الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ نَزَلَتْ في قَوْلِ الجُمْهُورِ بِسَبَبِ مَنهالِ التَّمّارِ، ويُكَنّى: أبا مُقْبِلٍ، أتَتْهُ امْرَأةٌ تَشْتَرِي مِنهُ تَمْرًا فَضَمَّها وقَبَّلَها ثُمَّ نَدِمَ. وقِيلَ: ضَرَبَ عَلى عَجُزِها. والعَطْفُ بِالواوِ مُشْعِرٌ بِالمُغايَرَةِ. لَمّا ذَكَرَ الصِّنْفَ الأعْلى وهُمُ المُتَّقُونَ المَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الأوْصافِ الجَمِيلَةِ، ذَكَرَ مَن دُونِهِمْ مِمَّنْ قارَفَ المَعاصِيَ وتابَ وأقْلَعَ، ولَيْسَ مِن بابِ عَطْفِ الصِّفاتِ واتِّحادِ المَوْصُوفِ. وقِيلَ: إنَّهُ مِن عَطْفِ الصِّفاتِ، وإنَّهُ مِن نَعْتِ المُتَّقِينَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الفاحِشَةُ الزِّنا، وظُلْمُ النَّفْسِ ما دُونَهُ مِنَ النَّظَرِ واللَّمْسَةِ. وقالَ مُقاتِلٌ: الفاحِشَةُ الزِّنا، وظُلْمُ النَّفْسِ سائِرُ المَعاصِي. وقالَ النَّخَعِيُّ: الفاحِشَةُ القَبائِحُ، وظُلْمُ النَّفْسِ مِنَ الفاحِشَةِ، وهو لِزِيادَةِ البَيانِ. وقِيلَ: جَمِيعُ المَعاصِي، وظُلْمُ النَّفْسِ العَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا حُجَّةٍ. وقالَ الباقِرُ: الفاحِشَةُ النَّظَرُ إلى الأفْعالِ، وظُلْمُ النَّفْسِ رُؤْيَةُ النَّجاةِ بِالأعْمالِ. وقِيلَ: الفاحِشَةُ الكَبِيرَةُ، وظُلْمُ النَّفْسِ الصَّغِيرَةُ. وقِيلَ: الفاحِشَةُ ما تُظُوهِرَ بِهِ مِنَ المَعاصِي، وقِيلَ: ما أُخْفِيَ مِنها. وقالَ مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: الفاحِشَةُ ما دُونَ الزِّنا مِن قُبْلَةٍ أوْ لَمْسَةٍ أوْ نَظْرَةٍ فِيما لا يَحِلُّ، وظُلْمُ النَّفْسِ بِالمَعْصِيَةِ، وقِيلَ: الفاحِشَةُ الذَّنْبُ الَّذِي فِيهِ تَبِعَةٌ لِلْمَخْلُوقِينَ، وظُلْمُ النَّفْسِ ما بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ. وهَذِهِ تَخْصِيصاتٌ تَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ. وكَثُرَ اسْتِعْمالُ الفاحِشَةِ في الزِّنا؛ ولِذَلِكَ قالَ جابِرٌ حِينَ سَمِعَ الآيَةَ: زَنَوْا ورَبِّ الكَعْبَةِ. ومَعْنى ذَكَرُوا اللَّهَ: ذَكَرُوا وعِيدَهُ. قالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ. وقِيلَ: العَرْضُ عَلى اللَّهِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. أوِ السُّؤالُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ، قالَهُ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ والواقِدِيُّ. وقِيلَ: نَهْيُ اللَّهِ. وقِيلَ: غُفْرانُهُ. وقِيلَ: تَعَرَّضُوا لِذِكْرِهِ بِالقُلُوبِ لِيَبْعَثَهم عَلى التَّوْبَةِ. وقِيلَ: عَظِيمُ عَفْوِهِ، فَطَمِعُوا في مَغْفِرَتِهِ. وقِيلَ: إحْسانُهُ، فاسْتَحْيَوْا مِن إساءَتِهِمْ. وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها عَلى أنَّ الذِّكْرَ هو بِالقَلْبِ. وقِيلَ: هو بِاللِّسانِ، وهو الِاسْتِغْفارُ. ذَكَرُوا اللَّهَ بِقُلُوبِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وعَطاءٌ في آخَرِينَ. ورُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «ما رَأيْتُ أكْثَرَ اسْتِغْفارًا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ولا بُدَّ مَعَ ذِكْرِ اللِّسانِ مِن مُواطَأةِ القَلْبِ، وإلّا فَلا اعْتِبارَ بِهَذا الِاسْتِغْفارِ. ومَنِ اسْتَغْفَرَ وهو مُصِرٌ فاسْتِغْفارُهُ يَحْتاجُ إلى اسْتِغْفارٍ. والِاسْتِغْفارُ سُؤالُ اللَّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ الغُفْرانَ. وقِيلَ: نَدِمُوا وإنْ لَمْ يَسْألُوا. والظّاهِرُ الأوَّلُ. ومَفْعُولُ ”اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ“ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، أيْ فاسْتَغْفِرُوهُ لِذُنُوبِهِمْ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا الفِعْلِ وتَعْدِيَتِهِ. * * * ﴿ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللَّهُ﴾ جُمْلَةُ اعْتِراضٌ بَيْنَ المُتَعاطِفِينَ، أوْ بَيْنَ ذِي الحالِ والحالِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ إعْرابًا في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] وهَذِهِ الجُمْلَةُ الِاعْتِراضِيَّةُ فِيها تَرْفِيقٌ لِلنَّفْسِ، وداعِيَةٌ إلى رَجاءِ اللَّهِ وسِعَةِ عَفْوِهِ، واخْتِصاصِهِ بِغُفْرانِ الذَّنْبِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وصْفُ ذاتِهِ بِسِعَةِ الرَّحْمَةِ وقُرْبِ المَغْفِرَةِ، وأنَّ التّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ عِنْدَهُ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ، وأنَّهُ لا مَفْزَعَ لِلْمُذْنِبِينَ إلّا فَضْلُهُ وكَرَمُهُ، وأنَّ عَدْلَهُ يُوجِبُ المَغْفِرَةَ لِلتّائِبِ؛ لِأنَّ العَبْدَ إذا جاءَ في الِاعْتِذارِ والتَّنَصُّلِ بِأقْصى ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ وجَبَ العَفْوُ والتَّجاوُزُ. وفِيهِ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِ العِبادِ، وتَنْشِيطٌ لِلتَّوْبَةِ وبَعْثٌ عَلَيْها، ورَدْعٌ عَنِ اليَأْسِ والقُنُوطِ. وأنَّ الذُّنُوبَ وإنْ جَلَّتْ فَإنَّ عَفْوَهُ أجَلُّ، وكَرَمَهُ أعْظَمُ. والمَعْنى: أنَّهُ وحْدَهُ مَعَهُ مُصَحِّحاتُ المَغْفِرَةِ. انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ، غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ألْفاظِ المُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِ: وإنَّ عَدْلَهُ يُوجِبُ المَغْفِرَةَ (p-٦٠)لِلتّائِبِ. وفي قَوْلِهِ: وجَبَ العَفْوُ والتَّجاوُزُ، ولَوْ لَمْ نَعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَهُ الِاعْتِزالُ لَتَأوَّلْنا كَلامَهُ بِأنَّ هَذا الوُجُوبَ هو بِالوَعْدِ الصّادِقِ، فَهو مِن جِهَةِ السَّمْعِ لا مِن جِهَةِ العَقْلِ فَقَطْ. ﴿ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وهم يَعْلَمُونَ﴾ أيْ ولَمْ يُقِيمُوا عَلى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ”فاسْتَغْفَرُوا“، فَهي مِن بَعْضِ أجْزاءِ الجَزاءِ المُتَرَتِّبِ عَلى الشَّرْطِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْحالِ ويَكُونَ حالًا مِنَ الفاعِلِ في ”فاسْتَغْفَرُوا“ فَهي مِن بَعْضِ أجْزاءِ الجَزاءِ، أيْ: فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ غَيْرَ مُصِرِّينَ. وما مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. قالَ قَتادَةُ: الإصْرارُ المُضِيُّ في الذَّنْبِ قُدُمًا. وقالَ الحَسَنُ: هو إتْيانُ الذَّنْبِ حَتّى يَتُوبَ. وقالَ مُجاهِدٌ: لَمْ يُصِرُّوا: لَمْ يَمْضُوا. وقالَ السُّدِّيُّ: هو تَرْكُ الِاسْتِغْفارِ والسُّكُوتُ عَنْهُ مَعَ الذَّنْبِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: وهم يَعْلَمُونَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حالٌ مِن فِعْلِ الإصْرارِ، وحَرْفُ النَّفْيِ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِما مَعًا، والمَعْنى: ولَيْسُوا مِمَّنْ يُصِرُّ عَلى الذُّنُوبِ وهم عالِمُونَ بِقُبْحِها وبِالنَّهْيِ عَنْها والوَعِيدِ عَلَيْها؛ لِأنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ مَن لَمْ يَعْلَمْ قُبْحَ القَبِيحِ. وفِي هَذِهِ الآياتِ بَيانٌ قاطِعٌ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عَلى ثَلاثِ طَبَقاتٍ: مُتَّقُونَ، وتائِبُونَ، ومُصِرُّونَ. وأنَّ الجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ والتّائِبِينَ مِنهم دُونَ المُصِرِّينَ، ومَن خالَفَ في ذَلِكَ فَقَدْ كابَرَ عَقْلَهُ وعانَدَ رَبَّهُ. انْتَهى كَلامُهُ، وآخِرُهُ عَلى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزالِيَّةِ مِن أنَّ مَن ماتَ مُصِرًّا دَخَلَ النّارَ ولا يَخْرُجُ مِنها أبَدًا. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ ”﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥]“ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في فاسْتَغْفَرُوا، فَإنْ أعْرَبْنا ”﴿ولَمْ يُصِرُّوا﴾“ جُمْلَةً حالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ في ”فاسْتَغْفَرُوا“ جازَ أنْ يَكُونَ ”﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥]“ حالًا مِنهُ أيْضًا. وإنْ كانَ ولَمْ يُصِرُّوا مَعْطُوفًا عَلى فاسْتَغْفَرُوا كانَ ما قالَهُ أبُو البَقاءِ بَعِيدًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ ذِي الحالِ والحالِ بِالجُمْلَةِ. وأمّا مُتَعَلِّقُ العِلْمِ فَتَقَدَّمَ في كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: وهم يَعْلَمُونَ المُؤاخَذَةَ بِها، أوْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: وهم يَعْلَمُونَ أنَّ تَرْكَهُ أوْلى مِنَ التَّمادِي. وقالَ مُجاهِدٌ وأبُو عِمارَةَ: يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلى مَن تابَ. وقالَ السُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: يَعْلَمُونَ أنَّهم قَدْ أذْنَبُوا. وقِيلَ: يَذْكُرُونَ ذُنُوبَهم فَيَتُوبُونَ مِنها، أطْلَقَ اسْمَ العِلْمَ عَلى الذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ مِن ثَمَرَتِهِ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: يَعْلَمُونَ ما حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: يَعْلَمُونَ أنَّ لَهم رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: يَعْلَمُونَ بِالذَّنْبِ. وقِيلَ: يَعْلَمُونَ العَفْوَ عَنِ الذُّنُوبِ وإنْ كَثُرَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب