الباحث القرآني
﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجْلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾ [البقرة: ٢٣٠] الآيَةُ عَطْفُ حُكْمٍ عَلى حُكْمٍ، وتَشْرِيعٍ عَلى تَشْرِيعٍ، لِقَصْدِ زِيادَةِ الوَصاةِ بِحُسْنِ المُعامَلَةِ في الِاجْتِماعِ والفُرْقَةِ، وما تَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ الَّذِي سَيَأْتِي بَيانُهُ.
وقَوْلُهُ فَبَلَغْنَ أجْلَهُنَّ مُؤْذِنٌ بِأنَّ المُرادَ: وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ طَلاقًا فِيهِ أجَلٌ. والأجَلُ هُنا لَمّا أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ النِّساءِ المُطَلَّقاتِ عُلِمَ أنَّهُ أجَلٌ مَعْهُودٌ بِالمُضافِ إلَيْهِ. أعْنِي أجَلَ الِانْتِظارِ، وهو العِدَّةُ، وهو التَّرَبُّصُ في الآيَةِ السّابِقَةِ.
وبُلُوغُ الأجَلِ: الوُصُولُ إلَيْهِ، والمُرادُ بِهِ هُنا مُشارَفَةُ الوُصُولِ إلَيْهِ بِإجْماعِ العُلَماءِ؛ لِأنَّ الأجَلَ إذا انْقَضى زالَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الإمْساكِ والتَّسْرِيحِ، وقَدْ يُطْلَقُ البُلُوغُ عَلى مُشارَفَةِ الوُصُولِ ومُقارَبَتِهِ، تَوَسُّعًا أيْ مَجازًا بِالأوَّلِ. وفي القاعِدَةِ الخامِسَةِ مِنَ البابِ الثّامِنِ مِن مُغْنِي اللَّبِيبِ، أنَّ العَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِالفِعْلِ عَنْ أُمُورٍ: أحَدُها، وهو الكَثِيرُ المُتَعارَفُ، عَنْ حُصُولِ الفِعْلِ، وهو الأصْلُ. الثّانِي: عَنْ مُشارَفَتِهِ نَحْوَ ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةٌ لِأزْواجِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٠] أيْ يُقارِبُونَ الوَفاةَ، لِأنَّهُ حِينَ الوَصِيَّةِ. (p-٤٢٢)الثّالِثُ: إرادَتُهُ نَحْوَ ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] .
الرّابِعُ: القُدْرَةُ عَلَيْهِ نَحْوَ ﴿وعْدًا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] أيْ قادِرِينَ.
(والأجَلُ) في كَلامِ العَرَبِ يُطْلَقُ عَلى المُدَّةِ الَّتِي يُمْهَلُ إلَيْها الشَّخْصُ في حُدُوثِ حادِثٍ مُعَيَّنٍ، ومِنهُ قَوْلُهم: ضَرَبَ لَهُ أجَلًا، ﴿أيَّما الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ﴾ [القصص: ٢٨] .
والمُرادُ بِالأجَلِ هُنا آخِرُ المُدَّةِ، لِأنَّ قَوْلَهُ (فَبَلَغْنَ) مُؤْذِنٌ بِأنَّهُ وصُولٌ بَعْدَ مَسِيرٍ إلَيْهِ، وأسْنَدَ بَلَغْنَ إلى النِّساءِ لِأنَّهُنَّ اللّاتِي يَنْتَظِرْنَ انْقِضاءَ الأجَلِ، لِيَخْرُجْنَ مِن حَبْسِ العِدَّةِ، وإنْ كانَ الأجَلُ لِلرِّجالِ والنِّساءِ مَعًا: لِلْأوَّلِينَ تَوْسِعَةً لِلْمُراجَعَةِ، ولِلْأخِيراتِ تَحْدِيدًا لِلْحِلِّ لِلتَّزَوُّجِ. وأُضِيفَ الأجَلُ إلى ضَمِيرِ النِّساءِ لَهاتِهِ النُّكْتَةِ.
والقَوْلُ في الإمْساكِ والتَّسْرِيحِ مَضى قَرِيبًا. وفي هَذا الوَجْهِ تَكْرِيرُ الحُكْمِ المُفادِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فَأُجِيبَ عَنْ هَذا بِما قالَهُ الفَخْرُ: إنَّ الآيَةَ السّابِقَةَ أفادَتِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الإمْساكِ والتَّسْرِيحِ، في مُدَّةِ العِدَّةِ، وهَذِهِ أفادَتْ ذَلِكَ التَّخْيِيرَ في آخِرِ أوْقاتِ العِدَّةِ، تَذْكِيرًا بِالإمْساكِ وتَحْرِيضًا عَلى تَحْصِيلِهِ، ويَسْتَتْبِعُ هَذا التَّذْكِيرُ الإشارَةَ إلى التَّرْغِيبِ في الإمْساكِ، مِن جِهَةِ إعادَةِ التَّخْيِيرِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وذَكَرَ التَّسْرِيحَ هُنا مَعَ الإمْساكِ لِيُظْهِرَ مَعْنى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أمْرَيْنِ ولِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إلى الإشارَةِ إلى رَغْبَةِ الشَّرِيعَةِ في الإمْساكِ، وذَلِكَ بِتَقْدِيمِهِ في الذِّكْرِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الأمْرانِ لَما تَأتّى التَّقْدِيمُ المُؤْذِنُ بِالتَّرْغِيبِ وعِنْدِي أنَّهُ عَلى هَذا الوَجْهِ أُعِيدَ الحُكْمُ، ولِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ما قَصَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّرارِ وما تَلا ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ والمَوْعِظَةِ وذَلِكَ كُلُّهُ مِمّا أُبْعِدَ عَنْ تَذَكُّرِهِ الجُمَلُ السّابِقَةِ: الَّتِي اقْتَضى الحالُ الِاعْتِراضَ بِها.
وقَوْلُهُ ﴿أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ قَيَّدَ التَّسْرِيحَ هُنا بِالمَعْرُوفِ، وقَيَّدَ في قَوْلِهِ السّالِفِ أوْ ﴿تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، بِالإحْسانِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الإحْسانَ المَذْكُورَ هُنالِكَ، هو عَيْنُ المَعْرُوفِ الَّذِي يُعْرَضُ لِلتَّسْرِيحِ، فَلَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يُحْتَجْ هُنا إلى الفَرْقِ بَيْنَ قَيْدِهِ وقَيْدِ الإمْساكِ. أوْ لِأنَّ إعادَةَ أحْوالِ الإمْساكِ والتَّسْرِيحِ هُنا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنِ المُضارَّةِ، والَّذِي تُخافُ مُضارَّتُهُ بِمَنزِلَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أنْ يُطْلَبَ مِنهُ الإحْسانُ، فَطَلَبَ مِنهُ الحَقَّ، وهو المَعْرُوفُ الَّذِي عَدَمُ المُضارَّةِ مِن فُرُوعِهِ، سَواءٌ في الإمْساكِ أوْ في التَّسْرِيحِ، ومُضارَّةُ كُلٍّ بِما يُناسِبُهُ.
وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: تَقَدَّمَ أنَّ المَعْرُوفَ أخَفُّ مِنَ الإحْسانِ فَلَمّا وقَعَ الأمْرُ في الآيَةِ الأُخْرى (p-٤٢٣)بِتَسْرِيحِهِنَّ، مُقارِنًا لِلْإحْسانِ، خِيفَ أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّ الأمْرَ بِالإحْسانِ عِنْدَ تَسْرِيحِهِنَّ لِلْوُجُوبِ فَعَقَّبَهُ بِهَذا تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأمْرَ لِلنَّدْبِ لا لِلْوُجُوبِ.
وقَوْلُهُ ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا﴾ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومٍ ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إذِ الضِّرارُ ضِدُّ المَعْرُوفِ، وكَأنَّ وجْهَ عَطْفِهِ مَعَ اسْتِفادَتِهِ مِنَ الأمْرِ بِضِدِّهِ التَّشْوِيهُ بِذِكْرِ هَذا الضِّدِّ لِأنَّهُ أكْثَرُ أضْدادِ المَعْرُوفِ يَقْصِدُهُ الأزْواجُ المُخالِفُونَ لِحُكْمِ الإمْساكِ بِالمَعْرُوفِ، مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ، ونُكْتَتُهُ تَقْرِيرُ المَعْنى المُرادِ في الذِّهْنِ بِطَرِيقَتَيْنِ غايَتُهُما واحِدَةٌ وقالَ الفَخْرُ: نُكْتَةُ عَطْفِ النَّهْيِ عَلى الأمْرِ بِالضِّدِّ في الآيَةِ هي أنَّ الأمْرَ لا يَقْتَضِي التَّكْرارَ بِخِلافِ النَّهْيِ، وهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأمْرِ والنَّهْيِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، وفِيها نِزاعٌ في عِلْمِ الأُصُولِ، ولَكِنَّهُ بَناها عَلى أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الأمْرِ والنَّهْيِ هو مُقْتَضى اللُّغَةِ. عَلى أنَّ هَذا العَطْفَ إنْ قُلْنا: إنَّ المَعْرُوفَ في الإمْساكِ حَيْثُما تَحَقَّقَ انْتَفى الضِّرارُ، وحَيْثُما انْتَفى المَعْرُوفُ تَحَقَّقَ الضِّرارُ، فَيَصِيرُ الضِّرارُ مُساوِيًا لِنَقِيضِ المَعْرُوفِ، قُلْنا أنْ نَجْعَلَ نُكْتَةَ العَطْفِ، حِينَئِذٍ، لِتَأْكِيدِ حُكْمِ الإمْساكِ بِالمَعْرُوفِ: بِطَرِيقَيْ إثْباتٍ، ونَفْيٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: (ولا تُمْسِكُوهُنَّ إلّا بِالمَعْرُوفِ)، كَما في قَوْلِ السَّمَوْألِ:
؎تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسُنَـا ولَيْسَتْ عَلى غَيْرِ الظِّباتِ تَسِيلُ
والضِّرارُ مَصْدَرُ ضارَّ، وأصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أنْ تَدُلَّ عَلى وُقُوعِ الفِعْلِ مِنَ الجانِبَيْنِ، مِثْلُ خاصَمَ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ في الدَّلالَةِ عَلى قُوَّةِ الفِعْلِ مِثْلَ: عافاكَ اللَّهُ، والظّاهِرُ أنَّها هُنا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْمُبالَغَةِ في الضُّرِّ، تَشْنِيعًا عَلى مَن يَقْصِدُهُ بِأنَّهُ مُفْحِشٌ فِيهِ. ونَصَبَ ضِرارًا عَلى الحالِ أوِ المَفْعُولِيَّةِ لِأجْلِهِ.
وقَوْلُهُ لِتَعْتَدُوا جُرَّ بِاللّامِ ولَمْ يُعْطَفُ بِالفاءِ؛ لِأنَّ الجَرَّ بِاللّامِ هو أصْلُ التَّعْلِيلِ، وحَذَفَ مَفْعُولَ (تَعْتَدُوا) لِيَشْمَلَ الِاعْتِداءُ عَلَيْهِنَّ، وعَلى أحْكامِ اللَّهِ تَعالى، فَتَكُونُ اللّامُ مُسْتَعْمَلَةً في التَّعْلِيلِ والعاقِبَةِ. والِاعْتِداءُ عَلى أحْكامِ اللَّهِ لا يَكُونُ عِلَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ مَنزِلَةَ العِلَّةِ مَجازًا في الحُصُولِ، تَشْنِيعًا عَلى المُخالِفِينَ، فَحَرْفُ اللّامِ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ.
وقَوْلُهُ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ جَعَلَ ظُلْمَهم نِساءَهم ظُلْمًا لِأنْفُسِهِمْ، لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى اخْتِلالِ المُعاشَرَةِ، واضْطِرابِ حالِ البَيْتِ، وفَواتِ المَصالِحِ: بِشَغَبِ الأذْهانِ في المُخاصَماتِ. وظَلَمَ نَفْسَهُ أيْضًا بِتَعْرِيضِها لِعِقابِ اللَّهِ في الآخِرَةِ.
* * *
(p-٤٢٤)﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُؤًا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم وما أنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ يَعِظُكم بِهِ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
عَطْفُ هَذا النَّهْيِ عَلى النَّهْيِ في قَوْلِهِ ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ لِزِيادَةِ التَّحْذِيرِ مِن صَنِيعِهِمْ في تَطْوِيلِ العِدَّةِ، لِقَصْدِ المُضارَّةِ، بِأنَّ في ذَلِكَ اسْتِهْزاءً بِأحْكامِ اللَّهِ الَّتِي شَرَّعَ فِيها حَقَّ المُراجَعَةِ، مُرِيدًا رَحْمَةَ النّاسِ، فَيَجِبُ الحَذَرُ مِن أنْ يَجْعَلُوها هُزُؤًا، وآياتُ اللَّهِ هي ما في القُرْآنِ مِن شَرائِعِ المُراجِعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨] - إلى قَوْلِهِ - ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٠] .
والهُزُءُ بِضَمَّتَيْنِ، مَصْدَرُ هَزَأ بِهِ إذا سَخِرَ ولَعِبَ، وهو هُنا مَصْدَرٌ بِمَعْنى اسْمِ المَفْعُولِ، أيْ لا تَتَّخِذُوها مُسْتَهْزَأً بِهِ، ولَمّا كانَ المُخاطَبُ بِهَذا المُؤْمِنِينَ، وقَدْ عُلِمَ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا بِالَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِالآياتِ، تَعَيَّنَ أنَّ الهُزُءَ مُرادٌ بِهِ مَجازُهُ وهو الِاسْتِخْفافُ، وعَدَمُ الرِّعايَةِ، لِأنَّ المُسْتَخِفَّ بِالشَّيْءِ المُهِمِّ يُعَدُّ لِاسْتِخْفافِهِ بِهِ، مَعَ العِلْمِ بِأهَمِّيَّتِهِ، كالسّاخِرِ واللّاعِبِ. وهو تَحْذِيرٌ لِلنّاسِ مِنَ التَّوَصُّلِ بِأحْكامِ الشَّرِيعَةِ إلى ما يُخالِفُ مُرادَ اللَّهِ، ومَقاصِدَ شَرْعِهِ، ومِن هَذا التَّوَصُّلِ المَنهِيِّ عَنْهُ، ما يُسَمّى بِالحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنى أنَّها جارِيَةٌ عَلى صُوَرٍ صَحِيحَةِ الظّاهِرِ، بِمُقْتَضى حُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَن يَهِبُ مالَهُ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ الحَوْلِ لِيَتَخَلَّصَ مِن وُجُوبِ زَكاتِهِ، ومِن أبْعَدِ الأوْصافِ عَنْها الوَصْفُ بِالشَّرْعِيَّةِ.
فالمُخاطَبُونَ بِهَذِهِ الآياتِ مُحَذَّرُونَ أنْ يَجْعَلُوا حُكْمَ اللَّهِ في العِدَّةِ، الَّذِي قُصِدَ مِنهُ انْتِظارُ النَّدامَةِ وتَذَكُّرُ حُسْنِ المُعاشَرَةِ، لَعَلَّهُما يَحْمِلانِ المُطَّلِقَ عَلى إمْساكِ زَوْجَتِهِ حِرْصًا عَلى بَقاءِ المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ، فَيُغَيِّرُوا ذَلِكَ ويَجْعَلُوهُ وسِيلَةً إلى زِيادَةِ النِّكايَةِ، وتَفاقُمِ الشَّرِّ والعَداوَةِ. وفي المُوَطَّأِ أنَّ رَجُلًا قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأتِي مِائَةَ طَلْقَةٍ فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ بانَتْ مِنكَ بِثَلاثٍ، وسَبْعٌ وتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِها آياتِ اللَّهِ هُزُؤًا. يُرِيدُ أنَّهُ عَمَدَ إلى ما شَرَعَهُ اللَّهُ مِن عَدَدِ الطَّلاقِ، بِحِكْمَةِ تَوَقُّعِ النَّدامَةِ مَرَّةً أُولى وثانِيَةً، فَجَعَلَهُ سَبَبُ نِكايَةٍ وتَغْلِيظٍ، حَتّى اعْتَقَدَ أنَّهُ يُضَيِّقُ عَلى نَفْسِهِ المُراجَعَةِ إذْ جَعَلَهُ مِائَةً، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى بَعْدَ أنْ حَذَّرَهم دَعاهم بِالرَّغْبَةِ فَقالَ (p-٤٢٥)﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ فَذَكَّرَهم بِما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ الجاهِلِيَّةِ، بِالإسْلامِ، الَّذِي سَمّاهُ نِعْمَةً كَما سَمّاهُ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ كُنْتُمْ أعْداءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] فَكَما أنْعَمَ عَلَيْكم بِالِانْسِلاخِ عَنْ تِلْكَ الضَّلالَةِ، فَلا تَرْجِعُوا إلَيْها بِالتَّعاهُدِ بَعْدَ الإسْلامِ وقَوْلُهُ ﴿وما أنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى نِعْمَةٍ، وجُمْلَةُ يَعِظُكم بِهِ حالٌ ويَجُوزُ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً؛ وجُمْلَةُ يَعِظُكم خَبَرٌ، والكِتابُ: القُرْآنُ. والحِكْمَةُ: العِلْمُ المُسْتَفادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وهو العِبْرَةُ بِأحْوالِ الأُمَمِ الماضِيَةِ وإدْراكُ مَصالِحِ الدِّينِ، وأسْرارِ الشَّرِيعَةِ، كَما قالَ تَعالى، بَعْدَ أنْ بَيَّنَ حُكْمَ الخَمْرِ والمَيْسِرِ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩] ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] ومَعْنى إنْزالِ الحِكْمَةِ أنَّها كانَتْ حاصِلَةً مِن آياتِ القُرْآنِ، كَما ذَكَرْنا، ومِنَ الإيماءِ إلى العِلَلِ، ومِمّا يَحْصُلُ أثْناءَ مُمارَسَةِ الدِّينِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالوَحْيِ إلى الرَّسُولِ ﷺ، ومَن فَسَّرَ الحِكْمَةَ بِالسَّنَةِ فَقَدْ فَسَّرَها بِبَعْضِ دَلائِلِها. والمَوْعِظَةُ والوَعْظُ: النُّصْحُ والتَّذْكِيرُ بِما يُلِينُ القُلُوبَ، ويُحَذِّرُ المَوْعُوظَ.
وقَوْلُهُ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تَذْكِيرٌ بِالتَّقْوى وبِمُراعاةِ عِلْمِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَنْزِيلًا لَهم في حِينِ مُخالَفَتِهِمْ بِأفْعالِهِمْ لِمَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ، مَنزِلَةَ مَن يَجْهَلُ أنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، فَإنَّ العَلِيمَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وهو إذا عَلِمَ مُخالَفَتَهم لا يَحُولُ بَيْنَ عِقابِهِ وبَيْنَهم شَيْءٌ، لِأنَّ هَذا العَلِيمَ قَدِيرٌ.
{"ayah":"وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارࣰا لِّتَعۡتَدُوا۟ۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوۤا۟ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوࣰاۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ یَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق