الباحث القرآني

﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ أيْ: آخِرِ عِدَّتِهِنَّ، فَهو مَجازٌ مِن قَبِيلِ اسْتِعْمالِ الكُلِّ في الجُزْءِ إنْ قُلْنا: إنَّ الأجَلَ حَقِيقَةٌ في جَمِيعِ المُدَّةِ - كَما يُفْهِمُهُ كَلامُ الصِّحاحِ - وهو الدّائِرُ في كَلامِ الفُقَهاءِ، ونَقْلُ الأزْهَرِيِّ عَنِ اللَّيْثِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَقِيقَةٌ في الجُزْءِ الأخِيرِ، وكِلا الِاسْتِعْمالَيْنِ ثابِتٌ في الكِتابِ الكَرِيمِ، فَإنْ كانَ مِن بابِ الِاشْتِراكِ فَذاكَ، وإلّا فالتَّجَوُّزُ مِنَ الكُلِّ إلى الجُزْءِ الأخِيرِ أقْوى مِنَ العَكْسِ، (والبُلُوغُ) في الأصْلِ الوُصُولُ وقَدْ يُقالُ لِلدُّنُوِّ مِنهُ - وهو المُرادُ في الآيَةِ - وهو إمّا مِن مَجازِ المُشارَفَةِ أوْ الِاسْتِعارَةِ تَشْبِيهًا لِلْمُتَقارِبِ الوُقُوعِ بِالواقِعِ لِيَصِحَّ أنْ يُرَتِّبَ عَلَيْهِ. ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إذْ لا إمْساكَ بَعْدَ انْقِضاءِ الأجَلِ؛ لِأنَّها حِينَئِذٍ غَيْرُ زَوْجَةٍ لَهُ ولا في عِدَّتِهِ، فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها، و(الإمْساكُ) مَجازٌ عَنِ المُراجَعَةِ؛ لِأنَّها سَبَبُهُ، و(التَّسْرِيحُ) بِمَعْنى الإطْلاقِ وهو مَجازٌ عَنِ التَّرْكِ، والمَعْنى: (فَراجِعُوهُنَّ) مِن غَيْرِ (ضِرارٍ) أوْ خَلُّوهُنَّ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ مِن غَيْرِ تَطْوِيلٍ، وهَذا إعادَةٌ لِلْحُكْمِ في صُورَةِ بُلُوغِهِنَّ أجْلَهُنَّ اعْتِناءً لِشَأْنِهِ ومُبالَغَةً في إيجابِ المُخالَفَةِ عَلَيْهِ، ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ (الإمْساكَ بِالمَعْرُوفِ) عَلى عَقْدِ النِّكاحِ وتَجْدِيدِهِ مَعَ حُسْنِ المُعاشَرَةِ، و(التَّسْرِيحُ بِالمَعْرُوفِ) عَلى تَرْكِ العَضْلِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِآخَرَ، وحِينَئِذٍ لا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِالمَجازِ في بَلَغْنَ ولا يَخْفى بَعْدَهُ عَنْ سَبَبِ النُّزُولِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ: أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ يُدْعى ثابِتَ بْنَ يَسارٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، حَتّى إذا انْقَضَتْ (p-143)عِدَّتُها إلّا يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةً راجَعَها ثُمَّ طَلَّقَها، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِها حَتّى مَضَتْ لَها تِسْعَةُ أشْهُرٍ يُضارُّها، فَأنْزَلَ اللَّهُ - تَعالى - هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا﴾ تَأْكِيدًا لِلْأمْرِ (بِالإمْساكِ بِالمَعْرُوفِ) وتَوْضِيحًا لِمَعْناهُ، وهو أدَلُّ مِنهُ عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ، وأصْرَحُ في الزَّجْرِ عَمّا كانُوا يَتَعاطَوْنَهُ، وضِرارًا نُصِبَ عَلى العِلِّيَّةِ أوِ الحالِيَّةِ؛ أيْ: لا تُرْجِعُوهُنَّ لِلْمُضارَّةِ أوْ مُضارِّينَ، ومُتَعَلِّقُ النَّهْيِ القَيْدُ، (واللّامُ) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ضِرارًا أيْ: لِتَظْلِمُوهُنَّ بِالإلْجاءِ إلى الِافْتِداءِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ (الضِّرارَ) ظُلْمٌ، و(الِاعْتِداءُ) مِثْلُهُ، فَيُؤَوَّلُ إلى ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ﴾ ظُلْمًا لِتَظْلِمُوا، وهو كَما تَرى، وأُجِيبُ بِأنَّ المُرادَ (بِالضِّرارِ) تَطْوِيلُ المُدَّةِ، (وبِالِاعْتِداءِ) الإلْجاءُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تُمْسِكُوهُنَّ بِالتَّطْوِيلِ لِتُلْجِئُوهُنَّ إلى الِاخْتِلاعِ والظُّلْمِ قَدْ يُقْصَدُ لِيُؤَدِّيَ إلى ظُلْمٍ آخَرَ، والمَشْهُورُ أنَّ هَذا الوَجْهَ مُتَعَيِّنٌ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في ضِرارًا ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ هَذا عِلَّةً لِما كانَ هو لَهُ؛ إذِ المَفْعُولُ لَهُ لا يَتَعَدَّدُ إلّا بِالعَطْفِ، أوْ عَلى البَدَلِ - وهو غَيْرُ مُمْكِنٍ لِاخْتِلافِ الإعْرابِ - ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الثّانِي، وجَوَّزَ تَعَلُّقُهُ بِالفِعْلِ مُطْلَقًا إذا جُعِلَتِ (اللّامُ) لِلْعاقِبَةِ، ولا ضَرَرَ في تَعَدِّي الفِعْلِ إلى عِلَّةٍ وعاقِبَةٍ لِاخْتِلافِهِما، وإنْ كانَتِ (اللّامُ) حَقِيقَةً فِيهِما عَلى رَأْيِ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ المَذْكُورُ وما فِيهِ مِنَ البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِ في الشَّرِّ والفَسادِ ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بِتَعْرِيضِها لِلْعَذابِ، أوْ بِأنْ فَوَّتَ عَلى نَفْسِهِ مَنافِعَ الدِّينِ مِنَ الثَّوابِ الحاصِلِ عَلى حُسْنِ المُعاشَرَةِ، ومَنافِعَ الدُّنْيا مِن عَدَمِ رَغْبَةِ النِّساءِ بِهِ بَعْدُ لِاشْتِهارِهِ بِهَذا الفِعْلِ القَبِيحِ، ﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ﴾ المُنْطَوِيَةَ عَلى الأحْكامِ المَذْكُورَةِ في أمْرِ النِّساءِ أوْ جَمِيعَ آياتِهِ، وهَذِهِ داخِلَةٌ فِيها ﴿هُزُوًا﴾ مَهْزُوءًا بِها بِأنْ تُعْرِضُوا عَنْها، وتَتَهاوَنُوا في المُحافَظَةِ عَلَيْها لِقِلَّةِ اكْتِراثِكم بِالنِّساءِ وعَدَمِ مُبالاتِكم بِهِنَّ، وهَذا نَهْيٌ أُرِيدَ بِهِ الأمْرُ بِضِدِّهِ؛ أيْ: جِدُّوا في الأخْذِ بِها والعَمَلِ بِما فِيها وارْعَوْها حَقَّ رِعايَتِها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي عُمْرَةَ وابْنُ مَرَدَوَيْهِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ، قالَ: ”كانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ ويُعْتِقُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ فَنَزَلَتْ“، وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ، وابْنُ ماجَهْ والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”ثَلاثٌ هَزْلُهُنَّ جَدٌّ؛ النِّكاحُ، والطَّلاقُ، والرَّجْعَةُ“،» وعَنْ أبِي الدَّرْداءِ: ”ثَلاثٌ اللّاعِبُ فِيها كالجادِّ؛ النِّكاحُ، والطَّلاقُ، والعَتاقُ“، وعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: ”أرْبَعٌ مُقْفَلاتٌ؛ النَّذْرُ، والطَّلاقُ، والعِتْقُ، والنِّكاحُ“. ﴿واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: قابِلُوها بِالشُّكْرِ والقِيامِ بِحُقُوقِها، (والنِّعْمَةُ): إمّا عامَّةٌ فَعَطَفَ ﴿وما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ عَلَيْها مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، وإمّا أنْ تُخَصَّ بِالإسْلامِ ونُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وخُصّا بِالذِّكْرِ لِيُناسِبَ ما سَبَقَهُ، ولِيَدُلَّ عَلى أنَّ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإمْساكِ إضْرارًا مِن سُنَنِ الجاهِلِيَّةِ المُخالِفَةِ، كَأنَّهُ لَمّا قِيلَ: جِدُّوا في العَمَلِ بِالآياتِ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ، أكَّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ شُكْرُ النِّعْمَةِ فَقُومُوا بِحَقِّهِ، ويَكُونُ العَطْفُ تَأْكِيدًا عَلى تَأْكِيدٍ؛ لِأنَّ الإسْلامَ ونُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - يَشْمَلانِ إنْزالَ الكِتابِ والسَّنَةِ - وهو قَرِيبٌ مِن عَطْفِ التَّفْسِيرِ - ولا بَأْسَ أنْ يُسَمّى عَطْفَ التَّقْرِيرِ، قِيلَ: ولَوْ عَمَّمَ النِّعْمَةَ لَمْ يَحْسُنْ مَوْقِعُهُ هَذا الحُسْنَ، ولا يَخْفى أنَّهُ في حَيِّزِ المَنعِ، والظَّرْفُ الأوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن نِعْمَةٍ أوْ صِفَةٍ لَها عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ حَذْفَ المَوْصُولِ مَعَ بَعْضِ الصِّلَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِها إنْ أُرِيدَ بِها الإنْعامُ؛ لِأنَّها اسْمُ مَصْدَرٍ كَنَباتٍ مَن أنْبَتَ ولا يَقْدَحُ في عَمَلِهِ (تاءُ التَّأْنِيثِ)؛ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْها، كَما في قَوْلِهِ: (p-144) ؎فَلَوْلا رَجاءُ النَّصْرِ مِنكَ وهَيْبَةُ عِقابِكَ قَدْ كانُوا لَنا كالمَوارِدِ والظَّرْفُ الثّانِي مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ، وأتى بِهِ تَنْبِيهًا لِلْمَأْمُورِينَ وتَشْرِيفًا لَهُمْ، و(ما) مَوْصُولَةٌ حُذِفَ عائِدُها مِنَ الصِّلَةِ، و(مِن) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ﴾ بَيانِيَّةٌ، والمُرادُ بِهِما القُرْآنُ الجامِعُ لِلْعُنْوانَيْنِ، أوِ القُرْآنُ والسُّنَّةُ، والإفْرادُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الِانْدِراجِ في المَذْكُورِ إظْهارًا لِلْفَضْلِ وإيماءً إلى أنَّ الشَّرَفَ وصَلَ إلى غايَةٍ لا يُمْكِنُ مَعَها الِانْدِراجُ، وذاكَ مِن قَبِيلِ ؎فَإنْ تُفِقِ الأنامُ وأنْتَ مِنهم ∗∗∗ فَإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزالِ ﴿يَعِظُكم بِهِ﴾ أيْ: (بِما أنْزَلَ) حالٌ مِن فاعِلٍ (أنْزَلَ) أوْ مِن مَفْعُولِهِ، أوْ مِنهُما مَعًا، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ (ما) مُبْتَدَأً، وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرُهُ، ومِنَ الكِتابِ حالٌ مِنَ العائِدِ المَحْذُوفِ، وقِيلَ: الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّرْغِيبِ والتَّعْلِيلِ. ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أوامِرِهِ والقِيامِ بِحُقُوقِهِ ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 231﴾ فَلا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا تَأْتُونَ وما تَذَرُونَ، فَلْيَحْذَرْ مِن جَزائِهِ وعِقابِهِ، أوْ أنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلا يَأْمُرُ إلّا بِما فِيهِ الحِكْمَةُ والمَصْلَحَةُ فَلا تُخالِفُوهُ، وفي هَذا العَطْفِ ما يُؤَكِّدُ الأوامِرَ والأحْكامَ السّابِقَةَ، ولَيْسَ هَذا مِنَ التَّأْكِيدِ المُقْتَضِي لِلْفَصْلِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ إعادَةٌ لِمَفْهُومِ المُؤَكَّدِ ولا مُتَّحِدًا مَعَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب