الباحث القرآني
(فائدة: أسماء الأيام)
لما كانت الأيام متماثلة لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية ولا معنوية لم يبق تمييزها إلا بالأعداد ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخوذة من العدد نحو الاثنين والثلاثاء والأربعاء أو بالأحداث الواقعة فيها كيوم بعاث ويوم بدر ويوم الفتح ومنه يوم الجمعة
وفيه قولان: أحدهما: لاجتماع الناس فيه للصلاة.
والثاني: وهو الصحيح
لأنه اليوم الذي جمع فيه الخلق وكمل وهو اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء وأما يوم السبت فمن القطع كما تشعر به هذه المادة ومن السبات لانقطاع الحيوان فيه عن التحرك والمعاش والنعال السبتية التي قطع عنها الشعر وعلة السبات التي تقطع العليل عن الحركة والنطق ولم يكن يوما من أيام تخليق العالم بل ابتداء أيام التخليق الأحد وخاتمتها الجمعة هذا أصح القولين وعليه يدل القرآن وإجماع الأمة على أن أيام تخليق العالم ستة فلو كان أولها السبت لكان سبعة وأما حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه:
"خلق الله التربة يوم السبت "
رواه مسلم.
فقد ذكر البخاري في تاريخه أنه حديث معلول وأن الصحيح: "أنه قول كعب"
وهو كما ذكر لأنه يتضمن أن أيام التخليق سبعة والقرآن يرده.
واعلم أن معرفة أيام الأسبوع لا يعرف بحس ولا عقل ولا وضع يتميز به الأسبوع عن غيره، وإنما يعلم بالشرع ولهذا لا يعرف أيام الأسبوع إلا أهل الشرائع ومن تلقى ذلك عنهم وجاورهم.
وأما الأمم الذين لا يدينون بشريعة ولا كتاب فلا يتميز الأسبوع عندهم من غيره ولا أيامه بعضها من بعض، وهذا بخلاف معرفة الشهر والعام فإنه بأمر محسوس.
* (لطيفة)
قوله في حديث الجمعة: " وطويت الصحف " أي صحف الفضل فأما صحف الفرض فإنها لا تطوى لأن الفرض يسقط بعد ذلك.
* [فصل في هَدْيِهِ ﷺ في الجُمُعَةِ وذِكْرِ خَصائِصِ يَوْمِها]
ثَبَتَ في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، بَيْدَ أنَّهم أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، ثُمَّ هَذا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدانا اللَّهُ لَهُ، والنّاسُ لَنا فِيهِ تَبَعٌ، اليَهُودُ غَدًا والنَّصارى بَعْدَ غَدٍ».
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وحذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالا: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أضَلَّ اللَّهُ عَنِ الجُمُعَةِ مَن كانَ قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وكانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأحَدِ، فَجاءَ اللَّهُ بِنا فَهَدانا لِيَوْمِ الجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسَّبْتَ والأحَدَ، وكَذَلِكَ هم تَبَعٌ لَنا يَوْمَ القِيامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِن أهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضِيُّ لَهم قَبْلَ الخَلائِقِ».
وَفِي " المُسْنَدِ " والسُّنَنِ مِن حَدِيثِ أوس بن أوس، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«مِن أفْضَلِ أيّامِكم يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وفِيهِ قُبِضَ، وفِيهِ النَّفْخَةُ، وفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإنَّ صَلاتَكم مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ " قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتُنا عَلَيْكَ وقَدْ أرَمْتَ؟ (يَعْنِي: قَدْ بَلِيتَ)
قالَ: " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلى الأرْضِ أنْ تَأْكُلَ أجْسادَ الأنْبِياءِ».
وَرَواهُ الحاكم في " المُسْتَدْرَكِ " وابْنُ حِبّانَ في " صَحِيحِهِ ".
وَفِي " جامِعِ الترمذي " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفِيهِ أُخْرِجَ مِنها، ولا تَقُومُ السّاعَةُ إلّا في يَوْمِ الجُمُعَةِ». قالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصَحَّحَهُ الحاكم.
وَفِي " المُسْتَدْرَكِ " أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ الأيّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفِيهِ أُخْرِجَ مِنها، ولا تَقُومُ السّاعَةُ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ».
وَرَوى مالك في " المُوَطَّأِ " عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمَ، وفِيهِ أُهْبِطَ، وفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وفِيهِ ماتَ، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ، وما مِن دابَّةٍ إلّا وهي مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِن حِينِ تُصْبِحُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السّاعَةِ إلّا الجِنَّ والإنْسَ، وفِيهِ ساعَةٌ لا يُصادِفُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهو يُصَلِّي يَسْألُ اللَّهَ شَيْئًا إلّا أعْطاهُ إيّاهُ. قالَ كعب: ذَلِكَ في كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ، فَقُلْتُ: بَلْ في كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرَأ كعب التَّوْراةَ، فَقالَ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قالَ أبُو هَرِيرَةَ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كعب، قالَ: قَدْ عَلِمْتُ أيَّةَ ساعَةٍ هِيَ، قُلْتُ فَأخْبِرْنِي بِها، قالَ: هي آخِرُ ساعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ. فَقُلْتُ كَيْفَ وقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لا يُصادِفُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهو يُصَلِّي) وتِلْكَ السّاعَةُ لا يُصَلّى فِيها؟
فَقالَ ابن سلام: ألَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ " مَن جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ، فَهو في صَلاةٍ حَتى يُصَلِّيَ "؟».
وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " مَرْفُوعًا «لا تَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلى يَوْمٍ خَيْرٍ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ».
وَفِي " مُسْنَدِ الشّافِعِيِّ " مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ:
«أتى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمِرْآةٍ بَيْضاءَ، فِيها نُكْتَةٌ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ما هَذِهِ؟ فَقالَ: " هَذِهِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فُضِّلْتَ بِها أنْتَ وأُمَّتُكَ، والنّاسُ لَكم فِيها تَبَعٌ، اليَهُودُ والنَّصارى، ولَكم فِيها خَيْرٌ، وفِيها ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلّا اسْتُجِيبَ لَهُ وهو عِنْدَنا يَوْمُ المَزِيدِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: يا جِبْرِيلُ! ما يَوْمُ المَزِيدِ؟ قالَ إنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الفِرْدَوْسِ وادِيًا أفْيَحَ فِيهِ كُثُبٌ مِن مِسْكٍ، فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ ما شاءَ مِن مَلائِكَتِهِ، وحَوْلَهُ مَنابِرُ مِن نُورٍ عَلَيْها مَقاعِدُ النَّبِيِّينَ، وحَفَّ تِلْكَ المَنابِرَ بِمَنابِرَ مِن ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالياقُوتِ والزَّبَرْجَدِ، عَلَيْها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ، فَجَلَسُوا مِن ورائِهِمْ عَلى تِلْكَ الكُثُبِ "، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ " أنا رَبُّكم قَدْ صَدَقْتُكم وعْدِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنا نَسْألُكَ رِضْوانَكَ، فَيَقُولُ قَدْ رَضِيتُ عَنْكم ولَكم ما تَمَنَّيْتُمْ ولَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ لِما يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهم مِنَ الخَيْرِ، وهو اليَوْمُ الَّذِي اسْتَوى فِيهِ رَبُّكَ تَبارَكَ وتَعالى عَلى العَرْشِ، وفِيهِ خَلَقَ آدَمَ، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ».
رَواهُ الشّافِعِيُّ عَنْ إبراهيم بن محمد، حَدَّثَنِي مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ، قالَ: حَدَّثَنِي أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عَنْ عبد الله بن عبيد، عَنْ عمير بن أنس.
ثُمَّ قالَ: وأخْبَرَنا إبراهيم قالَ: حَدَّثَنِي أبو عمران إبراهيم بن الجعد عَنْ أنس شَبِيهًا بِهِ.
وَكانَ الشّافِعِيُّ حَسَنَ الرَّأْيِ في شَيْخِهِ إبراهيم هَذا، لَكِنْ قالَ فِيهِ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مُعْتَزِلِيٌّ جَهْمِيٌّ قَدَرِيٌّ كُلُّ بَلاءٍ فِيهِ.
وَرَواهُ أبُو اليَمانِ الحَكَمُ بْنُ نافِعٍ، حَدَّثَنا صفوان: قالَ: قالَ أنس: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: " أتانِي جِبْرِيلُ فَذَكَرَهُ " ورَواهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عمر مولى غفرة، عَنْ أنس. ورَواهُ أبو ظبية، عَنْ عثمان بن عمير، عَنْ أنس. وجَمَعَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي داوُدَ طُرُقَهُ.
وَفِي " مُسْنَدِ أحمد " مِن حَدِيثِ علي بن أبي طلحة، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لِأيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمَ الجُمُعَةِ؟ قالَ: (لِأنَّ فِيهِ طُبِعَتْ طِينَةُ أبِيكَ آدَمَ، وفِيهِ الصَّعْقَةُ، والبَعْثَةُ، وفِيهِ البَطْشَةُ، وفي آخِرِهِ ثَلاثُ ساعاتٍ مِنها ساعَةٌ مَن دَعا اللَّهَ فِيها اسْتُجِيبَ لَهُ)».
وَقالَ الحَسَنُ بْنُ سُفْيانَ النَّسَوِيُّ في " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق: حَدَّثَنا الحسن بن يحيى الخشني، حَدَّثَنا عمر بن عبد الله مولى غفرة، حَدَّثَنِي أنَسُ بْنُ مالِكٍ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «أتانِي جِبْرِيلُ وفي يَدِهِ كَهَيْئَةِ المِرْآةِ البَيْضاءِ، فِيها نُكْتَةٌ سَوْداءُ، فَقُلْتُ: ما هَذِهِ يا جِبْرِيلُ؟ فَقالَ: هَذِهِ الجُمُعَةُ بُعِثْتُ بِها إلَيْكَ تَكُونُ عِيدًا لَكَ ولِأُمَّتِكَ مِن بَعْدِكَ. فَقُلْتُ: وما لَنا فِيها يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: لَكم فِيها خَيْرٌ كَثِيرٌ، أنْتُمُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، وفِيها ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ اللَّهَ شَيْئًا إلّا أعْطاهُ. قُلْتُ فَما هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْداءُ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: هَذِهِ السّاعَةُ تَكُونُ في يَوْمِ الجُمُعَةِ وهو سَيِّدُ الأيّامِ، ونَحْنُ نُسَمِّيهِ عِنْدَنا يَوْمَ المَزِيدِ. قُلْتُ: وما يَوْمُ المَزِيدِ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: ذَلِكَ بِأنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وادِيًا أفْيَحَ مِن مِسْكٍ أبْيَضَ، فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ مِن أيّامِ الآخِرَةِ هَبَطَ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ مِن عَرْشِهِ إلى كُرْسِيِّهِ، ويُحَفُّ الكُرْسِيُّ بِمَنابِرَ مِنَ النُّورِ فَيَجْلِسُ عَلَيْها النَّبِيُّونَ، وتُحَفُّ المَنابِرُ بِكَراسِيَّ مِن ذَهَبٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْها الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ، ويَهْبِطُ أهْلُ الغُرَفِ مِن غُرَفِهِمْ، فَيَجْلِسُونَ عَلى كُثْبانِ المِسْكِ لا يَرَوْنَ لِأهْلِ المَنابِرِ والكَراسِيِّ فَضْلًا في المَجْلِسِ، ثُمَّ يَتَبَدّى لَهم ذُو الجَلالِ والإكْرامِ تَبارَكَ وتَعالى، فَيَقُولُ: سَلُونِي، فَيَقُولُونَ بِأجْمَعِهِمْ: نَسْألُكَ الرِّضى يا رَبُّ، فَيَشْهَدُ لَهم عَلى الرِّضى، ثُمَّ يَقُولُ: سَلُونِي، فَيَسْألُونَهُ حَتّى تَنْتَهِيَ نَهْمَةُ كُلِّ عَبْدٍ مِنهُمْ، قالَ: ثُمَّ يُسْعى عَلَيْهِمْ بِما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الجَبّارُ مِن كُرْسِيِّهِ إلى عَرْشِهِ، ويَرْتَفِعُ أهْلُ الغُرَفِ إلى غُرَفِهِمْ، وهي غُرْفَةٌ مِن لُؤْلُؤَةٍ بَيْضاءَ أوْ ياقُوتَةٍ حَمْراءَ أوْ زُمُرُّدَةٍ خَضْراءَ، لَيْسَ فِيها فَصْمٌ ولا وصْمٌ مُنَوَّرَةٌ، فِيها أنَهارُها، أوْ قالَ مُطَّرِدَةٌ مُتَدَلِّيَةٌ فِيها ثِمارُها، فِيها أزْواجُها وخَدَمُها ومَساكِنُها
قالَ: فَأهْلُ الجَنَّةِ يَتَباشَرُونَ في الجَنَّةِ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ، كَما يَتَباشَرُ أهْلُ الدُّنْيا في الدُّنْيا بِالمَطَرِ».
وَقالَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ " صِفَةِ الجَنَّةِ ": حَدَّثَنِي أزهر بن مروان الرقاشي، حَدَّثَنِي عبد الله بن عرادة الشيباني، حَدَّثَنا القاسم بن مطيب، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبي وائل، عَنْ حذيفة، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أتانِي جِبْرِيلُ وفي كَفِّهِ مِرْآةٌ كَأحْسَنِ المَرائِي وأضْوَئِها، وإذا في وسَطِها لُمْعَةٌ سَوْداءُ، فَقُلْتُ: ما هَذِهِ اللُّمْعَةُ الَّتِي أرى فِيها؟ قالَ هَذِهِ الجُمُعَةُ، قُلْتُ: وما الجُمُعَةُ؟ قالَ يَوْمٌ مِن أيّامِ رَبِّكَ عَظِيمٌ، وسَأُخْبِرُكَ بِشَرَفِهِ وفَضْلِهِ في الدُّنْيا، وما يُرْجى فِيهِ لِأهْلِهِ، وأُخْبِرُكَ بِاسْمِهِ في الآخِرَةِ، فَأمّا شَرَفُهُ وفَضْلُهُ في الدُّنْيا، فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ جَمَعَ فِيهِ أمْرَ الخَلْقِ، وأمّا ما يُرْجى فِيهِ لِأهْلِهِ، فَإنَّ فِيهِ ساعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ أوْ أمَةٌ مُسْلِمَةٌ يَسْألانِ اللَّهَ تَعالى فِيها خَيْرًا إلّا أعْطاهُما إيّاهُ، وأمّا شَرَفُهُ وفَضْلُهُ في الآخِرَةِ واسْمُهُ، فَإنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى إذا صَيَّرَ أهْلَ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ وأهْلَ النّارِ إلى النّارِ، جَرَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأيّامُ وهَذِهِ اللَّيالِي، لَيْسَ فِيها لَيْلٌ ولا نَهارٌ إلّا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِقْدارَ ذَلِكَ وساعاتِهِ، فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ حِينَ يَخْرُجُ أهْلُ الجُمُعَةِ إلى جُمُعَتِهِمْ، نادى أهْلَ الجَنَّةِ مُنادٍ، يا أهْلَ الجَنَّةِ! اخْرُجُوا إلى وادِي المَزِيدِ، ووادِي المَزِيدِ لا يَعْلَمُ سَعَةَ طُولِهِ وعَرْضِهِ إلّا اللَّهُ، فِيهِ كُثْبانُ المِسْكِ رُؤُوسُها في السَّماءِ قالَ: فَيَخْرُجُ غِلْمانُ الأنْبِياءِ بِمَنابِرَ مِن نُورٍ، ويَخْرُجُ غِلْمانُ المُؤْمِنِينَ بِكَراسِيَّ مِن ياقُوتٍ، فَإذا وُضِعَتْ لَهُمْ، وأخَذَ القَوْمُ مَجالِسَهُمْ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُدْعى المُثِيرَةَ، تُثِيرُ ذَلِكَ المِسْكَ، وتُدْخِلُهُ مِن تَحْتِ ثِيابِهِمْ، وتُخْرِجُهُ في وُجُوهِهِمْ وأشْعارِهِمْ، تِلْكَ الرِّيحُ أعْلَمُ كَيْفَ تَصْنَعُ بِذَلِكَ المِسْكِ مِنِ امْرَأةِ أحَدِكُمْ، لَوْ دُفِعَ إلَيْها كُلُّ طِيبٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ. قالَ: ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى إلى حَمَلَةِ عَرْشِهِ: ضَعُوهُ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَيَكُونُ أوَّلَ ما يَسْمَعُونَهُ مِنهُ: إلَيَّ يا عِبادِي الَّذِينَ أطاعُونِي بِالغَيْبِ ولَمْ يَرَوْنِي، وصَدَّقُوا رُسُلِي، واتَّبَعُوا أمْرِي، سَلُونِي فَهَذا يَوْمُ المَزِيدِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: رَضِينا عَنْكَ فارْضَ عَنّا، فَيَرْجِعُ اللَّهُ إلَيْهِمْ: أنْ يا أهْلَ الجَنَّةِ إنِّي لَوْ لَمْ أرْضَ عَنْكم لَمْ أُسْكِنْكم دارِي فَسَلُونِي فَهَذا يَوْمُ المَزِيدِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: يا رَبَّنا وجْهَكَ نَنْظُرْ إلَيْهِ، فَيَكْشِفُ تِلْكَ الحُجُبَ، فَيَتَجَلّى لَهم عَزَّ وجَلَّ فَيَغْشاهم مِن نُورِهِ شَيْءٌ لَوْلا أنَّهُ قَضى ألّا يَحْتَرِقُوا لاحْتَرَقُوا لِما يَغْشاهم مِن نُورِهِ، ثُمَّ يُقالُ لَهُمُ: ارْجِعُوا إلى مَنازِلِكُمْ، فَيَرْجِعُونَ إلى مَنازِلِهِمْ وقَدْ أعْطى كُلَّ واحِدٍ مِنهُمُ الضِّعْفَ عَلى ما كانُوا فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إلى أزْواجِهِمْ وقَدْ خَفُوا عَلَيْهِنَّ وخَفِينَ عَلَيْهِمْ مِمّا غَشِيَهم مِن نُورِهِ، فَإذا رَجَعُوا تَرادَّ النُّورُ حَتّى يَرْجِعُوا إلى صُوَرِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، فَتَقُولُ لَهم أزْواجُهم لَقَدْ خَرَجْتُمْ مِن عِنْدِنا عَلى صُورَةٍ ورَجَعْتُمْ عَلى غَيْرِها فَيَقُولُونَ: ذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ تَجَلّى لَنا فَنَظَرْنا مِنهُ، قالَ وإنَّهُ واللَّهِ ما أحاطَ بِهِ خَلْقٌ، ولَكِنَّهُ قَدْ أراهم مِن عَظَمَتِهِ وجَلالِهِ ما شاءَ أنْ يُرِيَهُمْ، قالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهم فَنَظَرْنا مِنهُ، قالَ: فَهم يَتَقَلَّبُونَ في مِسْكِ الجَنَّةِ ونَعِيمِها في كُلِّ سَبْعَةِ أيّامٍ الضِّعْفَ عَلى ما كانُوا فِيهِ.
قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾» [السجدة: ١٧].
وَرَواهُ أبو نعيم في " صِفَةِ الجَنَّةِ " مِن حَدِيثِ عصمة بن محمد، حَدَّثَنا مُوسى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أبي صالح عَنْ أنس شَبِيهًا بِهِ.
وَذَكَرَ أبو نعيم في " صِفَةِ الجَنَّةِ " مِن حَدِيثِ المسعودي عَنِ المنهال، عَنْ أبي عبيدة، عَنْ عبد الله قالَ:
(سارِعُوا إلى الجُمُعَةِ في الدُّنْيا، فَإنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى يَبْرُزُ لِأهْلِ الجَنَّةِ في كُلِّ جُمُعَةٍ عَلى كَثِيبٍ مِن كافُورٍ أبْيَضَ فَيَكُونُونَ مِنهُ سُبْحانَهُ بِالقُرْبِ عَلى قَدْرِ سُرْعَتِهِمْ إلى الجُمُعَةِ، ويُحْدِثُ لَهم مِنَ الكَرامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ وقَدْ أُحْدِثَ لَهُمْ).
* [فصل في مَبْدَأِ الجُمُعَةِ]
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عَنْ أبِيهِ قالَ: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قالَ كُنْتُ قائِدَ أبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ، فَإذا خَرَجْتُ بِهِ إلى الجُمُعَةِ فَسَمِعَ الأذانَ بِها اسْتَغْفَرَ لِأبِي أُمامَةَ أسْعَدَ بْنِ زُرارَةَ، فَمَكَثَ حِينًا عَلى ذَلِكَ فَقُلْتُ: إنَّ هَذا لَعَجْزٌ ألا أسْألَهُ عَنْ هَذا، فَخَرَجْتُ بِهِ كَما كُنْتُ أخْرُجُ، فَلَمّا سَمِعَ الأذانَ لِلْجُمُعَةِ، اسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقُلْتُ: يا أبَتاهُ! أرَأيْتَ اسْتِغْفارَكَ لِأسْعَدَ بْنِ زُرارَةَ كُلَّما سَمِعْتَ الأذانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ؟ قالَ: أيْ بُنَيَّ! كانَ أسعد أوَّلَ مَن جَمَّعَ بِنا بِالمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في هَزْمِ النَّبِيتِ مِن حَرَّةِ بَنِي بَياضَةَ في نَقِيعٍ يُقالُ لَهُ: نَقِيعُ الخَضَماتِ. قُلْتُ: فَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ أرْبَعُونَ رَجُلًا.
قالَ البيهقي: ومحمد بن إسحاق إذا ذُكِرَ سَماعُهُ مِنَ الرّاوِي، وكانَ الرّاوِي ثِقَةً، اسْتَقامَ الإسْنادُ، وهَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحُ الإسْنادِ انْتَهى.
قُلْتُ: وهَذا كانَ مَبْدَأ الجُمُعَةِ. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ، فَأقامَ بِقُباءٍ في بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، ويَوْمَ الثُّلاثاءِ، ويَوْمَ الأرْبِعاءِ ويَوْمَ الخَمِيسِ وأسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَأدْرَكَتْهُ الجُمُعَةُ في بَنِي سالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلّاها في المَسْجِدِ الَّذِي في بَطْنِ الوادِي وكانَتْ أوَّلَ جُمُعَةٍ صَلّاها بِالمَدِينَةِ، وذَلِكَ قَبْلَ تَأْسِيسِ مَسْجِدِهِ.
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: كانَتْ أوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيما بَلَغَنِي «عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - ونَعُوذُ بِاللَّهِ أنْ نَقُولَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما لَمْ يَقُلْ - أنَّهُ قامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ بِما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: (أمّا بَعْدُ أيُّها النّاسُ، فَقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم تَعْلَمُنَّ واللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أحَدُكم ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَها راعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ ولَيْسَ لَهُ تُرْجُمانٌ ولا حاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: ألَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكُ، وآتَيْتُكَ مالًا وأفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَما قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ فَلَيَنْظُرَنَّ يَمِينًا وشِمالًا، فَلا يَرى شَيْئًا ثُمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدّامَهُ فَلا يَرى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَقِيَ وجْهَهُ مِنَ النّارِ ولَوْ بِشِقٍّ مِن تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، ومَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإنَّ بِها تُجْزى الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، والسَّلامُ عَلَيْكم ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ)».
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً أُخْرى فَقالَ: «إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ أحْمَدُهُ وأسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن شُرُورِ أنْفُسِنا وسَيِّئاتِ أعْمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، إنَّ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابُ اللَّهِ، قَدْ أفْلَحَ مَن زَيَّنَهُ اللَّهُ في قَلْبِهِ وأدْخَلَهُ في الإسْلامِ بَعْدَ الكُفْرِ، فاخْتارَهُ عَلى ما سِواهُ مِن أحادِيثِ النّاسِ، إنَّهُ أحْسَنُ الحَدِيثِ وأبْلَغُهُ، أحِبُّوا ما أحَبَّ اللَّهُ، أحِبُّوا اللَّهَ مِن كُلِّ قُلُوبِكُمْ، ولا تَمَلُّوا كَلامَ اللَّهِ وذِكْرَهُ، ولا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ، فَإنَّهُ مِن كُلِّ ما يَخْلُقُ اللَّهُ يَخْتارُ ويَصْطَفِي، قَدْ سَمّاهُ اللَّهُ خِيرَتَهُ مِنَ الأعْمالِ، ومُصْطَفاهُ مِنَ العِبادِ والصّالِحَ مِنَ الحَدِيثِ، ومِن كُلِّ ما أُوتِيَ النّاسُ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، فاعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واتَّقُوهُ حَقَّ تُقاتِهِ واصْدُقُوا اللَّهَ صالِحَ ما تَقُولُونَ بِأفْواهِكُمْ، وتَحابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ بَيْنَكُمْ، إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، والسَّلامُ عَلَيْكم ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ».
وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِن خُطْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ ذِكْرِ هَدْيِهِ في الخُطَبِ.
* [فصل في خَواصُّ يَوْمِ الجُمُعَةِ وهي ثَلاثٌ وثَلاثُونَ]
وَكانَ مِن هَدْيِهِ ﷺ تَعْظِيمُ هَذا اليَوْمِ وتَشْرِيفُهُ، وتَخْصِيصُهُ بِعِباداتٍ يَخْتَصُّ بِها عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ: هَلْ هو أفْضَلُ، أمْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟
عَلى قَوْلَيْنِ: هُما وجْهانِ لِأصْحابِ الشّافِعِيِّ.
وَكانَ ﷺ يَقْرَأُ في فَجْرِهِ بِسُورَتَيِ (الم تَنْزِيلُ) و(هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ).
وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِمَّنْ لا عِلْمَ عِنْدَهُ أنَّ المُرادَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصَّلاةِ بِسَجْدَةٍ زائِدَةٍ، ويُسَمُّونَها سَجْدَةَ الجُمُعَةِ، وإذا لَمْ يَقْرَأْ أحَدُهم هَذِهِ السُّورَةَ اسْتَحَبَّ قِراءَةَ سُورَةٍ أُخْرى فِيها سَجْدَةٌ، ولِهَذا كَرِهَ مَن كَرِهَ مِنَ الأئِمَّةِ المُداوَمَةَ عَلى قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ في فَجْرِ الجُمُعَةِ، دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الجاهِلِينَ، وسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: إنَّما كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ في فَجْرِ الجُمُعَةِ؛ لِأنَّهُما تَضَمَّنَتا ما كانَ ويَكُونُ في يَوْمِها، فَإنَّهُما اشْتَمَلَتا عَلى خَلْقِ آدَمَ، وعَلى ذِكْرِ المَعادِ وحَشْرِ العِبادِ، وذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وكانَ في قِراءَتِهِما في هَذا اليَوْمِ تَذْكِيرٌ لِلْأُمَّةِ بِما كانَ فِيهِ ويَكُونُ، والسَّجْدَةُ جاءَتْ تَبَعًا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً حَتّى يَقْصِدَ المُصَلِّي قِراءَتَها حَيْثُ اتَّفَقَتْ.
فَهَذِهِ خاصَّةٌ مِن خَواصِّ يَوْمِ الجُمُعَةِ.
الخاصَّةُ الثّانِيَةُ اسْتِحْبابُ كَثْرَةِ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ وفي لَيْلَتِهِ، لِقَوْلِهِ ﷺ «أكْثِرُوا مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ولَيْلَةَ الجُمُعَةِ».
وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَيِّدُ الأنامِ، ويَوْمُ الجُمُعَةِ سَيِّدُ الأيّامِ، فَلِلصَّلاةِ عَلَيْهِ في هَذا اليَوْمِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مَعَ حِكْمَةٍ أُخْرى وهي أنَّ كُلَّ خَيْرٍ نالَتْهُ أُمَّتُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّما نالَتْهُ عَلى يَدِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِأُمَّتِهِ بِهِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَأعْظَمُ كَرامَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ، فَإنَّما تَحْصُلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَإنَّ فِيهِ بَعْثَهم إلى مَنازِلِهِمْ وقُصُورِهِمْ في الجَنَّةِ، وهو يَوْمُ المَزِيدِ لَهم إذا دَخَلُوا الجَنَّةَ، وهو يَوْمُ عِيدٍ لَهم في الدُّنْيا، ويَوْمٌ فِيهِ يُسْعِفُهُمُ اللَّهُ تَعالى بِطَلَباتِهِمْ وحَوائِجِهِمْ، ولا يَرُدُّ سائِلَهُمْ، وهَذا كُلُّهُ إنَّما عَرَفُوهُ وحَصَلَ لَهم بِسَبَبِهِ وعَلى يَدِهِ، فَمِن شُكْرِهِ وحَمْدِهِ وأداءِ القَلِيلِ مِن حَقِّهِ ﷺ أنْ نُكْثِرَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ في هَذا اليَوْمِ ولَيْلَتِهِ.
الخاصَّةُ الثّالِثَةُ: صَلاةُ الجُمُعَةِ الَّتِي هي مِن آكَدِ فُرُوضِ الإسْلامِ ومِن أعْظَمِ مَجامِعِ المُسْلِمِينَ، وهي أعْظَمُ مِن كُلِّ مَجْمَعٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وأفْرَضُهُ سِوى مَجْمَعِ عَرَفَةَ، ومَن تَرَكَها تَهاوُنًا بِها طَبَعَ اللَّهُ عَلى قَلْبِهِ، وقَرَّبَ أهْلَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ وسَبَقَهم إلى الزِّيارَةِ يَوْمَ المَزِيدِ بِحَسْبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الإمامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وتَبْكِيرِهِمْ.
الخاصَّةُ الرّابِعَةُ الأمْرُ بِالِاغْتِسالِ في يَوْمِها، وهو أمْرٌ مُؤَكَّدٌ جِدًّا، ووُجُوبُهُ أقْوى مِن وُجُوبِ الوِتْرِ، وقِراءَةِ البَسْمَلَةِ في الصَّلاةِ، ووُجُوبِ الوُضُوءِ مِن مَسِّ النِّساءِ، ووُجُوبِ الوُضُوءِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ، ووُجُوبِ الوُضُوءِ مِنَ القَهْقَهَةِ في الصَّلاةِ، ووُجُوبِ الوُضُوءِ مِنَ الرُّعافِ، والحِجامَةِ والقَيْءِ، ووُجُوبِ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ في التَّشَهُّدِ الأخِيرِ، ووُجُوبِ القِراءَةِ عَلى المَأْمُومِ.
وَلِلنّاسِ في وُجُوبِهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: النَّفْيُ والإثْباتُ والتَّفْصِيلُ بَيْنَ مَن بِهِ رائِحَةٌ يَحْتاجُ إلى إزالَتِها فَيَجِبُ عَلَيْهِ ومَن هو مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ، والثَّلاثَةُ لِأصْحابِ أحمد.
الخاصَّةُ الخامِسَةُ: التَّطَيُّبُ فِيهِ، وهو أفْضَلُ مِنَ التَّطَيُّبِ في غَيْرِهِ مِن أيّامِ الأُسْبُوعِ.
الخاصَّةُ السّادِسَةُ: السِّواكُ فِيهِ، ولَهُ مَزِيَّةٌ عَلى السِّواكِ في غَيْرِهِ.
الخاصَّةُ السّابِعَةُ: التَّبْكِيرُ لِلصَّلاةِ.
الخاصَّةُ الثّامِنَةُ: أنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلاةِ والذِّكْرِ والقِراءَةِ حَتّى يَخْرُجَ الإمامُ.
الخاصَّةُ التّاسِعَةُ: الإنْصاتُ لِلْخُطْبَةِ إذا سَمِعَها وُجُوبًا في أصَحِّ القَوْلَيْنِ، فَإنْ تَرَكَهُ كانَ لاغِيًا، ومَن لَغا فَلا جُمُعَةَ لَهُ، وفي " المُسْنَدِ " مَرْفُوعًا «والَّذِي يَقُولُ لِصاحِبِهِ: أنْصِتْ، فَلا جُمُعَةَ لَهُ» الخاصَّةُ العاشِرَةُ: قِراءَةُ سُورَةِ الكَهْفِ في يَوْمِها، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «مَن قَرَأ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجُمُعَةِ سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِن تَحْتِ قَدَمِهِ إلى عَنانِ السِّماءِ يُضِيءُ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وغُفِرَ لَهُ ما بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ».
وَذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ مِن قَوْلِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وهو أشْبَهُ.
الحادِيَةَ عَشْرَةَ: إنَّهُ لا يُكْرَهُ فِعْلُ الصَّلاةِ فِيهِ وقْتَ الزَّوالِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ومَن وافَقَهُ، وهو اخْتِيارُ شَيْخِنا أبي العباس ابن تيمية، ولَمْ يَكُنِ اعْتِمادُهُ عَلى حَدِيثِ ليث عَنْ مجاهد عَنْ أبي الخليل عَنْ أبي قتادة عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، «أنَّهُ كَرِهَ الصَّلاةَ نِصْفَ النَّهارِ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ».
وَقالَ: «إنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ» - وإنَّما كانَ اعْتِمادُهُ عَلى أنَّ مَن جاءَ إلى الجُمُعَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ حَتّى يَخْرُجَ الإمامُ، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطاعَ مِن طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الإمامُ إلّا غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرى» رَواهُ البُخارِيُّ، فَنَدَبَهُ إلى الصَّلاةِ ما كُتِبَ لَهُ، ولَمْ يَمْنَعْهُ عَنْها إلّا في وقْتِ خُرُوجِ الإمامِ، ولِهَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وتَبِعَهُ عَلَيْهِ الإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خُرُوجُ الإمامِ يَمْنَعُ الصَّلاةَ وخُطْبَتُهُ تَمْنَعُ الكَلامَ، فَجَعَلُوا المانِعَ مِنَ الصَّلاةِ خُرُوجَ الإمامِ لا انْتِصافَ النَّهارِ.
وَأيْضًا فَإنَّ النّاسَ يَكُونُونَ في المَسْجِدِ تَحْتَ السُّقُوفِ، ولا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الزَّوالِ، والرَّجُلُ يَكُونُ مُتَشاغِلًا بِالصَّلاةِ لا يَدْرِي بِوَقْتِ الزَّوالِ، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَخْرُجَ، ويَتَخَطّى رِقابَ النّاسِ، ويَنْظُرَ إلى الشَّمْسِ ويَرْجِعَ، ولا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ.
وَحَدِيثُ أبي قتادة هَذا، قالَ أبو داود: هو مُرْسَلٌ لِأنَّ أبا الخليل لَمْ يَسْمَعْ مِن أبي قتادة، والمُرْسَلُ إذا اتَّصَلَ بِهِ عَمِلَ، وعَضَّدَهُ قِياسٌ، أوْ قَوْلُ صَحابِيٍّ، أوْ كانَ مُرْسِلُهُ مَعْرُوفًا بِاخْتِيارِ الشُّيُوخِ ورَغْبَتِهِ عَنِ الرِّوايَةِ عَنِ الضُّعَفاءِ والمَتْرُوكِينَ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عُمِلَ بِهِ.
وَأيْضًا فَقَدْ عَضَّدَهُ شَواهِدُ أُخَرُ مِنها ما ذَكَرَهُ الشّافِعِيُّ في كِتابِهِ فَقالَ: رُوِيَ عَنْ إسْحاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهى عَنِ الصَّلاةِ نِصْفَ النَّهارِ حَتّى تَزُولَ الشَّمْسُ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ»
هَكَذا رَواهُ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتابِ " اخْتِلافِ الحَدِيثِ " ورَواهُ في " كِتابِ الجُمُعَةِ ": حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد عَنْ إسحاق، ورَواهُ أبُو خالِدٍ الأحْمَرُ عَنْ شَيْخٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ يُقالُ لَهُ: عبد الله بن سعيد المقبري، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وقَدْ رَواهُ البيهقي في " المَعْرِفَةِ " مِن حَدِيثِ عطاء بن عجلان عَنْ أبِي نَضْرَةَ، عَنْ أبي سعيد وأبِي هُرَيْرَةَ قالا: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَنْهى عَنِ الصَّلاةِ نِصْفَ النَّهارِ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ». ولَكِنَّ إسْنادَهُ فِيهِ مَن لا يُحْتَجُّ بِهِ، قالَهُ البيهقي قالَ: ولَكِنْ إذا انْضَمَّتْ هَذِهِ الأحادِيثُ إلى حَدِيثِ أبي قتادة أحْدَثَتْ بَعْضَ القُوَّةِ.
قالَ الشّافِعِيُّ: مِن شَأْنِ النّاسِ التَّهْجِيرُ إلى الجُمُعَةِ والصَّلاةُ إلى خُرُوجِ الإمامِ، قالَ البيهقي: الَّذِي أشارَ إلَيْهِ الشّافِعِيُّ مَوْجُودٌ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَغَّبَ في التَّبْكِيرِ إلى الجُمُعَةِ، وفي الصَّلاةِ إلى خُرُوجِ الإمامِ مِن غَيْرِ اسْتِثْناءٍ، وذَلِكَ يُوافِقُ هَذِهِ الأحادِيثَ الَّتِي أُبِيحَتْ فِيها الصَّلاةُ نِصْفَ النَّهارِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ورُوِّينا الرُّخْصَةَ في ذَلِكَ عَنْ عَطاءٍ وطاوُوسٍ والحَسَنِ ومَكْحُولٍ.
قُلْتُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في كَراهَةِ الصَّلاةِ نِصْفَ النَّهارِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ أحَدُها: أنَّهُ لَيْسَ وقْتَ كَراهَةٍ بِحالٍ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ.
الثّانِي: أنَّهُ وقْتُ كَراهَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ وغَيْرِها، وهو مَذْهَبُ أبي حنيفة، والمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ أحمد.
والثّالِثُ: أنَّهُ وقْتُ كَراهَةٍ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَلَيْسَ بِوَقْتِ كَراهَةٍ، وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ.
الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: قِراءَةُ (سُورَةِ الجُمُعَةِ) و(المُنافِقِينَ) أوْ (سَبِّحْ والغاشِيَةِ) في صَلاةِ الجُمُعَةِ، فَقَدْ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ بِهِنَّ في الجُمُعَةِ، ذَكَرَهُ مسلم في " صَحِيحِهِ ".
وَفِيهِ أيْضًا: أنَّهُ ﷺ كانَ يَقْرَأُ فِيها بِ (الجُمُعَةِ) و﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ.
وَلا يُسْتَحَبُّ أنْ يَقْرَأ مِن كُلِّ سُورَةٍ بَعْضَها أوْ يَقْرَأُ إحْداهُما في الرَّكْعَتَيْنِ، فَإنَّهُ خِلافُ السُّنَّةِ، وجُهّالُ الأئِمَّةِ يُداوِمُونَ عَلى ذَلِكَ.
الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ مُتَكَرِّرٍ في الأُسْبُوعِ، وقَدْ رَوى أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ ماجَهْ في " سُنَنِهِ " مِن حَدِيثِ أبي لبابة بن عبد المنذر قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
«إنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ سَيِّدُ الأيّامِ، وأعْظَمُها عِنْدَ اللَّهِ، وهو أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِن يَوْمِ الأضْحى، ويَوْمِ الفِطْرِ، فِيهِ خَمْسُ خِلالٍ: خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وأهْبَطَ فِيهِ آدَمَ إلى الأرْضِ، وفِيهِ تَوَفّى اللَّهُ آدَمَ، وفِيهِ ساعَةٌ لا يَسْألُ اللَّهَ العَبْدُ فِيها شَيْئًا إلّا أعْطاهُ، ما لَمْ يَسْألْ حَرامًا، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ، ما مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا سَماءٍ ولا أرْضٍ ولا رِياحٍ ولا جِبالٍ ولا شَجَرٍ إلّا وهُنَّ يُشْفِقْنَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ».
الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ يُسْتَحَبُّ أنْ يُلْبَسَ فِيهِ أحْسَنُ الثِّيابِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْها، فَقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ في " مُسْنَدِهِ " مِن حَدِيثِ أبي أيوب قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ومَسَّ مِن طِيبٍ إنْ كانَ لَهُ، ولَبِسَ مِن أحْسَنِ ثِيابِهِ ثُمَّ خَرَجَ وعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتى يَأْتِيَ المَسْجِدَ، ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ بَدا لَهُ، ولَمْ يُؤْذِ أحَدًا، ثُمَّ أنْصَتَ إذا خَرَجَ إمامُهُ حَتّى يُصَلِّيَ، كانَتْ كَفّارَةً لِما بَيْنَهُما».
وَفِي " سُنَنِ أبي داود " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، «أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَلى المِنبَرِ في يَوْمِ الجُمُعَةِ: (ما عَلى أحَدِكم لَوِ اشْتَرى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الجُمُعَةِ سِوى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ)».
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ " عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ النّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَرَأى عَلَيْهِمْ ثِيابَ النِّمارِ، فَقالَ: «ما عَلى أحَدِكم إنْ وجَدَ سَعَةً أنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ».
الخامِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ تَجْمِيرُ المَسْجِدِ، فَقَدْ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُجْمِرِ، أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمَرَ أنْ يُجَمَّرَ مَسْجِدُ المَدِينَةِ كُلَّ جُمُعَةٍ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهارُ.
قُلْتُ: ولِذَلِكَ سُمِّيَ نُعَيْمٌ المُجْمِرَ.
السّادِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ لا يَجُوزُ السَّفَرُ في يَوْمِها لِمَن تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ قَبْلَ فِعْلِها بَعْدَ دُخُولِ وقْتِها، وأمّا قَبْلَهُ فَلِلْعُلَماءِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ وهي رِواياتٌ مَنصُوصاتٌ عَنْ أحمد، أحَدُها: لا يَجُوزُ، والثّانِي: يَجُوزُ، والثّالِثُ: يَجُوزُ لِلْجِهادِ خاصَّةً.
وَأمّا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَيَحْرُمُ عِنْدَهُ إنْشاءُ السَّفَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوالِ، ولَهم في سَفَرِ الطّاعَةِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: تَحْرِيمُهُ، وهو اخْتِيارُ النووي، والثّانِي: جَوازُهُ وهو اخْتِيارُ الرافعي.
وَأمّا السَّفَرُ قَبْلَ الزَّوالِ، فَلِلشّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلانِ: القَدِيمُ: جَوازُهُ، والجَدِيدُ أنَّهُ كالسَّفَرِ بَعْدَ زَوالٍ.
وَأمّا مَذْهَبُ مالك، فَقالَ صاحِبُ " التَّفْرِيعِ ": ولا يُسافِرُ أحَدٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوالِ حَتّى يُصَلِّيَ الجُمُعَةَ، ولا بَأْسَ أنْ يُسافِرَ قَبْلَ الزَّوالِ، والِاخْتِيارُ: أنْ لا يُسافِرَ إذا طَلَعَ الفَجْرُ وهو حاضِرٌ حَتّى يُصَلِّيَ الجُمُعَةَ.
وَذَهَبَ أبو حنيفة إلى جَوازِ السَّفَرِ مُطْلَقًا، وقَدْ رَوى الدّارَقُطْنِيُّ في " الإفْرادِ " مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ:
«مَن سافَرَ مِن دارِ إقامَتِهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ ألّا يُصْحَبَ في سَفَرِهِ».
وَهُوَ مِن حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
وَفِي " مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ " مِن حَدِيثِ الحكم عَنْ مقسم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ في سَرِيَّةٍ، فَوافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، قالَ: فَغَدا أصْحابُهُ، وقالَ أتَخَلَّفُ وأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ ألْحَقُهُمْ، فَلَمّا صَلّى النَّبِيُّ ﷺ رَآهُ فَقالَ: ما مَنَعَكَ أنْ تَغْدُوَ مَعَ أصْحابِكَ؟ فَقالَ: أرَدْتُ أنْ أُصَلِّيَ مَعَكُ ثُمَّ ألْحَقُهُمْ، فَقالَ: " لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ ما أدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ».
وَأُعِلَّ هَذا الحَدِيثُ بِأنَّ الحكم لَمْ يَسْمَعْ مِن مقسم.
هَذا إذا لَمْ يَخَفِ المُسافِرُ فَوْتَ رُفْقَتِهِ، فَإنْ خافَ فَوْتَ رُفْقَتِهِ وانْقِطاعَهُ بَعْدَهم جازَ لَهُ السَّفَرُ مُطْلَقًا، لِأنَّ هَذا عُذْرٌ يُسْقِطُ الجُمُعَةَ والجَماعَةَ.
وَلَعَلَّ ما رُوِيَ عَنِ الأوْزاعِيِّ - أنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُسافِرٍ سَمِعَ أذانَ الجُمُعَةِ وقَدْ أسْرَجَ دابَّتَهُ، فَقالَ لِيَمْضِ عَلى سَفَرِهِ - مَحْمُولٌ عَلى هَذا، وكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الجُمُعَةُ لا تَحْبِسُ عَنِ السَّفَرِ.
وَإنْ كانَ مُرادُهم جَوازَ السَّفَرِ مُطْلَقًا فَهي مَسْألَةُ نِزاعٍ. والدَّلِيلُ: هو الفاصِلُ عَلى أنَّ عبد الرزاق قَدْ رَوى في " مُصَنَّفِهِ " عَنْ معمر عَنْ خالِدٍ الحَذّاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أوْ غَيْرِهِ (أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَأى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيابُ سَفَرٍ بَعْدَ ما قَضى الجُمُعَةَ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ قالَ: أرَدْتُ سَفَرًا فَكَرِهْتُ أنْ أخْرُجَ حَتّى أُصَلِّيَ، فَقالَ عُمَرُ: إنَّ الجُمُعَةَ لا تَمْنَعُكَ السَّفَرَ ما لَمْ يَحْضُرْ وقْتُها) فَهَذا قَوْلُ مَن يَمْنَعُ السَّفَرَ بَعْدَ الزَّوالِ ولا يَمْنَعُ مِنهُ قَبْلَهُ.
وَذَكَرَهُ عبد الرزاق أيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنِ الأسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أبِيهِ قالَ: (أبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَجُلًا عَلَيْهِ هَيْئَةُ السَّفَرِ، وقالَ الرَّجُلُ: إنَّ اليَوْمَ يَوْمُ جُمُعَةٍ ولَوْلا ذَلِكَ لَخَرَجْتُ، فَقالَ عمر: إنَّ الجُمُعَةَ لا تَحْبِسُ مُسافِرًا فاخْرُجْ ما لَمْ يَحِنِ الرَّواحُ).
وَذَكَرَ أيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ عَنْ صالح بن كثير عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُسافِرًا يَوْمَ الجُمُعَةِ ضُحًى قَبْلَ الصَّلاةِ».
وَذَكَرَ عَنْ معمر قالَ: سَألْتُ يَحْيى بْنَ أبِي كَثِيرٍ: هَلْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ؟ فَكَرِهَهُ، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ، فَقالَ لِي: قَلَّما يَخْرُجُ رَجُلٌ في يَوْمِ الجُمُعَةِ إلّا رَأى ما يَكْرَهُهُ، لَوْ نَظَرْتَ في ذَلِكَ وجَدْتَهُ كَذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ المُبارَكِ عَنِ الأوْزاعِيِّ عَنْ حسان بن أبي عطية قالَ: إذا سافَرَ الرُّجُلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ دَعا عَلَيْهِ النَّهارُ أنْ لا يُعانَ عَلى حاجَتِهِ، ولا يُصاحَبَ في سَفَرِهِ.
وَذَكَرَ الأوْزاعِيُّ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، أنَّهُ قالَ: السَّفَرُ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لعطاء: أبَلَغَكَ أنَّهُ كانَ يُقالُ: إذا أمْسى في قَرْيَةٍ جامِعَةٍ مِن لَيْلَةِ الجُمُعَةِ، فَلا يَذْهَبُ حَتّى يُجَمِّعَ؟ قالَ إنَّ ذَلِكَ لَيُكْرَهُ.
قُلْتُ: فَمِن يَوْمِ الخَمِيسِ؟ قالَ لا، ذَلِكَ النَّهارُ فَلا يَضُرُّهُ.
السّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ لِلْماشِي إلى الجُمُعَةِ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أجْرَ سَنَةٍ صِيامَها وقِيامَها، قالَ عبد الرزاق: عَنْ معمر عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي قلابة عَنْ أبِي الأشْعَثِ الصَّنْعانِيِّ، عَنْ أوس بن أوس قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن غَسَّلَ واغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وبَكَّرَ وابْتَكَرَ، ودَنا مِنَ الإمامِ فَأنْصَتَ، كانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها صِيامُ سَنَةٍ وقِيامُها وذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ». ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ في " مُسْنَدِهِ ".
وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: غَسَّلَ، بِالتَّشْدِيدِ: جامَعَ أهْلَهُ، وكَذَلِكَ فَسَّرَهُ وكِيعٌ.
الثّامِنَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ يَوْمُ تَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ، فَقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ في " مُسْنَدِهِ " عَنْ سلمان قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللَّهُ ﷺ: " أتَدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ؟ "
قُلْتُ: هو اليَوْمُ الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ أباكم آدَمَ قالَ: " ولَكِنِّي أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ، لا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الجُمُعَةَ فَيُنْصِتُ حَتّى يَقْضِيَ الإمامُ صَلاتَهُ، إلّا كانَتْ كَفّارَةً لِما بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ ما اجْتُنِبَتِ المَقْتَلَةُ».
وَفِي " المُسْنَدِ " أيْضًا مِن حَدِيثِ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ، عَنْ نبيشة الهذلي، أنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: " «إنَّ المُسْلِمَ إذا اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثُمَّ أقْبَلَ إلى المَسْجِدِ لا يُؤْذِي أحَدًا، فَإنْ لَمْ يَجِدِ الإمامَ خَرَجَ، صَلّى ما بَدا لَهُ، وإنْ وجَدَ الإمامَ قَدْ خَرَجَ جَلَسَ فاسْتَمَعَ وأنْصَتَ حَتّى يَقْضِيَ الإمامُ جُمُعَتَهُ وكَلامَهُ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ في جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّها، أنْ تَكُونَ كَفّارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيها».
وَفِي " صَحِيحِ البُخارِيِّ " عَنْ سلمان قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ:
«لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطاعَ مِن طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الإمامُ، إلّا غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرى».
وَفِي " مُسْنَدِ أحمد " مِن حَدِيثِ أبِي الدَّرْداءِ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثُمَّ لَبِسَ ثِيابَهُ، ومَسَّ طِيبًا إنْ كانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ مَشى إلى الجُمُعَةِ وعَلَيْهِ السَّكِينَةُ ولَمْ يَتَخَطَّ أحَدًا ولَمْ يُؤْذِهِ ورَكَعَ ما قُضِيَ لَهُ، ثُمَّ انْتَظَرَ حَتّى يَنْصَرِفَ الإمامُ غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ» ".
التّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ كُلَّ يَوْمٍ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أبي قتادة في ذَلِكَ، وسِرُّ ذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ أفْضَلُ الأيّامِ عِنْدَ اللَّهِ، ويَقَعُ فِيهِ مِنَ الطّاعاتِ والعِباداتِ والدَّعَواتِ والِابْتِهالِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ما يَمْنَعُ مِن تَسْجِيرِ جَهَنَّمَ فِيهِ. ولِذَلِكَ تَكُونُ مَعاصِي أهْلِ الإيمانِ فِيهِ أقَلَّ مِن مَعاصِيهِمْ في غَيْرِهِ، حَتّى إنَّ أهْلَ الفُجُورِ لَيَمْتَنِعُونَ فِيهِ مِمّا لا يَمْتَنِعُونَ مِنهُ في يَوْمِ السَّبْتِ وغَيْرِهِ.
وَهَذا الحَدِيثُ الظّاهِرُ مِنهُ أنَّ المُرادَ سَجْرُ جَهَنَّمَ في الدُّنْيا، وأنَّها تُوقَدُ كُلَّ يَوْمٍ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ، وأمّا يَوْمُ القِيامَةِ فَإنَّهُ لا يَفْتُرُ عَذابُها، ولا يُخَفَّفُ عَنْ أهْلِها الَّذِينَ هم أهْلُها يَوْمًا مِنَ الأيّامِ، ولِذَلِكَ يَدْعُونَ الخَزَنَةَ أنْ يَدْعُوا رَبَّهم لِيُخَفِّفَ عَنْهم يَوْمًا مِنَ العَذابِ، فَلا يُجِيبُونَهم إلى ذَلِكَ.
العِشْرُونَ: أنَّ فِيهِ ساعَةَ الإجابَةِ، وهي السّاعَةُ الَّتِي لا يَسْألُ اللَّهَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِيها شَيْئًا إلّا أعْطاهُ، فَفي " الصَّحِيحَيْنِ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهو قائِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ اللَّهَ شَيْئًا إلّا أعْطاهُ إيّاهُ، وقالَ: بِيَدِهِ يُقَلِّلُها».
وَفِي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ أبي لبابة بن عبد المنذر، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«سَيِّدُ الأيّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وأعْظَمُها عِنْدَ اللَّهِ، وأعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِن يَوْمِ الفِطْرِ، ويَوْمِ الأضْحى، وفِيهِ خَمْسُ خِصالٍ، خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وأهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إلى الأرْضِ، وفِيهِ تَوَفّى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ آدَمَ، وفِيهِ ساعَةٌ لا يَسْألُ اللَّهَ العَبْدُ فِيها شَيْئًا إلّا آتاهُ اللَّهُ إيّاهُ ما لَمْ يَسْألْ حَرامًا، وفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ، ما مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا أرْضٍ ولا رِياحٍ ولا بَحْرٍ ولا جِبالٍ ولا شَجَرٍ إلّا وهُنَّ يُشْفِقْنَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ».
* [فصل في بَيانُ اخْتِلافِ النّاسِ في ساعَةِ الإجابَةِ]
وَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في هَذِهِ السّاعَةِ: هَلْ هي باقِيَةٌ أوْ قَدْ رُفِعَتْ؟
عَلى قَوْلَيْنِ، حَكاهُما ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُ، والَّذِينَ قالُوا: هي باقِيَةٌ ولَمْ تُرْفَعْ، اخْتَلَفُوا هَلْ هي في وقْتٍ مِنَ اليَوْمِ بِعَيْنِهِ أمْ هي غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ؟ عَلى قَوْلَيْنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَن قالَ بِعَدَمِ تَعْيِينِها: هَلْ هي تَنْتَقِلُ في ساعاتِ اليَوْمِ، أوْ لا؟
عَلى قَوْلَيْنِ أيْضًا، والَّذِينَ قالُوا بِتَعْيِينِها اخْتَلَفُوا عَلى أحَدَ عَشَرَ قَوْلًا.
قالَ ابن المنذر: رُوِّينا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: هي مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وبَعْدَ صَلاةِ العَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
الثّانِي: أنَّها عِنْدَ الزَّوالِ، ذَكَرَهُ ابن المنذر عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وأبي العالية.
الثّالِثُ: أنَّها إذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ بِصَلاةِ الجُمُعَةِ، قالَ ابن المنذر: رُوِّينا ذَلِكَ عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
الرّابِعُ: أنَّها إذا جَلَسَ الإمامُ عَلى المِنبَرِ يَخْطُبُ حَتّى يَفْرُغَ، قالَ ابن المنذر رُوِّيناهُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ.
الخامِسُ: قالَهُ أبو بردة: هي السّاعَةُ الَّتِي اخْتارَ اللَّهُ وقْتَها لِلصَّلاةِ.
السّادِسُ: قالَهُ أبو السوار العدوي وقالَ: كانُوا يَرَوْنَ أنَّ الدَّعاءَ مُسْتَجابٌ ما بَيْنَ زَوالِ الشَّمْسِ إلى أنْ تَدْخُلَ الصَّلاةُ.
السّابِعُ: قالَهُ أبو ذر: إنِّها ما بَيْنَ أنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ شِبْرًا إلى ذِراعٍ.
الثّامِنُ: أنَّها ما بَيْنَ العَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ، وعطاء وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وطاوُسٌ، حَكى ذَلِكَ كُلَّهُ ابن المنذر.
التّاسِعُ: أنَّها آخِرُ ساعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، وهو قَوْلُ أحمد وجُمْهُورِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ.
العاشِرُ: أنَّها مِن حِينِ خُرُوجِ الإمامِ إلى فَراغِ الصَّلاةِ، حَكاهُ النووي وغَيْرُهُ.
الحادِيَ عَشَرَ: أنَّها السّاعَةُ الثّالِثَةُ مِنَ النَّهارِ، حَكاهُ صاحِبُ " المُغْنِي " فِيهِ.
وَقالَ كعب: لَوْ قَسَّمَ الإنْسانُ جُمُعَةً في جُمَعٍ، أتى عَلى تِلْكَ السّاعَةِ.
وَقالَ عمر: إنَّ طَلَبَ حاجَةٍ في يَوْمٍ لَيَسِيرٌ.
وَأرْجَحُ هَذِهِ الأقْوالِ: قَوْلانِ تَضَمَّنَتْهُما الأحادِيثُ الثّابِتَةُ، وأحَدُهُما أرْجَحُ مِنَ الآخَرِ.
الأوَّلُ: أنَّها مِن جُلُوسِ الإمامِ إلى انْقِضاءِ الصَّلاةِ، وحُجَّةُ هَذا القَوْلِ ما رَوى مسلم في " صَحِيحِهِ " مِن حَدِيثِ أبِي بُرْدَةَ بْنِ أبِي مُوسى، «أنَّ عبد الله بن عمر قالَ لَهُ: أسَمِعْتَ أباكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في شَأْنِ ساعَةِ الجُمُعَةِ شَيْئًا؟ قالَ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " هي ما بَيْنَ أنْ يَجْلِسَ الإمامُ إلى أنْ تُقْضى الصَّلاةُ» ".
وَرَوى ابْنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ عمرو بن عوف المزني، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ في الجُمُعَةِ ساعَةً لا يَسْألُ اللَّهَ العَبْدُ فِيها شَيْئًا إلّا آتاهُ اللَّهُ إيّاهُ " قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! أيَّةُ ساعَةٍ هِيَ؟ قالَ: " حِينَ تُقامُ الصَّلاةُ إلى الِانْصِرافِ مِنها» ".
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها بَعْدَ العَصْرِ، وهَذا أرْجَحُ القَوْلَيْنِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ والإمامِ أحْمَدَ وخَلْقٍ. وحُجَّةُ هَذا القَوْلِ ما رَواهُ أحمد في " مُسْنَدِهِ " مِن حَدِيثِ أبي سعيد وأبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«إنَّ في الجُمُعَةِ ساعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللَّهَ فِيها خَيْرًا إلّا أعْطاهُ إيّاهُ وهي بَعْدَ العَصْرِ».
وَرَوى أبو داود والنَّسائِيُّ عَنْ جابر عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«يَوْمُ الجُمُعَةِ اثْنا عَشَرَ ساعَةً، فِيها ساعَةٌ لا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللَّهَ فِيها شَيْئًا إلّا أعْطاهُ، فالتَمِسُوها آخِرَ ساعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ».
* (فصل)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في هَذِهِ السّاعَةِ عَلى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّها مِن أوَّلِ النَّهارِ وهَذا هو المَعْرُوفُ في مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وغَيْرِهِما.
والثّانِي: أنَّها أجْزاءٌ مِنَ السّاعَةِ السّادِسَةِ بَعْدَ الزَّوالِ، وهَذا هو المَعْرُوفُ في مَذْهَبِ مالك، واخْتارَهُ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ.
الخامِسَةُ والعِشْرُونَ: أنَّ لِلصَّدَقَةِ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَيْها في سائِرِ الأيّامِ، والصَّدَقَةُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى سائِرِ أيّامِ الأُسْبُوعِ كالصَّدَقَةِ في شَهْرِ رَمَضانَ بِالنِّسْبَةِ إلى سائِرِ الشُّهُورِ.
وَشاهَدْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ إذا خَرَجَ إلى الجُمُعَةِ يَأْخُذُ ما وجَدَ في البَيْتِ مِن خُبْزٍ أوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ في طَرِيقِهِ سِرًّا، وسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إذا كانَ اللَّهُ قَدْ أمَرَنا بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُناجاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فالصَّدَقَةُ بَيْنَ يَدَيْ مُناجاتِهِ تَعالى أفْضَلُ وأوْلى بِالفَضِيلَةِ.
وَقالَ أحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ: حَدَّثَنا أبِي حَدَّثَنا جرير عَنْ منصور عَنْ مجاهد عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اجْتَمَعَ أبُو هُرَيْرَةَ وكعب فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يُوافِقُها رَجُلٌ مُسْلِمٌ في صَلاةٍ يَسْألُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ شَيْئًا إلّا آتاهُ إيّاهُ، فَقالَ كعب: أنا أُحَدِّثُكم عَنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، إنَّهُ إذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَزِعَتْ لَهُ السَّماواتُ والأرْضُ والبَرُّ والبَحْرُ والجِبالُ والشَّجَرُ والخَلائِقُ كُلُّها إلّا ابْنَ آدَمَ والشَّياطِينَ، وحَفَّتِ المَلائِكَةُ بِأبْوابِ المَسْجِدِ فَيَكْتُبُونَ مَن جاءَ الأوَّلَ فالأوَّلَ حَتّى يَخْرُجَ الإمامُ، فَإذا خَرَجَ الإمامُ طَوَوْا صُحُفَهم فَمَن جاءَ بَعْدُ جاءَ لِحَقِّ اللَّهِ لِما كُتِبَ عَلَيْهِ، وحَقٌّ عَلى كُلِّ حالِمٍ أنْ يَغْتَسِلَ يَوْمَئِذٍ كاغْتِسالِهِ مِنَ الجَنابَةِ، والصَّدَقَةُ فِيهِ أعْظَمُ مِنَ الصَّدَقَةِ في سائِرِ الأيّامِ، ولَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ولَمْ تَغْرُبْ عَلى مِثْلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا حَدِيثُ كعب وأبِي هُرَيْرَةَ وأنا أرى إنْ كانَ لِأهْلِهِ طِيبٌ يَمَسُّ مِنهُ.
السّادِسَةُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ يَوْمُ يَتَجَلّى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ لِأوْلِيائِهِ المُؤْمِنِينَ في الجَنَّةِ، وزِيارَتُهم لَهُ، فَيَكُونُ أقْرَبُهم مِنهم أقْرَبَهم مِنَ الإمامِ، وأسْبَقُهم إلى الزِّيارَةِ أسْبَقَهم إلى الجُمُعَةِ. ورَوى يَحْيى بْنُ يَمانٍ عَنْ شريك عَنْ أبي اليقظان، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿وَلَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ [ق: ٣٥]
قالَ: «يَتَجَلّى لَهم في كُلِّ جُمُعَةٍ».
وَذَكَرَ الطَّبَرانِيُّ في " مُعْجَمِهِ " مِن حَدِيثِ أبي نعيم المسعودي عَنِ المِنهالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أبي عبيدة قالَ: قالَ عبد الله: (سارِعُوا إلى الجُمُعَةِ فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَبْرُزُ لِأهْلِ الجَنَّةِ في كُلِّ جُمُعَةٍ في كَثِيبٍ مِن كافُورٍ فَيَكُونُونَ مِنهُ فِي
القُرْبِ عَلى قَدْرِ تَسارُعِهِمْ إلى الجُمُعَةِ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ سُبْحانَهُ لَهم مِنَ الكَرامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ، فَيُحَدِّثُونَهم بِما أحْدَثَ اللَّهُ لَهم. قالَ: ثُمَّ دَخَلَ عبد الله المَسْجِدَ فَإذا هو بِرَجُلَيْنِ، فَقالَ عبد الله: رَجُلانِ وأنا الثّالِثُ، إنْ يَشَأِ اللَّهُ يُبارِكْ في الثّالِثِ) وذَكَرَ البيهقي في " الشُّعَبِ " عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قالَ: رُحْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى جُمُعَةٍ فَوَجَدَ ثَلاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ، فَقالَ رابِعُ أرْبَعَةٍ وما رابِعُ أرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ. ثُمَّ قالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " «إنَّ النّاسَ يَجْلِسُونَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ اللَّهِ عَلى قَدْرِ رَواحِهِمْ إلى الجُمُعَةِ، الأوَّلُ ثُمَّ الثّانِي ثُمَّ الثّالِثُ ثُمَّ الرّابِعُ. ثُمَّ قالَ وما أرْبَعُ أرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ».
قالَ الدّارَقُطْنِيُّ في كِتابِ " الرُّؤْيَةِ ": حَدَّثَنا أحمد بن سلمان بن الحسن، حَدَّثَنا محمد بن عثمان بن محمد، حَدَّثَنا مروان بن جعفر حَدَّثَنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، حَدَّثَنا عَطاءُ بْنُ أبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ رَأى المُؤْمِنُونَ رَبَّهم فَأحْدَثُهم عَهْدًا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ مَن بَكَّرَ في كُلِّ جُمُعَةٍ، وتَراهُ المُؤْمِناتُ يَوْمَ الفِطْرِ ويَوْمَ النَّحْرِ».
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنا محمد بن موسى بن سفيان السكري، حَدَّثَنا عبد الله بن الجهم الرازي، حَدَّثَنا عمرو بن أبي قيس عَنْ أبي طيبة عَنْ عاصم عَنْ عثمان بن عمير أبي اليقظان، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ:
«أتانِي جِبْرِيلُ وفي يَدِهِ كالمِرْآةِ البَيْضاءِ فِيها كالنُّكْتَةِ السَّوْداءِ، فَقُلْتُ: ما هَذا يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: هَذِهِ الجُمُعَةُ يَعْرِضُها اللَّهُ عَلَيْكَ لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا ولِقَوْمِكَ مِن بَعْدِكَ، قُلْتُ وما لَنا فِيها؟ قالَ: لَكم فِيها خَيْرٌ، أنْتَ فِيها الأوَّلُ، واليَهُودُ والنَّصارى مِن بَعْدِكَ، ولَكَ فِيها ساعَةٌ لا يَسْألُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عَبْدٌ فِيها شَيْئًا هو لَهُ قَسْمٌ إلّا أعْطاهُ، أوْ لَيْسَ لَهُ قَسْمٌ إلّا أعْطاهُ أفْضَلَ مِنهُ، وأعاذَهُ اللَّهُ مِن شَرِّ ما هو مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وإلّا دَفَعَ عَنْهُ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ. قالَ: قُلْتُ: وما هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْداءُ؟ قالَ: هي السّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وهو عِنْدَنا سَيِّدُ الأيّامِ، ويَدْعُوهُ أهْلُ الآخِرَةِ يَوْمَ المَزِيدِ. قالَ: قُلْتُ يا جِبْرِيلُ! وما يَوْمُ المَزِيدِ؟ قالَ: ذَلِكَ أنَّ رَبَّكَ عَزَّ وجَلَّ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وادِيًا أفْيَحَ مِن مِسْكٍ أبْيَضَ، فَإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ نَزَلَ عَلى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ حُفَّ الكُرْسِيُّ بِمَنابِرَ مِن نُورٍ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتّى يَجْلِسُوا عَلَيْها، ثُمَّ حُفَّ المَنابِرُ بِمَنابِرَ مِن ذَهَبٍ، فَيَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ حَتّى يَجْلِسُوا عَلَيْها، ويَجِيءُ أهْلُ الغُرَفِ حَتّى يَجْلِسُوا عَلى الكُثُبِ، قالَ ثُمَّ يَتَجَلّى لَهم رَبُّهم عَزَّ وجَلَّ، قالَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَيَقُولُ: أنا الَّذِي صَدَقْتُكم وعْدِي وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي، وهَذا مَحَلُّ كَرامَتِي فَسَلُونِي، فَيَسْألُونَهُ الرِّضى. قالَ: رِضايَ أنْزَلَكم دارِي وأنا لَكم كَرامَتِي، فَسَلُونِي فَيَسْألُونَهُ الرِّضى. قالَ: فَيَشْهَدُ لَهم بِالرِّضى، ثُمَّ يَسْألُونَهُ حَتّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهم عِنْدَ ذَلِكَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ: ثُمَّ يَرْتَفِعُ رَبُّ العِزَّةِ ويَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ والشُّهَداءُ، ويَجِيءُ أهْلُ الغُرَفِ إلى غُرَفِهِمْ. قالَ: كُلُّ غُرْفَةٍ مِن لُؤْلُؤَةٍ لا وصْلَ فِيها ولا فَصْمَ، ياقُوتَةٌ حَمْراءُ وغُرْفَةٌ مِن زَبَرْجَدَةٍ خَضْراءَ، أبْوابُها وعَلالِيُّها وسَقائِفُها وأغْلاقُها مِنها أنْهارُها مُطَّرِدَةٌ مُتَدَلِّيَةٌ فِيها أثْمارُها فِيها أزْواجُها وخَدَمُها. قالَ: فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنهم إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ لِيَزْدادُوا مِن كَرامَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ والنَّظَرِ إلى وجْهِهِ الكَرِيمِ، فَذَلِكَ يَوْمُ المَزِيدِ».
وَلِهَذا الحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ، ذَكَرَها أبُو الحَسَنِ الدّارَقُطْنِيُّ في كِتابِ " الرُّؤْيَةِ ".
السّابِعَةُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ قَدْ فُسِّرَ الشّاهِدُ الَّذِي أقْسَمَ اللَّهُ بِهِ في كِتابِهِ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ، قالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: حَدَّثَنا عبد الله بن موسى أنْبَأنا مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أيوب بن خالد عَنْ عبد الله بن رافع عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، واليَوْمُ المَشْهُودُ هو يَوْمُ عَرَفَةَ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، ما طَلَعَتْ شَمْسٌ ولا غَرَبَتْ عَلى أفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، فِيهِ ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيها بِخَيْرٍ إلّا اسْتَجابَ لَهُ، أوْ يَسْتَعِيذُهُ مِن شَرٍّ إلّا أعاذَهُ مِنهُ».
وَرَواهُ الحارِثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ في " مُسْنَدِهِ " عَنْ روح عن موسى بن عبيدة.
وَفِي " مُعْجَمِ الطَّبَرانِيِّ " مِن حَدِيثِ محمد بن إسماعيل بن عياش، حَدَّثَنِي أبِي حَدَّثَنِي ضمضم بن زرعة عَنْ شريح بن عبيد عَنْ أبي مالك الأشعري قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، ويَوْمُ الجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنا، وصَلاةُ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ» وقَدْ رُوِيَ مِن حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
قُلْتُ: والظّاهِرُ - واللَّهُ أعْلَمُ -: أنَّهُ مِن تَفْسِيرِ أبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ قالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنا شعبة سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ ويُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثانِ عَنْ عمار مولى بني هاشم، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أمّا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ فَرَفَعَهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ، وأمّا يونس فَلَمْ يَعْدُ أبا هُرَيْرَةَ أنَّهُ (قالَ: في هَذِهِ الآيَةِ ﴿وَشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ قالَ: الشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، والمَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ).
الثّامِنَةُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي تَفْزَعُ مِنهُ السَّماواتُ والأرْضُ، والجِبالُ والبِحارُ، والخَلائِقُ كُلُّها إلّا الإنْسَ والجِنَّ، فَرَوى أبو الجواب عَنْ عمار بن زريق عَنْ منصور عَنْ مجاهد عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اجْتَمَعَ كعب وأبُو هُرَيْرَةَ فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللَّهَ فِيها خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ إلّا أعْطاهُ إيّاهُ».
فَقالَ كعب: ألا أُحَدِّثُكم عَنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، إنَّهُ إذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَزِعَتْ لَهُ السَّماواتُ والأرْضُ، والجِبالُ والبِحارُ، والخَلائِقُ كُلُّها إلّا ابْنَ آدَمَ والشَّياطِينَ، وحَفَّتِ المَلائِكَةُ بِأبْوابِ المَساجِدِ، فَيَكْتُبُونَ الأوَّلَ فالأوَّلَ حَتّى يَخْرُجَ الإمامُ، فَإذا خَرَجَ الإمامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، ومَن جاءَ بَعْدُ جاءَ لِحَقِّ اللَّهِ، ولِما كُتِبَ عَلَيْهِ، ويَحِقُّ عَلى كُلِّ حالِمٍ أنْ يَغْتَسِلَ فِيهِ، كاغْتِسالِهِ مِنَ الجَنابَةِ، والصَّدَقَةُ فِيهِ أفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ في سائِرِ الأيّامِ، ولَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ولَمْ تَغْرُبْ عَلى يَوْمٍ كَيَوْمِ الجُمُعَةِ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا حَدِيثُ كعب وأبِي هُرَيْرَةَ وأنا أرى مَن كانَ لِأهْلِهِ طِيبٌ أنْ يَمَسَّ مِنهُ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «لا تَطْلُعُ الشَّمْسُ ولا تَغْرُبُ عَلى يَوْمٍ أفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، وما مِن دابَّةٍ إلّا وهي تَفْزَعُ لِيَوْمِ الجُمُعَةِ إلّا هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ» وهَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَذَلِكَ أنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ السّاعَةُ، ويُطْوى العالَمُ، وتَخْرَبُ فِيهِ الدُّنْيا، ويُبْعَثُ فِيهِ النّاسُ إلى مَنازِلِهِمْ مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ.
التّاسِعَةُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ وأضَلَّ عَنْهُ أهْلَ الكِتابِ قَبْلَهُمْ، كَما فَيَ " الصَّحِيحِ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «ما طَلَعَتِ الشَّمْسُ ولا غَرَبَتْ عَلى يَوْمٍ خَيْرٍ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، هَدانا اللَّهُ لَهُ، وضَلَّ النّاسُ عَنْهُ، فالنّاسُ لَنا فِيهِ تَبَعٌ، هو لَنا، ولِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ ولِلنَّصارى يَوْمُ الأحَدِ». وفي حَدِيثٍ آخَرَ " ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنا ".
وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عاصِمٍ، عَنْ حصين بن عبد الرحمن، عَنْ عمر بن قيس، عَنْ محمد بن الأشعث عَنْ عائشة قالَتْ: «بَيْنا أنا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، فَأذِنَ لَهُ فَقالَ: السّامُ عَلَيْكَ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: وعَلَيْكَ. قالَتْ: فَهَمَمْتُ أنْ أتَكَلَّمَ، قالَتْ ثُمَّ دَخَلَ الثّانِيَةَ، فَقالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: وعَلَيْكَ، قالَتْ فَهَمَمْتُ أنْ أتَكَلَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الثّالِثَةَ فَقالَ: السّامُ عَلَيْكُمْ، قالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السّامُ عَلَيْكم وغَضَبُ اللَّهِ إخْوانَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، أتُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ بِما لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. قالَتْ فَنَظَرَ إلَيَّ فَقالَ: مَهْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفُحْشَ ولا التَّفَحُّشَ، قالُوا قَوْلًا فَرَدَدْناهُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَضُرَّنا شَيْئًا ولَزِمَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ، إنَّهم لا يَحْسُدُونَنا عَلى شَيْءٍ كَما يَحْسُدُونَنا عَلى الجُمُعَةِ الَّتِي هَدانا اللَّهُ لَها وضَلُّوا عَنْها، وعَلى القِبْلَةِ الَّتِي هَدانا اللَّهُ لَها وضَلُّوا عَنْها، وعَلى قَوْلِنا خَلْفَ الإمامِ آمِينَ».
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، بَيْدَ أنَّهم أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، فَهَذا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدانا اللَّهُ لَهُ، فالنّاسُ لَنا فِيهِ تَبَعٌ، اليَهُودُ غَدًا والنَّصارى بَعْدَ غَدٍ».
وَفِي " بَيْدَ " لُغَتانِ بِالباءِ وهي المَشْهُورَةُ ومَيْدَ بِالمِيمِ حَكاها أبو عبيد.
وَفِي هَذِهِ الكَلِمَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها بِمَعْنى " غَيْرَ " وهو أشْهَرُ مَعْنَيَيْها، والثّانِي: بِمَعْنى " عَلى " وأنْشَدَ أبو عبيد شاهِدًا لَهُ:
؎عَمْدًا فَعَلْتُ ذاكَ بَيْدَ أنِّي ∗∗∗ إخالُ لَوْ هَلَكْتُ لَمْ تَرِنِّي.
تَرِنِّي: تَفْعَلِي مِنَ الرَّنِينِ.
الثَّلاثُونَ: أنَّهُ خِيرَةُ اللَّهِ مِن أيّامِ الأُسْبُوعِ، كَما أنَّ شَهْرَ رَمَضانَ خِيرَتُهُ مِن شُهُورِ العامِ، ولَيْلَةُ القَدْرِ خِيرَتُهُ مِنَ اللَّيالِيِ، ومَكَّةُ خِيرَتُهُ مِنَ الأرْضِ، ومُحَمَّدٌ ﷺ خِيَرَتُهُ مِن خَلْقِهِ.
قالَ آدَمُ بْنُ أبِي إياسٍ: حَدَّثَنا شَيْبانُ أبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ عاصِمِ بْنِ أبِي النَّجُودِ، عَنْ أبي صالح، عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ. قالَ: (إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ اخْتارَ الشُّهُورَ، واخْتارَ شَهْرَ رَمَضانَ، واخْتارَ الأيّامَ، واخْتارَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، واخْتارَ اللَّيالِيَ، واخْتارَ لَيْلَةَ القَدْرِ، واخْتارَ السّاعاتِ، واخْتارَ ساعَةَ الصَّلاةِ، والجُمُعَةُ تُكَفِّرُ ما بَيْنَها وبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرى، وتَزِيدُ ثَلاثًا، ورَمَضانُ يُكَفِّرُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ رَمَضانَ، والحَجُّ يُكَفِّرُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الحَجِّ، والعُمْرَةُ تُكَفِّرُ ما بَيْنَها وبَيْنَ العُمْرَةِ، ويَمُوتُ الرَّجُلُ بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ: حَسَنَةٍ قَضاها، وحَسَنَةٍ يَنْتَظِرُها يَعْنِي صَلاتَيْنِ، وتُصَفَّدُ الشَّياطِينُ في رَمَضانَ، وتُغْلَقُ أبْوابُ النّارِ، وتُفْتَحُ فِيهِ أبْوابُ الجَنَّةِ، ويُقالُ فِيهِ: يا باغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ. رَمَضانُ أجْمَعُ، وما مِن لَيالٍ أحَبُّ إلى اللَّهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن لَيالِي العَشْرِ).
الحادِيَةُ والثَّلاثُونَ: إنَّ المَوْتى تَدْنُو أرْواحُهم مِن قُبُورِهِمْ، وتُوافِيها في يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَيَعْرِفُونَ زُوّارَهم ومَن يَمُرُّ بِهِمْ، ويُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، ويَلْقاهم في ذَلِكَ اليَوْمِ أكْثَرَ مِن مَعْرِفَتِهِمْ بِهِمْ في غَيْرِهِ مِنَ الأيّامِ، فَهو يَوْمٌ تَلْتَقِي فِيهِ الأحْياءُ والأمْواتُ، فَإذا قامَتْ فِيهِ السّاعَةُ التَقى الأوَّلُونَ والآخِرُونَ، وأهْلُ الأرْضِ وأهْلُ السَّماءِ، والرَّبُّ والعَبْدُ، والعامِلُ وعَمَلُهُ، والمَظْلُومُ وظالِمُهُ، والشَّمْسُ والقَمَرُ، ولَمْ تَلْتَقِيا قَبْلَ ذَلِكَ قَطُّ، وهو يَوْمُ الجَمْعِ واللِّقاءِ، ولِهَذا يَلْتَقِي النّاسُ فِيهِ في الدُّنْيا أكْثَرَ مِنِ التِقائِهِمْ في غَيْرِهِ، فَهو يَوْمُ التَّلاقِ.
قالَ أبو التياح يزيد بن حميد: كانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللِّهِ يُبادِرُ فَيَدْخُلُ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَأدْلَجَ حَتّى إذا كانَ عِنْدَ المَقابِرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، قالَ: فَرَأيْتُ صاحِبَ كُلِّ قَبْرٍ جالِسًا عَلى قَبْرِهِ، فَقالُوا: هَذا مطرف يَأْتِي الجُمُعَةَ، قالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ، وتَعْلَمُونَ عِنْدَكُمُ الجُمُعَةَ؟ قالُوا: نَعَمْ، ونَعْلَمُ ما تَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ، قُلْتُ: وما تَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ؟ قالُوا: تَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ يَوْمٌ صالِحٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ " المَناماتِ " وغَيْرِهِ، عَنْ بَعْضِ أهْلِ عاصم الجحدري، قالَ: رَأيْتُ عاصما الجحدري في مَنامِي بَعْدَ مَوْتِهِ لِسَنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: ألَيْسَ قَدْ مِتَّ؟ قالَ: بَلى، قُلْتُ: فَأيْنَ أنْتَ؟ قالَ: أنا واللَّهِ في رَوْضَةٍ مِن رِياضِ الجَنَّةِ، أنا ونَفَرٌ مِن أصْحابِي، نَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ وصَبِيحَتِها إلى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ فَنَتَلَقّى أخْبارَكم. قُلْتُ: أجْسامُكم أمْ أرْواحُكُمْ؟ قالَ: هَيْهاتَ بَلِيَتِ الأجْسامُ وإنَّما تَتَلاقى الأرْواحُ، قالَ: قُلْتُ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ بِزِيارَتِنا لَكُمْ؟ قالَ: نَعْلَمُ بِها عَشِيَّةَ الجُمُعَةِ، ويَوْمَ الجُمُعَةِ كُلَّهُ، ولَيْلَةَ السَّبْتِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ. قالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ دُونَ الأيّامِ كُلِّها؟ قالَ: لِفَضْلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ وعَظَمَتِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا أيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ واسِعٍ، أنَّهُ كانَ يَذْهَبُ كُلَّ غَداةِ سَبْتٍ حَتّى يَأْتِيَ الجَبّانَةَ، فَيَقِفُ عَلى القُبُورِ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ويَدْعُو لَهم ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ صَيَّرْتَ هَذا اليَوْمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. قالَ: بَلَغَنِي أنَّ المَوْتى يَعْلَمُونَ بِزُوّارِهِمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ويَوْمًا قَبْلَهُ ويَوْمًا بَعْدَهُ.
وَذَكَرَ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ قالَ: بَلَغَنِي عَنِ الضحاك، أنَّهُ قالَ: مَن زارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، عَلِمَ المَيَّتُ بِزِيارَتِهِ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قالَ: لِمَكانِ يَوْمِ الجُمُعَةِ.
الثّانِيَةُ والثَّلاثُونَ: أنَّهُ يُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، هَذا مَنصُوصُ أحمد، قالَ الأثرم: قِيلَ لأبي عبد الله: صِيامُ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ أنْ يُفْرَدَ، ثُمَّ قالَ: إلّا أنْ يَكُونَ في صِيامٍ كانَ يَصُومُهُ، وأمّا أنْ يُفْرَدَ فَلا. قُلْتُ: رَجُلٌ كانَ يَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمًا، فَوَقَعَ فِطْرُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ، وصَوْمُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وفِطْرُهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَصارَ الجُمُعَةُ مُفْرَدًا؟ قالَ: هَذا إلّا أنْ يَتَعَمَّدَ صَوْمَهُ خاصَّةً، إنَّما كُرِهَ أنْ يَتَعَمَّدَ الجُمُعَةَ.
وَأباحَ مالك، وأبو حنيفة صَوْمَهُ كَسائِرِ الأيّامِ.
قالَ مالك: لَمْ أسْمَعْ أحَدًا مِن أهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ ومَن يُقْتَدى بِهِ يَنْهى عَنْ صِيامِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وصِيامُهُ حَسَنٌ، وقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ يَصُومُهُ، وأراهُ كانَ يَتَحَرّاهُ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: اخْتَلَفَتِ الآثارُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في صِيامِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَرَوى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كانَ يَصُومُ ثَلاثَةَ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ» وقالَ: قَلَّما رَأيْتُهُ مُفْطِرًا يَوْمَ الجُمُعَةِ، وهَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أنَّهُ قالَ: «ما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُفْطِرُ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَطُّ».
ذَكَرَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِياثٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عمير بن أبي عمير عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَصُومُهُ ويُواظِبُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مغيرة، عَنْ إبراهيم: أنَّهم كَرِهُوا صَوْمَ الجُمُعَةِ لِيَقْوَوْا عَلى الصَّلاةِ.
قُلْتُ: المَأْخَذُ في كَراهَتِهِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ، هَذا أحَدُها، ولَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ زَوالُ الكَراهِيَةِ بِضَمِّ يَوْمٍ قَبْلَهُ، أوْ بَعْدَهُ إلَيْهِ.
والثّانِي: أنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وهو الَّذِي أشارَ إلَيْهِ ﷺ، وقَدْ أُورِدَ عَلى هَذا التَّعْلِيلِ إشْكالانِ. أحَدُهُما: أنَّ صَوْمَهُ لَيْسَ بِحَرامٍ، وصَوْمُ يَوْمِ العِيدِ حَرامٌ. والثّانِي: أنَّ الكَراهَةَ تَزُولُ بِعَدَمِ إفْرادِهِ، وأُجِيبَ عَنِ الإشْكالَيْنِ بِأنَّهُ لَيْسَ عِيدُ العامِ، بَلْ عِيدُ الأُسْبُوعِ، والتَّحْرِيمُ إنَّما هو لِصَوْمِ عِيدِ العامِ.
وَأمّا إذا صامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أوْ يَوْمًا بَعْدَهُ فَلا يَكُونُ قَدْ صامَهُ لِأجْلِ كَوْنِهِ جُمُعَةً وعِيدًا، فَتَزُولُ المَفْسَدَةُ النّاشِئَةُ مِن تَخْصِيصِهِ، بَلْ يَكُونُ داخِلًا في صِيامِهِ تَبَعًا، وعَلى هَذا يُحْمَلُ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ في " مُسْنَدِهِ " والنَّسائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إنْ صَحَّ قالَ: «قَلَّما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُفْطِرُ يَوْمَ جُمُعَةٍ» ".
فَإنْ صَحَّ هَذا تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ كانَ يَدْخُلُ في صِيامِهِ تَبَعًا، لا أنَّهُ كانَ يُفْرِدُهُ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ.
وَأيْنَ أحادِيثُ النَّهْيِ الثّابِتَةُ في " الصَّحِيحَيْنِ " مِن حَدِيثِ الجَوازِ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ مِن أهْلِ الصَّحِيحِ، وقَدْ حَكَمَ الترمذي بِغَرابَتِهِ، فَكَيْفَ تُعارَضُ بِهِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ ثُمَّ يُقَدَّمُ عَلَيْها؟!
والمَأْخَذُ الثّالِثُ: سَدُّ الذَّرِيعَةِ مِن أنْ يُلْحِقَ بِالدِّينِ ما لَيْسَ فِيهِ، ويُوجِبَ التَّشَبُّهَ بِأهْلِ الكِتابِ في تَخْصِيصِ بَعْضِ الأيّامِ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ الأعْمالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ويَنْضَمُّ إلى هَذا المَعْنى: أنَّ هَذا اليَوْمَ لَمّا كانَ ظاهِرَ الفَضْلِ عَلى الأيّامِ، كانَ الدّاعِي إلى صَوْمِهِ قَوِيًّا، فَهو في مَظِنَّةِ تَتابُعِ النّاسِ في صَوْمِهِ، واحْتِفالِهِمْ بِهِ ما لا يَحْتَفِلُونَ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وفي ذَلِكَ إلْحاقٌ بِالشَّرْعِ ما لَيْسَ مِنهُ. ولِهَذا المَعْنى - واللَّهُ أعْلَمُ - نُهِيَ عَنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ الجُمُعَةِ بِالقِيامِ مِن بَيْنِ اللَّيالِي، لِأنَّها مِن أفْضَلِ اللَّيالِي، حَتّى فَضَّلَها بَعْضُهم عَلى لَيْلَةِ القَدْرِ، وحُكِيَتْ رِوايَةٌ عَنْ أحمد فَهي في مَظِنَّةِ تَخْصِيصِها بِالعِبادَةِ، فَحَسَمَ الشّارِعُ الذَّرِيعَةَ وسَدَّها بِالنَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِها بِالقِيامِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
فَإنْ قِيلَ: ما تَقُولُونَ في تَخْصِيصِ يَوْمٍ غَيْرِهِ بِالصِّيامِ؟
قِيلَ: أمّا تَخْصِيصُ ما خَصَّصَهُ الشّارِعُ، كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ ويَوْمِ عَرَفَةَ ويَوْمِ عاشُوراءَ فَسُنَّةٌ، وأمّا تَخْصِيصُ غَيْرِهِ كَيَوْمِ السَّبْتِ والثَّلاثاءِ والأحَدِ والأرْبِعاءِ فَمَكْرُوهٌ.
وَما كانَ مِنها أقْرَبَ إلى التَّشَبُّهِ بِالكُفّارِ لِتَخْصِيصِ أيّامِ أعْيادِهِمْ بِالتَّعْظِيمِ والصِّيامِ فَأشَدُّ كَراهَةً وأقْرَبُ إلى التَّحْرِيمِ.
الثّالِثَةُ والثَّلاثُونَ: إنَّهُ يَوْمُ اجْتِماعِ النّاسِ وتَذْكِيرِهِمْ بِالمَبْدَأِ والمَعادِ، وقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ في الأُسْبُوعِ يَوْمًا يَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبادَةِ ويَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِتَذَكُّرِ المَبْدَأِ والمَعادِ، والثَّوابِ والعِقابِ، ويَتَذَكَّرُونَ بِهِ اجْتِماعَهم يَوْمَ الجَمْعِ الأكْبَرِ قِيامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العالَمِينَ، وكانَ أحَقُّ الأيّامِ بِهَذا الغَرَضِ المَطْلُوبِ اليَوْمَ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الخَلائِقَ، وذَلِكَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فادَّخَرَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ لِفَضْلِها وشَرَفِها، فَشَرَعَ اجْتِماعَهم في هَذا اليَوْمِ لِطاعَتِهِ، وقَدَّرَ اجْتِماعَهم فِيهِ مَعَ الأُمَمِ لِنَيْلِ كَرامَتِهِ، فَهو يَوْمُ الِاجْتِماعِ شَرْعًا في الدُّنْيا، وقَدَرًا في الآخِرَةِ، وفي مِقْدارِ انْتِصافِهِ وقْتَ الخُطْبَةِ والصَّلاةِ يَكُونُ أهْلُ الجَنَّةِ في مَنازِلِهِمْ، وأهْلُ النّارِ في مَنازِلِهِمْ، كَما ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِن غَيْرِ وجْهٍ أنَّهُ قالَ: (لا يَنْتَصِفُ النَّهارُ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى يَقِيلَ أهْلُ الجَنَّةِ في مَنازِلِهِمْ وأهْلُ النّارِ في مَنازِلِهِمْ وقَرَأ: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤]
وَقَرَأ: (ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهم لَإلى الجَحِيمِ)، وكَذَلِكَ هي في قِراءَتِهِ.
وَلِهَذا كَوْنُ الأيّامِ سَبْعَةً إنَّما تَعْرِفُهُ الأُمَمُ الَّتِي لَها كِتابٌ، فَأمّا أُمَّةٌ لا كِتابَ لَها، فَلا تَعْرِفُ ذَلِكَ إلّا مَن تَلَقّاهُ مِنهم عَنْ أُمَمِ الأنْبِياءِ، فَإنَّهُ لَيْسَ هُنا عَلامَةٌ حِسِّيَّةٌ يُعْرَفُ بِها كَوْنُ الأيّامِ سَبْعَةً، بِخِلافِ الشَّهْرِ والسَّنَةِ وفُصُولِها، ولَمّا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ، وتَعَرَّفَ بِذَلِكَ إلى عِبادِهِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ وأنْبِيائِهِ، شَرَعَ لَهم في الأُسْبُوعِ يَوْمًا يُذَكِّرُهم فِيهِ بِذَلِكَ، وحِكْمَةِ الخَلْقِ وما خُلِقُوا لَهُ، وبِأجَلِ العالَمِ وطَيِّ السَّمَواتِ والأرْضِ، وعَوْدِ الأمْرِ كَما بَدَأهُ سُبْحانَهُ وعْدًا عَلَيْهِ حَقّا، وقَوْلًا صِدْقًا.
وَلِهَذا كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ في فَجْرِ يَوْمِ الجُمُعَةِ سُورَتَيِ (الم تَنْزِيلُ) و﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾ لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هاتانِ السُّورَتانِ مِمّا كانَ ويَكُونُ مِنَ المَبْدَأِ والمَعادِ، وحَشْرِ الخَلائِقِ وبَعْثِهِمْ مِنَ القُبُورِ إلى الجَنَّةِ والنّارِ، لا لِأجْلِ السَّجْدَةِ كَما يَظُنُّهُ مَن نَقَصَ عِلْمُهُ ومَعْرِفَتُهُ، فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ مِن سُورَةٍ أُخْرى، ويَعْتَقِدُ أنَّ فَجْرَ يَوْمِ الجُمُعَةِ فُضِّلَ بِسَجْدَةٍ، ويُنْكِرُ عَلى مَن لَمْ يَفْعَلْها.
وَهَكَذا كانَتْ قِراءَتُهُ ﷺ في المَجامِعِ الكِبارِ كالأعْيادِ ونَحْوِها بِالسُّورَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى التَّوْحِيدِ، والمَبْدَأِ والمَعادِ، وقَصَصِ الأنْبِياءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وما عامَلَ اللَّهُ بِهِ مَن كَذَّبَهم وكَفَرَ بِهِمْ مِنَ الهَلاكِ والشَّقاءِ، ومَن آمَنَ مِنهم وصَدَّقَهم مِنَ النَّجاةِ والعافِيَةِ.
كَما كانَ يَقْرَأُ في العِيدَيْنِ بِسُورَتَيْ ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ﴾ و﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾، وتارَةً: بِ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ و﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾
وَتارَةً يَقْرَأُ في الجُمُعَةِ بِسُورَةِ الجُمُعَةِ لِما تَضَمَّنَتْ مِنَ الأمْرِ بِهَذِهِ الصَّلاةِ، وإيجابِ السَّعْيِ إلَيْها وتَرْكِ العِلْمِ العائِقِ عَنْها، والأمْرِ بِإكْثارِ ذِكْرِ اللَّهِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الفَلاحُ في الدّارَيْنِ، فَإنَّ في نِسْيانِ ذِكْرِهِ تَعالى العَطَبَ والهَلاكَ في الدّارَيْنِ، ويَقْرَأُ في الثّانِيَةِ بِسُورَةِ ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ﴾ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ مِنَ النِّفاقِ المُرَدِّي، وتَحْذِيرًا لَهم أنْ تَشْغَلَهم أمْوالُهم وأوْلادُهم عَنْ صَلاةِ الجُمُعَةِ، وعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وأنَّهم إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ خَسِرُوا ولا بُدَّ، وحَضًّا لَهم عَلى الإنْفاقِ الَّذِي هو مِن أكْبَرِ أسْبابِ سَعادَتِهِمْ، وتَحْذِيرًا لَهم مِن هُجُومِ المَوْتِ وهم عَلى حالَةٍ يَطْلُبُونَ الإقالَةَ، ويَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ ولا يُجابُونَ إلَيْها، وكَذَلِكَ كانَ ﷺ يَفْعَلُ عِنْدَ قُدُومِ وفْدٍ يُرِيدُ أنْ يُسْمِعَهُمُ القُرْآنَ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ","فَإِذَا قُضِیَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق