﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارࣰا لِّتَعۡتَدُوا۟ۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوۤا۟ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوࣰاۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ یَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ ٢٣١ وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن یَنكِحۡنَ أَزۡوَ ٰجَهُنَّ إِذَا تَرَ ٰضَوۡا۟ بَیۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَ ٰلِكَ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۗ ذَ ٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢﴾ [البقرة ٢٣١-٢٣٢]
قال الله عز وجل:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، قوله:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ الخطاب هنا لعامة الناس، يعني: إذا طلق الواحد منكم،
﴿النِّسَاءَ﴾ يعني: الأزواج؛ ولهذا لم يضفها الله عز وجل إلى أحد، بل قال:
﴿النِّسَاءَ﴾ أتى بـ(أل) الدالة على العموم، كما في قوله:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء ٣٤]، فالمعنى: إذا طلق أحد منكم امرأته فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف.
قال بعض العلماء:
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قاربن البلوغ؛ لأنها إذا بلغت الأجل انتهت العدة ولا إمساك حينئذٍ، ولكن الصحيح أن المراد بالبلوغ هنا حقيقة البلوغ؛ وذلك لأن الأصل أن يحمل الكلام على ظاهره وحقيقته حتى يوجد دليل على أنه لا يراد به ذلك، وهذه قاعدة عامة في كل نصوص الكتاب والسنة، بل حتى في كلام الناس بعضهم مع بعض، في العقود والمعاملات وغيرها يحمل الكلام على أيش؟ على ظاهره وعلى حقيقته حتى يوجد دليل يصرفه عن ذلك، وعلى هذا فيكون معنى
﴿بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انتهت عدتهن؛ وذلك لأن للرجل أن يراجع زوجته بعد الحيضة الثالثة ما لم تغتسل، كما جاء ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، فالمرأة إذا حاضت ثلاث مرات من الطلاق بلغت الأجل، لكن له أن يراجعها ما دامت لم تغتسل، وعلى هذا فيكون المراد بالآية ظاهرها، أي: أتممن العدة فأمسكوهن، ولكن قوله:
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ يدل على الترتيب والتعقيب، وأنه لا يتأخر، وإن كان بعض العلماء قال: ظاهر ما ورد عن الصحابة أنها لو فرطت في الغسل سنوات متعددة، فله أن يراجع ما دامت لم تغتسل، لكن هذا فيه نظر، ولكن له أن يراجعها ما لم تغتسل إذا لم تدع الغسل الواجب، فأما إذا مرت عليها صلاة ولم تغتسل ترجو أن يراجعها زوجها فإنها تمنع من ذلك.
* طالب: شيخ، ما يكون يعني ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ دليل على أنه معنى ﴿بَلَغْنَ﴾: قاربن؟
* الشيخ: لا.
* الطالب: وإلا كيف يمسكها بعد أن..؟
* الشيخ: إي نعم، له أن يراجعها ما لم تغتسل، هكذا ورد عن الصحابة، وإن كان العدة تنتهي بانقطاع الحيض؛ ولهذا لو مات أو ماتت بعد انقضاء الحيضة الثالثة ما ترثه ولا يرثها.
* الطالب: لكن قد يحتاج يسافر معها؟
* طالب آخر: إذا كانت كتابية لا تغتسل.
* الشيخ: الظاهر أن الكتابية التي لا تغتسل أنه ينتهي بانقضاء الحيض.
* الطالب: قد يكون أهلها ليسوا موجودين في البلد الذي هو فيه، فإذا انقضت العدة يضطر أنه يسافر بها وهي ليست محرمًا له إذا (...)؟
* الشيخ: لا لا، ما دام ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أن الإنسان له أن يراجع ما دامت لم تغتسل ولو مع تمام العدة، فهذا يعتبر تفسيرًا من الصحابة رضي الله عنهم للآية الكريمة.
* الطالب: لكن ما يفرق بين إذا كان أهلها في بلد (...)؟
* الشيخ: لا لا، لا يفرق؛ لأنه حق له.
* الطالب: هو يسافر بها وليس محرمًا؟
* الشيخ: لا، ما يسافر، خلها تبقى ويطلب من أهلها أن يحضروا ويسافروا بها.
* الطالب: ما هو بمحرم لها؟
* الشيخ: نعم، إذا انتهت العدة ولا راجع واغتسلت، فهو ما يجوز أن تبقى في بيته إلا إذا كان ليس هناك خلوة، مثل إذا كان في البيت أحد فلا مانع. إذن نقول: هذه الآية فيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن المعنى
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قاربن البلوغ، وقد مر علينا أن التعبير بالفعل قد يراد به ما قاربت، لكن القول الراجح أن الآية على ظاهرها بدليل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم.
قوله:
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ ﴿أَمْسِكُوهُنَّ﴾ أي: ردوهن إلى عصمتكم وهو المراجعة،
﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ أي: دعوهن، والتسريح بمعنى الإطلاق، يعني: أطلقوهن يكن أحرارًا أو حرائر بالنسبة لأنفسهن، وهنا قال:
﴿أَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وهناك قال:
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهنا قال:
﴿سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ فما هو الفرق؟ قد يقال: إن هذا هو الواجب، والتسريح بالإحسان على سبيل الندب والأفضلية؛ لأن الإحسان ليس بواجب، بل هو مندوب إليه، ويأتي إن شاء الله أيضًا التعرض لهذا في الفوائد.
قال:
﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ (لا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم بحذف النون، و
﴿ضِرَارًا﴾ مفعول لأجله، وقد قال ابن مالك في المفعول لأجله:
يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ ∗∗∗ أَبَانَ تَعْلِيلًا كَجُدْ شُكْرًا وَدِنْ
وهنا أبان تعليلًا ولَّا لا؟ نعم، لا تمسكوهن لأجل الضرار، وكانوا في الجاهلية يراجعون الزوجات في العدة من أجل المضارة، يراجعها ويبقيها، ثم يطلقها وتستأنف العدة، ثم إذا قاربت راجعها ثم يطلقها فتستأنف العدة، وهكذا، وقد مر علينا أن الله عز وجل حدد ذلك بكم؟ بثلاث، فبعد الثالثة لا رجوع، وهنا قال:
﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ وفي الآية السابقة قال:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ فيكون الرجعة مشروطة بإرادة الإصلاح، وتحريمها مشروط بماذا؟ بقصد الإضرار، فإذا قصد الإضرار صارت حرامًا، وإذا لم يقصد الإصلاح فلا حق له في الرجعة، لكن لو راجع وما قصد الإضرار فإنه لا يأثم، قال:
﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ اللام هنا لام التعليل، ولكنها هنا يراد بها العاقبة، أي: لا تمسكوهن ضرارا فتكون عاقبتكم أو حالكم.
واللام التي تعرف عند بعض النحويين بـ(لام كي) تارة يراد بها التعليل، وتارة تكون زائدة، وتارة تكون للعاقبة، فتكون للتعليل كما في قولك: حضرت لأقرأ، وكما في قوله تعالى:
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت ٦٦]. وتكون زائدة كما في قوله تعالى:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء ٢٦]، إذا جاءت بعد الإرادة فهي زائدة؛ لأن الإرادة هي التعليل
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي: يريد الله أن يبين لكم. وتأتي للعاقبة وهي: إذا علم بأن ما بعدها غير مقصود لكن صارت العاقبة كذلك مثل قوله تعالى:
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص ٨] هل آل فرعون التقطوه لهذا الغرض؟ أبدًا، ولو أنهم ظنوا ذلك لقتلوه، لكن العاقبة أنه صار عدوًّا وحزنًا.
هذه الآية على أي الأحوال الثلاث تنطبق؟ على العاقبة، وقد يقال: إن من أراد الإضرار فقد أراد العدوان، فكأنه قال: لا تمسكوهن ضرارًا وعدوانًا؛ لأن قصد الإضرار بلا شك عدوان.
قال:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ ﴿مَنْ يَفْعَلْ﴾ هذه جملة شرطية، وجوابها:
﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، ولماذا ارتبط الجواب بالفاء؟ لأنه لا يصح أن يحل محل الشرط، وقد قال ابن مالك:
وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ∗∗∗ شَرْطًا لِـ(إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْفكل ما لا يصح أن يقع شرطًا، فإنه يجب إذا وقع جوابًا أن يقترن بالفاء، وقد نظمها بعض الناس تقريبًا لطالب العلم في قوله؟ جواب الشرط الذي يجب أن يقترن بالفاء ما هو؟
* طالب: ما أعرف.
* الشيخ: هو دائمًا يتكرر علينا ما هو مشكل.
* طالب: اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّــــــــــــــــــةٌوَبِجَامِــــــــــــــــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ * الشيخ: ؎اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّـــــــــــــــــةٌوَبِجَامِــــــــــــــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ في هذه الآية أي الأحوال السبعة؟ قوله: وبقد، عرفتم؟ فإذا كان جواب الشرط أحد هذه الأمور السبعة وجب أن يقترن بالفاء. وهذا يقرب لطالب العلم المبتدئ، وإن كان الضابط الذي ذكره ابن مالك ضابطًا لا ينتقد.
وقوله:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أصل الظلم في اللغة: النقص، ومنه قوله تعالى:
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] أي: لم تنقص، ثم صار مستعملًا في كل ما فيه نقص سواء كان ذلك حسيًّا أو معنويًّا، ومن فرط فيما يجب له، أو فيما يجب عليه، أو انتهك ما يحرم عليه فقد انتقص، انتقص نفسه حقها؛ لأن النفس عندك أمانة يجب أن ترعاها حق رعايتها، يجب أن لا توقعها فيما حرم الله عليك، ويجب أن تقوم بما أوجب الله عليك، وإلا كنت ظالمًا لنفسك.
وقوله:
﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ لم يقل: فقد ظلم الزوجة مع أنه في الواقع ظالم لزوجته، لكنه لما كان غيرة الإنسان على نفسه أقوى من غيرته على غيره قال:
﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ لأنه لو قال: فقد ظلم الزوجة، فإنه هو من الأصل قد أمسكها لأي شيء؟ للإضرار والعدوان، لكن الشيء الذي يثير الإنسان ويوجب له أن يدع الشيء هو أن يقال: إنك ظالم نفسك، وهذا الظلم للنفس قد لا يشعر به الإنسان في هذه الدنيا، بل قد يظن أنه قد انتصر لنفسه، ولكنه في الحقيقة يتبين له متى؟ في الآخرة حينما يؤخذ من أعماله الصالحة ويعطى لهذا المظلوم، فإن وجد شيئًا من أعماله الصالحة أخذ، وإلا أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار.
قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾، وفيها قراءة:
﴿هُزْءًا﴾ ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هَزْءًا﴾ أو
﴿هُزُوًا﴾ قراءتان سبعيتان، لا تتخذوها أي: لا تجعلوها مهزوءًا بها وموضع استهزاء، وآيات الله عز وجل جمع آية، وهي: العلامة على الشيء، لكنها لا تكون آية إلا إذا كانت برهانًا موجبًا، فإنها تكون آية، فهي العلامة.
وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية وهي: ما جاءت به الرسل من الوحي، وآيات كونية وهي: هذه الكائنات التي نشاهدها، أما وجه كون ما جاءت به الرسل آية، فلأنه كلام لا يمكن أن يأتي البشر بمثله لا في التنظيم، ولا في الأسلوب، ولا في الغاية، ولا في غير ذلك، ولا سيما القرآن الكريم، وأما وجه كون الموجودات آيات كونية فظاهر؛ لأن هذه المخلوقات لا يمكن لأحد أن يخلق مثلها، وقد تحدى الله عز وجل أولئك العابدين أن تخلق معبوداتهم شيئًا من هذه الآيات، فقال عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج ٧٣]، هل يمكن أن يخلقوا السماوات والأرض؟ لا، هل يمكن أن يخلقوا بشرًا؟ لا، هل يمكن أن يخلقوا بعيرًا؟ لا، فهذه المخلوقات في انتظامها وحسنها كلها آيات تدل على أن الله تعالى هو الخالق وعلى وحدانيته سبحانه وتعالى:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِـــــــــــــــــدُاتخاذ آيات الله الشرعية هزءًا ظاهر، بأن يهزأ الإنسان ويسخر من شرع الله عز وجل، سواء سخر بالشرع كله أو سخر بجزء منه، حتى لو سخر بغسل الوجه بالوضوء فقد سخر بآيات الله كلها واستهزأ بآيات الله كلها؛ لأن الاستهزاء ببعض الشريعة استهزاء بجميع الشريعة، فكيف بمن يستهزئ بكل الشريعة، أو بأركانها العظيمة بأن يستهزئ بالصلاة أو بالزكاة أو بالصيام أو بالحج أو ما أشبه ذلك، فإن هذا يكون أعظم وأعظم، فالمستهزئ بأي شيء من شريعة الله مستهزئ بجميع الشريعة، كما أن من كفر بأي شيء من شريعة الله فهو كافر بجميع الشريعة، ومن كفر بأي رسول من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، واضح؟
إذا كان هذا الإنسان ما يتخذ آيات الله هزءًا، ولكنه لا يعمل بها هل يكون كالمستهزئ؟ الجواب: لا، لا يكون كالمستهزئ؛ لأنه فرق بين من يدع العمل مع تعظيمه لشرع الله عز وجل وبين من يسخر بالشرع ويستهزئ به، ويرى أنه عبث وأنه باطل وما أشبه ذلك، فالأول له حكم العصاة، إن كانت معصيته تبلغ به الكفر فهو كافر، وإلا فهو فاسق، وإلا فهو دون الفاسق، كما لو كانت من صغائر الذنوب ولم يصر عليها، وأما الثاني المستهزئ الذي يرى أن الشرع عبث، أو أنه لأناس انقرضوا ومضوا، أو أن هذا العصر لا يصلح أن يكون عصرًا للعمل بهذا الشرع، فهذا لا شك أنه كُفْر.
إذا استهزأ الإنسان بغير الشريعة ولكن بحامل الشريعة فهل يكون كافرًا؟
* الطلبة: نعم، فيه تفصيل..
* الشيخ: إي لازم، فيه تفصيل، الكفر ما هو هين، الكفر ليس بهين، كل شيء كافر كافر كافر؟ إذا استهزأ بحامل الشريعة من أجل حمله الشريعة فهو كافر، كما لو استهزأ برجل قد أعفى لحيته وقصده الاستهزاء بإعفاء اللحية، سواء كان على هذا الرجل أو على رجل آخر، هذا كافر؛ لأنه استهزأ بشريعة من شرائع الله؛ ولهذا قال الله عز وجل في أولئك النفر الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون الرسول ﷺ وأصحابه- ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء -يعنون رسول ﷺ- أنزل الله فيهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة ٦٥، ٦٦]، والذي يقول عن حملة الشرع والعاملين به: هؤلاء دراويش ما يعرفون، ولا يعرفون المجتمع ولا الدنيا، وما أشبه ذلك من الكلمات هؤلاء أيضًا كفار؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطففين ٢٩، ٣٠] شوف شوف ها المسكين ها الدرويش، يتغامزون فيما بينهم، ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين ٣٢]، وفي العصر أبدلنا (ضالون) بـ(رجعيون)، إذا رأوهم قالوا: هؤلاء رجعيون، ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين ٣١] متنعمين، يعني: يرون أنهم حصلوا على شيء كثير أن يستهزئوا بهؤلاء الدراويش على زعمهم، قال الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين ٣٤]، فدل هذا على أن أولئك الذين يسخرون بالمؤمنين كفار، فأما لو سخر بحامل الشرع غير الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل لباسه، أو من أجل مشيته، أو من أجل هيئته فهذا..كيف يتخذ الآيات الكونية هُزءًا؟
* طالب: بإنكار نعمة (...).
* الشيخ: (...).
* طالب: يقول: ما فائدة هذه الآيات مما لو وُضِع ..؟
* الشيخ: مثلًا لو نزل المطر، لو نزل في أيام الصيف اللي ما جرت العادة بأن ينزل فيه المطر، (...) ويش هذا التدبير؟ يوم الناس محتاجين إلى المطر بس بالشتاء ما جاء والآن يأتي! مثلًا، هذا يمكن يوجد، يُوجد من بعض الفَجَرة يقولون مثل هذه الأشياء.أو مثل يُغلب قوميون من العرب تغلبهم اليهود مثلًا فيقولون: ما هذا؟ أيش يكون هذا؟ يكون النصر لليهود على العرب على بني كنعان وعدنان وقحطان؟! كيف هذا ودولا بني إسرائيل؟ وما أشبه ذلك؛ هذا من السخرية والاستهزاء بقضاء الله وقدرِه سواء كان من فعله الذي لا صُنع للآدمي فيه، ولا علاقة للإنسان فيه، أو من الأشياء اللي للإنسان فيها علاقة، ولكن المؤمن يستسلم لأمر الله عز وجل الكوني كما يستسلم لأمره الشرعي، ويرى أنه في غاية الحِكْمة وفي غاية الإتقان، وأنه في مكانه وأن من غُلِب من العَرَب أو غير العرب فإن الحكمة تقتضي أن يكون مغلوبًا، أن يكون كذلك؛ لأن الله عز وجل حكيم، ما يصنع شيئًا إلا لحكمة؛ فالمهم أن الاستهزاء بالآيات الكونية يمكن أن يكون، وقد نهى الله تعالى أن نتخذ هذه الآيات هُزءًا سواء كانت الآيات كونية أو شرعية، لكن بما أن الآية في سياق الآيات الشرعية تكون أخص بالآيات الشرعية منها في الآيات الكونية.
قال:
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة ٢٣١].
اذكروا بماذا؟ باللسان؟ بالقلب؟ بالجوارح؟ بالجميع؟
* الشيخ: بالجميع، اذكروا نعمة الله عليكم حتى تقوموا بشُكْرها، فإن الغفلة عن ذِكْر النِّعم سبب لعدم الشكر، تذكروها باللسان بأن تُثني على الله بها؛ تقول: أنعم الله عليَّ بكذا ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى ١١] تُثني على الله عز وجل بها، تقول: اللهم لك الحمد على ما أنعمت علي به من كذا وكذا من المال أو الزوجة أو الأولاد أو ما أشبه ذلك. وقوله:
﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ مفرد مضاف، والمفرد المضاف يدل على العموم، من صيغ العموم، كما في قوله تعالى:
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم ٣٤] لو كان المراد بالنعمة مدلولها الإفرادي لكان إحصاؤه ممكنًا؟
* الطلبة: لا، ولا لها عدد.
* الشيخ: لأنها ولا لها عدد، مختلفين أهل اللغة هل الواحد عدد ولا غير عدد. المهم أن نِعمة الله هنا عامة؛ نعم لا تُحصَى أجناسها فضلًا عن أفرادها؛ فقوله:
﴿نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يشمل كل النِّعم وإن دقَّت؛ لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل ٥٣].
واعلموا أن النِّعمة خير؛ والنَّعْمة شر؛ لأن معنى النَّعمة التنعُّم والترف؛ قال الله تعالى: فأخرجناهم
﴿مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان ٢٥ - ٢٨]، وقال تعالى:
﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ [المزمل ١١].
أما النِّعمة فهي من الله عز وجل وهي خير وإحسان؛ فالإنسان واجِب عليه أن يذكر نعمة الله عز وجل بالثناء عليه بها في اللسان، والقيام بحقها في الأركان، واعتقاد أنها من عند الله تفضُّلًا وإحسانًا بالْجَنان؛ بالقلب حتى يكون بذلك متبرئًا من حوله وقوته؛ لأن النِّعمة كلها من الرب عز وجل.
قال:
﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [البقرة ٢٣١].
﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ الواو حرف عطف؛ و
﴿مَا﴾ اسم موصول مبنيٌّ على السكون في محل نصب عطفًا على أيش؟ على الله ولَّا على نعمة؟
* الطلبة: على نِعمة.
* الشيخ: على نِعمة؛ يعني: واذكروا ما أنزل عليكم من الكتاب والحِكمة يعظكم به، والعطف هنا من باب عَطف الخاص على العامِّ؛ لأن ما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة من النِّعم؛ بل هو من أكبر النِّعم ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران ١٦٤]، لماذا عُطفت على النِّعم وهي عامة؟ لأن عطف الخاص على العام يدُل على أهميته وعُلوِّ شأنه؛ ولهذا أُفرِد من العموم تنصيصًا عليه؛ وذلك لأن دلالة العموم على جميع أفراده دلالة قطعية ولَّا ظنية؟
دلالة ظنية -خدوا بالكم لهذه القاعدة- دلالة العام على جميع أفراده دلالة ظنية؛ لأن العام أحيانًا يُراد به الخصوص وأحيانًا يكون عامًّا مخصوصًا؛ والفرق بينهما ظاهر، الفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص، الفرق بينهما ظاهر ولَّا غير ظاهر؟
* طالب: غير ظاهر.
* الشيخ: غير ظاهر، أحسنت، هكذا طالب العلم إذا ما ظهر له، يقول: ما هو ظاهر؛ الفرق بين العام المخصوص هو: أن اللفظ يكون عامًّا يُراد به جميع أفراده ثم يُخرَج منه بعض الأفراد مثل: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر ٢، ٣] الإنسان هذه نقول فيها: عام مخصوص كذا؟ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور ٤] هذا عامٌّ لكنه مخصوص بالزوج إذا قذف زوجته فإن له حكمًا خاصًّا.
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور ٦]، وإنما مثَّلنا بذلك مع المثال الأول لأجل أن نُمثِّل بالتخصيص المتصل والتخصيص المنفصِل، وهذا معلوم ولَّا غير معلوم؟
* الطلبة: معلوم.
* الشيخ: التخصيص المتصل أن يكون في كلامٍ واحد؛ العام والمُخصِّص ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. والتخصيص المنفصل أن يكون التخصيص في كلام آخر منفصلًا عن الأول؛ فآية القذف نزَلت قبل آية اللعان؛ لأنه لما نزلت آية القذف
«قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: أجد على زوجتي لُكَعَ بْنَ لكع، ثم أذهب وأطلب أربعة رجال يشهدون، لئن وجدتُه لأضربنه بالسيف غير مُصَفَح »(١). فأنزل الله آية اللعان
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النور ٦].
المهم هذا مثال لأيش؟ للعام المخصوص بمُخصِّص متصل أو مخصص منفصل، العام الذي أُريد به الخصوص يكون من الأصل ما قُصِد عمومه، لم يُقصد عمومه أصلًا، بل قُصِد به شيء معين، مثل قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران ١٧٣] هل المراد جميع الناس؟
* طالب: ليس ..
* الشيخ: أولًا: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ ما قال إلا واحد، القائل واحد.ثانيًا:
﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ من؟ أبو سفيان ومن معه، ما هو كل الناس؛ هذا يسمونه عام أريد به الخاص.
تبين لكم الآن أن العام لا يدُلُّ على جميع أفراده دلالة قطعِيَّة، بل دلالته ظنية بدليل أنه قد يُخصَّص أو أنه قد يُراد به من الأصل الخصوص، فإذا ذُكر فرْد من الأفراد كان دلالة العموم على هذا الفرد دلالةً قطعيَّة ولَّا ظنية؟
* الطلبة: قطعية.. ظنية.
* الشيخ: ذُكر فرد من أفراد العموم؟ قطعيَّة بارك الله فيكم، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة ٢٣١] هل هو داخل في النِّعمة ولَّا لا؟ قطعًا داخل في العموم، ولهذا خصصه. ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر ٤]
* طالب: قطعي(...)
* الشيخ: الآن نعلم علم اليقين أن جبريل الروح داخل في الملائكة بلا شك، لكن إسرافيل وميكائيل وما أشبه ذلك؟
* الطالب: ظني.
* الشيخ: نقول: نعم، العموم يدل على دخولهم، لكن ما نقطع قطعًا بدخولهم، لكن إذا ذكر الفرد من أفراد العموم قطعنا بدخوله. ثم نقول: هل هو بعد ذكره داخل في العموم، أو التنصيص عليه مُخرج له عن العموم؟
* الطلبة: مخرج له عن العموم.
* الشيخ: بأسرع ما تجيبون ما أدري عن فهم ولا عن غير فهم؟ هل تخصيصه بالذكر يُخرجه من العموم؟
* الطالب: يخرجه من العموم.
* الشيخ: أو نقول هو داخل في العموم وذُكر بخصوصه لتعلية شأنه ويكون حينئذ مذكورًا مرتين؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: (...) الأول؟
* الطلبة: إي.
* الشيخ: هذا أيضًا فيه خلاف بين العلماء؛ منهم من يقول: إن التنصيص عليه دليل على أنه لم يُرد في العموم؛ فكأنه قال: واذكروا نعمة الله عليكم وهو يريد غير ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ثم قال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾؛ وعلل هؤلاء قولهم بأن العطف يقتضي المغايرة؛ ولكن الصحيح أنه داخل في العموم، وأن التنصيص عليه تعلية لشأنه كأنه ذُكر مرتين، وأن المغايرة قد حصلت في العطف؛ لأنا عطفنا خاصًّا على عام، وهذا نوع من المغايرة؛ والمغايرة كما تكون في الذات تكون في الوصف كما هو معروف كما هو في قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤]. من الذي قدَّر فهدى والذي أخرج المرعى؟
* الطلبة: الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: لا، العطف يقتضي المغايرة؟
* الطلبة: لا..
* الشيخ: طيب ويش تقول بالقاعدة هذه؟ العطف يقتضي المغايرة ويش تسوون؟
* الطلبة: مغايرة..
* الشيخ: مغايرة الصفات، هنا التغاير بالأوصاف ولَّا لا؟ ولا شك أن صفات الله عز وجل كل واحدة غير الأخرى، فالذي خَلَقَ فسوَّى هو الذي قدَّر فهدى وهو الذي أخرج المرعى، لكن هذه صفة وهذه صفة.
إذن فما أنزل الله علينا من الكتاب والحكمة لا شك أنه من نِعمة الله، وأنه يجب علينا أن نذكر ذلك، ولكن كيف نذكره؟
نيجي للناس نقول: يا جماعة، ترى الله أنزل علينا كتابًا وحِكمة؟ لا، اذكروه في قلوبكم وطبِّقوا ما فيه من التوجيهات فِعلًا أو ترْكًا بجوارحكم، وهذا هو ذِكْر القرآن، كيف يكون ذاكرًا للقرآن من لم يَعْمل به؟ أين ذكره للقرآن؟
فاذكروها بقلوبكم مُعترِفين لله تعالى بالفضل بإنزالها، ثم اعتقِدوا ما دلَّت عليه من العقائد، ونفِّذوا ما تقتضيه من الأوامر والنواهي، مفهوم ولَّا لا؟
وقوله:
﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ المراد بالكتاب القرآن، وهو (فِعَال) بمعنى (مفعول) مثل فِراش بمعنى مفروش؛ وبِناء بمعنى مبنِيٍّ، غِراس بمعنى مغروس؛ ففِعال دائمًا تأتي بمعنى مفعول ومنها الكتاب، مكتوب بماذا؟
مكتوب في اللوح المحفوظ
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج ٢١، ٢٢] مكتوب بأيدي الملائكة
﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٥]، مكتوب بالصحف التي بأيدينا ولَّا لا؟ فإذن هو مكتوب.
وقوله:
﴿واَلْحِكْمَة﴾ هل المراد بالحكمة العِلم؟ يعني ما أنزل الله عليكم من الكتاب وما حصَّلتم فيه من العلم؛ لأن هذا الكتاب فيه علوم كثيرة أو المراد بالحكمة معرفة أسرار الشريعة؛ فإن الله تعالى أنزل الحكمة لنا في القرآن وما أكثر الأحكام المعلَّلة في كتاب الله عز وجل ولَّا لا؟ وقد بَيَّنا كثيرًا بأن التعليل المقرون بالأحكام الشرعية يفيد أي شيء؟
يفيد ثلاث فوائد:
* طالب: أربعة.
* الشيخ: نشوف: أولًا: بيان سمو الشريعة وعظمتها، وأنه ما من حكم من أحكامها إلا ومعلل بعِلَّة مطابقة للعقل. ثانيًا: طُمأنينة الإنسان؛ لأنه كلما علِم الحكمة اطمأن إليها أكثر ولَّا لا؟ ولهذا دائمًا الناس يسألون: لأيش كذا؟ لأيش كذا؟ عشان يطمئنون.
الثالث: أن يُقاس عليه -أي على الحكم- ما شاركه في تلك العِلة؛ هذه ثلاثة.
ونطلب من الأخ أن يأتي بالرابع إما من كيسه ولَّا من قلبه.
* الطالب: ما في.
* الشيخ: ما في، إذن.
* الطالب: الرابع: انقياد المكلف.
* الشيخ: هو الطمأنينة، هذا فرع على الطمأنينة، إذا اطمأن انقاد، هذا رأيٌ.أو نقول: المراد بالحكمة السُّنَّة. أو نقول: المراد بالحكمة ما يشمل هذه الثلاثة؟
* طالب: الأخير.
* الشيخ: الأخير؛ لأن لدينا قاعدة في التفسير وهو أنه إذا كانت الآية تحتمل المعاني المذكورة بدون ائتلاف بينها فالواجب حمْلها على الجميع. ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [البقرة ٢٣١].
﴿يَعِظُكُمْ﴾ الموعظة هي ذِكر الأحكام مقرونة بالترغيب أو الترهيب، ومن الترغيب فيها ذِكْر عللها؛ لأن النفس تطمئن إليها وتزداد تمسُّكًا بها إذا كانت مأمورًا بها؛ وتنفر منها وتزداد بُغضًا لها إذا كانت منهيًّا عنها؛ فإذن الموعظة ذِكر الأحكام مقرونة بالترغيب والترهيب.
وقيل: إن الموعظة أعمُّ؛ فهي ذِكر الأحكام عمومًا؛ لأن الإنسان إذا التزم بها فقد اتَّعظ؛ لكن الأول أظْهر؛ لأن المراد بالموعظة ما يُحدِث في القلوب رغبة أو رهبة، وهذا لا يكون إلا إذا قُورِنت الأحكام بماذا؟ بعللها؛ في حديث العرباض بن سارية:
«وعظنا رسول الله ﷺ موعظةً وجِلت منها القلوب وذَرَفَت منها العيون »(٢).
فهذه لا بُدَّ أن تكون مُحرِّكة للقلب؛ وكل أحكام الله تعالى موعظة؛ لأن غالب الأحكام مقرونة بِعِللها إما مختومة باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته أو ذِكرٍ من عقابه أو ثوابه أو ما أشبه ذلك.
وجملة
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ حال، حال من فاعِل
﴿أَنْزَلَ﴾ وهو الله ولَّا لا؟ يعني: وما أنزل عليكم الكتاب والحكمة حال كونه واعظًا؛ ويجوز أن يكون حالًا من الكتاب؛ يعني حال كون الكتاب موعوظًا به، وهما متلازمان؛ فالكتاب والحكمة موعظة من الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس ٥٧].
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ما أكثر ما يأمر الله عز وجل بالتقوى؛ لأن بالتقوى صلاح القلوب.
والتقوى اختلف المفسرون فيها على كثير من الأقوال، وأجمعها أن التقوى هي: اتِّخاذ وِقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه. والاشتقاق يدل على هذا؛ لأنها مأخوذة من أين؟ من الوقاية، وعلى هذا فالتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وقال بعضهم فيها:
خَـــــلِّ الذُّنُـــــــوبَ صَغِيرَهَـــــــــا ∗∗∗ وَكَبِيرَهَــــــــــــــا ذَاكَ التُّقَــــــــــــــــــــى؎وَاعْمَــــــــلْ كَمَـــــــاشٍ فَـــــــوْقَ ∗∗∗ أَرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى؎لا تَحْقِـــــــــــــــرَنَّ صَغِيــــــــــــــــــــرَةً ∗∗∗ إِنَّ الْجِبَــــــالَ مِــــــنَالْحَصَـــــــــى
وقال بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عِقاب الله. وكل هذه تعبيرات، لكنها تنصبُّ في معنى واحد وهي ما أشرنا إليه أولًا وهو أجمعها.
وقوله:
﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ واضح أن فيها إشارة ظاهرة إلى وجوب الإخلاص في تقوى الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان لا يتقي أحدًا، ولكنه يتقي من خلقه وهو الله عز وجل؛ لا يتقي الذنوب خوفًا من عيب الناس عليه، ولا يفعل الطاعات رجاءً لثواب الناس على ذلك، سواء كانت الطاعات من العبادات البدنية أو من العِلميَّة أو من غير ذلك، كل العبادات يجب أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذُكِر للإمام أحمد رحمه الله أن رجلًا قال لقوم: أنا لا أصلي بكم التراويح في رمضان إلا بكذا وكذا، فقال: نعوذ بالله، مَنْ يصلي خلف هذا؟
(٣)فاستعاذ منه رحمه الله، وقال: كيف؟ مَنْ يصلي خلف هذا؟
ولكن لا يُشكل عليك ما يأخذه الناس من رَصْد من بيت المال، فإن هذا لا بأس به؛ إذا أخذه الإنسان وهو غير مُشرِف ولا سائل فلا بأسَ به؛ أما إن كان سائلًا كما لو كتب فلان مثلًا: صليت في هذا المسجد شهرين، ثلاثة ما جاء الراتب، أو كتب يقول: زوِّدوا الرواتب أو ما أشبه ذلك، فهذا أخشى أن لا يحِل له ذلك؛ حتى فيمن سألوا زيادة الراتب من المعلمين وغيرهم، أنا أخشى أن يكون ذلك مُحبِطًا لأجورهم؛ لأن كل شيء تفعله لله يجب أن لا تريد به إلا الدار الآخرة، إلا ثواب الله عز وجل، أما أن تذهب تجادل للدنيا وأنت تعمل للآخرة فهذا خلاف العقل كما أنه خلاف الشرع.
قال:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٣١].
﴿اعْلَمُوا﴾ هذا أمْر بالعلم؛ العِلم الذي يجب أن يُثمر؛ ما هو مجرد العلم فقط، يجب أن يثمر؛ إذا علِمت
﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿كُلِّ﴾ من صيغ العموم؛ و
﴿شَيْءٍ﴾ كذلك، فإن كلمة (شيء) من أعم الأشياء، حتى أنها تقال حتى في العدم، كما قال تعالى:
﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان ١]، فشيء من أعم الكلمات؛ ومضاف إليها كل، إذن تعُمُّ كل شيء؛ الموجود، والمعدوم، والصغير، والكبير، وما يتعلق بفعله سبحانه وتعالى، وما يتعلق بفعل العباد، وما كان سرًّا، وما كان علنًا حتى ما في القلب يعلمه الله عز وجل.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق ١٦]، وفي ذكر قوله:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بعد الأمْر بالتقوى إشارة إلى أنه لا تَجْعل تقواك مخالِفة لما في باطنك، فإن الله تعالى عليم بما في ضميرك وما في قلبك، فإيَّاك أن تطيع الله في العلانية وتَعْصيَه في السر حتى ولو في قلبك، والله عز وجل يعلم ما في قلب الإنسان وما سيكون في قلب الإنسان ولَّا لا؟ وما سيكون في قلبه؛ إذن فهو أعلم بك من نفسك.
قال:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فعِلمه عز وجل محيط بكل شيء أزلًا وأبدًا، صغيرًا وكبيرًا، حاضرًا ومستقبلًا.
قال:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
وقوله:
﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ مفعول مُقدم لـ
﴿عَلِيمٌ﴾، أو لا؟ مفعول مقدم لعليم، جار ومجرور متعلق بعليم؛ فهل نقول: إن هنا فائدة التقديم الحصر؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: كيف ما في؟ ويش الفائدة من التقديم منها؟
* طالب: الحصر.
* الشيخ: مراعاة الفواصل لا شك في هذا، مراعاة الفواصل مقصودة في القرآن الكريم؛ لأن الفواصل إذا كانت على وتيرة واحدة لا شك أنها أصغى للسمع. ثم نقول: الظاهر -والله أعلم- أن الاختصاص هنا من باب أن الذي اختص بهذا العِلم العام هو الله؛ ولَّا كلمة
﴿بِكُلِّ شَيْء﴾ ما فيها حصر إطلاقًا؛ لكن لا عالِم بكل شيء إلا الله سبحانه وتعالى، أما المخلوق فعلمه محدود، محدود من كل ناحية من أوَّله وآخره وشموله، فمن أوله؛ لأن علم الإنسان مسبوق بالجهل
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل ٧٨]. أو لا؟ وعلمك الذي تعلمه اليوم قبل أمس معناه أنك كنت أمس جاهلًا به، كذلك هو محفوف بالنسيان، فهو مسبوق بجهل وملحوق بالنسيان.
ثم هو أيضًا ليس بشامل، ليس بشامل محصور ضيق جدًّا؛ حتى نفسه ما يعرف ماذا يكسب غدًا؛ ولكن الله عز وجل بكل شيء عليم.
ثم قال:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة ٢٣٢].
في هذه الآية إشكال من جهة الضمائر، نشوف:
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ الخطاب لمن؟
* الطلبة: للأزواج.
* الشيخ: للأزواج ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ الخطاب للأولياء، هذا هو المشهور؛ ولا مانع من تشتُّت الضمائر إذا كان ذلك معلومًا، لا مانع، كما أنه لا مانع من أن يكون الضمير عائدًا على السابق دون الذي يليه إذا كان ذلك معلومًا، مثل قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾ [الحج ٧٨] ﴿هُوَ﴾ يعود على مَنْ؟ على الله لا على إبراهيم.
فالحاصل أن تشتيت الضمائر إذا فُهِم المقصود لا بأس به، وقد يكون في تشتيتها فائدة؛ ما هي؟
انتباه الذهن؛ لأن المعروف أن الكلام إذا كان على وتيرة واحدة فإن الإنسان ينساب ذهنه معه، وربما ينسى ولا يتأمل، فإذا اختلفت الضمائر مثلًا أو اختلفت الصيغة كالالتفات فإنه ينتبه، يُفكِّر، يؤمِّل على من يرجع الضمير؛ إذا رجع على ما سبق اختلف المعنى؛ فالآية فيها أقوال:
القول الأول: ما أشرتم إليه أن قوله:
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ خِطاب للأزواج، وقوله:
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاب للأولياء؛ ولا مانع من تشتت الضمائر لوضوح المعنى.
والقول الثاني:
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ خِطاب للأزواج.
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاب للأزواج
﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾.
وبِناء على هذا الرأي يكون قوله:
﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ باعتبار ما مضى ولَّا ما يستقبل؟
* طالب: ما يستقبل.
* الشيخ: باعتبار ما يستقبل، وعلى الأول ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ باعتبار ما مضى، واضح؟
* الطالب: نعم، بالنسبة للضمائر.
* الشيخ: ما هو للضمائر، الأزواج أيضًا عندنا فيها معنيان؛ كلمة ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ هل للماضي أو للمستقبل؟ إذا قلنا ﴿فلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ إنه خطاب للأزواج، فالمراد بالأزواج المستقبل، وإذا قلنا: الخطاب للأولياء فالمراد بالأزواج من مضى.كيف يكون الزوج المطلِّق عاضلًا للزوجة المطلَّقة أن تنكح غيره؟
نقول: نعم، هذا موجود في الجاهلية يكون الرجل شريفًا وذا جاه، فإذا طلَّق المرأة ما حد يتعدى فيتزوجها من بعده، فإن فَعَلَ فيا ويله، وحينئذٍ تكون الآية نهى الله فيها عن أيش؟ عن حال كانوا يرتكبونها في الجاهلية؛ أن الزوج إذا طلق الزوجة ما يمكن يخليها تتزوج بعده، وهذا لا شك أنه ظُلم، لكن هذا واقع؛ وأظنكم قد مر عليكم حديث سعد بن عُبادة فيما لو وجد على امرأته رجلًا قال: لأضربنه بالسيف غير مُصْفَحٍ، فقال الرسول ﷺ:
«أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» »
(٤)فأخبره أصحابُه بأنه كان ذا غَيْرة -سعد بن عبادة- حتى إنه إذا طلَّق المرأة لا يتزوجها أحد من بعده، لكنه رضي الله عنه مو بيمنع الناس.
على كل حال إن هذا أمر موجود في الجاهلية فنهى الله عنه، وعلى هذا الرأي تكون الضمائر متشتتة ولَّا على نسق واحد؟ على نسق واحد.
فيه وجه ثالث في الآية: أن الخطاب لعموم الناس إذا طلقتم أيها الناس؛ وليس الخطاب للأزواج، فلا تعضلوهن أيها الناس، وعلى هذا فيُوجَّه المعنى لمن يصِح أن يُوجَّه إليه؛ وهذا القول من حيث إن الأُمَّة شيء واحد فالخطاب لها كأنه خطاب لكل فرد، هذا المعنى له قوة عظيمة، أن الله يخاطِب جميع العباد يقول: إذا طلقتم النساء فلا تعضلوهن. فهو يخاطب الناس باعتبار المجموع، لا باعتبار الجميع الذي يُقصد به كل فرد؛ أي أن الآية مُوجَّهة لكل الناس بقطع النظر عن زيد وعمرو فيكون المعنى: إذا طلقتم فلا تعضلوا؛ ويُنزَّل الطلاق على الزوج، والعَضل على مَنْ يتوجَّه منه العضل من الأولياء أو مِن الأزواج، وهذا المعنى له قوته.
وعلى كل حال فنرجع إلى الآية
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ما هو الطلاق؟
في اللغة: حلُّ القَيْد؛ أطلقتُ الناقة، وطلَّقتُها فَكَكْتُ قَيْدَها.
وفي الشرع: حَلُّ قَيْد النكاح أو بعضه، حل بعضه في الرجعية.
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الأجل هنا تمام العِدَّة بالاتفاق بخلاف الأجل في الآية التي قبلها؛ الأجل في الآية التي قبلها بمعنى: المقارَبة على رأي كثير من أهل العلم أو بمعنى بلوغ الأجل قبل الاغتسال، لكن هنا:
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: أتممن عِدَّتهن بالاتفاق.
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ الفاء هنا رابطة للجواب؛ لأيش رابطة للجواب؟
* طالب: طلبية؟
* الشيخ: لا؛ طلبية؟ الفاء طلبية، ويش هي؟
* طالب: لا ناهية.
* الشيخ: لا، ناهية ولَّا نافية؟ نافية بالفاء، ولا ناهية بالهاء؟
* الطلبة: بالهاء؟
* الشيخ: بالهاء، الدليل أنها ناهية؟
* طالب: جزم الفعل.
* الشيخ: جزم الفعل؛ لأنه محذوف النون، ما قال: فلا تعضلونهن؛ إذن هي طلبية ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ والعَضْل معناه المنع، أي: فلا تمنعوهن. وقوله:
﴿أَنْ يَنْكِحْنَ﴾ هذه (أن) مصدرية وهي وما بعدها مؤوَّلة بمصدر منصوب بنزع الخافض، والتقدير: من أن ينكحنَ؛ أي من نكاح أزواجهن، والنصب هنا بنزع الخافض مضطرد ولا سماعي؟
* طالب: مضطرد.
* الشيخ: ويش الدليل من كلام ابن مالك؟
* طالب:
وَعَــــــدِّ لاَزِمـــــًا بِحَـــــرْفِجَـــــــــــــــرِّ ∗∗∗ وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْــبُ لِلْمُنْجَـــــرِّ؎نَقْـــــــلًا وَفِـــــــي أَنَّ وَأَنْيَطَّـــــــــــرِدُ ∗∗∗ مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا
* الشيخ:
﴿يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ هنا أضاف النكاح إلى النساء؛ لأن المراد به العَقْد، والعقد حاصل من الطرفين فيقال: نَكَحَتِ المرأةُ الرجل ونَكَحَ الرجلُ المرأة؛ وأما الوطء فإنهم يقولون.. يقال: نَكَحَ الرجلُ زوجتَه؛ ويقال: نكح بنت فلان؛ أي عقد عليها؛ فإذا صار المراد بالنكاح العقد صحَّ أن يُطلق على الرجل وعلى المرأة.
وقوله:
﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ جمع زَوْج، وسُمِّي الزوج زوجًا؛ لأنه يَجعل الفرد اثنين بالعَقْد، فالزوج يشفع زوجته وهي كذلك.
وقوله:
﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ﴿إِذَا تَرَاضَوْا﴾ هنا قال:
﴿إِذَا تَرَاضَوْا﴾ ولم يقل: إذا تراضين تغليبًا لجانب الذكور، وإلا فإن الغالب أن الزوج راضٍ بذلك؛ لأنه خاطِبٌ سواء كان المطلِّق أو رجلًا جديدًا، لكن لما كان الرضا في عقد النكاح مشترط بين الرجل والمرأة غُلِّبَ جانب الرجال فقال:
﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
وقوله:
﴿تَرَاضَوْا﴾ تفاعلوا؛ أي حصل الرضا من الطرفين.
وقوله:
﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين الأزواج والزوجات.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الباء هنا للتعدية أو للمصاحبة؛ يعني إذا تراضوا رضًا معروفًا غير منكر شرعًا ولا عُرفًا؛ فإذا تراضى الزوج والزوجة سواء كان مُطلِّقًا أم خاطبًا بالمعروف الشرعي والعرفي فإنه لا يجوز أن يُعضل النساء من النكاح.
﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ الخطاب لِمَنْ؟
لكل من يصح خِطابُه، وقد يقول قائل: لماذا لم يقُل: ذلكم؛ لأنه يخاطب جماعة في قوله:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾؟
فيقال: إن اسم الإشارة إذا خُوطب به جماعة جاز أن يُذكر مفردًا ولو كانوا جماعة، وجاز أن يُراعى في ذلك المخاطَب؛ الكاف التي تتصل باسم الإشارة يجوز فيها لغةً ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: مُراعاة المخاطَب إن كان مُذكرًا ذُكِّرت، وإن كان مُؤنَّثًا أُنِّثت، إذا كان مُفردًا أُفردت، وإذا كان جمعًا جُمعت، وإذا كان مُثنى ثُنِّيت.
والوجه الثاني: أن تُفتح دائمًا، تكون بالإفراد والتذكير
﴿ذَلِكَ﴾ أيًّا كان المخاطب، فكأن المشير يقول: أُشير مخاطِبًا هذا الذي أمامي إلى كذا وكذا.
والوجه الثالث: أن تُذكر الكافُ مُفردة مكسورةً في خطاب المؤنث، مفتوحة في خِطاب المذكر؛ مثال هذا: عندك مثلًا جماعة من النساء تريد أن تُشير إلى شيء مذكر، مخاطِبًا إياهن فتقول؟
* الطلبة: ذلكن.
* الشيخ: ذَلِكُنَّ، كما قالت امرأة العزيز: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف ٣٢]؛ لأنها تشير إلى واحد مُذكِّر وهو يوسف، وتخاطب جماعة نسوة، فجعلت الضمير ضمير جماعة النسوة ﴿ذَلِكُنَّ﴾. ويجوز أن أقول في خطابهن (ذَلِكِ) بالكسر والإفراد؛ لأنني أخاطِب نساء؛ ويجوز أن أقول: (ذَلِكَ) بالفتح والإفراد؛ وكل هذا جاءت به اللغة، والأفصح مراعاة المخاطب، هذا هو الأفصح؛ ولهذا إذا جاءت على خلاف مُراعاة المخاطب لا بُدَّ فيها من تأويل.
هنا قال:
﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ المذكور واضح، المشار إليه مُفرد مذكر؛ لكن المخاطَب
﴿إِذَا طَلَّقْتُم﴾ جماعة ذُكور فيقتضي أن يقول أيش؟
* الطلبة: ذلكم.
* الشيخ: ذلكم، كما جاء كذلك في سورة الطلاق في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق ٢]. وهنا جاءت بالإفراد؛ لأن كِلا الوجهين صحيح.
وقوله:
﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ﴾ الموعِظة تقدم لنا أنها ذِكر الأحكام مقرونة بترغيب في الأوامر، وترهيب في النواهي، هذه الموعظة؛ لأن الإنسان يتعظ بها.
وقد تُطلق الموعظة على مجرَّد ذِكر الأحكام لما في الالتزام بها من الاتعاظ والذِّكرى، مثل قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء ٥٨].
على أن هذه الآية
﴿نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [النساء ٥٨] تشير إلى أيش؟
﴿نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي: الأمر بأداء الأمانة؛ فالحاصل أن هذا معنى الموعظة، ولا شيء أعظم موعظة من القرآن لمن كان له قلْب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأما من أعرض عنه ولم يرفع به رأسًا فإنه لا ينتفع به بل يكون عليه مرضًا، ولهذا هنا قيد
﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإنما خصه بمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأنه هو الذي يتعظ وينتفع
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس ٥٧] فالمؤمنون هم الذين ينتفعون.
وقوله:
﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ (...) لا بد من هذا كله، أما الإيمان باليوم الآخر فإن المراد به الإيمان بأن هذا اليوم كائن لا محالة؛ وقد ذكر شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية أنه يَدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أَخْبَر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت، وعلى هذا ففتنة القبر، ونعيم القبر أو عذابه تدخل في الإيمان باليوم الآخر.
ويَقْرِن الله عز وجل دائمًا بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أكبر ما يحث الإنسان على العمل؛ إذ مَنْ آمن بهذا اليوم الذي سيلاقي فيه ربه وسيحاسبه على عمله ويجازيه عليه فإنه سوف يعمل لهذا اليوم، وأما من أنكره هل يعمل؟ من أنكر هذا اليوم وقال: ما فيه بعث
﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية ٢٤] فهذا ليس بعامل.
فالإيمان باليوم الآخر هو أشد حادٍ للإنسان وحامل له على العمل، فِعلًا للمأمور وتركًا للمحظور.
وسماه الله اليوم الآخر؛ لأنه لا يومَ بعدَه؛ وهذا اليوم الذي يكون هو يوم لا ليلَ فيه؛ لأن الشمس والقمر تُكوَّران وتُلقيان في النار، فليس فيه إلا يوم فقط؛ ولهذا سماه الله اليوم الآخِر فلا يوم بعده.
الإيمان باليوم الآخر قلت: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن الإيمان به يتضمن كل ما أَخْبَرَ به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت فيتضمن فِتنة القبر، وعذابه، ونعِيمه، وقيام الناس حُفاة عُراة غُرلًا، ويتضمن وضع الموازين، ووزن الأعمال، وأخْذ الصحف، والصِّراط، ودُنوَّ الشمس من الناس، والعَرَق، والحوض، والشفاعة، كل ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من ذلك فإنه داخل في الإيمان باليوم الآخر.
قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ [البقرة ٢٣٢]
﴿ذَلِكُمْ﴾ شوف الآن أتى بالخطاب مُراعًى فيه المخاطب
﴿ذَلِكُمْ﴾.
﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ اسم تفضيل من الزكاء؛ والزكاء في الأصل التنمية ومنه الزكاة؛ لأنها تُنمِّي المال بإحلال البركة فيه وتُنمِّي الأخلاق بخروج الإنسان من طائفة البُخلاء إلى طائفة الكرماء؛ فالزكاة في اللغة: النماء.
﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ من أي ناحية؟ أزكى لكم في أعمالكم، ونُموِّها وكثرتها؛ لأنكم إذا اتعظتم بذلك أطعتم الله ورسوله، فزادت الأعمال، وزاد الإيمان أيضًا؛ لأن الإيمان حتى الإيمان اللي في القلب يزداد بامتثال الأمر واجتناب النهي لله عز وجل.
وقوله:
﴿ذَلِكُمْ﴾ المشار إليه أيش؟ هل هي الموعظة، أو ما ذُكِر من الأحكام، أو لازم الموعظة وهو الاتعاظ؟
يعني عندنا الآن أحكام: إذا طلقتم النساء فلا تعضلوهن، وعندنا موعظة، وعندنا حُكْم، وعندنا اتعاظ، فعلى أي شيء تعود هذه الإشارة؟ هل المعنى
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي عدم عضلكم أزْكى لكم؟ أو المعنى
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي اتعاظكم بهذه الموعظة أزكى لكم؟
* الطلبة: تشمل الجميع.
* الشيخ: تشمل الجميع؛ يعني ذلكم المذكور من الأحكام والموعظة، والاتعاظ أزْكَى لكم؛ كما قلت: اسم تفضيل من الزَّكاء وهو النماء. ﴿وَأَطْهَر﴾ أطهر من أين؟ أطهر من الفحشاء؛ لأنك ربما إذا عضلتَها من زوْجها الذي عاد فخطبها، وقد كان بينهما شيء من العلاقة من قَبْل ربما يُوسْوس لهما الشيطان فيحصُل منهما ما يحصل من الفاحشة؛ لأنه ما خَطَبَها ولا رَضِيَت به إلا وبينهما مودَّة ومحبة؛ فإذا عضلتموهن فربما يحصل ما يحصل من الفحشاء؛ ولهذا قال:
﴿أَطْهَر﴾.
وتأمل أن الله عز وجل يذكر فيما يتعلق بالفواحش من التنزُّه عنها يذكر أن ذلك أزْكَى لما فيه من العِفَّة وطهارة القلْب التي بها يزكو العمل والإيمان وينمو.
﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أطهر من أين؟
* طالب: من المعاصي.
* الشيخ: من المعاصي، أو التهم، أو ما أشبه ذلك. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الجملة هنا اسمية في إسناد الله العلمَ إلى نفسه، وفي نفي العِلم عن عباده.
قال:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ هذه جملة اسمية مُبتدِئة باسم.
وقوله:
﴿يَعْلَمُ﴾ حذف المفعول لإفادة العموم؛ لأنه إذا حُذف المفعول من الفعل المتعدي صار شاملًا لكل ما يحتمله، وهو يعلم الحاضِر والمستقبل والماضي، وما يُصلحكم وما لا يصلحكم، وماذا تمتثلون، ومن يمتثل مِنكم ومن لا يمتثل؛ المهم أنه عام.
وقوله:
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ هذا هو الأصل في الإنسان كما قال الله تعالى:
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ [النحل ٧٨].
فالأصل في الإنسان الجهل؛ ولهذا قال:
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ثم يُحصِّل العلم شيئًا فشيئًا ممن حوله ومما سمعه وشاهده حتى ينمو علمه؛ وعلى هذا فنفي العِلم هنا باعتبار أيش؟ باعتبار أصل الإنسان أنه ليس بعالم، وإلَّا فإن الإنسان يعلم كما قال الله تعالى:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٨٢]
فالإنسان لا شكَّ أنه يعلم؛ لكن الأصل فيه عَدَم العِلم لولا أن الله سبحانه وتعالى يُعلِّمه؛ ولا فرق في ذلك بين ما طريقه الوحي، وما طريقه الحِسّ، وما طريقه الفِطْرة؛ لأن طُرُق العِلْم مُتعددة؛ فالوحي من طرق العلم ولَّا لا؟ والحس من طرق العلم، وهو الذي يشاهده الإنسان بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يحسه بيده، أو بشمه، أو بذوقه؛ هذه من طُرق العلم؛ ومن طرق العلم أيضًا الفطرة فإن الإنسان مفطور على توحيد الله سبحانه وتعالى والإنابة إليه.
* * * قوله تعالى:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة ٢٣١].
* من فوائد الآية الكريمة: أن لكل طلاق أَجَلًا؛ لقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، وما هذا الأجل؟ الأجل هنا مُجمل، لكنه مُبيَّن في قوله تعالى:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وغيرها من الآيات الدالة على العِدَّة.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن يأتي مُجملًا أحيانًا ومُفصَّلًا أحيانًا، ويدل لذلك قوله تعالى:
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود ١].
وفائدة الإتيان بالإجمال ثم التفصيل فائدته: أنه إذا ورد النص مجملًا فإن النفس تتطلع إلى معرفة ذلك الإجمال، وبيان ذلك المُبهم فيكون ذلك أشدَّ لها طلبًا للعِلْم ولَّا لا؟
لكن لو جاءها الشيء بارزًا مُفصَّلًا من الأول ما يكون هناك معها شغف للوصول إلى العلم؛ فإذا ذُكر مُجملًا صارت النفس تتطلب الوصول إلى بيان هذا المجمل فيكون هذا طريقًا من طُرُق تثبيت العلم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز المراجعة بعد تمام العِدَّة؛ لقوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾، وجه الدلالة: أن قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ جواب للشرط في قوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُم﴾، ﴿فَبَلَغْنَ﴾؛ وهذا يقتضي أن يكون الإمساك أو التسريح بعد بلوغ الأجل.ضرورة أن المشروط يقع بعد الشَّرْط، المشروط اللي هو جواب يقع بعد الشرط؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن للزوج أن يُمسك حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، فلو طهُرت في الصباح بعد الفجر بعد أن طلعت الشمس ثم لم تغتسل إلا لصلاة الظهر؛ وراجعها زوجها فيما بين طهارتها واغتسالها فهو عند الإمام أحمد جائز وله أن يراجع؛ ولكن كثيرًا من أهل العِلم يرون أنه ينتهي وقت المراجعة بالطهارة من الحيضة الثالثة، وعلى هذا الرأي يحتاجون إلى تأويل قوله:
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إلى أن المعنى: قاربن البلوغ حتى يتمكن الزوج من المراجعة.
ولكن ما ذهب إليه الإمام أحمد هو الصحيح؛ لأنه هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم، ويكون هذا من باب التوسيع على الزوج؛ لأنه قد يندم فيرجع؛ وهو نظير ثبوت الخيار بين المتبايعين ما داما في المجلس وإلا فإن العقد قد تم بالإيجاب والقبول، لكن لهما الخيار ما داما في المجلس توسعة عليهما، وهذا شيء معلوم في غريزة الإنسان وطبيعته أنه إذا مُنِع من الشيء صار في شوق إليه، فإذا حصَّله قد يزهَد فيه، فهذه السلعة عند فلان مثلًا أنا تجدني في شوق وشفقة إلى الحصول عليها، فإذا دخلت في مُلكي ما يكون في قلبي لها من الشوق مثل ما كان قبل ذلك. وعلى هذا فيكون الصحيح ما قاله الإمام أحمد رحمه الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب المعاشرة بالمعروف حتى بعد الطلاق؛ لقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ لئلا يؤذي الإنسان زوجته بالقول، أو بالفعل، أو بمنع الحقوق، أو ما أشبه ذلك. ومنه نعرف أن ما يجري بين الأزواج أحيانًا من المشاحَّة وادِّعاء الزوج ما يكون لزوجته من الأمتعة التي أعطاها إياها في المهر، أو فيما بعد ذلك؛ تجده مثلًا عند الطلاق يشاحنها يقول لها: أعطني كل شيء حتى إن بعضهم يطالبها بالحُلي الذي أعطاها، نسأل الله العافية، فهذا خلاف المعروف الذي أمر الله به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عِناية الله عز وجل بعباده في أن يتعاملوا بينهم بماذا؟ بالمعروف سواء في حال الاتفاق، أو في حال الاختلاف؛ لأن ذلك هو الذي يُقيم وَحْدة الأمة؛ فإن الأُمَّة إذا لم تتعامل بالمعروف بل بالمنكر تفرَّقت واختلفت، ولم تكن مُمثِّلة للأمة الإسلامية حقيقة؛ الأمة الإسلامية أُمَّة واحدة كما قال الله تعالى:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران ١٠٣].
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم إمساك الْمُطلَّقة للمضارَّة؛ لقوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾. فهل يُستفاد منه أن كل من عامل أخاه ضِرارًا فهو واقِع في الإثم؟ نعم، قياسًا على هذه المسألة؛ يُستفاد من هذا بالقياس: أنه لا يحل لأحد أن يعامل أخاه المسلم على وجه المضارة، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»(٥) وجاء في الحديث الآخر:
«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» »
(٦) فالمضارة بين المسلمين مُحرَّمة؛ ولهذا قال الله:
﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المضارَّة عدوان؛ لقوله: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ سواء كانت اللام للعاقبة، أو كانت اللام للتعليل؛ يعني سواء كان الإنسان قصد في المضارة الاعتداء أو لم يقصدها، لكن هي نفسها عدوان.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن النفسَ أمانة عند الإنسان يجب أن يرعاها حق رعايتها؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾. ومنها: تحريم ظُلم الإنسان نفسَه؛ لأن الله نهى ثم قال: من فعل ذلك فقد ظلم نفسه.
* ومن فوائدها: أن فِعل المعاصي ظُلم للنفس، لا يقول الإنسان: أنا حُرّ، بأفعل، ويش عليكم أنا صابر على العذاب؛ نقول له: خطأ؛ فأنت لا يحل لك أن تظلم نفسك؛ إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ» »(٧) في حصول المطلوب، فكذلك في النجاة من المرْهوب، ابدأ بنفسك، كما أنك تعلم أن ظلم الغير عدوان وحرام؛ فظلم نفسك أيضًا عدوان وحرام. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير البالغ من العدوان على الغير؛ حيث قال: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ لأن الظالم لغيره قد يَتصور في مَخيلته أنه ظالم لهذا الْمُعتدَى عليه، وهو في الحقيقة ظالم لنفسه. هل يمكن أن نأخذ منها أنه يجب على الإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: كيف ذلك؟ لأنه جَعَلَ ظُلم الغير ظُلمًا للنفس، وعلى هذا فكما أنك لا تُحب أن تظلم نفسك فيجب أن لا تظلم غيرك؛ كما أنك إذا تبيَّن لك أنك في ظُلم غيرك معتدٍ، فأنت في ظُلم نفسك كذلك معتدٍ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم اتخاذ آيات الله هُزُوًا؛ لقوله: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾. ومنها: أن المخالفة نوع من الهُزْء؛ وهذه مسألة خطيرة جدًّا؛ مخالفة أمر الله والوقوع في ما نهى عنه نوع من الهزء؛ كيف ذلك؟
لأنك إذا آمنت بأن الله عز وجل هو الرب العظيم الذي له الحكم وإليه الحكم ثم عصيته كأنك تستهزئ بهذه العَظمة وتستهتر بها، لو أن ملكًا من الملوك -ولله المثل الأعلى- نهاك عن شيء، ثم إنك أمامه وفي عينيه تُخالف هذا الأمر ألا يمكن أن يقول لك: أنت تستهزئ بي؟ أنا أمرتك تخالف أمامي؟ أو أنهاك تفعل ما نهيتك عنه أمامي؟
فالمعصية نوْع من الاستهزاء بالله عز وجل، وإن كانت ليست النوع الذي يخرج به الإنسان من الإسلام؛ لأن النوع الذي يخرج به الإنسان من الإسلام في الاستهزاء أن يستهزئ حقيقة سُخريًّا، مثل أن يسخر بالأذان، يقول: لأيش الأذان؟
الأذان من قبل اليوم، الناس ما عندهم ساعات، أما الآن ما حاجة إلى الأذان؛ هذا يعتبر تحصيل حاصل ولا حاجةَ إليه، أو يسخر بالمؤذن كيف يقوم ويرفع صوته بهذا النداء؛ أو يسخر بالمصلين، هذا مُخرِج عن الملة؛ فالاستهزاء بحُكم من أحكام الله غير مخالفة الحكم؛ مخالفة الحكم نوْع من الاستهزاء كما أنها نوْع من الشرك، لكنها غير الشرك الذي يُصطلح عليه؛ وليس بالاستهزاء الذي يخرج من الملة؛ إنما المخالفة لا شك أنها نوع من الاستهزاء كما قال تعالى:
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب ذكر نعمة الله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾. وهل المراد ذِكرها في نفسك بأن تتذكرها وتُفكِّر فيها وتؤمِّل فيها، أو ذكرها أمام الناس بالقول، أو ذكرها أمام الناس بالفعل؟
يشمل الجميع، لكن ذكرها أمام الناس سواء كان بالقول أو بالفعل يجب أن لا يكون على سبيل الافتخار عليهم؛ فإن كان على سبيل الافتخار عليهم فإن الله لا يُحب كل مختال فخور، يجب أن يكون من باب إظهار فضل ذي الفضل، وأن الله عز وجل أنعم عليه بهذه النِّعمة، كما لو كان الإنسان قويًّا فأظهر نِعمة الله عليه بالقوة، بالشجاعة، والمدافعة، وإعانة الرجل في دابته، وما أشبه ذلك، أو تَحدَّث بنِعمة الله، قال: الحمد لله، أنا في قوة وفي صحة، وأعطاني الله تعالى مالًا، أعطاني ولدًا، وما أشبه ذلك على سبيل إظهار نِعمة الله عز وجل، لا للافتخار على الخلق؛ فهذا داخل في الآية:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
وأما ذِكرها في القلب فظاهر يكون الإنسان دائمًا محتقرًا لنفسه أمام نعم الله، عالمًا بأنها محض مِنَّة من الله عز وجل؛ لا يكون كالذي قال:
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص ٧٨] بل يقولها بقلبه، وكذلك يتحدث بها بلسانه بأن هذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى لو شاء لسلبك هذه النعمة، كما أنه سلبها أناسًا كثيرين تعرفهم أو لا تعرفهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مِنَّة الله علينا بإنزال الكتاب والحكمة أعظم من كل نِعمة؛ من أين تؤخذ؟ من تخصيصها بعد التعميم؛ لأن التخصيص بعد التعميم يدل على فضْل المختص؛ وعلى هذا فما أنزل الله علينا من الكتاب والحكمة أعظم مِنَّة مَنَّ الله بها علينا وأعظم نعمة؛ وذكر نعمة الله بما أنزل علينا سبق لنا أن المراد أن تُثني على الله بذلك، وأن تقوم بتنفيذ ما أمرك به وما نهاك عنه.
قوله تعالى:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾.
قلنا: إنه يستفاد من الآية الكريمة: أن ما أنزل علينا من الكتاب والحكمة أعظم من كل نِعمة؛ ووجه ذلك: التخصيص بعد التعميم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ لأن ما أنزله الله إما أن يكون عينًا قائمة بنفسها، أو صفة قائمة في عين ففي هذه الحال يكون مخلوقًا، وأما إذا أُطلِق الإنزال، وليس عينًا قائمة بنفسها، ولا وصفًا في عين قائمة بنفسها فهو من صفات الله عز وجل.مثال العين: قوله تعالى:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [البقرة ٢٢]
﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد ٢٥].
مثال الوصف في عين قائمة:
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ [الفتح ٤].
فأنزل السكينة، السَّكِينة هذه صفة في قلْب المؤمن، والمؤمن عيْن قائمة بنفسها فتكون هنا مخلوقة، السكينة مخلوقة وكذلك الحديد والماء النازل من السماء مخلوق، أما هنا الكتاب، فالكتاب كلام الله عز وجل، والكلام صِفة في المتكلِّم، فإذا قال الله إنه أنزل علينا الكتاب عُلم أن هذا الكتاب من صفات الله عز وجل؛ فيكون من كلامه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن شريعة الله عز وجل كلها حِكمة؛ لقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾. ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي: أنه لا حاجةَ إلى أن نسأل عن الحكمة في تشريع بعض المشروعات التي نجهل حكمتها؛ لأن من الأشياء المشروعة ما لا نعلم حكمته، لو قال قائل: ما الحكمة في كون صلاة الظهر أربعًا لا ثمانيًا ولا سِتًّا؟ ويش الرد؟
* الطالب: ما نعلم الحكمة.
* الشيخ: ما نعلم الحِكمة؛ طب وهل لها حكمة؟ نعم لها حِكمة، لكننا لا نعلمها؛ ولهذا كان الواجب على المسلم من أحوال أحكام الشرعية أن يكون مُستسلمًا لها مُطلقًا؛ سواء علِم الحكمة أم لم يعلم، فأما من لم يستسلم ولم يطمئِنَّ للحُكم إلا بعد معرفة حكمته ففي الحقيقة أنه ما تعبَّد لله بشرعه وإنما تعبد بماذا؟ بهواه؛ سألت مُعاذةُ عائشة رضي الله عنها قالت:
«ما بالُ الحائض تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاةَ؟ » ما قالت: الحكمة كذا وكذا، قالت:
«كان يُصيبُنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤْمر بقضاء الصلاة. »(٨) هذه الحكمة.
فإذن أحكام الله عز وجل ليس من حقنا أن نسأل عن حكمتها بِناءً على أنه لا يتم استسلامنا لها إلا بمعرفة الحكمة؛ أما السؤال عن الحِكمة من باب الاسترشاد، فإن هذا لا بأس به؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن حِكمة بعض الأشياء
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة ١٨٩].
فالسؤال عن الحِكمة استرشادًا هذا لا بأس به، بل هو من طلَب العلم؛ والسؤال عن الحكمة بحيث لا يَستسلم الإنسان للحُكم ولا ينقاد إلا بمعرفتها فهذا خطأ.
ويُستفاد من الآية الكريمة: أن ما جاء في كتاب الله فإنه موعظة يتعظ بها العبد، والاتِّعاظ معناه أن الإنسان يجتنب ما فيه مضرَّة إلى ما فيه منفعة؛ وَعَظْتُه فاتَّعظ؛ يعني انتفع وتَرَكَ ما فيه المضرة إلى ما فيه المصلحة، وهذا مأخوذ من قوله:
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: ثبوت رحمة الله عز وجل؛ وأن الله تعالى ذو رحمة واسعة؛ من أين تؤخذ؟ مِن إنزال الكتاب والحكمة؛ لماذا؟
لمصلحتنا لِنتعظ به؛ فرحمة الله تُعرف بآثارها.
ويستفاد من الآية الكريمة: وجوب التقوى؛ لقوله:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. وقد سبق تعريفها أنها امتثال أمْر الله واجتناب نهيه.
* ومن فوائدها: عُموم عِلْم الله لكل شيء؛ لقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. ومن فوائدها أيضًا: التحذير؛ تحذير المرء من المخالفة، ما وجهه؟
* طالب: أن الله بكل شيء عليم.
* الشيخ: أنه إذا علِم بأن الله بكل شيء عليم حذِر من مخالفته؛ ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا﴾ وصدَّر ذلك بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ للتنبيه؛ لأنه إذا قيل: اعْلم كذا فهو زيادة تنبيه. وهذا كقوله في آخر السورة: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٨٢] فيُعْقب الأمر بالتقوى لبيان إحاطة علمه بكل شيء حتى نحذر ولا نتهاون. وفي الآية ردٌّ على غُلاة القدريَّة الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العِباد حتى تقع منهم؛ لكن هذا كان الغلاة يقولونه قديمًا، قال شيخ الإسلام: ومنكروه اليوم قليل؛ إنكار العلم قليل، لكنهم -كما تعرفون، أي القدرية- يقولون: إن للعبد مشيئة وقُدرة مستقلة عن الله عز وجل.
ثم قال تعالى:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إلى آخره.يستفاد من هذه الآية ومما قبلها: شدة عناية الله سبحانه وتعالى بأمر النكاح والطلاق؛ لأنه من أهم العُقود وأخطرها؛ ولهذا جاء فيه من التفاصيل ما لم يأتِ في غيره.
ويُستفاد من الآية الكريمة: أنه لا نِكاح قبْل انقضاء العِدَّة؛ لقوله:
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وهو كذلك فإن النكاح في العِدَّة باطِل إلا ممن كانت العِدَّة له، يمكن؟
* الطالب: نعم.
* الشيخ: يمكن، كيف ذلك؟
* الطالب: طلقة رجعية.
* الشيخ: لا، هذا ما هو نكاح، لو طلقها على عِوض، خُلع؛ ففي هذه الحال تَبِينُ منه ولا يمكن يُراجعها بمجرد: راجعت زوجتي، بل لا بد من عَقْد، والعقد هنا جائز ولَّا لا؟ نعم جائز؛ لأنه ممن له العِدة.
أما من غيره فإنه لا يحل العقد. وهل تحل به المرأة؟
الجواب: تحِل بعقد بعد انقضاء العدة؛ وقال بعض العلماء: إنها لا تحِل، ولو بعد انقضاء العدة لمن تزوجها وهي في العدة، والصحيح أن ذلك يرجع إلى رأي القاضي، وأنه إذا رأى حِرمان هذا الذي تزوجها في عدتها حرمانه منها مُطلقًا فله ذلك كما يُذكر عن عمر رضي الله عنه
(٩)؛ لأن القاعدة المعروفة الشرعية: مَن تعجَّل شيئًا قبل أوانه على وجه مُحرَّم عوقب بحرمانه.
فللقاضي أن يمنعه من النكاح بها مطلقًا، يقول: ما يمكن يتزوجها؛ لكن جمهور أهل العلم على حِلِّها لهذا الذي عَقَدَ عليها بعد انقضاء العدة.
ويُستفاد من الآية الكريمة: تحريم منع الولي مَوْلِيَّتَهُ أن تنكِح من رضيته؛ لقوله:
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾.
ويُستفاد منها أيضا: أن النكاح لا بُدَّ فيه من ولي، وأن المرأة لا تُزوِّج نفسَها؛ وجهه؟
* الطلبة: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾.
* الشيخ: وجهه من هذه الجملة أنه لو كانت تملِك العقد لنفسها ما كان لِعضل وليها تأثير، ما كان له تأثير، عَضَل أو لم يعضُل تبغي تزوج نفسها؛ فلولا أن عضله مُؤثر ما قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾. هكذا استدل كثير من أهل العلم بهذه الآية؛ وربما يُنازِع مُنازِع في دلالتها على ذلك؛ لأنه قد يقول: إن الله نهى عن منعهن، والإنسان قد يمنع بحسب العادة والعُرف ابنته أو مَوْلِيَّتَهُ من أن تنكح زوجًا آخر، وإن كان ذلك يمكنها أن تتزوج هي بنفسها؛ لأنها لا تريد أن تخالفه مخافة الْمَعَرَّة، واللوم من الناس؛ يقال: منعها أبوها وراحت تزوج نفسها؛ يعني بمعنى أن الآية ليست واضحة صريحة في أنه لا يمكن النكاح إلا بولي؛ لأنه من الممكن أن يكونَ لها حق تزويج نفسها لكن يأتي أبوها ويقول: إن زوجتِ نفسك قتلتك؛ ممكن، يكون عَضَلَها مع أنه يُمكن أن تَزَوَّج؛ كما لو قال لها: إن بعتِ بيتَكِ قتلتُكِ مثلًا؛ صار مَنَعَها أن تبيع البيت أو لا؟ لكن لو باعته صح البيع ولها ذلك.
* طالب: والجواب على ذلك، يا شيخ؟
* الشيخ: الجواب أنه إذا وُجد الاحتمال سقط الاستدلال، ولكن هناك آيات أخرى تدل على اشتراط الولي مثل قوله: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة ٢٢١] وفيها أيضًا من فوائد الآية: إطلاق الشيء على ما مضى أو ما يُستقبل مع أنه في الحال لا يَتَّصف به؛ قوله:
﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة ٢٣٢]؛ لأنه إن كان المراد من طُلِّقت ثم أراد زوجها أن يعود عليها فهم أزواجهن باعتبار ما مَضَى؛ وإن كان المراد الخطّاب فهم أزواجهن باعتبار المستقبل.
وقد جاء التعبير عن الماضي والمستقبل في القرآن:
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء ٢] مع أنهم حين إتيان المال قد بلغوا وزال عنهم وصف اليتم.
﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف ٣٦] وهو لا يعْصر الخمر، لكنه يعصر عنبًا يكون خمرًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اعتبار الرِّضا في العقد في النكاح سواء كان من الزوج أو من الزوجة؛ لقوله: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.والرِّضا شرط لصحة النكاح سواء كانت الزوجة صغيرة أو كبيرة، وسواء كان المزوِّج أباها أم غيرَه على القول الراجح؛ وأنه ليس للأب ولا لغيره أن يُجبر المرأة على النكاح لعُموم قول النبي ﷺ:
«لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». قالوا: كيف إذنها يا رسول الله؟ قال:
«أَنْ تَسْكُتَ» »
(١٠) وورد في صحيح مسلم:
«البِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا» »
(١١) وهذا صريح في أنه لا يحل لأحد أن يُزوِّج ابنته وهي كارهة، بل لا بُدَّ من رضاها؛ والمعنى يقتضيه أيضًا؛ لأنه إذا كان الأب لا يملك أن يبيع حبَّة من مالها إلا برضاها، فكيف يملِك أن يبيع نفسها بدون رضاها؟!
لو أن الرجل أكره ابنته على أن تشتري هذا البيت ويش حكم العقد؟
غير صحيح؛ مع أنه بإمكانها إذا اشترت البيت وهي كارِهة أن تبيعه، أن تبيعه بعد يوم أو يومين؛ فكيف يملك أن يُكرهها على أن تتزوج برجل لا تريده؟!
الشريعة ما يمكن أن تأتي بإباحة هذه وتحريم البيع، هذا بعيد؛ لأنا نعلم أن الشريعة جاءت من لدن حكيم خبير جل وعلا؛ فالصواب بلا شك أنه لا يحل لإنسان أن يُجبر ابنته البالغة على نكاح لا تريده مهما كان، لكن إذا أرادت إنسانًا ليس مرضِيًّا في دينه وخلقه فللولي أن يمنع، وفي هذه الحال لو بقيت لم تتزوج طول عمرها فليس عليه شيء؛ لأنه مأمور بذلك، وما ترتب على المأمور فغير محظور، فإن قلت: يرد على ما قلت تزويج أبي بكر عائشة بالنبي ﷺ ولها ست سنين؟ ويش تقول لهذا؟
نقول: هات زوجة مثل عائشة وزوجًا مثل النبي عليه الصلاة والسلام ونحن نقول: زوجها ولها سنتان، لكن أين هذا؟!
هل يُعقل أن عائشة تُعارِض لو بلغت عشرين سنة تعارض بزواجها من الرسول الله ﷺ؟
* الطلبة: لا يمكن.
* الشيخ: أبدًا؛ بل لما خيَّرها بأمر الله، أول من خير من نسائه ويش قالت؟ قالت: أختار الله ورسوله، لما قال:
«شَاوِرِي أَبَوَيْكِ»، خاف عليه الصلاة والسلام أن تستعجل فتقول: اخترت نفسي،
«قالت: يا رسول الله، أَفِي هذا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ »(١٢)، القصة معروفة.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب ٢٨] أعطيكُنَّ متاعًا، وأسرِّحْكُن سراحًا جميلًا بقول لين لطيف، وفي أمان الله
﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ [الأحزاب ٢٩] فهذا إحسان عظيم
﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أول من بدأ عليه الصلاة والسلام، شوف امتثاله لأمر ربه ﷺ؛ ما راح يبدأ إلا بأغلى النساء عنده، وأحب النساء إليه.
وهي أيضًا أشبّ نسائه، بمعنى أنها قد تختار الحياة الدنيا وزينتها، فاجتمع في حقها السبب المقتضي لاختيار الدنيا، وشدة الأمر على رسول الله ﷺ لو أنها اختارت الدنيا، مع أن المصلحة لها لمّا خيّرها قال:
«لَا عَلَيْكِ أَنْ تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، يعني تستشيري أبويك، خاف أن تتعجل وتتسرع، لكنها رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أفي هذا أسْتَأمِرُ أبَوَيّ؟ إني أريدُ اللهَ ورسولَهُ والدارَ الآخرَةَ »
(١٣)، فانظر إلى ما حصل من أن المرأة حتى بعد بقاء العقد يمكن أن تُخَيَّر، فالمهم أنه لا يمكن أن تُجبر امرأة على نكاح من لا تريد، والاستدلال بحديث عائشة استدلال في غير محله؛ لأن عائشة -كما تشاهدون- خُيِّرت واختارت أيش؟
* الطلبة: الله ورسوله.
* الشيخ: اختارت الله ورسوله، فمن اختارت الله ورسوله بعد أن خُيِّرت هل يمكن أن تعارض في أن يتزوجها الرسول ﷺ؟ أبدًا، مع أن الغيرة في النساء إذا خُيِّرت وقال لها زوجها: تبغين تقعدين عندي على التقشف وعلى ما أنا عليه من العيش، أو تبغين الدنيا تروحين لفلان وفلان، الغالب على المرأة أنها تأخذها الغيرة وتزعل، تقول: اللي ما يبغينا ما نبغيه، ومن باعنا بالرخص بعناه ببلاش، لكن على كل حال الصحيح بلا شك أنه لا بد من رضا الزوجة، وأدلتها من القرآن والسنة واضحة. ويُستفاد من الآية الكريمة: أن المرأة لو رضيت الزوج على وجه غير معروف، بل على وجه منكر لا يقره الشرع فإنها لا تُمَكَّن من ذلك؛ لقوله:
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، فلو أن المرأة رضيت هذا الخاطب لفسقه وانسلاخه من الدين، لكن ما وصل إلى حد الكفر، فهل لوليها أن يمنع؟ نعم له أن يمنع؛ لقوله:
﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾. ولو قالت: رضيت به بلا مهر، أنا أبغيه بلا مهر لا تأخذ منه شيء، له أن يمنعها؟ له أن يمنعها؛ لأنه من شرط صحة النكاح المهر، ولهذا إذا شُرِط نفي المهر فالصحيح أن النكاح باطل، أما إذا سُكِت عنه فالنكاح صحيح ولها مهر المثل،
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾،
﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، فهنا فرق بين أن يُسكت عن المهر وبين أن يُشرط عدم المهر.
ويستفاد من الآية الكريمة: أن الحِكَم أو أن الأحكام كلها مواعظ؛ لقوله:
﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾،
﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه -كما تقدمنا في التفسير- كل ما سبق من ذكر الأحكام يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
ومن فوائدها أيضًا: أن مواعظ القرآن لا تنفع غير المؤمنين؛ لقوله:
﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فإذا وجدت نفسي لا أتعظ بمواعظ القرآن فيجب أن أتهمها، يجب أن أتهمها، كيف؟ تقول: لِمَ ويش الدليل؟ لأن الله بيّن أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا بد أن يتعظ بأحكام القرآن، فإذا وجدت من نفسك أنك لا تتعظ فاتهمها، فتِّش، قد يكون في القلب شيء أخل به، ولا تعتمد على الرسوم الظاهرة، لا تعتمد على إصلاح الصلاة ظاهرًا بالحركات والأقوال، ولا على كثرة الذكر باللسان؛ لأن هذا أحيانًا لا يصل إلى القلب، فلا ينتفع به، قد نصلي وقلوبنا غير حاضرة، حينئذ ما ننتفع بالصلاة، يكون يحول بين هذا السقي وبين عروق الشجرة حجر أصم لا ينفذ الماء من ورائه، ونحن نحس بذلك عندما نقرأ قول الله تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت ٤٥]، بالله عليكم هل أنت إذا سلّمت من الصلاة تشعر بأنك تكره الفحشاء والمنكر أكثر مما تكرهها قبل أن تصلي؟ الجواب؟
* طالب: لا.
* الشيخ: الجواب لا، لنكن صريحين، الجواب لا، إلا أن يشاء الله، أحيانًا يجعل الله عز وجل في القلب نورًا يحضر جدًّا في الصلاة حتى كأنك تخاطب الله سبحانه وتعالى، وأنت تخاطبه لا شك، لكن يحضر القلب فيجد الإنسان من هذه الصلاة لذة لا ينساها، ويجد بعد انصرافه كراهة للفحشاء والمنكر وحبًّا للخير، ويود أنه يبقى مع الله دائمًا في هذه الحال، فلهذا أنا أقول: إننا يجب أن نحاسب أنفسنا بمثل هذه الموازين، هل مواعظ القرآن هل ننتفع بها؟ ننظر، كلما كنا أشد انتفاعًا بمواعظ القرآن فنحن أكمل إيمانًا، وكلما نقصنا فالإيمان ناقص. وفي الآية دليل على إثبات اليوم الآخر وهو يوم القيامة،
﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويشمل الإيمانُ باليوم الآخر يشمل الإيمانَ بكل ما ذُكر في ذلك اليوم من البعث والحساب والصراط والحوض ودنو الشمس والعرق وغير ذلك مما ذُكر في الكتاب والسنة مجملًا أحيانًا ومفصلًا أحيانًا؛ بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه يدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت حتى فتنة القبر وعذاب القبر ونعيم القبر، وسمي ذلك اليوم اليوم الآخر، مر علينا نعم،
﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ تزكية تنمي النفس، تنمي الإيمان، تنمي الأخلاق، تنمي الآداب، فهنا قال: ﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ ولم يقيِّد محل الزكاء؛ ليكون ذلك عامًّا في كل شيء، وكل إنسان يطلب الزكاء، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس ٩، ١٠] إذن فيستفاد من ذلك: أنه كلما كان الإنسان أشد تطبيقًا لأحكام الله كان ذلك أزكى له. ويستفاد من ذلك أيضًا: أن تطبيق الأحكام أطهر للإنسان، أطهر لقلبه ولّا لبدنه؟
* الطلبة: لقلبه.
* الشيخ: لقلبه؛ لأن بعض الأحكام ما لها تعلق بتطهير البدن، الوضوء والغسل فيه تعلق لتطهير البدن لكن بعضها ليس فيه، لكن أطهر للقلب، ولكن ثِق بأنه كلما طهر القلب طهر البدن، ولذلك تجد عند الإنسان المؤمن حقًّا عنده من الحيوية والنشاط والسرور والفرح ما ليس عند غيره، يُعرف ذلك في وجهه، الإنسان - والعياذ بالله - صاحب المعاصي مظلم الوجه، كاسف البال، لو فرح بما فرح من زهرة الدنيا أحيانًا فهو فرح خادع، لكن المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام وامتلأ قلبه بنور الله وهدايته ليس كذلك، فقد نقول أيضًا: إن طهارة القلب؛ بل نقولها، ما هو قد، نقول: إن طهارة القلب لا شك أنها تطهر البدن، وأسعد الناس بالدنيا أطهرهم قلبًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى نقص الإنسان في علمه؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ووجه النقصان، أو وجه إثبات نقصانه بطريقين: إثبات العلم لله، ونفيه عن الإنسان؛ لأن النفي فقط ما يدل على شدة النقص، لكن نفي مع إثبات أشد، فمثلًا أنا إذا قلت لك: أنا أعلم وأنت ما تعلم، أشد وقعًا في قولي: أنت لا تعلم، ولهذا من أدب إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أبيه أنه قال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم ٤٣]، ما قال: إني أعلم منك، أو إنك ما عندك علم، فالمراتب ثلاثة، تارة يقول الإنسان: أنا عندي من العلم ما ليس عندك، وهذا ألطف ما يكون؛ لأن هنا يُشعِر بأن لدى المقابل علمًا، لكن أنا عندي ما ليس عندك، ولا يلزم من قول الإنسان لغيره: أنا عندي من العلم ما ليس عندك، أن يكون أعلم منه؛ لأنه قد يكون عندي علم مثلًا بالنجارة وأنت ما عندك علم بالنجارة، لكن عندك علوم أخرى أكثر من النجارة، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: ثانيًا: أن يقول: أنت لا تعلم هذا الشيء، وهذه أشد من الأولى؛ لأنه نفى عنه العلم، وتارة يقول: أنا أعلم وأنت ما تعلم، هذه أشد؛ لأن فيها إثبات فضل المتكلم على المخاطَب، وفيها انتقاص أيش؟ المخاطَب، وهنا قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فإذا كان الله يعلم ونحن لا نعلم فإن مقتضى ذلك أن نستسلم غاية الاستسلام لأحكامه سبحانه وتعالى، وأن لا نعارضها بعقولنا مهما كانت العقول إذا خالفت الشرع فليست بعقول حقيقة، ولهذا ينعى الله عز وجل على الكفار والمشركين ينعاهم بعدم العقل، فكل ما خالف الشرع فليس بعقل، نسميه ذكاء وعقل إدراك، ولكنه ليس عقل تصرف ورشد، وما أحسن عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في أهل الكلام: إنهم أُوتُوا فهومًا ولم يُؤْتَوا علومًا، عندهم فهم لكن ما عندهم علم، وأُوتُوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، أوتوا ذكاء؛ عندهم ذكاء عندهم فهم لكنهم حُرِمُوا من العلم ومن الزكاء الذي هو ثمرة العلم، ترى ولم يؤتوا زكاء، من أين؟ من التزكية الزكاء، المهم أن الله بيَّن لنا في هذه الآية كماله جل وعلا ونقصه، وما أحسن مثل هذا الجمع أن يبيّن نقص الإنسان وكمال الخالق، أن يبين نقص المخلوق وكمال الخالق، اقرأ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام﴾ [الرحمن ٢٦، ٢٧]، ولهذا ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ وإن كانت آية مستقلة لكن مرتبطة بما قبلها ارتباطًا وثيقًا حتى يتبين كمال هذا ونقص هذا، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ والله عز وجل لا يريد من هذه الآية أن يبين أن الناس فانون، أو أن الناس يفنون، إنما يريد بيان نقص البشر أو نقص الخلق وكمال الخالق، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام﴾، هنا يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، والنفي هنا قد يقول قائل: هل هو سلب مطلق أو سلب إضافي؟
* طالب: إضافي.
* الشيخ: إي نعم إضافي نسبي، وليس سلبًا مطلقًا؛ لأن لدينا علمًا لكن ناقص كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥]، فنحن عندنا علوم ولكنها قليلة ولا تُنسب إلى علم الله سبحانه وتعالى، ثم قال الله سبحانه تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾..
* طالب: (...) الأولى؟
* الشيخ: أو المعروف؟ المعروف واجب والإحسان سنة، ذكرنا هذا.
* طالب: الفاء في قوله تعالى: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ على ماذا تدل؟
* الشيخ: على ماذا عُطفت؟
* الطالب: على ماذا تدل؟
* الشيخ: على أنه من حين ما تبلغ أجلها فهو إما إمساك أو تسريح.
* * * (...) حتى نعرف ويش نقول.
المفوضة الذين يقولون: إننا نقرأ آيات الصفات وأحاديثها ولا نقول فيها شيئًا، لا نثبت معنى خلاف الظاهر ولا معنى يوافق الظاهر، بل نفوض أمرها إلى الله، ونقول: ما علينا إلا التلاوة فقط، وأنها بمنزلة ألف باء تاء ثاء جيم حاء خاء إلى آخره، كأنها حروف هجائية ما لها معنى، على أن بعضهم -بعض المفوضة- يتناقض ويقولون: نحن لا ندري ماذا أراد الله بها، لكننا نعلم أنه لم يُرِد ظاهرها، طيب كيف بالأول تفوضون ثم تتناقضون؟ تقولون: لم يرد ظاهرها، وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله تناقض هذه الطائفة منهم، المفوضة هل نقول: إن هذه الآية ترد عليهم
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؟ لأننا إذا لم نعلم أن الله سبحانه وتعالى له علم يدرك به ما نفعل فلا فائدة من قوله:
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ﴾، نعم يمكن فيها رد، ولا شك أن مذهب المفوضة يا إخواني أخبث من مذهب أهل التحريف، أخبث، وهو شرّ أقوال أهل البدع والإلحاد كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين، يقول: هذا القول من شرّ أقوال أهل البدع والإلحاد، يقول: وبه استطال الفلاسفة المنكرون للصفات، بل المنكرون لليوم الآخر، بل المنكرون للخالق، ويش قالوا دول أهل التخييل؟ قالوا: روحوا أنتم (...)، أنتم جُهّال مثل الصبيان، ما تدرون ويش الله أراد، لكن نحن الفحول الذين عرفنا ماذا أراد الله، ويش أراد الله؟ قالوا: أراد الله التخييل ما له حقيقة، ما فيه رب ولا جنة ولا نار ولا حساب ولا شيء، وما هو إلا تخييل، وقالوا: نحن أولى منكم أيها المفوضة، ويش لون أولى منا؟ لأننا عرفنا المراد وأنتم ما عرفتم المراد، وإن كان قولهم هذا بالمراد خطأ بلا شك كما سنبين قريبًا إن شاء الله، لكن الكلام على أن مذهب أهل التفويض يجعل الناس أميين، بل يجعلهم صبيانًا، كيف الله يُنزل علينا آيات في الوضوء والطهارة والصلاة وما أشبه ذلك ونعرف معناها، وما يتعلق بأسمائه وصفاته ما نعرفه، هذا معقول؟ غير معقول، ولا يمكن أن نعبد ربًّا حق العبادة إلا ونحن نعرف من أسمائه وصفاته ما تقوم به العبادة، أما الرد على أهل التخييل فلا يمكن إفحامهم وإقحامهم إلا بطريق مَن؟ السلف، اللي يقولون: نحن نعلم ماذا أراد ربنا بكلامه، وأنه حق على حقيقته، لكن الكيفية والحقيقة التي عليها هذه الصفات ما ندركها.
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٦٨٤٦)، ومسلم (١٤٩٨ / ١٦) من حديث سعد بن عبادة، ولفظ مسلم: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو وجدتُ مع أهلي رجلًا لم أمسَّه حتى آتيَ بأربعة شهداء؟ قال رسول الله ﷺ: «نَعَمْ»، قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأُعَاجِلُهُ بالسيف قبل ذلك.
(٢) أخرجه أبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦).
(٣) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص ٩١).
(٤) سبق تخريخه.
(٥) أخرجه أبو داود (٣٦٣٥)، والترمذي (١٩٤٠) من حديث أبي صرمة.
(٦) أخرجه ابن ماجه (٢٣٤١)، وأحمد (٢٨٦٥) من حديث ابن عباس.
(٧) أخرجه مسلم (٩٩٧ / ٤١) وبقيته: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا».
(٨) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٢١)، ومسلم (٣٣٥ / ٦٩) واللفظ له، من حديث مُعاذة العدوية.
(٩) أخرجه ابن أبي شيبة (١٩٠٠٦).
(١٠) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥١٣٦)، ومسلم (١٤١٩ / ٦٤) من حديث أبي هريرة.
(١١) (١٤٢١ / ٦٨).
(١٢) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٧٨٥)، ومسلم (١٤٧٥ / ٢٢) من حديث عائشة.
(١٣) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٧٨٦)، ومسلم (١٤٧٥ / ٢٢) من حديث عائشة.