الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ﴾ وهَذا هو النِّداءُ الَّذِي يُنادى بِهِ إذا جَلَسَ الإمامَ عَلى المِنبَرِ، ولَمْ يَكُنْ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ نِداءٌ سِواهُ، «كانَ إذا (p-٢٦٢)جَلَسَ عَلى المِنبَرِ أذَّنَ بِلالٌ عَلى بابِ المَسْجِدِ، وكَذَلِكَ كانَ عَلى عَهْدِ أبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، فَلَمّا كَثُرَ النّاسُ عَلى عَهْدِ عُثْمانَ أمَرَ بِالتَّأْذِينِ عَلى دارٍ لَهُ بِالسُّوقِ، يُقالُ لَها: "الزَّوْراءُ" وكانَ إذا جَلَسَ أذَّنَ أيْضًا.» قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلصَّلاةِ﴾ أيْ: لِوَقْتِ الصَّلاةِ. وفي "الجُمُعَةِ" ثَلاثُ لُغاتٍ. ضَمُّ الجِيمِ والمِيمِ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وضَمُّ الجِيمِ مَعَ إسْكانِ المِيمِ، وبِها قَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وأبُو رَجاءٍ، وعِكْرِمَةُ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والأعْمَشُ. وبِضَمِّ الجِيمِ، مَعَ فَتْحِ المِيمِ، وبِها قَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو العالِيَةِ، والنَّخَعِيُّ، وعَدِيُّ بْنُ الفَضْلِ عَنْ أبِي عَمْرٍو. قالَ الزَّجّاجُ: مَن قَرَأ بِتَسْكِينِ المِيمِ، فَهو تَخْفِيفُ الجُمْعَةِ لِثِقَلِ الضَّمَّتَيْنِ. وأمّا فَتْحُ المِيمِ، فَمَعْناها: الَّذِي يَجْمَعُ النّاسَ، كَما تَقُولُ: رَجُلٌ لُعَنَةٌ: يُكْثِرُ لَعْنَةَ النّاسِ، وضُحَكَةٌ: يُكْثِرُ الضَّحِكَ. (p-٢٦٣)وَفِي تَسْمِيَةِ هَذا اليَوْمِ بِيَوْمِ الجُمْعَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: لِأنَّ فِيهِ جُمِعَ آدَمُ. رَوى سَلْمانُ قالَ: «قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أتَدْرِي ما الجُمُعَةُ؟" قُلْتُ: لا. قالَ: "فِيهِ جُمِعَ أبُوكَ"، يَعْنِي: تَمامُ خَلْقِهِ في يَوْمٍ.» (p-٢٦٤)والثّانِي: لِاجْتِماعِ النّاسِ فِيهِ لِلصَّلاةِ. والثّالِثُ: لِاجْتِماعِ المَخْلُوقاتِ فِيهِ، لِأنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي مِنهُ فُرِغَ مِن خَلْقِ الأشْياءِ. وَفِي أوَّلِ مَن سَمّاها بِالجُمُعَةِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ سَمّاها بِذَلِكَ، وكانَ يُقالُ لِيَوْمِ الجُمْعَةِ: العَرُوبَةُ، قالَهُ أبُو سَلَمَةَ. وقِيلَ: إنَّما سَمّاها بِذَلِكَ لِاجْتِماعِ قُرَيْشٍ فِيهِ. والثّانِي: أوَّلُ مَن سَمّاها بِذَلِكَ الأنْصارُ، قالَهُ ابْنُ سِيرِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ وفي هَذا السَّعْيِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ المَشْيُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُها "فامْضُوا" ويَقُولُ: لَوْ قَرَأْتُها "فاسْعَوْا" لَسَعَيْتُ حَتّى يَسْقُطَ رِدائِي. وقالَ عَطاءٌ: هو الذَّهابُ والمَشْيُ إلى الصَّلاةِ. (p-٢٦٥)والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالسَّعْيِ: العَمَلُ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، والقُرَظِيُّ، والضَّحّاكُ، فَيَكُونُ المَعْنى: فاعْمَلُوا عَلى المُضِيِّ إلى ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّفَرُّغِ لَهُ، والِاشْتِغالِ بِالطَّهارَةِ ونَحْوِها. والثّالِثُ: أنَّهُ النِّيَّةُ بِالقَلْبِ، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو المُبادَرَةُ بِالنِّيَّةِ والجِدِّ. وَفِي المُرادِ بِـ (ذِكْرِ اللَّهِ ) قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ الصَّلاةُ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: مَوْعِظَةُ الإمامِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَذَرُوا البَيْعَ﴾ أيْ: دَعُوا التِّجارَةَ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وعِنْدَنا: أنَّهُ لا يَجُوزُ البَيْعُ في وقْتِ النِّداءِ، ويَقَعُ البَيْعُ باطِلًا في حَقِّ مَن يَلْزَمُهُ فَرْضُ (p-٢٦٦)الجُمْعَةِ، وبِهِ قالَ مالِكٌ خِلافًا لِلْأكْثَرِينَ. * فَصْلٌ تَجِبُ الجُمْعَةُ عَلى مَن سَمِعَ النِّداءَ مِنَ المِصْرِ، إذا كانَ المُؤَذِّنُ صَيِّتًا، والرِّيحُ ساكِنَةً. وقَدْ حَدَّهُ مالِكٌ بِفَرْسَخٍ، ولَمْ يَحُدَّهُ الشّافِعِيُّ. وعَنْ أحْمَدَ في التَّحْدِيدِ نَحْوُهُما. وتَجِبُ الجُمْعَةُ عَلى أهْلِ القُرى. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا تَجِبُ إلّا عَلى أهْلِ الأمْصارِ. ويَجُوزُ لِأهْلِ المِصْرِ أنْ يُقِيمُوا الجُمْعَةَ في الصَّحْراءِ القَرِيبَةِ مِنَ المِصْرِ خِلافًا لِلشّافِعِيِّ. ولا تَنْعَقِدُ الجُمْعَةُ بِأقَلَّ مِن أرْبَعِينَ. وعَنْ أحْمَدَ: أقَلُّهُ خَمْسُونَ. وعَنْهُ: أقَلُّهُ ثَلاثَةٌ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ بِثَلاثَةٍ والإمامٍ، والعَدَدُ شَرْطٌ في (p-٢٦٧)الجُمْعَةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ: يَصِحُّ أنْ يَخْطُبَ مُنْفَرِدًا. وهَلْ تَجِبُ الجُمْعَةُ عَلى العَبِيدِ؟ فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ. وعِنْدَنا: تَجِبُ عَلى الأعْمى إذا وجَدَ قائِدًا، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ. ولا تَنْعَقِدُ الجُمْعَةُ بِالعَبِيدِ والمُسافِرِينَ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ. وهَلْ تَجِبُ الجُمْعَةُ والعِيدانِ مِن غَيْرِ إذْنِ سُلْطانٍ؟ فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ. وتَجُوزُ الجُمْعَةُ في مَوْضِعَيْنِ في البَلَدِ مَعَ الحاجَةِ. وقالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ: لا تَجُوزُ إلّا في مَوْضِعٍ واحِدٍ. وتَجُوزُ إقامَةُ الجُمْعَةِ قَبْلَ الزَّوالِ خِلافًا لِأكْثَرِهِمْ، وإذا وقَعَ العِيدُ يَوْمَ الجُمْعَةِ أجَزَأ حُضُورُهُ عَنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ، وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، خِلافًا لِلْأكْثَرِينَ. والمُسْتَحَبُّ لِأهْلِ الأعْذارِ أنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ في جَماعَةٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ. ولا يَجُوزُ السَّفَرُ يَوْمَ الجُمْعَةِ بَعْدَ الزَّوالِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. وهَلْ يَجُوزُ السَّفَرُ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ؟ فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ. ونُقِلَ عَنْ أحْمَدَ: أنَّهُ لا يَجُوزُ الخُرُوجُ في الجُمْعَةِ إلّا لِلْجِهادِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِكُلِّ سَفَرٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ لا يَجُوزُ أصْلًا. والخُطْبَةُ شَرْطٌ في الجُمْعَةِ. وقالَ داوُدُ: هي مُسْتَحَبَّةٌ. والطَّهارَةُ لا تُشْتَرَطُ في الخُطْبَةِ، خِلافًا لِلشّافِعِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ. والقِيامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ في الخُطْبَةِ، خِلافًا لِلشّافِعِيِّ. ولا تَجِبُ القَعْدَةُ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ، خِلافًا لَهُ أيْضًا. (p-٢٦٨)وَمِن شَرْطِ الخُطْبَةِ: التَّحْمِيدُ، والصَّلاةُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، وقِراءَةُ آيَةٍ، والمَوْعِظَةُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أنْ يَخْطُبَ بِتَسْبِيحَةٍ. والخُطْبَتانِ واجِبَتانِ. وأمّا القِراءَةُ في الخُطْبَةِ الثّانِيَةِ، فَهي شَرْطٌ، خِلافًا لِلشّافِعِيِّ. والسُّنَّةُ لِلْإمامِ إذا صَعِدَ المِنبَرَ، واسْتَقْبَلَ النّاسَ: أنْ يُسَلِّمَ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ. وهَلْ يَحْرُمُ الكَلامُ في حالِ سَماعِ الخُطْبَةِ؟ فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ. ويَحْرُمُ عَلى المُسْتَمِعِ دُونَ الخاطِبِ، خِلافًا لِلْأكْثَرِينَ. ولا يُكْرَهُ الكَلامُ قَبْلَ الِابْتِداءِ بِالخُطْبَةِ، وبَعْدَ الفَراغِ مِنها، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ المَسْجِدِ والإمامُ يَخْطُبُ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ. وَهَلْ يَجُوزُ أنْ يَخْطُبَ واحِدٌ، ويُصَلِّيَ آخَرُ، فِيهِ عَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ: إنْ كانَ لَكم عِلْمٌ بِالأصْلَحِ ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾ أيْ: فَرَغْتُمْ مِنها ﴿فانْتَشِرُوا في الأرْضِ﴾ هَذا أمْرُ إباحَةٍ ﴿وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ إباحَةٌ لِطَلَبِ الرِّزْقِ بِالتِّجارَةِ بَعْدَ المَنعِ مِنها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَذَرُوا البَيْعَ﴾ وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْرٍ: هو طَلَبُ العِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب