الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ﴾ مَرْفُوعٌ عَلى الِابْتِداءِ، وقِيلَ: مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ مِن صِفاتِ المُتَّقِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَهُما مُشِيرٌ إلى ما بَيْنَهُما مِنَ التَّفاوُتِ، فَإنَّ دَرَجَةَ الأوَّلِينَ مِنَ التَّقْوى أعْلى مِن دَرَجَةِ هَؤُلاءِ وحَظَّهم أوْفى مِن حَظِّهِمْ أوْ عَلى نَفْسِ المُتَّقِينَ فَيَكُونُ التَّفاوُتُ أكْثَرَ وأظْهَرَ. ﴿إذا فَعَلُوا فاحِشَةً﴾ أيْ: فَعْلَةً بالِغَةً في القُبْحِ كالزِّنا. ﴿أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ بِأنْ أتَوْا ذَنْبًَا، أيَّ ذَنْبٍ كانَ. وقِيلَ: الفاحِشَةُ الكَبِيرَةُ وظُلْمُ النَّفْسِ الصَّغِيرَةُ أوِ الفاحِشَةُ: ما يَتَعَدّى إلى الغَيْرِ وظُلْمُ النَّفْسِ ما لَيْسَ كَذَلِكَ. قِيلَ: قالَ المُؤْمِنُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ أكْرَمَ عَلى اللَّهِ تَعالى مِنّا؛ كانَ أحَدُهم إذا أذْنَبَ أصْبَحَتْ كَفّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً عَلى عَتَبَةِ دارِهِ افْعَلْ كَذا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ. وقِيلَ: إنَّ نَبْهانَ التَّمّارَ أتَتْهُ امْرَأةٌ حَسْناءُ تَطْلُبُ مِنهُ تَمْرًَا فَقالَ لَها: هَذا التَّمْرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وفي البَيْتِ أجْوَدُ مِنهُ فَذَهَبَ بِها إلى بَيْتِهِ فَضَمَّها إلى نَفْسِهِ و قَبَّلَها فَقالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَتَرَكَها ونَدِمَ عَلى ذَلِكَ وأتى النَّبِيَّ ﷺ وذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: جَرى مِثْلُ هَذا بَيْنَ أنْصارِيٍّ وامْرَأةٍ ورَجُلٍ ثَقَفِيٍّ كانَ بَيْنَهُما مُؤاخاةٌ فَنَدِمَ الأنْصارِيُّ وحَثا عَلى رَأْسِهِ التُّرابَ وهامَ عَلى وجْهِهِ وجَعَلَ يَسِيحُ في الجِبالِ تائِبًَا مُسْتَغْفِرًَا ثُمَّ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَنَزَلَتْ. وأيًَّا ما كانَ؛ فَإطْلاقُ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ ما فَعَلَهُ الزُّناةُ انْتِظامًَا أوَّلِيًَّا. ﴿ذَكَرُوُا اللَّهَ﴾ تَذَكَّرُوا حَقَّهُ العَظِيمَ وجَلالَهُ المُوجِبَ لِلْخَشْيَةِ والحَياءِ أوْ وعِيدَهُ أوْ حُكْمَهُ وعِقابَهُ. ﴿فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ بِالتَّوْبَةِ والنَّدَمِ، والفاءُ لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّ ذِكْرَهُ تَعالى مُسْتَتْبِعٌ لِلِاسْتِغْفارِ لا مَحالَةَ. ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ اسْتِفْهامٌ إنْكارِيٌّ، والمُرادُ بِالذُّنُوبِ: جِنْسُها، كَما في قَوْلِكَ: فُلانٌ يَلْبَسُ الثِّيابَ ويَرْكَبُ الخَيْلَ، لا كُلُّها حَتّى يُخِلَّ بِما هو المَقْصُودُ مِنِ اسْتِحالَةِ صُدُورِ مَغْفِرَةِ فَرْدٍ مِنها عَنْ غَيْرِهِ تَعالى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا اللَّهُ﴾ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في "يَغْفِرُ" أيْ: لا يَغْفِرُ جِنْسَ الذُّنُوبِ أحَدٌ إلّا اللَّهُ، خَلا أنَّ دِلالَةَ الِاسْتِفْهامِ عَلى الِانْتِفاءِ أقْوى وأبْلَغُ لِإيذانِهِ بِأنَّ كُلَّ أحَدٍ مِمَّنْ لَهُ حَظٌّ مِنَ الخِطابِ يَعْرِفُ ذَلِكَ الِانْتِفاءَ فَيُسارِعُ إلى الجَوابِ بِهِ، والمُرادُ بِهِ: وصْفُهُ سُبْحانَهُ بِغايَةِ سَعَةِ الرَّحْمَةِ وعُمُومِ المَغْفِرَةِ، والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ أوْ (p-87)بَيْنَ الحالِ وصاحِبِها لِتَقْرِيرِ الِاسْتِغْفارِ والحَثِّ عَلَيْهِ والإشْعارِ بِالوَعْدِ بِالقَبُولِ. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ عَطْفٌ عَلى "فاسْتَغْفَرُوا" وتَأْخِيرُهُ عَنْهُ مَعَ تَقَدُّمِ عَدَمِ الإصْرارِ عَلى الِاسْتِغْفارِ رُتْبَةً لِإظْهارِ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِ الِاسْتِغْفارِ واسْتِحْقاقِهِ لِلْمُسارَعَةِ إلَيْهِ عَقِيبَ ذِكْرِهِ تَعالى أوْ حالٌ مِن فاعِلِهِ، أيْ: ولَمْ يُقِيمُوا أوْ غَيْرَ مُقِيمِينَ. ﴿عَلى ما فَعَلُوا﴾ أيْ: ما فَعَلُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ فاحِشَةً كانَتْ أوْ ظُلْمًَا أوْ عَلى فِعْلِهِمْ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "ما أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ في اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً وأنَّهُ لا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفارِ ولا صَغِيرَةَ مَعَ الإصْرارِ".» ﴿وَهم يَعْلَمُونَ﴾ حالٌ مِن فاعِلِ "يُصِرُّوا" أيْ: لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وهم عالِمُونَ بِقُبْحِهِ، والنَّهْيُ عَنْهُ والوَعِيدُ عَلَيْهِ والتَّقْيِيدُ بِذَلِكَ لِما أنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ مَن لا يَعْلَمُ ذَلِكَ إذا لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقْصِيرٍ في تَحْصِيلِ العِلْمِ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب