمون عظم من عصوه، ولذلك لا يصرّون على ما فعلوا، ويحتمل أن تكون الواو للحال؛ يعني ولم يصروا على ما فعلوا حال كونهم عالمين بأن الإصرار على الذنب لا تحصل معه المغفرة، أو وهم يعلمون بأن هذا ذنب، فإذا وقع منهم ذنب أصرّوا عليه فإنهم لا يعلمون أنه ذنب، والآية ما دامت تحتمل هذه الأوجه الثلاثة فإننا نقول على القاعدة أيش؟ أنها تُحمل على كلها، كل ما تحتمله الآية من معنى ولا تناقض بين المعاني فإنه يجب أن تُحمل عليها كلها، فإن كانت تتناقض أو تتعارض المعاني فإنه يُطْلب أيش؟ يُطلب المرجّح؛ لأنه لا يمكن أن يحمل الكلام على الشيء وضده فحينئذٍ نطلب المرجّح، هذه القاعدة.
هذه الآية فيها فوائد؛ * من الفوائد: أن المتقي لا يكون معصومًا من فعل الفاحشة أو ظلم النفس؛ لأن الله لم يقُل: وهم لا يفعلون الفواحش أو يظلمون أنفسهم، بل قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذن ففعل الفاحشة لا يخدش بالتقوى إذا استغفر الإنسان وتاب، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[[أخرجه الترمذي (٢٤٩٩) وابن ماجه (٤٢٥١) واللفظ له من حديث أنس بن مالك.]]، وصح عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٧٤٩ / ١١) من حديث أبي هريرة.]].
إذن ليس الشأن في أن لا يفعل الإنسان معصية، كل إنسان لا بد أن يعصي، الشأن في أنه إذا فعل المعصية رجع إلى الله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: فواحش ودونها؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، و(أو) هنا للتنويع، وهذا متفق عليه بين العلماء أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ولكن ما هو الضابط للكبائر والصغائر؟
بعض العلماء يقول: إن الكبائر معدودة، فجعل يعدّدها ويقول: الكبيرة الأولى، الكبيرة الثانية، الكبيرة العاشرة، إلى أن انتهى إلى ما بلغه علمه من الكبائر، وبعضهم يقول: إن الكبائر محدودة وليست معدودة، ومعنى محدودة يعني معلّقة بوصف لا بعدد، فقالوا مثلًا: ما فيه حد في الدنيا فهو كبيرة، مثل: الزنا، والسرقة، والقذف، كل ما فيه حدّ في الدنيا فهو كبيرة، كل ما رتبت عليه اللعنة فهو كبيرة مثل: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»[[أخرجه مسلم (١٩٧٨ / ٤٣) من حديث علي بن أبي طالب.]]، «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي»[[أخرجه الترمذي (١٣٣٦) وأحمد (٩٠٢٣) واللفظ له من حديث أبي هريرة.]]، وما أشبهه، كل ما رتّب عليه غضب فهو كبيرة مثل؟
* طلبة: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾.
* الشيخ: مثل قوله تعالى في القاتل: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [النساء ٩٣]، ما رتّب عليه وعيد في الآخرة، بأن جاء النص من فعل كذا فهو في النار أو ما أشبه ذلك مثل: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَفِي النَّارِ»[[أخرجه البخاري (٥٧٨٧) من حديث أبي هريرة.]]، ومنهم من قال، ورأيته لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل ما رُتّب عليه عقوبة خاصة، عقوبة خاصة دنيوية أو أخروية فهو كبيرة، وما جاء النهي عنه بدون ذكر عقوبة فهو صغيرة، فقال مثلًا: الغش من كبائر الذنوب؛ لأن الشارع جعل له عقوبة خاصة: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»[[أخرجه مسلم (١٠٢) والترمذي (١٣١٥) واللفظ له من حديث أبي هريرة.]]. إيذاء الجار من كبائر الذنوب لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥١٨٥) ومسلم (٤٧ / ٧٥) من حديث أبي هريرة.]].
وهذا الذي حده رحمه الله يدخل فيه من الذنوب شيء كثير، ولكن لا شك أن ما قاله رحمه الله ليس معناه أن هذه الكبائر تكون على مرتبة واحدة، بل حتى الكبائر فيها ما هو أكبر وفيها ما هو أصغر كما في الحديث الصحيح: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٥٤) ومسلم (٨٧ / ١٤٣) من حديث أبي بكرة. ]]. وعلى هذا فنقول: الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، تؤخذ من الآية هذه، ثم الكبائر تختلف مراتبها بحسب ما يترتب عليها من المفاسد والآثام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان مؤتمن على نفسه.
* طالب: حالق اللحية (...)؟
* الشيخ: الإصرار عليها يجعلها كبيرة.
* الطالب: لا..
* الشيخ: لا، مرة واحدة ما..
* الطالب: التشبّه باليهود والنصارى.
* الشيخ: تكمّل إعراب المثال: قام: فعل ماضٍ مبني على..
* الطالب: قام فعل ماضٍ مبني على الفتح.
* الشيخ: زيد؟
* الطالب: زيد: خبر.
* الشيخ: ويش مسوي زيد الحين إذا قلت: قام زيد ويش مسوي؟ قائم إذن فاعل، فاعل مرفوع، وعلامة رفعه؟
* الطالب: الفتحة.
* الشيخ: الرفع يكون فتحة؟!
* الطالب: قام زيد، بالضمة، مبني.
* الشيخ: علامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره.
لو قلت: قام زيدًا، يصلح؟
* الطالب: لا.
* الشيخ: ليش؟ لأنه فاعل، والفاعل لازم يصير مرفوع، تمام.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)﴾ [آل عمران ١٣٦ - ١٤٠].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
المشار إليهما من سبق من المتقين المتصفين بالأوصاف التي سمعتموها من قبل، ومنها أنهم ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، وذكرنا تفسير الآية هذه وما يستفاد منها أو شيئًا مما يستفاد منها، فمن ذلك؛ * من فوائدها: سرعة انتباه هؤلاء عند فعل الذنوب؛ لقوله: ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ فيبادرون بالتوبة، والمبادرة بالتوبة من صفات المتقين، وهل هي واجبة؟
الجواب: نعم، تجب المبادرة بالتوبة؛ لأن التوبة إذا نزل الأجل لا تُقبل، والإنسان لا يدري متى ينزل أجله، وعلى هذا فيجب أن يتوب الإنسان من ذنوبه فورًا بدون تأخير.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: فواحش وما دونها.
* من فوائد هذه الآية: أن ذكر الله عز وجل سبب للتوبة والرجوع إلى الله؛ لقوله: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ وقد سبق لنا بيان وجوه هذا الذكر، ما هي؟
* طالب: ذِكر بالقلب، وذِكر باللسان، وذِكر بالفعل.
* الشيخ: بالجوارح؟ نعم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أنهم يبادرون بالتوبة، وسبق، استغفار هؤلاء المتقين لذنوبهم؛ لقوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ فيؤخذ منه أو يتفرع على هذه الفائدة: عجز أولئك القوم الذين يقولون: إن الله غفور رحيم ولا يستغفرون الله، فإن بعض المذنبين إذا نهيته عن الذنب قال: الله غفور رحيم، ولكنه هو نفسه لا يستغفر، وإذا كان هؤلاء السادة يستغفرون ربهم، بل إذا كان الله أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر، فما بالك بمن دونه، قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر ٥٥] ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٠٦].
* من فوائد الآية الكريمة أيضًا: أنه لا أحد يستطيع أن يغفر الذنوب إلا الله؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
ويتفرع عليها: أن لا تعتمد على أحد في مغفرة الذنوب أو طلب المغفرة، وإنما يكون اتجاهك إلى من؟ إلى الله عز وجل.
* ومن فوائدها: أن هؤلاء السادة المتقين لا يُصرّون على ما فعلوا من الفاحشة أو ظلم النفس وهم يعلمون.
* ومن فوائدها: أن الرجل إذا أذنب فاستغفر، ثم أذنب فاستغفر، ثم أذنب فاستغفر فإنه يغفر له وإن تكرّر الذنب منه؛ لأن الله قال هنا: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ولم يقل: ولم يعيدوا ما فعلوا، لم يصرّوا عليه وهم يعلمون، والإنسان إذا كان كلما أذنب استغفر فإنه يغفر له، كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر ٥٣]، ولكن يجب أن لا يكون استغفاره بلسانه وقلبه منطوٍ على الرجوع، فإن كان كذلك فإن هذا الاستغفار لا يفيده، لكن يكون استغفاره حقيقة بقلبه ولسانه، والإنسان بشر ربما تغلبه نفسه في المستقبل فيفعل المعصية مع أنه قد استغفر منها، فنقول: مهما عملت ومهما تكرر منك الذنب ما دمت تستغفر فإن الله تعالى يغفر لك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: توبيخ من أصرّ على الذنب وهو عالم به؛ لقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. ولهذا قال العلماء: إن الإصرار على المعصية الصغيرة يجعلها كبيرة؛ لأن إصراره عليها يدل على تهاونه بمن عصاه.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق