الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلا اللهَ ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم مَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ وجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ونِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ﴾
ذَكَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ صِنْفًا دُونَ الصِنْفِ الأوَّلِ، فَألْحَقَهم بِهِمْ بِرَحْمَتِهِ ومَنِّهِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ التَوّابُونَ. ورُوِيَ في سَبَبِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: أنَّ «الصَحابَةَ قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ أكْرَمَ عَلى اللهِ مِنّا حِينَ كانَ المُذْنِبُ مِنهم يُصْبِحُ وعُقُوبَتُهُ مَكْتُوبَةٌ عَلى بابِ دارِهِ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ تَوْسِعَةً ورَحْمَةً» وعِوَضًا مِن ذَلِكَ الفِعْلِ بِبَنِي إسْرائِيلَ. ورُوِيَ أنَّ إبْلِيسَ بَكى حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ورَوى أبُو بَكْرٍ الصِدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "ما مِن عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ويُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ويَسْتَغْفِرُ إلّا غُفِرَ لَهُ".»
وقَوْلُهُ "والَّذِينَ" عَطْفُ جُمْلَةِ ناسِ عَلى جُمْلَةٍ أُخْرى، ولَيْسَ "الَّذِينَ" بِنَعْتٍ كَرَّرَ مَعَهُ واوَ العَطْفِ، لِأنَّ تِلْكَ الطَبَقَةَ الأُولى تُنَزَّهُ عَنِ الوُقُوعِ في الفَواحِشِ، والفاحِشَةُ هُنا: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أُقِيمَتِ الصِفَةُ مَقامَهُ، التَقْدِيرُ: فَعَلُوا فَعْلَةً فاحِشَةً، وهو (p-٣٦٠)لَفْظٌ يَعُمُّ جَمِيعَ المَعاصِي، وقَدْ كَثُرَ اخْتِصاصُهُ بِالزِنى، حَتّى فَسَّرَ السُدِّيُّ هَذِهِ الآيَةَ بِالزِنى، وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ لَمّا قَرَأها: زَنى القَوْمُ ورَبِّ الكَعْبَةِ؛ وقالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: الفاحِشَةُ مِنَ الظُلْمِ، والظُلْمُ مِنَ الفاحِشَةِ، وقالَ قَوْمٌ: الفاحِشَةُ في هَذِهِ الآيَةِ إشارَةٌ إلى الكَبائِرِ، وظُلْمُ النَفْسِ إشارَةٌ إلى الصَغائِرِ.
و"ذَكَرُوا اللهَ" مَعْناهُ: بِالخَوْفِ مِن عِقابِهِ والحَياءِ مِنهُ، إذْ هو المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ؛ ومِن هَذا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "رَحِمَ اللهُ صُهَيْبًا لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ". واسْتَغْفَرُوا مَعْناهُ: طَلَبُوا الغُفْرانَ، واللامُ مَعْناها: لِأجْلِ ذُنُوبِهِمْ، ثُمَّ اعْتَرَضَ أثْناءَ الكَلامِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلا اللهُ﴾، اعْتِراضًا مُرَقِّقًا لِلنَّفْسِ، داعِيًا إلى اللهِ، مُرَجِّيًا في عَفْوِهِ إذا رُجِعَ إلَيْهِ، وجاءَ اسْمُ اللهِ مَرْفُوعًا بَعْدَ الِاسْتِثْناءِ والكَلامُ مُوجَبٌ، حَمْلًا عَلى المَعْنى، إذْ هو بِمَعْنى: وما يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلّا اللهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلَمْ يُصِرُّوا" الإصْرارُ مَعْناهُ: اعْتِزامُ الدَوامِ عَلى الأمْرِ وتَرْكُ الإقْلاعِ عنهُ، ومِنهُ صَرُّ الدَنانِيرِ أيِ: الرَبْطُ عَلَيْها، ومِنهُ قَوْلُ أبِي السَمّالِ قَعْنَبٍ العَدَوِيِّ: عَلِمَ اللهُ أنَّها مِنِّي صِرّى،. يُرِيدُ: عَزِيمَةً،. فالإصْرارُ اعْتِزامُ البَقاءِ عَلى الذَنْبِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ: « "لا تَوْبَةَ مَعَ إصْرارٍ"» وقالَ أيْضًا: « "ما أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ".»
واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ في الإصْرارِ؛ فَقالَ قَتادَةُ: هو الَّذِي يَمْضِي قُدُمًا في الذَنْبِ لا تَنْهاهُ مَخافَةُ اللهِ،. وقالَ الحَسَنُ: إتْيانُ العَبْدِ الذَنْبَ هو الإصْرارُ حَتّى يَمُوتَ، وقالَ مُجاهِدٌ: "لَمْ يُصِرُّوا" مَعْناهُ: لَمْ يَمْضُوا، وقالَ السُدِّيُّ: الإصْرارُ: هو تَرْكُ الِاسْتِغْفارِ والسُكُوتُ عنهُ مَعَ الذَنْبِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَهم يَعْلَمُونَ" قالَ السُدِّيُّ: مَعْناهُ وهم يَعْلَمُونَ أنَّهم قَدْ أذْنَبُوا، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: مَعْناهُ: وهم يَعْلَمُونَ بِما حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ، وقالَ آخَرُونَ: مَعْناهُ: وهم يَعْلَمُونَ أنَّ بابَ التَوْبَةِ مَفْتُوحٌ لَهُمْ، وقِيلَ: المَعْنى: وهم يَعْلَمُونَ أنِّي أُعاقِبُ عَلى الإصْرارِ.
(p-٣٦١)ثُمَّ شَرَكَ تَعالى الطائِفَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ في قَوْلِهِ: "أُولَئِكَ جَزاؤُهُمْ"... الآيَةِ، وهَذِهِ تُؤْذِنُ بِأنَّ اللهَ تَعالى أوجَبَ عَلى نَفْسِهِ بِهَذا الخَبَرِ الصادِقِ قَبُولَ تَوْبَةِ التائِبِ، ولَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعالى مِن جِهَةِ العَقْلِ شَيْءٌ، بَلْ هو بِحُكْمِ المِلْكِ لا مُعَقِّبَ لِأمْرِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ﴾ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: ونِعْمَ الأجْرُ، لِأنَّ نِعْمَ وبِئْسَ تَطْلُبُ الأجْناسَ المُعَرَّفَةَ أو ما أُضِيفَ إلَيْها ولَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ساءَ مَثَلا القَوْمُ﴾ [الأعراف: ١٧٧] لِأنَّ نِعْمَ وبِئْسَ تَطْلُبُ الأجْناسَ المُعَرَّفَةَ أو ما أُضِيفَ إلَيْها، ولَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ساءَ مَثَلا القَوْمُ﴾ [الأعراف: ١٧٧] لِأنَّ المَثَلَ هُنا أُضِيفَ إلى مَعْهُودٍ لا إلى جِنْسٍ، فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ أبُو عَلِيٍّ: ساءَ المَثَلُ مَثَلُ القَوْمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَثَلُ القَوْمِ مُرْتَفِعًا بِـ "ساءَ" ولا يُضْمَرُ شَيْءٌ.
{"ayahs_start":135,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق