الباحث القرآني

بابُ المُضارَّةِ في الرَّجْعَةِ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ قالَ أبُو بَكْرٍ: اَلْمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾؛ مُقارَبَةُ البُلُوغِ؛ والإشْرافُ عَلَيْهِ؛ لا حَقِيقَتُهُ؛ لِأنَّ الأجَلَ المَذْكُورَ هو العِدَّةُ؛ وبُلُوغَهُ هو انْقِضاؤُها؛ ولا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ وقَدْ عَبَّرَ عَنِ العِدَّةِ بِالأجَلِ في مَواضِعَ؛ مِنها قَوْلُهُ ( تَعالى): ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ (p-٩٨)بِمَعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢]؛ ومَعْناهُ مَعْنى ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]؛ وقالَ: ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢]؛ وقالَ: ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥]؛ فَكانَ المُرادُ بِالآجالِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيِ هي العِدَدَ؛ ولِما ذَكَرَهُ اللَّهُ (تَعالى) في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٢]؛ والمُرادُ مُقارَبَتُهُ دُونَ انْقِضائِهِ؛ ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ؛ واللُّغَةِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ ومَعْناهُ: إذا أرَدْتُمُ الطَّلاقَ؛ وقارَبْتُمْ أنْ تُطَلِّقُوا؛ فَطَلِّقُوا لِلْعِدَّةِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨]؛ مَعْناهُ: إذا أرَدْتَ قِراءَتَهُ؛ وقالَ: ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: ١٥٢]؛ ولَيْسَ المُرادُ العَدْلَ بَعْدَ القَوْلِ؛ ولَكِنْ قَبْلَهُ؛ يَعْزِمُ عَلى ألّا يَقُولَ إلّا عَدْلًا؛ فَعَلى هَذا ذَكَرَ بُلُوغَ الأجَلِ؛ وأرادَ بِهِ مُقارَبَتَهُ؛ دُونَ وُجُودِ نِهايَتِهِ؛ وإنَّما ذَكَرَ مُقارَبَةَ البُلُوغِ عِنْدَ الأمْرِ بِالإمْساكِ بِالمَعْرُوفِ؛ وإنْ كانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ في سائِرِ أحْوالِ بَقاءِ النِّكاحِ؛ لِأنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ التَّسْرِيحَ؛ وهو انْقِضاءُ العِدَّةِ؛ وجَمْعُهُما في الأمْرِ؛ والتَّسْرِيحِ؛ إنَّما لَهُ حالٌ واحِدٌ لَيْسَ يَدُومُ؛ فَخَصَّ حالَ بُلُوغِ الأجَلِ بِذَلِكَ؛ لِيَنْتَظِمَ المَعْرُوفُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ اَلْمُرادُ بِهِ الرَّجْعَةُ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ والحَسَنِ؛ ومُجاهِدٍ؛ وقَتادَةَ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ مَعْناهُ: تَرْكُها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ وأباحَ الإمْساكَ بِالمَعْرُوفِ؛ وهو القِيامُ بِما يَجِبُ لَها مِن حَقٍّ؛ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن بَيانِهِ؛ وأباحَ التَّسْرِيحَ أيْضًا عَلى وجْهٍ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِألّا يَقْصِدَ مُضارَّتَها بِتَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْها بِالمُراجَعَةِ؛ وقَدْ بَيَّنَهُ عُقَيْبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا﴾؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الفِراقِ بِالمَعْرُوفِ أنْ يُمَتِّعَها عِنْدَ الفُرْقَةِ؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ وبِقَوْلِهِ: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]؛ في إيجابِ الفُرْقَةِ بَيْنَ المُعْسِرِ العاجِزِ عَنِ النَّفَقَةِ؛ وبَيْنَ امْرَأتِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) إنَّما خَيَّرَهُ بَيْنَ أحَدِ شَيْئَيْنِ؛ إمّا إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ؛ وإمّا تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ؛ وتَرْكُ الإنْفاقِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ؛ فَمَتى عَجَزَ عَنْهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ؛ فَيُفَرِّقُ الحاكِمُ بَيْنَهُما؛ قالَ أبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهَذا جَهْلٌ مِن قائِلِهِ؛ والمُحْتَجِّ بِهِ؛ لِأنَّ العاجِزَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأتِهِ يُمْسِكُها بِمَعْرُوفٍ؛ إذْ لَمْ يُكَلَّفِ الإنْفاقَ في هَذِهِ الحالِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: ٧]؛ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُقالَ: إنَّ المُعْسِرَ غَيْرُ مُمْسِكٍ بِالمَعْرُوفِ؛ إذْ كانَ تَرْكُ الإمْساكِ بِمَعْرُوفٍ ذَمًّا؛ والعاجِزُ غَيْرُ مَذْمُومٍ بِتَرْكِ الإنْفاقِ؛ ولَوْ كانَ العاجِزُ عَنِ النَّفَقَةِ غَيْرَ مُمْسِكٍ (p-٩٩)بِمَعْرُوفٍ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ أصْحابُ الصُّفَّةِ؛ وفُقَراءُ الصَّحابَةِ؛ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنِ النَّفَقَةِ عَلى أنْفُسِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ نِسائِهِمْ؛ غَيْرَ مُمْسِكِينَ بِمَعْرُوفٍ؛ وأيْضًا فَقَدْ عَلِمْنا أنَّ القادِرَ عَلى الإنْفاقِ؛ المُمْتَنِعَ مِنهُ؛ غَيْرُ مُمْسِكٍ بِمَعْرُوفٍ؛ ولا خِلافَ أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى وُجُوبِ التَّفْرِيقِ عَلى العاجِزِ؛ دُونَ القادِرِ؛ والعاجِزُ مُمْسِكٌ بِمَعْرُوفٍ؛ والقادِرُ غَيْرُ مُمْسِكٍ؟ وهَذا خُلْفٌ مِنَ القَوْلِ. قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾؛ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ؛ والحَسَنِ؛ ومُجاهِدٍ؛ وقَتادَةَ؛ وإبْراهِيمَ: هو تَطْوِيلُ العِدَّةِ عَلَيْها بِالمُراجَعَةِ؛ إذا قارَبَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها؛ ثُمَّ يُطَلِّقُها حَتّى تَسْتَأْنِفَ العِدَّةَ؛ فَإذا قارَبَتِ انْقِضاءَ العِدَّةِ راجَعَها؛ فَأمَرَ اللَّهُ (تَعالى) بِإمْساكِها بِمَعْرُوفٍ؛ ونَهاهُ عَنْ مُضارَّتِها بِتَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْها؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ دَلَّ عَلى وُقُوعِ الرَّجْعَةِ؛ وإنْ قَصَدَ بِها مُضارَّتَها؛ لَوْلا ذَلِكَ ما كانَ ظالِمًا لِنَفْسِهِ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُها؛ وصارَتْ رَجْعَتُهُ لَغْوًا؛ لا حُكْمَ لَها. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾؛ رُوِيَ عَنْ عَمْرٍو؛ عَنِ الحَسَنِ؛ «عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ؛ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ: كُنْتُ لاعِبًا؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " مَن طَلَّقَ؛ أوْ حَرَّرَ؛ أوْ نَكَحَ؛ فَقالَ: كُنْتُ لاعِبًا؛ فَهو جادٌّ"؛» فَأخْبَرَ أبُو الدَّرْداءِ أنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الآيَةِ؛ وأنَّها نَزَلَتْ فِيهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ لَعِبَ الطَّلاقِ؛ وجِدَّهُ سَواءٌ؛ وكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ؛ لِأنَّهُ ذُكِرَ عُقَيْبَ الإمْساكِ؛ أوِ التَّسْرِيحِ؛ فَهو عائِدٌ عَلَيْهِما؛ وقَدْ أكَّدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمّا بَيَّنَهُ. ورَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ؛ عَنْ عَطاءٍ؛ عَنِ ابْنِ ماهِكٍ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ؛ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: اَلطَّلاقُ؛ والنِّكاحُ؛ والرَّجْعَةُ "؛» ورَوى سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ؛ عَنْ عُمَرَ قالَ: "أرْبَعٌ واجِباتٌ عَلى كُلِّ مَن تَكَلَّمَ بِهِنَّ: اَلْعَتاقُ؛ والطَّلاقُ؛ والنِّكاحُ؛ والنَّذْرُ"؛ ورَوى جابِرٌ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ؛ عَنْ عَلِيٍّ؛ أنَّهُ قالَ: "ثَلاثٌ لا يُلْعَبُ بِهِنَّ: اَلطَّلاقُ؛ والنِّكاحُ؛ والصَّدَقَةُ"؛ ورَوى القاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: "إذا تَكَلَّمْتَ بِالنِّكاحِ؛ فَإنَّ النِّكاحَ جِدُّهُ؛ ولَعِبُهُ سَواءٌ؛ كَما أنَّ جِدَّ الطَّلاقِ؛ ولَعِبَهُ سَواءٌ"؛ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ؛ ولا نَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ؛ وهَذا أصْلٌ في إيقاعِ طَلاقِ المُكْرَهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا اسْتَوى حُكْمُ الجادِّ؛ والهازِلِ فِيهِ؛ وكانا إنَّما يَفْتَرِقانِ مَعَ قَصْدِهِما إلى القَوْلِ مِن جِهَةِ وُجُودِ إرادَةِ أحَدِهِما لِإيقاعِ حُكْمٍ ما لَفَظَ بِهِ؛ والآخَرُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِإيقاعِ حُكْمِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرٌ في دَفْعِهِ؛ وكانَ المُكْرَهُ قاصِدًا إلى القَوْلِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ نِيَّةِ الإيقاعِ تَأْثِيرٌ في دَفْعِهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ شَرْطَ (p-١٠٠)وُقُوعِهِ وُجُودُ لَفْظِ الإيقاعِ مِن مُكَلَّفٍ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب