الباحث القرآني
ورَجَّحَ بَعْضُهُمُ العَهْدَ عَلى الجِنْسِ بِأنَّهُ أدْخَلُ في المَدْحِ وأنْسَبُ بِذِكْرِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ مِن تَتِمَّةِ ما نَزَلَ حِينَ قالَ المُسْلِمُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ”بَنُو إسْرائِيلَ كانُوا أكْرَمَ عَلى اللَّهِ مِنّا“ إلَخْ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ فِيما تَقَدَّمَ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حالُ بَنِي إسْرائِيلَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ولَمْ يَذْكُرْ صَدْرَ الآيَةِ» .
وفِي رِوايَةِ الكَلْبِيِّ «أنَّ رَجُلَيْنِ أنْصارِيًّا وثَقَفِيًّا آخى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُما فَكانا (p-60)لا يَفْتَرِقانِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ مَغازِيهِ وخَرَجَ مَعَهُ الثَّقَفِيُّ وخَلَّفَ الأنْصارِيَّ في أهْلِهِ وحاجَتِهِ، فَكانَ يَتَعاهَدُ أهْلَ الثَّقَفِيِّ فَأقْبَلَ ذاتَ يَوْمٍ فَأبْصَرَ امْرَأةَ صاحِبِهِ قَدِ اغْتَسَلَتْ وهي ناشِرَةٌ شَعْرَها فَوَقَعَتْ في نَفْسِهِ فَدَخَلَ ولَمْ يَسْتَأْذِنْ حَتّى انْتَهى إلَيْها، فَذَهَبَ لِيَلْثَمَها فَوَضَعَتْ كَفَّها عَلى وجْهِها فَقَبَّلَ ظاهِرَ كَفِّها ثُمَّ نَدِمَ واسْتَحْيا فَأدْبَرَ راجِعًا فَقالَتْ: سُبْحانَ اللَّهِ تَعالى خُنْتَ أمانَتَكَ وعَصَيْتَ رَبَّكَ ولَمْ تَصِلْ إلى حاجَتِكَ، قالَ: ونَدِمَ عَلى صَنِيعِهِ فَخَرَجَ يَسِيحُ في الجِبالِ ويَتُوبُ إلى اللَّهِ تَعالى مِن ذَنْبِهِ حَتّى وافى الثَّقَفِيُّ فَأخْبَرَتْهُ أهْلُهُ بِفِعْلِهِ، فَخَرَجَ يَطْلُبُهُ حَتّى دُلَّ عَلَيْهِ فَوافَقَهُ ساجِدًا وهو يَقُولُ: رَبِّ ذَنْبِي ذَنْبِي قَدْ خُنْتُ أخِي فَقالَ لَهُ: قُمْ يا فُلانُ فانْطَلِقْ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فاسْألْهُ عَنْ ذَنْبِكَ لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى أنْ يَجْعَلَ لَكَ فَرَجًا وتَوْبَةً، فَأقْبَلَ مَعَهُ حَتّى رَجَعَ إلى المَدِينَةِ وكانَ ذاتَ يَوْمٍ عِنْدَ صَلاةِ العَصْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَوْبَتِهِ فَتَلا: ﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ونِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ﴾ فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ألِهَذا الرَّجُلِ خاصَّةً أمْ لِلنّاسِ عامَّةً ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”بَلْ لِلنّاسِ عامَّةً» .
وفِي رِوايَةِ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ تَيِّهانَ التَّمّارَ أتَتْهُ امْرَأةٌ حَسْناءُ تَبْتاعُ مِنهُ تَمْرًا فَضَمَّها إلى نَفْسِهِ وقَبَّلَها ثُمَّ نَدِمَ عَلى ذَلِكَ فَأتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» .
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا مانِعَ مِن تَعَدُّدِ سَبَبِ النُّزُولِ، وأيًّا ما كانَ فَبِإطْلاقِ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ ما فَعَلَهُ الرُّماةُ انْتِظامًا أوَّلِيًّا، وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطّافِ بْنِ خالِدٍ أنَّهُ قالَ: بَلَغَنِي أنَّها لَمّا نَزَلَتْ صاحَ إبْلِيسُ بِجُنُودِهِ وحَثا عَلى رَأْسِهِ التُّرابَ ودَعا بِالوَيْلِ والثُّبُورِ حَتّى جاءَتْهُ جُنُودُهُ مِن كُلِّ بَرٍّ وبَحْرٍ فَقالُوا: ما لَكَ يا سَيِّدَنا ؟ قالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ في كِتابِ اللَّهِ لا يَضُرُّ بَعْدَها أحَدًا مِن بَنِي آدَمَ ذَنْبٌ. قالُوا: وما هي ؟ فَأخْبَرَهم، قالُوا: نَفْتَحُ لَهم بابَ الأهْواءِ فَلا يَتُوبُونَ ولا يَسْتَغْفِرُونَ ولا يَرَوْنَ إلّا أنَّهم عَلى الحَقِّ، فَرَضِيَ مِنهم بِذَلِكَ، والمَوْصُولُ إمّا مَفْصُولٌ عَمّا قَبْلَهُ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وقِيلَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ مِن صِفاتِ المُتَّقِينَ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَهُما مُشِيرٌ إلى ما بَيْنَهُما مِنَ التَّفاوُتِ، فَإنَّ دَرَجَةَ الأوَّلِينَ مِنَ التَّقْوى أعْلى، وحَظَّهم أوْفى، أوْ عَلى المُتَّقِينَ، فَيَكُونُ التَّفاوُتُ أظْهَرَ وأكْثَرَ، والفاحِشَةُ: الكَبائِرُ، وظُلْمُ النَّفْسِ الصَّغائِرُ قالَهُ القاضِي عَبْدِ الجَبّارِ الهَمْدانِيُّ، وقِيلَ: الفاحِشَةُ المَعْصِيَةُ الفِعْلِيَّةُ، وظُلْمُ النَّفْسِ المَعْصِيَةُ القَوْلِيَّةُ، وقِيلَ: الفاحِشَةُ ما يَتَعَدّى، ومِنهُ إفْشاءُ الذَّنْبِ لِأنَّهُ سَبَبُ اجْتِراءِ النّاسِ عَلَيْهِ ووُقُوعِهِمْ فِيهِ، وظُلْمُ النَّفْسِ ما لَيْسَ كَذَلِكَ، وقِيلَ: الفاحِشَةُ كُلُّ ما يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ المَعاصِي والذُّنُوبِ وتُقالُ لِكُلِّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ، وكَثِيرًا ما تَرِدُ بِمَعْنى الزِّنا، وأصْلُ الفُحْشِ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في السُّوءِ، ومِنهُ قَوْلُ طَرَفَةَ:
؎عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
يَعْنِي الَّذِي جاوَزَ الحَدَّ في البُخْلِ، فَلَعَلَّ المُرادَ مِنها هُنا المَعْصِيَةُ البالِغَةَ في القُبْحِ، والظُّلْمُ الذَّنْبُ مُطْلَقًا، وذِكْرُهُ بَعْدَها مِن ذِكْرِ العامِّ بَعْدَ الخاصِّ، وأوْ عَلى الوُجُوهِ لِلتَّنْوِيعِ ولا يَرِدُ أنَّهُ عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ التَّرْدِيدُ بَيْنَ الخاصِّ والعامِّ، وقَدْ تُوُقِّفَ في قَبُولِهِ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ هَذا تَرْدِيدٌ بَيْنَ فِرْقَتَيْنِ مَن يَسْتَغْفِرُ لِلْفاحِشَةِ ومَن يَسْتَغْفِرُ لِأيِّ ذَنْبٍ صَدَرَ عَنْهُ وكَمْ بَيْنَهُما، وجَوابُ (إذا) قَوْلُهُ تَعالى شَأْنُهُ: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ أيْ تَذَكَّرُوا حَقَّهُ العَظِيمَ ووَعِيدَهُ، أوْ ذَكَرُوا العَرْضَ عَلَيْهِ، أوْ سُؤالَهُ عَنِ الذَّنْبِ يَوْمَ القِيامَةِ أوْ نَهْيِهِ أوْ غُفْرانِهِ، وقِيلَ: ( ذَكَرُوا ) جَمالَهُ فاسْتَحْيَوْا، وجَلالَهُ فَهابُوا، وقِيلَ: ( ذَكَرُوا ) ذاتَهُ المُقَدَّسَةَ عَنْ جَمِيعِ القَبائِحِ وأحَبُّوا التَّقَرُّبَ إلَيْهِ بِالمُناسِبَةِ لَهُ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذَّمائِمِ، وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَيْسَ المُرادُ مُجَرَّدَ ذِكْرِ اسْمِهِ عَزَّ اسْمُهُ (p-61)﴿فاسْتَغْفَرُوا﴾ أيْ طَلَبُوا المَغْفِرَةَ مِنهُ تَعالى ﴿لِذُنُوبِهِمْ﴾ كَيْفَما كانَتْ، ومَفْعُولُ ( فاستغفروا ) مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى أيِ اسْتَغْفَرُوهُ، ولَيْسَ المُرادُ مُجَرَّدَ طَلَبِ المَغْفِرَةِ بَلْ مَعَ التَّوْبَةِ وإلّا فَطَلَبُ المَغْفِرَةِ مَعَ الإصْرارِ كالِاسْتِهْزاءِ بِالرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ، ومِن هُنا قالَتْ رابِعَةُ العَدَوِيَّةُ: اسْتِغْفارُنا هَذا يَحْتاجُ إلى اسْتِغْفارٍ ﴿ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ أوْ بَيْنَ الحالِ وذِيها، والتَّرْكِيبُ عَلى ما أفادَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ يَدُلُّ عَلى أُمُورٍ مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى وأُمُورٍ مِن جِهَةِ العَبْدِ.
أمّا الأوَّلُ فَعَلى وُجُوهٍ: أحَدُها دَلالَةُ اسْمِ الذّاتِ بِحَسَبِ ما يَقْتَضِيهِ المَقامُ مِن مَعْنى الغُفْرانِ الواسِعِ، وإيرادُ التَّرْكِيبِ عَلى صِيغَةِ الإنْشاءِ دُونَ الإخْبارِ بِأنْ لَمْ يَقُلْ وما يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللَّهُ تَقْرِيرٌ لِذَلِكَ المَعْنى وتَأْكِيدٌ لَهُ كَأنَّهُ قِيلَ: هَلْ تَعْرِفُونَ أحَدًا يَقْدِرُ عَلى غَفْرِ الذُّنُوبِ كُلِّها صَغِيرِها وكَبِيرِها سالِفِها وغابِرِها غَيْرَ مَن وسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وثانِيها تَقْدِيمُهُ عَنْ مَكانِهِ وإزالَتِهِ عَنْ مَقَرِّهِ لِأنَّهُ اعْتِراضٌ بَيْنَ المُبْتَدَأِ وهو ( الَّذِينَ ) والخَبَرُ الآتِي، ثُمَّ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أوِ الحالِ وصاحِبِهِ لِلدَّلالَةِ عَلى شِدَّةِ الِاهْتِمامِ بِهِ والتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ كُلَّما وُجِدَ الِاسْتِغْفارُ لَمْ يَتَخَلَّفِ الغُفْرانَ، وثالِثُها الإتْيانُ بِالجَمْعِ المُحَلّى بِاللّامِ إعْلامًا بِأنَّ التّائِبَ إذا تَقَدَّمَ بِالِاسْتِغْفارِ يُتَلَقّى بِغُفْرانِ ذُنُوبِهِ كُلِّها فَيَصِيرُ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ، ورابِعُها دَلالَةُ النَّفْيِ بِالحَصْرِ والإثْباتِ عَلى أنَّهُ لا مَفْزَعَ لِلْمُذْنِبِينَ إلّا كَرَمُهُ وفَضْلُهُ، وذَلِكَ أنَّ مَن وسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ لا يُشارِكُهُ أحَدٌ في نَشْرِها كَرَمًا وفَضْلًا، وخامِسُها إسْنادُ غُفْرانِ الذُّنُوبِ إلى نَفْسِهِ سُبْحانَهُ وإثْباتُهُ لِذاتِهِ المُقَدَّسِ بَعْدَ وُجُودِ الِاسْتِغْفارِ وتَنَصُّلِ عَبِيدِهِ يَدُلُّ عَلى تَحَقُّقِ ذَلِكَ قَطْعًا، إمّا بِحَسَبِ الوَعْدِ كَما نَقُولُ أوْ بِحَسَبِ العَدْلِ كَما يَزْعُمُهُ المُعْتَزِلَةُ.
وأمّا الثّانِي فَفِيهِ وُجُوهٌ أيْضًا:
الأوَّلُ: إنَّ في إبْداءِ سَعَةِ الرَّحْمَةِ واسْتِعْجالِ المَغْفِرَةِ بِشارَةً عَظِيمَةً وتَطْيِيبًا لِلنُّفُوسِ، والثّانِي: أنَّ العَبْدَ إذا نَظَرَ إلى هَذِهِ العِنايَةِ الشَّدِيدَةِ والِاهْتِمامِ العَظِيمِ في شَأْنِ التَّوْبَةِ يَتَحَرَّكُ نَشاطُهُ ويَهْتَزُّ عَطْفُهُ فَلا يَتَقاعَدُ عَنْها، والثّالِثُ: أنَّ في ضِمْنِ مَعْنى الِاسْتِغْراقِ قَلْعُ اليَأْسِ والقُنُوطِ ولِهَذا عَلَّلَ سُبْحانَهُ النَّهْيَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ .
والرّابِعُ: أنَّهُ أُطْلِقَتِ الذُّنُوبُ وعَمَّتْ بَعْدَ ذِكْرِ الفاحِشَةِ وظُلْمِ النَّفْسِ وتَرْكِ مُقْتَضى الظّاهِرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلى عَدَمِ المُبالاةِ في الغُفْرانِ، فَإنَّ الذُّنُوبَ وإنْ كَبُرَتْ فَعَفْوُ اللَّهِ تَعالى أكْبَرُ.
والخامِسُ: أنَّ الِاسْمَ الجامِعَ في التَّرْكِيبِ كَما دَلَّ عَلى سِعَةِ الغُفْرانِ بِحَسَبِ المَقامِ يَدُلُّ أيْضًا مَعَ إرادَةِ الحَصْرِ عَلى أنَّهُ تَعالى وحْدَهُ مَعَهُ مُصَحِّحاتُ المَغْفِرَةِ مِن كَوْنِهِ عَزِيزًا لَيْسَ فَوْقَهُ أحَدٌ فَيَرُدَّ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وكَوْنُهُ حَكِيمًا يَغْفِرُ لِمَن تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ غُفْرانَهُ.
وقَدِ التَزَمَ بَعْضُهم كَوْنَ ( ألْ ) في (الذُّنُوبِ) لِلْجِنْسِ لِتُفِيدَ الآيَةُ امْتِناعُ صُدُورِ مَغْفِرَةِ فَرْدٍ مِنها مِن غَيْرِهِ تَعالى، وهَذا عَلى ظَنِّهِ لا تُفِيدُهُ الآيَةُ عَلى تَقْدِيرِ إرادَةِ كُلِّ (الذُّنُوبِ) وحِينَئِذٍ يَزْدادُ أمْرُ المُبالَغَةِ، وأمّا جَعْلُ الجُمْلَةِ حالِيَّةً بِتَقْدِيرِ قائِلِينَ ذَلِكَ فَتَعَسُّفٌ يَذْهَبُ بِكَثِيرٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ اللَّطِيفَةِ كَما لا يَخْفى، و(مَن) مُبْتَدَأٌ (ويَغْفِرُ) خَبَرُهُ، والِاسْمُ الجَلِيلُ بَدَلٌ مِنَ المَسْتَكِنِ في يَغْفِرُ أوْ فاعِلٌ لَهُ ﴿ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿فاسْتَغْفَرُوا﴾ أوْ حالٌ مِن فاعِلِهِ أيْ لَمْ يُقِيمُوا أوْ غَيْرُ مُقِيمِينَ عَلى الَّذِي فَعَلُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ فاحِشَةً كانَتْ أوْ ظُلْمًا أوْ عَلى فِعْلِهِمْ، وأصْلُ الإصْرارِ الشَّدُّ مِنَ الصَّرِّ، وقِيلَ: الثَّباتُ عَلى الشَّيْءِ، ومِنهُ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ يَصِفُ الخَيْلَ:
؎عَوابِسَ بِالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا ∗∗∗ غُلالَتَها بِالمُحْصَداتِ (أصَرَّتِ)
ويُسْتَعْمَلُ شَرْعًا بِمَعْنى الإقامَةِ عَلى القَبِيحِ مِن غَيْرِ اسْتِغْفارٍ ورُجُوعٍ بِالتَّوْبَةِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَصِحُّ إرادَةُ هَذا (p-62)المَعْنى لِئَلّا يَتَكَرَّرَ ما في المَفْهُومِ مَعَ ما في المَنطُوقِ، فَلَعَلَّهُ فِيهِ بِمَعْنى الإقامَةِ، وإذا حُمِلَ الِاسْتِغْفارُ عَلى مُجَرَّدِ طَلَبِ المَغْفِرَةِ فَقَطْ كانَ هَذا مُشِيرًا لِلتَّوْبَةِ الَّتِي هي مِلاكُ الأمْرِ إلّا أنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِغْفارَ؛ لِأنَّهُ دالٌّ عَلَيْها في الظّاهِرِ، وإذا حُمِلَ عَلى الحالِ الَّذِي يَنْضَمُّ إلَيْهِ التَّوْبَةُ كانَ هَذا تَصْرِيحًا بِبَعْضِ ما أُرِيدَ مِنهُ إشارَةً إلى الِاعْتِناءِ بِهِ كَما قالُوا في ذِكْرِ الخاصِّ بَعْدَ العامِّ.
أخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا:“ كُلُّ ذَنْبٍ أصَرَّ عَلَيْهِ العَبْدُ كَبِيرٌ، ولَيْسَ بِكَبِيرٍ ما تابَ مِنهُ العَبْدُ " .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والبُخارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكم، ويْلٌ لِأقْماعِ القَوْلِ ويْلٌ لِلْمُصِرِّينَ» .
﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ (135) قِيلَ: الجُمْلَةُ حالٌ مِن ضَمِيرِ اسْتَغْفَرُوا وفِيهِ بُعْدٌ لَفْظِيٌّ، والمَشْهُورُ أنَّها حالٌ مِن ضَمِيرِ أصَرُّوا، ومَفْعُولُ (يَعْلَمُونَ) مَحْذُوفٌ أيْ يَعْلَمُونَ قُبْحَ فِعْلِهِمْ، وقَدْ ذُكِرَ أنَّ الحالَ بَعْدَ الفِعْلِ المَنفِيِّ وكَذا جَمِيعُ القُيُودِ قَدْ يَكُونُ راجِعًا إلى النَّفْيِ قَيْدًا لَهُ دُونَ المَنفِيِّ، مِثْلُ: ما جِئْتُكَ مُشْتَغِلًا بِأُمُورِكَ بِمَعْنى تَرَكْتُ المَجِيءَ مُشْتَغِلًا بِذَلِكَ، وقَدْ يَكُونُ راجِعًا إلى ما دَخَلَهُ النَّفْيُ مِثْلُ: ما جِئْتُكَ راكِبًا، ولِهَذا مَعْنَيانِ: أحَدُهُما وهو الأكْثَرُ أنْ يَكُونُ النَّفْيُ راجِعًا إلى القَيْدِ فَقَطْ ويَثْبُتُ أصْلُ الفِعْلِ فَيَكُونُ المَعْنى جِئْتُ غَيْرَ راكِبٍ، وثانِيهِما: أنْ يَقْصِدَ نَفْيَ الفِعْلِ والقَيْدِ مَعًا بِمَعْنى انْتِفاءِ كُلٍّ مِنَ الأمْرَيْنِ فالمَعْنى في المِثالِ لا مَجِيءَ ولا رُكُوبَ، وقَدْ يَكُونُ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا لِلْفِعْلِ فَقَطْ مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ لِنَفْيِ القَيْدِ وإثْباتِهِ.
قِيلَ: وهَذِهِ الآيَةُ لا يَصِحُّ فِيها أنْ يَكُونَ وهم ( يَعْلَمُونَ ) قَيْدًا لِلنَّفْيِ لِعَدَمِ الفائِدَةِ لِأنَّ تَرْكَ الإصْرارِ مُوجِبٌ لِلْأجْرِ والجَزاءِ سَواءٌ كانَ مَعَ العِلْمِ بِالقُبْحِ أوْ مَعَ الجَهْلِ، بَلْ مَعَ الجَهْلِ أوْلى، ولا يَصِحُّ أيْضًا فِيها أنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إلى القَيْدِ فَقَطْ مَعَ إثْباتِ أصْلِ الفِعْلِ إذْ لَيْسَ المَعْنى عَلى إثْباتِ الإصْرارِ ونَفْيِ العِلْمِ، وكَذا لا يَصِحُّ تَوَجُّهُهُ إلى الفِعْلِ والقَيْدِ مَعًا إذْ لَيْسَ المَعْنى عَلى نَفْيِ العِلْمِ، والظّاهِرُ أنَّ المُناسِبَ فِيها تَوَجُّهُهُ إلى الفِعْلِ فَقَطْ مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ لِنَفْيِ القَيْدِ وإثْباتِهِ، والمُرادُ لَمْ يُصِرُّوا عالِمِينَ بِمَعْنى أنَّ عَدَمَ الإصْرارِ مُتَحَقِّقٌ البَتَّةَ.
ولَكَ أنْ تَقُولَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الحالُ هُنا قَيْدًا لِلنَّفْيِ ويَكُونُ المَعْنى تَرَكُوا الإصْرارَ عَلى الذَّنْبِ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ الذَّنْبَ قَبِيحٌ؛ فَإنَّ الحالَ قَدْ يَجِيءُ في مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ.
وحَدِيثُ إنَّ تَرْكَ الإصْرارِ مُوجِبٌ لِلْأجْرِ والجَزاءِ، سَواءٌ كانَ مَعَ العِلْمِ بِالقُبْحِ أوْ مَعَ الجَهْلِ، فَلا دَخْلَ لِمَضْمُونِ الحالِ في إيجابِ الأجْرِ، مُجابٌ عَنْهُ بِأنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ الحالِ تَقْيِيدَ الإصْرارِ بِها لِإيجابِ الأجْرِ حَتّى يَرِدَ عَلَيْهِ ما ذُكِرَ، بَلِ المُرادُ مَدْحُهم بِأنَّ تَرْكَهُمُ الإصْرارَ عَلى الذَّنْبِ لِأجْلِ أنَّ فِيهِمْ ما هو زاجِرٌ عَنْهُ وهو عِلْمُهم بِقُبْحِ الذَّنْبِ، فَيَكُونُ مَدْحًا لَهم بِأنَّ مِن صِفاتِهِمُ التَّحَرُّزَ عَنِ القَبائِحِ، وادَّعى بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ تَعَيُّنَ كَوْنِ الحالِ قَيْدًا لِلْمَنفِي وأنَّ النَّفْيَ راجِعٌ إلى القَيْدِ، والمَعْنى لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الإصْرارُ مَعَ العِلْمِ بِقُبْحِ الجَزاءِ؛ لِأنَّ المُصِرَّ مَعَ عَدَمِ العِلْمِ بِالقُبْحِ لا يُحْرَمُ الجَزاءَ، وغَيْرَ المُصِرِّ لِكَسالَةٍ أوْ لِعَدَمِ مَيْلِ الطَّبْعِ لا يَبْلُغُهُ؛ لِأنَّ الجَزاءَ عَلى الكَفِّ لا عَلى العَدَمِ، وإلّا لَكانَ لِكُلِّ أحَدٍ أجِزْيَةٌ لا تَتَناهى لِعَدَمِ فِعْلِ قَبائِحَ لا تَتَناهى لَمْ تَخْطِرْ بِبالِهِ، ولا يَخْفى ما في قَوْلِهِ: وغَيْرُ المُصِرِّ إلَخْ، وقَوْلُهُ: لِأنَّ الجَزاءَ إلَخْ مِنَ النَّظَرِ، وكَأنَّ مِن جَعَلَهُ حالًا مِن ضَمِيرِ اسْتَغْفَرُوا أرادَ الفِرارَ مِن هَذِهِ الدَّغْدَغَةِ، وأنا أقُولُ: إنَّ الحالَ قُيِّدَ لِلنَّفْيِ ومُتَعَلِّقِ العِلْمِ، ولَيْسَ هو القُبْحَ بَلْ إنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنِ اسْتَغْفَرَ ويَتُوبُ عَلى مَن تابَ، وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ كَما أخْرَجَهُ جَماعَةٌ عَنْهُ، وحُكِيَ عَنِ الضَّحّاكِ أيْضًا، والمَعْنى أنَّهم تَرَكُوا الإقامَةَ عَلى الذَّنْبِ عالِمِينَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِن عِبادِهِ ويَغْفِرُ لَهم، وهو إيذانٌ بِأنَّهم لا يَيْأسُونَ مِن رَوْحِ (p-63)اللَّهِ سُبْحانَهُ ولا يَرِدُ عَلى هَذا دَعْوى عَدَمِ الفائِدَةِ كَما أُورِدَ أوَّلًا، إذْ مِنَ المَعْلُومِ الَّذِي لا شُبْهَةَ فِيهِ أنَّ تَرْكَ الإصْرارِ إنَّما يُوجِبُ الأجْرُ إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَأْسٌ، فَإنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ، ولَعَلَّ مَدْحَهم بِأنَّهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أوْلى مِن مَدْحِهِمْ بِأنَّهم يَعْلَمُونَ قُبْحَ الفِعْلِ، ورُبَّما يُقالُ: إنَّ الجُمْلَةَ سِيقَتْ مُعْتَرِضَةً لِذَلِكَ كَما سِيقَتْ كَذَلِكَ جُمْلَةُ ﴿ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ﴾ لِما سِيقَتْ لَهُ، وأمّا جَعْلُها مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ لَمْ يُصِرُّوا، ورُبَّ شَيْءٍ يَصِحُّ تَبَعًا ولا يَصِحُّ اسْتِقْلالًا فَلَيْسَ بِالَّذِي تَمِيلُ النَّفْسُ إلَيْهِ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











