الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ .
(p-١٢١)هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ، وهَذا السِّياقُ يُشْبِهُ في مَدْلُولِهِ وصُورَتِهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٧] مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٨] .
فَفِي كُلٍّ مِنهُما نِداءٌ، وأذانُ الحَجِّ صَلاةٌ وسَعْيٌ وإتْيانٌ وذِكْرٌ لِلَّهِ، ثُمَّ انْتِشارٌ وإفاضَةٌ مِمّا يَرْبُطُ الجُمُعَةَ بِالحَجِّ في الشَّكْلِ وإنِ اخْتَلَفَ الحَجْمُ، وفي الكَيْفِ وإنْ تَفاوَتَتِ التَّفاصِيلُ، وفي المَباحِثِ والأحْكامِ كَثْرَةٌ وتَنْوِيعٌ مِن مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ومُخْتَلَفٍ فِيهِ، مِمّا يَجْعَلُ مَباحِثَ الجُمُعَةِ لا تَقِلُّ أهَمِّيَّةً عَنْ مَباحِثِ الحَجِّ، وتَتَطَلَّبُ عِنايَةً بِها كالعِنايَةِ بِهِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - أنَّهُ كانَ عازِمًا عَلى بَسْطِ الكَلامِ فِيها كَعادَتِهِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - ولَكِنَّ إرادَتَهُ نافِذَةٌ، وقُدْرَتَهُ غالِيَةٌ. وإنَّ كُلَّ إنْسانٍ يَسْتَشْعِرُ مَدى مَباحِثِ الشَّيْخِ وبَسْطِهِ وتَحْقِيقِهِ لِلْمَسائِلِ لِيُحْجِمَ ويَتْرُكَ الدُّخُولَ فِيها تَقاصُرًا دُونَها ولا سِيَّما وأنَّ رَبْطَ هَذِهِ المَباحِثِ بِنُصُوصِ القُرْآنِ لَيْسَ بِالأمْرِ المُبَيَّنِ، كَما أشارَ إلَيْهِ أبُو حَيّانَ في مَضْمُونِ قَوْلِهِ في نِهايَةِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ إيجازِ الكَلامِ عَنْ أحْكامِها، قالَ ما نَصُّهُ: وقَدْ مَلَأ المُفَسِّرُونَ كَثِيرًا مِن أوْراقِهِمْ بِأحْكامٍ وخِلافٍ في مَسائِلِ الجُمُعَةِ مِمّا لا تَعَلُّقَ لَها بِلَفْظِ القُرْآنِ. ا هـ.
فَهُوَ يُشِيرُ بِأنَّ لَفْظَ القُرْآنِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِتِلْكَ الأحْكامِ الَّتِي ناقَشَها المُفَسِّرُونَ في مَباحِثِ الجُمُعَةِ، ولَكِنَّ الدّارِسَ لِمَنهَجِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - في الأضْواءِ، والمُتَذَوِّقَ لِأُسْلُوبِهِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى اللَّفْظِ فَقَطْ، أيْ: دَلالَةِ النَّصِّ التَّطابُقِيِّ وتَأمُّلِ أنْواعِ الدَّلالاتِ مِن تَضَمُّنٍ والتِزامٍ وإيماءٍ وتَنْبِيهٍ، فَإنَّهُ يَجِدُ لِأكْثَرَ أوْ كُلِّ ما قالَهُ المُفَسِّرُونَ، والمُحَدِّثُونَ، والفُقَهاءُ مِنَ المَباحِثِ أُصُولًا مِن أُصُولِ تِلْكَ الدَّلالاتِ.
وَإنِّي أسْتَلْهِمُ اللَّهَ تَعالى الرُّشْدَ وأسْتَمِدُّ، العَوْنَ والتَّوْفِيقَ لِبَيانِ كُلِّ ما يَظْهَرُ مِن ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَإنْ وُفِّقْتُ فَبِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وخِدْمَةٍ لِكِتابِهِ، وإلّا فَإنَّها مُحاوَلَةٌ تُغْتَفَرُ بِجانِبِ القُصُورِ العِلْمِيِّ وتَحْسِينُ القَصْدِ، واللَّهُ الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ﴾ .
(p-١٢٢)قالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - في مُذَكِّرَةِ الدِّراسَةِ ما نَصُّهُ: إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أيْ: قامَ المُنادِي بِها، وهو المُؤَذِّنُ يَقُولُ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ أيْ: مِن صَلاةِ يَوْمِ الجُمُعَةِ أيْ: صَلاةِ الجُمُعَةِ ا هـ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِها صَلاةُ الجُمُعَةِ نَفْسُها دُونَ بَقِيَّةِ صَلَواتِ ذَلِكَ اليَوْمِ مَجِيءُ ”مِنَ“ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ ثُمَّ تَبَيَّنَ هَذا البَعْضُ بِالأمْرِ، بِتَرْكِ البَيْعِ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ﴾، لِأنَّ هَذا خاصٌّ بِالجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِها لِوُجُودِ الخُطْبَةِ، وقَدْ كانَتْ مُعَيَّنَةً لَهم قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وصَلَّوْها قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ ﷺ إلى المَدِينَةِ، كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ.
والمُرادُ بِالنِّداءِ هو الأذانُ، كَما أشارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - وكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا نادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا ولَعِبًا﴾ [المائدة: ٥٨] .
وَمِنَ السُّنَةِ قَوْلُهُ ﷺ: «إذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكم أحَدُكم» .
وَقِيلَ: النِّداءُ لُغَةً هو النِّداءُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ لِحَدِيثِ: «فَإنَّهُ أنْدى مِنكَ صَوْتًا» .
وَقَدْ عَرَّفَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - الأذانَ لُغَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا﴾ [الحج: ٢٧]، فَقالَ: الأذانُ لُغَةً: الإعْلامُ.
وَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ﴾ [التوبة: ٣]، وقَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
؎آَذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَّواءُ
والأذانُ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ، شِعارًا لِلْمُسْلِمِينَ ونِداءً لِلصَّلاةِ.
* * *
بَدْءُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:
اخْتُلِفَ في بَدْءِ المَشْرُوعِيَّةِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ بُدِئَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وجاءَتْ نُصُوصٌ لَكِنَّها ضَعِيفَةٌ: أنَّهُ شُرِعَ لَيْلَةَ الإسْراءِ أوْ بِمَكَّةَ.
مِنها عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ البَزّارِ: أنَّهُ شُرِعَ مَعَ الصَّلاةِ.
(p-١٢٣)وَمِنها عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ ابْنِ حِبّانَ أنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ عَنْ أوَّلِ الصَّلاةِ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ: لا يَصِحُّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ.
أمّا مَشْرُوعِيَّتُهُ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وفي المَدِينَةِ فَفِيها نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ بَدْأهُ وكَيْفِيَّتَهُ.
مِنها حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما قالَ: «كانَ المُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ ولَيْسَ يُنادِي بِها أحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا في ذَلِكَ، فَقالَ بَعْضُهم: اتَّخِذُوا ناقُوسًا مِثْلَ ناقُوسِ النَّصارى، وقالَ بَعْضُهم قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ، فَقالَ عُمَرُ: أوَلا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنادِي بِالصَّلاةِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”يا بِلالُ قُمْ فَنادِ بِالصَّلاةِ»، وفي المُوَطَّأِ لِمالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: «أنَّهُ ﷺ كانَ قَدْ أرادَ أنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ يَضْرِبُ بِهِما؛ لِيَجْتَمِعَ النّاسُ لِلصَّلاةِ، فَأُرِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الأنْصارِيُّ خَشَبَتَيْنِ في النَّوْمِ فَقالَ: إنَّ هاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ألا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلاةِ ؟ فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالأذانِ»“ .
وَبَعْضُ الرِّواياتِ الأُخْرى عَنْ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ وعِنْدَ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ بِألْفاظٍ أُخْرى، وصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنها قالُوا: «انْصِبْ رايَةً فَإذا رَآها النّاسُ أذَّنَ بَعْضُهم بَعْضًا أيْ: أعْلَمَهُ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ فَذُكِرَ لَهُ القِنْعُ، وهو الشَّبُّورُ لِلْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، فَقالَ هَذا مِن أمْرِ اليَهُودِ» .
وَفِي رِوايَةِ أنَسٍ «أنْ يُنَوِّرُوا نارًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ» .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «لَمّا أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنّاقُوسِ يُعْمَلُ؛ لِيَضْرِبَ بِهِ لِلنّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَواتِ طافَ بِي وأنا نائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ ناقُوسًا في يَدِهِ، فَقُلْتُ: يا عَبْدَ اللَّهِ أتَبِيعُ النّاقُوسَ ؟ قالَ: وما تَصْنَعُ بِهِ ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إلى الصَّلاةِ، قالَ: أفَلا أدُلُّكَ عَلى ما هو خَيْرٍ مِن ذَلِكَ، فَقُلْتُ: بَلى، فَقالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ " .
ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قالَ: تَقُولُ إذا أقَمْتَ لِلصَّلاةِ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ (p-١٢٤)أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
فَلَمّا أصْبَحْتُ أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأخْبَرْتُهُ بِما رَأيْتُ فَقالَ: ”إنَّها لَرُؤْيا حَقٌّ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلالٍ فَألْقِ عَلَيْهِ ما رَأيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإنَّهُ أنْدى صَوْتًا مِنكَ“ فَقُمْتُ مَعَ بِلالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ ويُؤَذِّنُ بِهِ، قالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِداءَهُ ويَقُولُ:
والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ يا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأيْتُ ما رَأى، فَقالَ ﷺ: ”فَلِلَّهِ الحَمْدُ»“ رَواهُ أبُو داوُدَ.
وَفِي رِوايَةٍ لَهُ، فَقالَ: «إنِّي لَبَيْنَ نائِمٍ ويَقْظانَ إذْ أتانِي آتٍ فَأرانِي الأذانَ» .
فَتَبَيَّنَ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ الصَّحِيحَ في مَشْرُوعِيَّةِ الأذانِ أنَّهُ كانَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وفي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
وَهُنا سُؤالٌ حَوْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الأذانِ، قالَ بَعْضُ النّاسِ: كَيْفَ يُتْرَكُ أمْرُ الأذانِ وهو بِهَذِهِ الأهَمِّيَّةِ مِنَ الصَّلاةِ فَيَكُونُ أمْرَ مَشْرُوعِيَّتِهِ رُؤْيا يَراها بَعْضُ الأصْحابِ، وطَعَنَ في سَنَدِ الحَدِيثِ واسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن قَوْلِهِ ﷺ: «قُمْ يا بِلالُ فَنادِ بِالصَّلاةِ» والجَوابُ عَنْ هَذا مِن عِدَّةِ وُجُوهٍ:
مِنها: سَنَدُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ صَحِيحٌ، وقَدْ ناقَشَهُ الشَّوْكانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وذَكَرَ تَصْحِيحَهُ ومَن صَحَّحَهُ ويَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ ما قَدَّمْناهُ مِن رِوايَةِ المُوَطَّأِ بِإرادَةِ اتِّخاذِ خَشَبَتَيْنِ، فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ خَشَبَتَيْنِ الحَدِيثَ، وكَذَلِكَ في الصَّحِيحَيْنِ إثْباتُ التَّشاوُرِ فِيما يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الصَّلاةِ.
وَمِنها: أنَّهُ لا يَتَعارَضُ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ ألْفاظَ النِّداءِ فَيَكُونُ الجَمْعُ بَيْنَهُما، إمّا أنَّ بِلالًا كانَ يُنادِي بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ، ثُمَّ رَأى عَبْدُ اللَّهِ الأذانَ فَعَلَّمَهُ بِلالًا.
وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذا الوَجْهِ ما جاءَ عَنْ أبِي لَيْلى قالَ: «أُحِيلَتِ الصَّلاةُ ثَلاثَةَ أحْوالٍ، وحَدَّثَنا أصْحابُنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”لَقَدْ أعْجَبَنِي أنْ تَكُونَ صَلاةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةً، حَتّى لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أبُثَّ رِجالًا في الدُّورِ يُنادُونَ النّاسَ بِحِينِ الصَّلاةِ، وحَتّى هَمَمْتُ أنْ آمُرَ (p-١٢٥)رِجالًا يَقُومُونَ عَلى الآطامِ يُنادُونَ المُسْلِمِينَ حَتّى نَقَسُوا أوْ كادُوا أنْ يَنْقُسُوا“، قالَ: فَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمّا رَجَعْتُ لِما رَأيْتُ مِنِ اهْتِمامِكَ رَأيْتُ رَجُلًا كَأنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أخْضَرَيْنِ فَقامَ عَلى المَسْجِدِ فَأذَّنَ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قامَ فَقالَ مِثْلَها إلّا أنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، ولَوْلا أنْ يَقُولَ النّاسُ لَقُلْتُ إنِّي كُنْتُ يَقْظانَ غَيْرَ نائِمٍ. فَقالَ ﷺ: ”لَقَدْ أراكَ اللَّهُ خَيْرًا فَمُرْ بِلالًا فَلْيُؤَذِّنْ، فَقالَ عُمَرُ: أما إنِّي قَدْ رَأيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأى ولَكِنِّي لَمّا سُبِقْتُ اسْتَحْيَيْتُ»“ . لِأبِي داوُدَ أيْضًا.
فَفِيهِ أنَّهُ ﷺ كانَ قَدْ هَمَّ أنْ يَبُثَّ رِجالًا في الدُّورِ، وعَلى الآطامِ يُنادُونَ لِلصَّلاةِ، فَيَكُونُ نِداءُ بِلالٍ أوَّلًا مِن هَذا القَبِيلِ دُونَ تَعْيِينِ ألْفاظٍ، وإمّا أنْ يَكُونَ نِداءُ بِلالٍ الوارِدُ في الصَّحِيحِ بِألْفاظِ الأذانِ، الوارِدَةِ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أنْ رَأى ما رَآهُ وأمَرَهُ ﷺ أنْ يُعَلِّمَهُ بِلالًا فَنادى بِهِ، ولا تَعارُضَ في ذَلِكَ كَما تَرى.
وَمِنها أيْضًا: أنَّ رُؤْيا عَبْدِ اللَّهِ لِلْأذانِ لا تَجْعَلُهُ مَشْرُوعًا لَهُ مِن عِنْدِهِ ولا مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ، لِأنَّهُ جاءَ في الرُّؤْيا الصّالِحَةِ أنَّها جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
وَهَذا النَّظْمُ لِألْفاظِ الأذانِ لا يَكُونُ إلّا مِنَ القِسْمِ فَهي بَعِيدَةٌ عَنِ الوَساوِسِ، والهَواجِسِ لِما فِيها مِن إعْلانِ العَقِيدَةِ وإرْغامِ الشَّيْطانِ كَما في الحَدِيثِ: «إنَّ الشَّيْطانَ إذا سَمِعَ النِّداءَ أدْبَرَ» إلَخْ.
ثُمَّ إنَّهُ ﷺ لَمّا سَمِعَها أقَرَّها وقالَ: «إنَّها لَرُؤْيا حَقٌّ»، أوْ لَقَدْ أراكَ اللَّهُ حَقًّا، فَكانَتْ سُنَّةَ تَقْرِيرٍ كَما يُقَرِّرُ بَعْضَ النّاسِ عَلى بَعْضِ الأفْعالِ.
ثُمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيمُهُ ﷺ لِأبِي مَحْذُورَةَ فَصارَ سُنَّةً ثابِتَةً، وكانَ يُتَوَجَّهُ السُّؤالُ لَوْ أنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ ﷺ وعَمِلُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيا، ولَكِنْ وقَدْ بَلَغَهُ وأقَرَّهُ فَلا سُؤالَ إذًا.
وَمِنها: أنَّ في بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّ الوَحْيَ قَدْ جاءَهُ بِهِ، ولَمّا أخْبَرَهُ عُمَرُ قالَ لَهُ: «سَبَقَكَ بِذَلِكَ الوَحْيُ» ذُكِرَ في مَراسِيلِ أبِي داوُدَ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ العَرَبِيِّ بَسْطُ الكَلامِ إثْباتُ الحُكْمِ بِالرُّؤْيا ذَكَرَهُما المُعَلِّقُ عَلى بَذْلِ المَجْهُودِ.
وَمِنها ما قِيلَ: تَرْكُ مَجِيءِ بَيانِ وتَعْلِيمِ الأذانِ إلى أنْ رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَواهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما لِأمْرَيْنِ، ذَكَرَهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُعْلِنًا مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ مَجِيئُهُ عَنْ طَرِيقِهِما أوْلى (p-١٢٦)وَأكْرَمُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أنْ يَأْتِيَهم مِن طَرِيقِهِ هو حَتّى لا يَكُونَ عِنايَةَ مَن يَدْعُوهم لِإطْرائِهِ. وهَذا وإنْ كانَ مُتَوَجَّهًا إلّا أنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأنَّهُ ﷺ لَوْ جاءَهم بِأعْظَمَ مِن ذَلِكَ لَما كانَ مَوْضِعَ تَساؤُلٍ.
مِن مَجْمُوعِ ما تَقَدَّمَ يَكُونُ أصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الأذانِ سُنَّةً ثابِتَةً، إمّا أنَّهُ كانَ قَدْ هَمَّ أنْ يَبْعَثَ رِجالًا في البُيُوتِ يُنادُوهُ، وإمّا لِأنَّهُ أقَرَّ ما رَأى عَبْدُ اللَّهِ فَيَكُونُ أصْلُ المَشْرُوعِيَّةِ مِنهُ ﷺ، والتَّقْرِيرُ مِنهُ عَلى الألْفاظِ الَّتِي رَآها عَبْدُ اللَّهِ.
* * *
فَضْلُ الأذانِ وآدابُ المُؤَذِّنِ
لا شَكَّ أنَّ الأذانَ مِن أفْضَلِ الأعْمالِ، وأنَّ المُؤَذِّنَ يَشْهَدُ لَهُ ما سَمِعَ صَوْتَهُ مِن حَجَرٍ ومَدَرٍ. إلَخْ.
وَقَدْ جاءَ عَنْهُ ﷺ: «أنَّ المُؤَذِّنِينَ أطْوَلُ النّاسِ أعْناقًا يَوْمَ القِيامَةِ» .
وَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلا الخِلافَةُ لَأذَّنْتُ.
وَقالَ ﷺ: «الإمامُ ضامِنٌ، والمُؤَذِّنٌ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أرْشِدِ الأئِمَّةَ، واغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» . رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن فَضائِلِ الأذانِ، فَقِيلَ: مُؤْتَمَنٌ عَلى الوَقْتِ، وقِيلَ: مُؤْتَمَنٌ عَلى عَوْراتِ البُيُوتِ عِنْدَ الأذانِ، فَقَدْ حَثَّ ﷺ المُؤَذِّنِينَ عَلى الوُضُوءِ لَهُ كَما في حَدِيثِ: «لا يُنادِي لِلصَّلاةِ إلّا مُتَوَضِّئٌ» وإنْ كانَ الحَدَثُ لا يُبْطِلُهُ اتِّفاقًا.
وَلَمّا كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ كانَتْ لَهُ آدابٌ في حَقِّ المُؤَذِّنِينَ:
مِنها: أنْ يَكُونُوا مِن خِيارِ النّاسِ، كَما عِنْدَ أبِي داوُدَ: «لِيُؤَذِّنْ لَكم خِيارُكم ولْيَؤُمَّكم قُرّاؤُكم»، وعَلَيْهِ حَذَّرَ ﷺ مِن تَوَلِّي الفَسَقَةِ الأذانَ كَما في حَدِيثِ: «الإمامُ ضامِنٌ والمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» المُتَقَدِّمِ. فَإنَّ فِيهِ زِيادَةً عِنْدَ البَزّارِ «قالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ تَرَكْتَنا نَتَنافَسُ في الأذانِ بَعْدَكَ فَقالَ: ”إنَّهُ يَكُونُ بَعْدِي أوْ بَعْدَكم قَوْمٌ سِفْلَتُهم مُؤَذِّنُوهم»“ .
وَمِنها: أنَّهُ يُكْرَهُ التَّغَنِّي فِيهِ؛ لِأنَّهُ ذِكْرٌ ودُعاءٌ إلى أفْضَلِ العِباداتِ، وقَدْ جاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: إنِّي أُحِبُّكَ في اللَّهِ، قالَ ابْنُ عُمَرَ: لَكِنِّي أُبْغِضُكَ في اللَّهِ، فَقالَ: ولِمَ ؟ قالَ: لِأنَّكَ تَتَغَنّى في أذانِكَ.
وَفِي المُغْنِي لِابْنِ قُدامَةَ: ولا يُعْتَدُّ بِأذانِ صَبِيٍّ ولا فاسِقٍ، أيْ ظاهِرِ الفِسْقِ، وعِنْدَ المالِكِيَّةِ: لا يُحاكِي في أذانِهِ الفَسَقَةَ.
(p-١٢٧)وَمِنها: ألّا يَلْحَنَ فِيهِ لَحْنًا بَيِّنًا، قالَ في المُغْنِي: ويُكْرَهُ اللَّحْنُ في الأذانِ، فَإنَّهُ رُبَّما غَيَّرَ المَعْنى، فَإنَّ مَن قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ ونَصَبَ لامَ رَسُولٍ. أخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرًا.
وَلا يَمُدُّ لَفْظَةَ أكْبَرَ لِأنَّهُ يَجْعَلُ فِيها ألِفًا فَيَصِيرُ جَمْعُ كَبَرٍ، وهو الطَّبْلُ، ولا يُسْقِطُ الهاءَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ والصَّلاةِ ولا الحاءَ مِنَ الفَلاحِ، لِما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يُؤَذِّنُ لَكم مَن يُدْغِمُ الهاءَ» الحَدِيثُ أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ.
فَأمّا إنْ كانَ ألْثَغَ لا تَتَفاحَشُ جازَ أذانُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّ بِلالًا كانَ يَقُولُ: أسْهَدُ بِجَعْلِ الشِّينِ سِينًا، نَقَلَهُ ابْنُ قُدامَةَ، ولَكِنْ لا أصْلَ لِهَذا الأثَرِ مَعَ شُهْرَتِهِ عَلى ألْسِنَةِ النّاسِ، كَما في كَشْفِ الخَفاءِ ومُزِيلِ الإلْباسِ.
وَمِن هَذا يَنْبَغِي تَعَهُّدُ المُؤَذِّنِينَ في هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ اللَّحْنِ والتَّلْحِينِ وكَذَلِكَ الفِسْقُ، وصِفَةُ المُؤَذِّنِينَ ولا سِيَّما في بِلادِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مَهْبِطِ الوَحْيِ ومَصْدَرِ التَّأسِّي، ومَوْفِدِ القادِمِينَ مِن كُلِّ مَكانٍ لِيَأْخُذُوا آدابَ الأذانِ والمُؤَذِّنِينَ عَنْ أهْلِ هَذِهِ البِلادِ المُقَدَّسَةِ.
* * *
ألْفاظُ الأذانِ والإقامَةِ والرّاجِحُ مِنها مَعَ بَيانِ التَّثْوِيبِ والتَّرْجِيعِ
مَدارُ ألْفاظِ الأذانِ والإقامَةِ في الأصْلِ عَلى حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِالمَدِينَةِ، وحَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ في مَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وما عَداهُما تَبَعٌ لَهُما كَحَدِيثِ بِلالٍ وغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْجُودٌ في السُّنَنِ أيْ فِيما عَدا البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ، وهو مُتَقَدِّمٌ مِن حَيْثُ الزَمَنِ كَما تَقَدَّمَ ذَلِكَ في مَبْحَثِ مَشْرُوعِيَّةِ الأذانِ وأنَّهُ كانَ ابْتِداءً في المَدِينَةِ أوَّلَ مَقْدِمِهِ ﷺ إلَيْها.
وَحَدِيثُ أبِي مَحْذُورَةَ مَوْجُودٌ في السُّنَنِ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ولَمْ يَذْكُرِ البُخارِيُّ واحِدًا مِنهُما، وإنَّما ذَكَرَ قِصَّةَ سَبَبِ المَشْرُوعِيَّةِ، وحَدِيثَ: أُمِرِ بِلالٌ أنْ يُشْفِعَ الأذانَ ويُوتِرَ الإقامَةَ عَلى ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَعَلَيْهِ سَنُقَدِّمُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِتَقَدُّمِهِ في الزَّمَنِ، وألْفاظُهُ كَما تَقَدَّمَ في بَدْءِ (p-١٢٨)المَشْرُوعِيَّةِ، هي: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
وَمَجْمُوعُهُ خَمْسَةَ عَشَرَةَ كَلِمَةً أيْ جُمْلَةً، فَفِيهِ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ وتَثْنِيَةُ باقِيهِ، وإفْرادُ آخِرِهِ، وفِيهِ الإقامَةُ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ في كَلِمَةٍ وإفْرادِ باقِيها إلّا لَفْظَ الإقامَةِ، ولَفْظُها: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
قالَ الشَّوْكانِيُّ: رَواهُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ، وقالَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وذَكَرَ لَهُ عِدَّةَ طُرُقٍ، ومِنها عِنْدَ الحاكِمِ، وابْنِ خُزَيْمَةَ، وابْنِ حِبّانَ في صَحِيحَيْهِما، والبَيْهَقِيِّ، وابْنِ ماجَهْ.
حَدِيثُ أبِي مَحْذُورَةَ، وحَدِيثُ أبِي مَحْذُورَةَ كانَ بَعْدَ الفَتْحِ كَما في السُّنَنِ أنَّهُ «خَرَجَ في نَفَرٍ فَلَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ مُقْدِمًا مِن حُنَيْنٍ، وأذَّنَ مُؤَذِّنُهُ ﷺ، فَظَلَّ أبُو مَحْذُورَةَ في نَفَرِهِ يَحْكُونَهُ اسْتِهْزاءً بِهِ، فَسَمِعَهم ﷺ فَأحْضَرَهم فَقالَ: ”أيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ ؟ فَأشارُوا إلى أبِي مَحْذُورَةَ، فَحَبَسَهُ وأرْسَلَهم، ثُمَّ قالَ لَهُ: قُمْ فَأذِّنْ بِالصَّلاةِ فَعَلَّمَهُ»“ .
أمّا ألْفاظُهُ: فَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ، والباقِي كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ زِيادَةِ ذِكْرِ التَّرْجِيعِ، وقَدْ ساقَهُ مُسْلِمٌ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ وبِلَفْظِ التَّكْبِيرِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ:
المَوْضِعُ الأوَّلُ: «عَنْ أبِي مَحْذُورَةَ نَفْسِهِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَهُ الأذانَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» .
والمَوْضِعُ الثّانِي: في قِصَّةِ الإغارَةِ أنَّهُ «كانَ ﷺ يُغِيرُ إذا طَلَعَ الفَجْرُ، وكانَ يَسْتَمِعُ الأذانَ فَإذا سَمِعَ أذانًا أمْسَكَ وإلّا أغارَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”عَلى الفِطْرَةِ“، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”خَرَجْتَ مِنَ النّارِ»“ . . . الحَدِيثَ.
(p-١٢٩)والمَوْضِعُ الثّالِثُ: عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا قالَ المُؤَذِّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ فَقالَ أحَدُكم: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» الحَدِيثَ، فَهَذِهِ كُلُّها ألْفاظُ مُسْلِمٍ لِأذانِ أبِي مَحْذُورَةَ، ولَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ عَنِ الإقامَةِ إلّا حَدِيثَ أنَسٍ، «أمَرَ بِلالًا أنْ يَشْفَعَ الأذانَ ويُوتِرَ الإقامَةَ»، وعِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ جاءَ حَدِيثُ أبِي مَحْذُورَةَ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ، كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وبِالتَّرْجِيعِ والتَّثْوِيبِ في الفَجْرِ، وفِيها أنَّ التَّرْجِيعَ يَكُونُ أوَّلًا بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ.
ثُمَّ يُرَجِّعُ ويَمُدُّ بِهِما - أيْ بِالشَّهادَتَيْنِ - صَوْتَهُ، وذَلِكَ عِنْدَ أحْمَدَ، وأبِي داوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ، والنَّسائِيِّ، أمّا الإقامَةُ فَجاءَتْ عَنْ أبِي مَحْذُورَةَ رِوايَتانِ: الأُولى قالَ: «وَعَلَّمَنِي النَّبِيُّ ﷺ الإقامَةَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ حَيِّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» .
الثّانِيَةُ: مِثْلُ الأذانِ تَمامًا بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وبِدُونِ تَرْجِيعٍ، وتَثْنِيَةُ الإقامَةِ أيِ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلى الصَّلاةِ حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
فالأُولى كالأذانِ في رِوايَةِ مُسْلِمٍ، والثّانِيَةُ كَرِوايَةِ الأذانِ عِنْدَ غَيْرِهِ بِدُونِ تَرْجِيعٍ ولا تَثْوِيبٍ، وإضافَةِ لَفْظِ الإقامَةِ مَرَّتَيْنِ.
هَذا مَجْمُوعُ ما جاءَ في أُصُولِ ألْفاظِ الأذانِ مِن حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وأبِي مَحْذُورَةَ.
وَبِالنَّظَرِ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ نَجِدُهُ لَمْ تَخْتَلِفْ ألْفاظُهُ لا في الأذانِ ولا في الإقامَةِ، وهو بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ في الأذانِ وبِدُونِ تَثْوِيبٍ ولا تَرْجِيعٍ، وبِإفْرادِ الإقامَةِ إلّا لَفْظَ الإقامَةِ، أمّا حَدِيثُ أبِي مَحْذُورَةَ فَجاءَ بِعِدَّةِ صُوَرٍ في الأذانِ وفي الإقامَةِ.
أمّا الأذانُ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ وعِنْدَ غَيْرِهِ بِتَرْبِيعِهِ، وعِنْدَ الجَمِيعِ إثْباتُ (p-١٣٠)التَّرْجِيعِ في الشَّهادَتَيْنِ، وأنَّ الأُولى مُنْخَفِضَةٌ، والثّانِيَةَ مُرْتَفِعَةٌ، كَبَقِيَّةِ ألْفاظِ الأذانِ، وأمّا الإقامَةُ فَجاءَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وجاءَتْ مِثْلَ الأذانِ تَمامًا عِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ سِوى التَّرْجِيعِ والتَّثْوِيبِ مَعَ تَثْنِيَةِ الإقامَةِ، فَكانَ الفَرْقُ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ كالآتِي:
فِي ألْفاظِ الأذانِ ثَلاثُ نِقاطٍ:
أوَّلًا: ذِكْرُ التَّرْجِيعِ.
ثانِيًا: التَّثْوِيبُ.
ثالِثًا: عَدَدُ التَّكْبِيرِ في أوَّلِهِ.
أمّا التَّرْجِيعُ فَيَجِبُ أنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأنَّهُ مُتَأخِّرٌ بَعْدَ الفَتْحِ، ولا مُعارَضَةَ فِيهِ، لِأنَّهُ زِيادَةُ بَيانٍ وبِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَأمّا التَّثْوِيبُ فَقَدْ ثَبَتَ مِن حَدِيثِ بِلالٍ، وكانَ أيْضًا مُتَأخِّرًا عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ قَطْعًا، وقَدْ ثَبَتَ «أنَّ بِلالًا أذَّنَ لِلصُّبْحِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نائِمٌ فَصَرَخَ بِلالٌ بِأعْلى صَوْتِهِ: الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» .
قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: فَأُدْخِلَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ في التَّأْذِينِ لِصَلاةِ الفَجْرِ، أيْ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لَهُ: «اجْعَلْ ذَلِكَ في أذانِكَ» فاخْتُصَّتْ بِالفَجْرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدامَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المُغْنِي عَنْ بِلالٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهاهُ أنْ يُثَوِّبَ في العِشاءِ» رَواهُ ابْنُ ماجَهْ، وقالَ: دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ في أذانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ فَقِيلَ لَهُ: أيْنَ ؟ فَقالَ: أخْرَجَتْنِي البِدْعَةُ، فَلَزِمَ بِهَذا كُلِّهِ الأخْذُ بِها في صَلاةِ الفَجْرِ خاصَّةً.
أمّا التَّكْبِيرُ في أوَّلِ الأذانِ، فَفي رِوايَةِ مُسْلِمٍ لِأبِي مَحْذُورَةَ مَرَّتَيْنِ في كَلِمَةٍ فاخْتَلَفَ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وعِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وبِالنَّظَرِ إلى سَنَدِ مُسْلِمٍ فَهو أصَحُّ سَنَدًا، وبِالنَّظَرِ إلى ما عِنْدَ غَيْرِهِ، تَجِدُ فِيهِ زِيادَةً صَحِيحَةً، وهي تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ، فَوَجَبَ العَمَلُ بِها كَما وجَبَ العَمَلُ بِالتَّثْوِيبِ والتَّرْجِيعِ؛ لِأنَّ الرِّوايَةَ المُتَّفِقَةَ مَعَ الحَدِيثِ الآخَرِ أوْلى مِنَ المُخْتَلِفَةِ مَعَها.
أمّا الإقامَةُ: فَفي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ تَخْتَلِفْ كَما تَقَدَّمَ، ولَكِنَّها في حَدِيثِ أبِي (p-١٣١)مَحْذُورَةَ قَدْ جاءَتْ مُتَعَدِّدَةً ولَمْ تَتَّفِقْ صُورَةٌ مِن صُوَرِها مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، حَيْثُ إنَّ فِيها مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ في جَمِيعِ الكَلِماتِ، ومِنها كالأذانِ مَعَ لَفْظِ الإقامَةِ مَرَّتَيْنِ، وسَنَدُ الجَمِيعِ سَواءٌ.
فَهَلْ نَأْخُذُ في الإقامَةِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أمْ بِحَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ ؟ مِن حَيْثُ الصِّناعَةُ بكُلٌّ مِنهُما في السَّنَدِ سَواءٌ.
وَفِي حَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ زِيادَةٌ وهي تَشْبِيهُها بِالأذانِ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ قاصِرًا عَلى ذَلِكَ لَكانَ العَمَلُ بِحَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ في الإقامَةِ أوْلى؛ لِأنَّهُ مُتَأخِّرٌ وفِيهِ زِيادَةٌ صَحِيحَةٌ، ولَكِنْ وجَدْنا حَدِيثَ بِلالٍ في الصَّحِيحِ، وعِنْدَ مُسْلِمٍ أيْضًا وهو أمْرُ بِلالٍ أنْ يَشْفَعَ الأذانَ وأنْ يُوتِرَ بِالإقامَةِ، وحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «كانَ الأذانُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَرَّتَيْنِ، والإقامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ»، رَواهُ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ.
وَبِهَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ وأبِي مَحْذُورَةَ في كُلٍّ مِنَ الأذانِ والإقامَةِ.
فَمِن حَدِيثِ بِلالٍ: نَشْفَعُ الأذانَ، ولَكِنَّهم يَخْتَلِفُونَ في تَحْقِيقِ المَناطِ في المُرادِ بِالشَّفْعِ مِن حَيْثُ التَّكْبِيرِ؛ لِأنَّ الشَّفْعَ يَصْدُقُ عَلى اثْنَيْنِ وأرْبَعٍ، وعِنْدَ في الأذانِ إمّا مَرَّتانِ وإمّا أرْبَعٌ، وكِلاهُما يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنى الشَّفْعِ، ولَكِنْ إذا اعْتَبَرْنا أنَّ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، كانَ تَحَقُّقُ الشَّفْعِ بِجُمْلَتَيْنِ، فَيَأْتِي أرْبَعَ تَكْبِيراتٍ، وإذا اعْتَبَرْنا كُلَّ تَكْبِيرَةٍ كَلِمَةً وُجِدَ الشَّفْعُ في جُمْلَةٍ واحِدَةٍ لِاشْتِمالِها عَلى كَلِمَتَيْنِ، ولِهَذا وقَعَ الخِلافُ.
وَلَكِنَّ الأذانَ لَمْ تُعَدَّ عِباراتُهُ بِالكَلِماتِ المُفْرَدَةِ بَلْ بِالجُمَلِ؛ لِأنَّنا نَعُدُّ قَوْلَنا: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، وهي في الواقِعِ جُمْلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلى عِدَّةِ كَلِماتٍ مُفْرَدَةٍ، وعَلَيْهِ فَقَوْلُنا: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ كَلِمَةٌ، وعَلى هَذا يَكُونُ الشَّفْعُ بِتَكْرارِها، فَيَأْتِي أرْبَعَ تَكْبِيراتٍ: وهَذا يَتَّفِقُ مَعَ رِوايَةِ الحَدِيثَيْنِ، وحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ تَمامًا.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: قالَ القاضِي عِياضٌ: إنَّ حَدِيثَ أبِي مَحْذُورَةَ جاءَ في نُسْخَةِ الفاسِيِّ لِمُسْلِمٍ بِأرْبَعِ تَكْبِيراتٍ. اهـ.
وَبِهَذا تَتَّفِقُ الرِّواياتُ كُلُّها في تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ في الأذانِ.
(p-١٣٢)أمّا الإقامَةُ فَحَدِيثُ بِلالٍ نَصٌّ في إيثارِ الإقامَةِ إلّا لَفْظَ الإقامَةِ وهو عَيْنُ نَصِّ الإقامَةِ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، وعَيْنُ النَّصِّ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، والإقامَةُ مَرَّةً مَرَّةً إلّا الإقامَةَ، أيْ: فَهي مَرَّتَيْنِ، وعَلى هَذا العَرْضِ وبِهَذِهِ المُناقَشَةِ يَكُونُ الرّاجِحُ هو العَمَلَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ في الأذانِ والإقامَةِ، مَعَ أخْذِ التَّرْجِيعِ والتَّثْوِيبِ مِن حَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ لِلْأذانِ.
ثُمَّ نَسُوقُ ما أخَذَ بِهِ فُقَهاءُ الأمْصارِ مِن هَذا كُلِّهِ مَعَ بَيانِ النَّتِيجَةِ مِن جَوازِ العَمَلِ بِالجَمِيعِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
قالَ ابْنُ رُشْدٍ في البِدايَةِ ما نَصُّهُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الأذانِ عَلى أرْبَعِ صِفاتٍ مَشْهُورَةٍ:
إحْداهُما: تَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وتَرْبِيعُ الشَّهادَتَيْنِ وباقِيهِ مُثَنًّى، وهو مَذْهَبُ أهْلِ المَدِينَةِ مالِكٍ وغَيْرِهِ، واخْتارَ المُتَأخِّرُونَ مِن أصْحابِ مالِكٍ التَّرْجِيعَ في الشَّهادَتَيْنِ بِصَوْتٍ أخْفَضَ مِنَ الأذانِ.
والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أذانُ المَكِّيِّينَ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، وهو تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الأوَّلِ والشَّهادَتَيْنِ، وتَثْنِيَةُ باقِي الأذانِ.
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: أذانُ الكُوفِيِّينَ، وهو تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الأوَّلِ وتَثْنِيَةُ باقِي الأذانِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ.
والصِّفَةُ الرّابِعَةُ: أذانُ البَصْرِيِّينَ، وهو تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الأوَّلِ وتَثْلِيثُ الشَّهادَتَيْنِ، وحَيَّ عَلى الصَّلاةِ وحَيَّ عَلى الفَلاحِ، يَبْدَأُ بِأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ حَتّى يَصِلَ إلى حَيَّ عَلى الفَلاحِ، ثُمَّ يُعِيدُ كَذَلِكَ مَرَّةً ثانِيَةً أعْنِي الأرْبَعَ كَلِماتٍ تَبَعًا ثُمَّ يُعِيدُهُنَّ ثالِثَةً، وبِهِ قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وابْنُ سِيرِينَ.
والسَّبَبُ في اخْتِلافِ كُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الفِرَقِ الأرْبَعِ اخْتِلافُ الآثارِ في ذَلِكَ، واخْتِلافُ اتِّصالِ العَمَلِ عِنْدَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم، وذَلِكَ أنَّ المَدَنِيِّينَ يَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِالعَمَلِ المُتَّصِلِ بِذَلِكَ في المَدِينَةِ، والمَكِّيُّونَ كَذَلِكَ أيْضًا يَحْتَجُّونَ بِالعَمَلِ المُتَّصِلِ عِنْدَهم بِذَلِكَ، وكَذَلِكَ الكُوفِيُّونَ والبَصْرِيُّونَ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِنهم آثارٌ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ. اهـ.
(p-١٣٣)ثُمَّ ساقَ نُصُوصَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي أوْرَدْناها سابِقًا، ولَمْ يُورِدْ نَصًّا لِمَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ الَّذِي فِيهِ التَّثْلِيثُ المَذْكُورُ، وقَدْ وُجِدَ في مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزّاقِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مُجَلَّدَ (١) ص (٥٦٤) وجاءَ مَرْوِيًّا عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ في المُصَنَّفِ المَذْكُورِ.
وَقالَ في الإقامَةِ: أمّا صِفَتُها فَإنَّها عِنْدَ مالِكٍ والشّافِعِيِّ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ في أوَّلِها، وبِإفْرادِ باقِيها إلّا لَفْظَ الإقامَةِ، فَعِنْدَ الشّافِعِيِّ مَرَّتَيْنِ وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، فَهي مَثْنى مَثْنى، وأمّا أحْمَدُ فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَ الأفْرادِ والتَّثْنِيَةِ فِيها اهـ.
تِلْكَ هي خُلاصَةُ أقْوالِ أئِمَّةِ الأمْصارِ في ألْفاظِ الأذانِ والإقامَةِ، وقَدْ أجْمَلَها العَلّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زادِ المَعادِ تَحْتَ عُنْوانِ: فَصْلُ مُؤَذِّنِيهِ ﷺ قالَ ما نَصُّهُ:
وَكانَ أبُو مَحْذُورَةَ يُرَجِّعُ الأذانَ ويُثَنِّي الإقامَةَ وبِلالٌ لا يُرَجِّعُ ويُفْرِدُ الإقامَةَ، فَأخَذَ الشّافِعِيُّ وأهْلُ مَكَّةَ بِأذانِ أبِي مَحْذُورَةَ، وإقامَةِ بِلالٍ، ويَعْنِي بِأذانِ أبِي مَحْذُورَةَ عَلى رِوايَةِ تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وأخَذَ أبُو حَنِيفَةَ، وأهْلُ العِراقِ بِأذانِ بِلالٍ وإقامَةِ أبِي مَحْذُورَةَ، وأخَذَ أحْمَدُ، وأهْلُ الحَدِيثِ، وأهْلُ المَدِينَةِ بِأذانِ بِلالٍ وإقامَتِهِ، أيْ: بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ وبِدُونِ تَرْجِيعٍ، وبِإفْرادِ الإقامَةِ إلى لَفْظِ الإقامَةِ، قالَ: وخالَفَ مالِكٌ في المَوْضِعَيْنِ إعادَةَ التَّكْبِيرِ وتَثْنِيَةَ لَفْظِ الإقامَةِ؛ فَإنَّهُ لا يُكَرِّرُها اهـ.
وَمُرادُهُ بِمُخالَفَةِ مالِكٍ هُنا لِأهْلِ الأمْصارِ، وإلّا فَهو مُتَّفِقٌ مَعَ بَعْضِ الصُّوَرِ المُتَقَدِّمَةِ. أمّا في عَدَمِ إعادَةِ التَّكْبِيرِ، فَعَلى حَدِيثِ أبِي مَحْذُورَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وعَدَمِ تَكْرِيرِهِ لِلَفْظِ الإقامَةِ، فَعَلى بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ بِلالٍ أنْ يُوتِرَ الإقامَةَ أيْ عَلى هَذا الإطْلاقِ، وبِهَذا مَرَّةً أُخْرى يَظْهَرُ لَكَ أنَّ تِلْكَ الصِّفاتِ كُلَّها صَحِيحَةٌ، وأنَّها مِن بابِ اخْتِلافِ التَّنَوُّعِ وكُلٌّ ذَهَبَ إلى ما هو صَحِيحٌ وراجِحٌ عِنْدَهُ، ولا تَعارُضَ مُطْلَقًا إلّا قَوْلَ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وابْنِ سِيرِينَ بِالتَّثْلِيثِ ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ.
وَقالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ كَلِمَةَ فَصْلٍ في ذَلِكَ، في المَجْمُوعِ ج ٢٢ ص ٦٦ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ المَسْألَةِ ما نَصُّهُ: فَإذا كانَ كَذَلِكَ فالصَّوابُ مَذْهَبُ أهْلِ الحَدِيثِ ومَن وافَقَهم تَسْوِيغُ كُلِّ ما ثَبَتَ في ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، إذْ تَنَوُّعُ صِفَةِ الأذانِ والإقامَةِ كَتَنَوُّعِ صِفَةِ القِراءاتِ والتَّشَهُّداتِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَكْرَهَ ما سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأُمَّتِهِ. اهـ.
(p-١٣٤)وَقالَ ابْنُ القَيِّمِ في زادِ المَعادِ في مَوْضِعٍ آخَرَ: مِمّا لا يَنْبَغِي الخِلافُ فِيهِ ما نَصُّهُ: وهَذا مِنَ الِاخْتِلافِ المُباحِ الَّذِي لا يُعَنَّفُ فِيهِ مَن فَعَلَهُ ولا مَن تَرَكَهُ.
وَهَذا كَرَفْعِ اليَدَيْنِ في الصَّلاةِ وتَرْكِهِ، وكالخِلافِ في أنْواعِ التَّشَهُّداتِ وأنْواعِ الأذانِ والإقامَةِ، وأنْواعِ النُّسُكِ مِنَ الإفْرادِ والتَّمَتُّعِ والقِرانِ.
* تَنْبِيهٌ
قَدْ جاءَ في التَّثْوِيبِ بَعْضُ الآثارِ عَنْ عُمَرَ وبَعْضِ الأُمَراءِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ مَرْفُوعٌ، كَما في قِصَّةِ بِلالٍ المُتَقَدِّمَةِ، ولا يَبْعُدُ أنَّ ما جاءَ عَنْ عُمَرَ أوْ غَيْرِهِ يَكُونُ تَكْرارًا لَمّا سَبَقَ أنْ جاءَ عَنْ بِلالٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وقِيلَ فِيها هَلْ هو خاصٌّ بِالفَجْرِ أوْ عامٌّ في كُلِّ صَلاةٍ يَكُونُ الإمامُ نائِمًا فِيها ؟ والصَّحِيحُ أنَّهُ خاصٌّ بِالفَجْرِ وفي الأذانِ لا عِنْدَ بابِ الأمِيرِ أوِ الإمامِ، وتَقَدَّمَ أثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَن ثَوَّبَ في أذانِ الظُّهْرِ أنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِدْعَةً وخَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ.
* * *
كَيْفِيَّةُ أداءِ الأذانِ
يُؤَدّى الأذانُ بِتَرَسُّلٍ وتَمَهُّلٍ؛ لِأنَّهُ إعْلانٌ لِلْبَعِيدِ، والإقامَةُ حَدْرًا؛ لِأنَّها لِلْحاضِرِ القَرِيبِ، أمّا النُّطْقُ بِالأذانِ فَيَكُونُ جَزْمًا غَيْرَ مُعْرَبٍ.
قالَ في المُغْنِي: ذَكَرَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أنَّهُ حالُ تَرَسُّلِهِ ودَرْجِهِ أيْ: في الأذانِ والإقامَةِ، لا يَصِلُ الكَلامَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بَلْ جَزْمًا. وحَكاهُ عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ عَنْ أهْلِ اللُّغَةِ، وقالَ: ورُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ قالَ: شَيْئانِ مَجْزُومانِ كانُوا لا يُعْرِبُونَهُما الأذانُ والإقامَةُ، قالَ: وهَذا إشارَةٌ إلى إجْماعِهِمْ.
* * *
حُكْمُ الأذانِ والإقامَةِ
قالَ ابْنُ رُشْدٍ: واخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِ الأذانِ هَلْ هو واجِبٌ أوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ؟ وإنْ كانَ واجِبًا فَهَلْ هو مِن فُرُوضِ الأعْيانِ أوْ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ ؟ اهـ.
فَتَراهُ يَدُورُ حُكْمُهُ بَيْنَ فَرْضِ العَيْنِ والسُّنَّةِ المُؤَكَّدَةِ، والسَّبَبُ في هَذا الِاخْتِلافِ، اخْتِلافُهم في وِجْهَةِ النَّظَرِ في الغَرَضِ مِنَ الأذانِ هَلْ هو مِن حَقِّ الوَقْتِ لِلْإعْلامِ بِدُخُولِهِ أوْ مِن حَقِّ الصَّلاةِ، كَذِكْرٍ مِن أذْكارِها أوْ هو شِعارٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُمَيِّزُهم عَنْ غَيْرِهِمْ ؟
وَسَنُجْمِلُ أقْوالَ الأئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَعَ الإشارَةِ إلى مَأْخَذِ كُلٍّ مِنهم ثُمَّ بَيانِ الرّاجِحِ (p-١٣٥)إنْ شاءَ اللَّهُ.
أوَّلًا: اتَّفَقَ الشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ عَلى أنَّهُ سُنَّةٌ عَلى ما رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ في المَجْمُوعِ أنَّهُ سُنَّةٌ في حَقِّ الجَمِيعِ المُنْفَرِدِ والجَماعَةِ في الحَضَرِ وفي السَّفَرِ، أيْ: أنَّهُ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ صِحَّةُ الصَّلاةِ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أنَّهُ فَرْضُ كِفايَةٍ أيْ: لِلْجَماعَةِ أوْ لِلْجُمُعَةِ خاصَّةً، والدَّلِيلُ لَهم في ذَلِكَ حَدِيثُ المُسِئِ صَلاتَهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَهُ مَعَها الوُضُوءَ، واسْتِقْبالَ القِبْلَةِ، ولَمْ يُعَلِّمْهُ أمْرَ الأذانِ ولا الإقامَةِ.
ثانِيًا: مالِكٌ جاءَ عَنْهُ أنَّهُ فَرَضَ عَلى المَساجِدِ الَّتِي لِلْجَماعَةِ ولَيْسَ عَلى المُنْفَرِدِ فَرْضًا ولا سُنَّةً.
وَعَنْهُ: أنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلى مَساجِدِ الجَماعَةِ، فَفَرَّقَ مالِكٌ بَيْنَ المُنْفَرِدِ ومَساجِدِ الجَماعَةِ. وفي مَتْنِ خَلِيلٍ عِنْدَهم أنَّهُ سُنَّةٌ لِجَماعَةٍ تَطْلُبُ غَيْرَها في فَرْضٍ وقْتِيٍّ، ولَوْ جُمُعَةٍ أيْ وما عَدا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلى المُنْفَرِدِ أصْلًا. واخْتَلَفَ القَوْلُ عَنْهُ في مَساجِدِ الجَماعَةِ ما بَيْنَ الفَرْضِ والسُّنَّةِ المُؤَكَّدَةِ، واسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كانَ لا يَزِيدُ عَلى الإقامَةِ في السَّفَرِ إلّا في الصُّبْحِ، وكانَ يَقُولُ: إنَّما الأذانُ لِلْإمامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ لَهُ النّاسُ»، رَواهُ مالِكٌ.
وَكَذَلِكَ أثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ وعَلْقَمَةَ، صَلَّوْا بِغَيْرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ. قالَ سُفْيانُ: كَفَتْهم إقامَةُ المِصْرِ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إقامَةُ المِصْرِ تَكْفِي، رَواهُما الطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ بِلِينٍ.
ثالِثًا: وعِنْدَ الحَنابِلَةِ: قالَ الخِرَقِيُّ: هو سُنَّةٌ أيْ كالشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ، وغَيْرُ الخِرَقِيِّ قالَ كَقَوْلِ مالِكٍ.
رابِعًا: عِنْدَ الظّاهِرِيَّةِ فَرْضٌ عَلى الأعْيانِ، ويَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ مالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ وصاحِبِهِ، قالَ لَهُما ﷺ: «إذا كُنْتُما في سَفَرٍ فَأذِّنا وأقِيما، ولْيَؤُمَّكُما أكْبَرُكُما» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَحَمَلُوا الأمْرَ عَلى الوُجُوبِ.
هَذا مُوجَزُ أقْوالِ الأئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَعَ الإشارَةِ إلى أدِلَّتِهِمْ في الجُمْلَةِ، وحُكْمُهُ كَما رَأيْتَ دائِرٌ بَيْنَ السُّنَّةِ عُمُومًا عِنْدَ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ، والوُجُوبُ عِنْدَ الظّاهِرِيَّةِ.
(p-١٣٦)والسُّنَّةُ المُؤَكَّدَةُ أوْ فَرْضُ الكِفايَةِ عِنْدَ مالِكٍ وغَيْرِهِ عَلى تَفْصِيلٍ في ذَلِكَ.
وَقَدْ رَأيْتُ النُّصُوصَ عِنْدَ الجَمِيعِ، ولَكِنَّ مِن أسْبابِ الخِلافِ في حُكْمِ الأذانِ هو تَرَدُّدُ النَّظَرِ فِيهِ هَلْ هو في حَقِّ الوَقْتِ لِلْإعْلامِ بِدُخُولِ الوَقْتِ، أوْ هو حَقُّ الصَّلاةِ نَفْسِها، أوْ هو شِعارٌ لِلْمُسْلِمِينَ ؟
فَعَلى أنَّهُ مِن حَقِّ الوَقْتِ، فَأذانٌ واحِدٌ، فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الإعْلامُ ويَكْفِي عَنْ غَيْرِهِ، ولا يُؤَذِّنُ مَن فاتَهُ أوَّلُ الوَقْتِ، ولا مَن يُصَلِّي في مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَتْ فِيهِ الفَرِيضَةُ أوَّلًا ولا لِلْفَوائِتِ.
وَإنْ كانَ مِن حَقِّ الصَّلاةِ فَهَلْ هو شَرْطٌ في صِحَّتِها أوْ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
وَعَلى أنَّهُ لِلْوَقْتِ لِلْإعْلامِ بِهِ، فَإنَّهُ يُعارِضُهُ حَدِيثُ قِصَّةِ تَعْرِيسِهِمْ آخِرَ اللَّيْلِ، ولَمْ يُوقِظْهم إلّا حَرُّ الشَّمْسِ، وأمْرُهُ ﷺ بِالِانْتِقالِ عَنْ ذَلِكَ الوادِي ثُمَّ نُزُولُهم والأمْرُ بِالأذانِ والإقامَةِ، فَلا مَعْنى لِكَوْنِهِ لِلْوَقْتِ في هَذا الحَدِيثِ، وهو مِن رِوايَةِ مالِكٍ في المُوَطَّأِ.
وَعَلى أنَّهُ لِلصَّلاةِ فَلَهُ جِهَتانِ:
الأُولى: إذا كانَ المُصَلِّي مُنْفَرِدًا ولا يَطْلُبُ مَن يُصَلِّي مَعَهُ.
والثّانِيَةُ: أنَّهُ إذا كانُوا جَماعَةً.
فَإذا كانَ مُنْفَرِدًا لا يَطْلُبُ مَن يُصَلِّي مَعَهُ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يَخْتَلِفَ في كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطًا في صِحَّةِ الصَّلاةِ، ولَيْسَ واجِبًا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الأذانَ لِلْإعْلامِ، ولَيْسَ هُناكَ مَن يَقْصِدُ إعْلامَهُ.
وَلِحَدِيثِ المُسِئِ صَلاتَهُ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وقَدْ يَدُلُّ لِذَلِكَ ظاهِرُ نُصُوصِ القُرْآنِ في بَيانِ شُرُوطِ الصَّلاةِ الَّتِي هي: الطَّهارَةُ، والوَقْتُ، وسَتْرُ العَوْرَةِ، واسْتِقْبالُ القِبْلَةِ.
فَفِي الطَّهارَةِ قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٦] .
وَفِي الوَقْتِ قالَ تَعالى: ﴿وَأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ الآيَةَ [هود: ١١٤] ونَحْوَها.
وَفِي العَوْرَةِ قالَ تَعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ٣١] .
(p-١٣٧)وَفِي القِبْلَةِ قالَ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] .
وَأمّا في الأذانِ فَقالَ تَعالى: ﴿وَإذا نادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا ولَعِبًا﴾ [المائدة: ٥٨] .
وَقالَ في سُورَةِ ”الجُمُعَةِ“ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: ٩] وكِلاهُما حِكايَةُ واقِعٍ، ولَيْسَ فِيهِما صِيغَةُ أمْرٍ كَغَيْرِ الأذانِ مِمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
أمّا حَدِيثُ ابْنِ الحُوَيْرِثِ فَهو في خُصُوصِ جَماعَةٍ، ولَيْسَ في شَخْصٍ واحِدٍ كَما هو نَصُّ الحَدِيثِ.
وَبَقِيَ النَّظَرُ فِيهِ في حَقِّ الجَماعَةِ، هَلْ هو عَلى الوُجُوبِ في حَقِّهِمْ أمْ عَلى النَّدْبِ ؟ وإذا كانَ بِالنُّصُوصِ القُرْآنِيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلاةِ الفَرْدِ، فَلَيْسَ هو إذًا بِشَرْطٍ في صِحَّةِ صَلاةِ الجَماعَةِ فَيُجْعَلُ الأمْرُ فِيهِ عَلى النَّدْبِ.
وَعَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ أبِي صَعْصَعَةَ أنَّ أبا سَعِيدٍ قالَ لَهُ: «أراكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والبادِيَةَ، فَإذا كُنْتَ في غَنَمِكَ أوْ بادِيَتِكَ فَأذَّنْتَ لِلصَّلاةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّداءِ؛ فَإنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ ولا إنْسٌ ولا شَيْءٌ إلّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، سَمِعْتُهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» . رَواهُ البُخارِيُّ ومالِكٌ في المُوَطَّأِ والنَّسائِيُّ.
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ فِيهِ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأذَّنْتَ لِلصَّلاةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ، فَيُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ إنْ لَمْ يُؤَذِّنْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وأنَّهُ يُرادُ بِهِ الحَثُّ عَلى رَفْعِ الصَّوْتِ لِمَن يُؤَذِّنُ ولَوْ كانَ في البادِيَةِ، لِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن هَذا الأجْرِ.
أمّا كَوْنُهُ شِعارًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالمَساجِدِ في الحَضَرِ، فَيَلْزَمُ أهْلَها، كَما قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ في حَقِّ المَساجِدِ.
قالَ الشّافِعِيُّ: يُقاتَلُونَ عَلَيْهِ إنْ تَرَكُوهُ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ لِدَلِيلِ الإغارَةِ في الصُّبْحِ أوِ التَّرْكِ بِسَبَبِ سَماعِهِ، وكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ في السَّفَرِ بِالإمامِ، ويَنْبَغِي أنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ (p-١٣٨)لِفِعْلِهِ ﷺ في كُلِّ أسْفارِهِ في غَزَواتِهِ وفي حَجِّهِ كَما هو مَعْلُومٌ، وما عَدا ذَلِكَ فَهو لا شَكَّ سُنَّةٌ لا يَنْبَغِي تَرْكُها.
وَلِابْنِ تَيْمِيَةَ تَقْسِيمٌ نَحْوُ هَذا في المَجْمُوعِ في الجُزْءِ الثّانِي والعِشْرِينَ: ولِلْأذانِ عِدَّةُ جَوانِبَ تَبَعٌ لِذَلِكَ مِنها في حالَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، فَقَدْ جاءَتِ السُّنَّةُ بِالأذانِ والإقامَةِ لِلْأُولى مِنهُما، والِاكْتِفاءِ بِالإقامَةِ لِلثّانِيَةِ، كَما في الجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ بِعَرَفَةَ، والمَغْرِبِ والعَشاءِ في المُزْدَلِفَةِ عَلى الصَّحِيحِ، وهو مِن أدِلَّةِ عَدَمِ الوُجُوبِ لِكُلِّ صَلاةٍ.
وَمِنها أنْ لا أذانَ عَلى النِّساءِ أيْ لا وُجُوبَ، وإنْ أرَدْنَ الفَضِيلَةَ أتَيْنَ بِهِ سِرًّا، وقَدْ عَقَدَ لَهُ البَيْهَقِيُّ بابًا قالَ فِيهِ: لَيْسَ عَلى النِّساءِ أذانٌ ولا إقامَةٌ، وساقَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قالَ: لَيْسَ عَلى النِّساءِ أذانٌ ولا إقامَةٌ، ثُمَّ ساقَ «عَنْ أسْماءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مَرْفُوعًا: ”لَيْسَ عَلى النِّساءِ أذانٌ ولا إقامَةٌ، ولا جُمُعَةٌ ولا اغْتِسالُ جُمُعَةٍ، ولا تَقَدَّمُهُنَّ امْرَأةٌ، ولَكِنْ تَقُومُ في وسَطِهِنَّ»“ هَكَذا رَواهُ الحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأيْلِيُّ وهو ضَعِيفٌ، وقالَ: ورُوِّيناهُ في الأذانِ والإقامَةِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا، ورَفْعُهُ ضَعِيفٌ وهو قَوْلُ الحَسَنِ وابْنِ المُسَيَّبِ، وابْنِ سِيرِينَ والنَّخَعِيِّ.
* * *
تَعَدُّدُ المُؤَذِّنِينَ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ ولِبَقِيَّةِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ في المَسْجِدِ الواحِدِ
أوَّلًا: ما يَتَعَلَّقُ بِالجُمُعَةِ، صُوَرُ التَّعَدُّدِ لَها فِيهِ صُورَتانِ، صُورَةُ تَعَدُّدِ الأذانِ أيْ قَبْلَ الوَقْتِ وبَعْدَ الوَقْتِ، وصُورَةُ تَعَدُّدِ المُؤَذِّنِينَ بَعْدَ الوَقْتِ عَلى ما سَيَأْتِي في ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ، أمّا تَعَدُّدُ الأذانِ فَقَدْ بَوَّبَ لَهُ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ في بابِ الجُمُعَةِ قالَ: بابُ الأذانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وساقَ حَدِيثَ السّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قالَ: «كانَ النِّداءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أوَّلُهُ إذا جَلَسَ الإمامُ عَلى المِنبَرِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
فَلَمّا كانَ عُثْمانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكَثُرَ النّاسُ زادَ النِّداءَ الثّالِثَ عَلى الزَّوْراءِ» فَفِيهِ الأذانُ أوَّلًا لِلْوَقْتِ كَبَقِيَّةِ الصَّلَواتِ، وفِيهِ أذانٌ قَبْلَ الوَقْتِ زادَهُ عُثْمانُ لَمّا كَثُرَ النّاسُ، وهو المَعْنى الثّالِثُ، والِاثْنانِ الآخَرانِ هُما الأذانُ لِلْوَقْتِ، والإقامَةُ المَوْجُودانِ مِن قَبْلُ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الشَّرْحِ تَنْبِيهًا قالَ فِيهِ: ورُدَّ ما يُخالِفُ ذَلِكَ الخَبَرَ بِأنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هو الَّذِي زادَ الأذانَ.
(p-١٣٩)فَفِي تَفْسِيرِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحّاكِ عَنْ زِيادَةَ الرّاوِي، عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنانٍ، عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعاذٍ أنَّ عُمَرَ أمَرَ مُؤَذِّنَيْهِ أنْ يُؤَذِّنا لِلنّاسِ الجُمُعَةَ خارِجًا مِنَ المَسْجِدِ حَتّى يَسْمَعَ النّاسُ، وأمَرَ أنْ يُؤَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَما كانَ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وأبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قالَ عُمَرُ: نَحْنُ ابْتَدَعْناهُ لِكَثْرَةِ المُسْلِمِينَ اهـ.
ثُمَّ ناقَشَ ابْنُ حَجَرٍ هَذا الأثَرَ وقالَ: إنَّهُ مُنْقَطِعٌ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ وجَدَ لَهُ ما يُقَوِّيهِ إلى آخِرِ كَلامِهِ.
فَهَذا دَلِيلٌ عَلى تَعَدُّدِ الأذانِ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَ الوَقْتِ وعِنْدَ دُخُولِهِ، سَواءٌ مِن عُمَرَ أوْ مِن عُثْمانَ أوْ مِنهُما مَعًا، رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِما.
أمّا مَكانُ هَذا الأذانِ وزَمانُهُ، فَإنَّ المَكانَ قَدْ جاءَ النَّصُّ أنَّهُ كانَ عَلى الزَّوْراءِ.
وَقَدْ كَثُرَ الكَلامُ في تَحْدِيدِ الزَّوْراءِ مَعَ اتِّفاقِهِمْ أنَّها مَكانٌ بِالسُّوقِ، وهَذا يَتَّفِقُ مَعَ الغَرَضِ مِن مَشْرُوعِيَّتِهِ لِتَنْبِيهِ أهْلِ السُّوقِ بِوَقْتِ الجُمُعَةِ لِلسَّعْيِ إلَيْها.
أمّا الزَّوْراءُ بِعَيْنِها فَقالَ عُلَماءُ تارِيخِ المَدِينَةِ: إنَّهُ اسْمٌ لِلسُّوقِ نَفْسِها، وقِيلَ: مَكانٌ مِنها مُرْتَفِعٌ كانَ عِنْدَ أحْجارِ الزَّيْتِ، وعِنْدَ قَبْرِ مالِكِ بْنِ سِنانٍ، وعِنْدَ سُوقِ العَباءَةِ.
والشَّيْءُ الثّابِتُ الَّذِي لَمْ يَقْبَلِ التَّغَيُّرَ، هو قَبْرُ مالِكِ بْنِ سِنانٍ، لَكِنْ يَقُولُونَ عِنْدَهُ، ولَيْسَ في مَكانِهِ، وقَدْ بَدا لِي أنَّ الزَّوْراءَ هو مَكانُ المَسْجِدِ الَّذِي يُوجَدُ الآنَ بِالسُّوقِ في مُقابَلَةِ البابِ المِصْرِيِّ المَعْرُوفِ بِمَسْجِدِ فاطِمَةَ، ويَبْدُو لِي أنَّ الزَّوْراءَ حُرِّفَتْ إلى الزَّهْراءِ، والزَّهْراءُ عِنْدَ النّاسِ يُساوِي فاطِمَةَ لِكَثْرَةِ قَوْلِهِمْ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ، ومَعْلُومٌ قَطْعًا أنَّ فاطِمَةَ الزَّهْراءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَها مَسْجِدٌ في هَذا المَكانِ، فَلا صِحَّةَ لِنِسْبَةِ هَذا المَسْجِدِ إلَيْها، بَلْ ولا ما نُسِبَ لِأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - مِن مَساجِدَ في جَوانِبِ مَسْجِدِ المُصَلّى المَعْرُوفِ الآنَ بِمَسْجِدِ الغَمامَةِ، وإنَّما صِحَّةُ ما نُسِبَ إلَيْهِمْ - رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ - هو أنَّ تِلْكَ الأماكِنَ كانَتْ مَواقِفَهم في مُصَلّى العِيدِ، ولِهَذا تَراها كُلَّها في هَذا المَكانِ المُتَواجِدَةِ فِيهِ.
فَأوَّلُهم أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَدْ أخَّرَ مَوْقِفَهُ عَنْ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَصَلّى العِيدَ تَأدُّبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وجاءَ مِن بَعْدِهِ، واخْتَلَفَتْ أماكِنُ مُصَلّاهم فَأُقِيمَتْ تِلْكَ المَساجِدُ في أماكِنِ قِيامِهِمْ.
(p-١٤٠)أمّا ما يُنْسَبُ إلى فاطِمَةَ الزَّهْراءِ فَلا مُناسَبَةَ لَهُ ولا صِحَّةَ لَهُ، وقَدْ قالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ: إنَّهُ مَنسُوبٌ إلى إحْدى الفُضْلَياتِ مِن نِساءِ العُصُورِ المُتَأخِّرَةِ، واسْمُها فاطِمَةُ، وعَلَيْهِ فَلَعَلَّها قَدْ جَدَّدَتْهُ ولَمْ تُؤَسِّسْهُ؛ لِأنَّهُ لا مُوجِبَ أيْضًا لِتَبَرُّعِها بِإنْشاءِ مَسْجِدٍ بِهَذا القُرْبِ مِن مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
وَبِمُناسَبَةِ العَمَلِ بِالقَضاءِ فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ صَكُّ شَرْطِ وقْفٍ لِلْأشْرافِ الشَّراقِمَةِ بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وفي بَعْضِ تَحْدِيدِ أعْيانِهِ يَقُولُ: الواقِعُ في طَرِيقِ الزَّوْراءِ، ويَحُدُّهُ جَنُوبًا وقْفُ الحَلَبِيِّ، ووَقْفُ الحَلَبِيِّ مَوْجُودٌ حَتّى الآنَ مَعْرُوفٌ يَقَعُ عَنِ المَسْجِدِ المَوْجُودِ بِالفِعْلِ في الجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ ولَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَسْجِدِ المَذْكُورِ إلّا السُّورُ والشّارِعُ فَقَطْ، وتارِيخُ هَذا الصَّكِّ قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ مِن تارِيخِ كِتابَةِ هَذِهِ الأحْرُفِ أيْ قَبْلَ عامِ ألْفٍ ومِائَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ.
وَبِهَذا تَرَجَّحَ عِنْدَي أنَّ مَوْضِعَ أذانِ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ بِذَلِكَ المَكانِ، وأنَّهُ المُتَوَسِّطُ بِسُوقِ المَدِينَةِ، وتُقَدَّرُ مَسافَتُهُ عَنِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِحَوالَيْ مِائَتَيْنِ وخَمْسِينَ مِتْرًا تَقْرِيبًا.
وَقَدْ كانَ الأذانُ الأوَّلُ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى المَنارَةِ، وهَكَذا الأذانُ لِلْوَقْتِ زَمَنَ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ، ثُمَّ مَن بَعْدَهم، أمّا هَذا الأذانُ فَكانَ ابْتِداؤُهُ مِنَ الزَّوْراءِ، ثُمَّ نُقِلَ إلى بابِ المَسْجِدِ، ثُمَّ نُقِلَ إلى ما بَيْنَ يَدَيِ الإمامِ، وذَلِكَ زَمَنَ هِشامِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، ثُمَّ نُقِلَ إلى المَنارَةِ.
أمّا زَمانُهُ فَلَمْ أقِفْ عَلى تَحْدِيدٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ، كَمْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الثّانِي ؟ وهَلْ كانَ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ أوْ قَبْلَهُ ؟
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ رِوايَةً عَنِ الطَّبَرانِيِّ ما نَصُّهُ: فَأمَرَ بِالنِّداءِ الأوَّلِ عَلى دارٍ لَهُ يُقالُ لَها الزَّوْراءُ، فَكانَ يُؤَذَّنُ عَلَيْها، فَإذا جَلَسَ عَلى المِنبَرِ أذَّنَ مُؤَذِّنُهُ الأوَّلُ، فَإذا نَزَلَ أقامَ الصَّلاةَ، وفي رِوايَةٍ لَهُ مِن هَذا الوَجْهِ: فَأذَّنَ بِالزَّوْراءِ قَبْلَ خُرُوجِهِ؛ لِيَعْلَمَ النّاسُ أنَّ الجُمُعَةَ قَدْ حَضَرَتْ، إلى أنْ قالَ: وتَبَيَّنَ بِما مَضى أنَّ عُثْمانَ أحْدَثَهُ لِإعْلامِ النّاسِ بِدُخُولِ وقْتِ الصَّلاةِ قِياسًا عَلى بَقِيَّةِ الصَّلَواتِ، فَألْحَقَ الجُمُعَةَ بِها، وأبْقى خُصُوصِيَّتَها بِالأذانِ بَيْنَ يَدَيِ الخَطِيبِ، فَتَراهُ يُرَجِّحُ كَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ وعِنْدَ خُرُوجِ عُثْمانَ أيْ مِن بَيْتِهِ وكانَ يَسْكُنُ إلى تِلْكَ الجِهَةِ، ولَكِنَّ هَذا لا يَتَمَشّى مَعَ الغَرَضِ مِن إيجادِ هَذا الأذانِ، لِأنَّهُ لَمّا كَثُرَ (p-١٤١)النّاسُ جَعَلَهُ في السُّوقِ لِإعْلامِهِمْ، فَإذا كانَ بَعْدَ الوَقْتِ، فَأيُّ فائِدَةٍ مِنهُ، وكَيْفَ يُعَدُّ ثالِثًا، إنَّهُ يَكُونُ مِن تَعَدُّدِ المُؤَذِّنِينَ لا مَن تَعَدُّدِ الأذانِ.
ثُمَّ إنَّ مَسْكَنَ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ بِجِوارِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومَحَلُّهُ مَعْرُوفٌ حَتّى الآنَ، وكانَ يُعْرَفُ بِرِباطِ عُثْمانَ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَذا الأذانَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مَعَ بُعْدِ ما بَيْنَ الزَّوْراءِ ومَكانِ سُكْناهُ.
ثُمَّ إنَّ مِنَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ أنَّ الأذانَ بَيْنَ يَدَيِ الإمامِ هو الأذانُ الَّذِي بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ، وتَصِحُّ الصَّلاةُ بَعْدَهُ، فالأذانُ الثّالِثُ كالأوَّلِ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّبْحِ، وبِهَذا يَتَرَجَّحُ أنَّهُ كانَ قَبْلَ الوَقْتِ لا بَعْدَهُ، كالأوَّلِ لِلصُّبْحِ لِيَتَحَقَّقَ الغَرَضُ مِنهُ، وعَلَيْهِ يَنْبَغِي أنْ يُراعى في زَمَنِهِ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الثّانِي وما يَتَحَقَّقُ بِهِ الغَرَضُ مِن رُجُوعِ أهْلِ السُّوقِ وتَهَيُّئِهِمْ لِلْجُمُعَةِ وهَذا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأماكِنِ والبِلادِ، وسَواءٌ كانَ قَبْلَ الوَقْتِ أوْ بَعْدَهُ، فَلا بُدَّ مِن زَمَنٍ بَيْنَهُما يَتَمَكَّنُ فِيهِ أهْلُ السُّوقِ مِنَ الحُضُورِ إلى المَسْجِدِ وإدْراكِ الخُطْبَةِ.
وَلَوْ أخَذْنا بِعَيْنِ الِاعْتِبارِ ما وقَعَ لِعُثْمانَ نَفْسِهِ زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا دَخَلَ المَسْجِدَ وعُمَرُ يَخْطُبُ فَعاتَبَهُ عَلى التَّأْخِيرِ، ثُمَّ أحْدَثَ عُثْمانُ هَذا الأذانَ في عَهْدِهِ لَوَجَدْنا قَرِينَةَ تَقْدِيمِهِ عَنِ الوَقْتِ لِئَلّا يَقَعُ غَيْرُهُ فِيما يَقَعُ هو فِيهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَسَيَأْتِي نَصُّ ابْنِ الحاجِّ عَلى أنَّهُ قَبْلَ الوَقْتِ.
وَهَذا آخِرُ ما يَتَعَلَّقُ بِتَعَدُّدِ الأذانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلى ما يُوجَدُ مِن نِداءاتٍ أُخْرى يَوْمَ الجُمُعَةِ في بَعْضِ الأمْصارِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى ما اسْتُحْدِثَ في الأذانِ وابْتُدِعَ فِيهِ، مِمّا لَيْسَ مِنهُ إنْ شاءَ اللَّهُ.
* * *
أمّا تَعَدُّدُ المُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الجُمُعَةِ
فَقَدْ جاءَ صَرِيحًا في صَحِيحِ البُخارِيِّ في بابِ رَجْمِ الحُبْلى مِنَ الزِّنا في حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفِيهِ ما نَصُّهُ: ”فَجَلَسَ عُمَرُ عَلى المِنبَرِ ولَمّا سَكَتَ المُؤَذِّنُونَ قامَ فَأثْنى عَلى اللَّهِ بِما هو أهْلُهُ“ إلى آخِرِ الحَدِيثِ.
فَهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنَ البُخارِيِّ أنَّهُ كانَ لِعُمَرَ مُؤَذِّنُونَ، وكانُوا يُؤَذِّنُونَ حِينَ يَجْلِسُ عَلى المِنبَرِ، وكانَ يَجْلِسُ إلى أنْ يَفْرَغُوا مِنَ الأذانِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ أيْ كانَ أذانُهم كُلِّهِمْ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ.
(p-١٤٢)قالَ ابْنُ الحاجِّ في المَدْخَلِ، وكانُوا ثَلاثَةً يُؤَذِّنُونَ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، ثُمَّ زادَ عُثْمانُ أذانًا آخَرَ بِالزَّوْراءِ قَبْلَ الوَقْتِ، فَتَحَصَّلَ مِن هَذا وُجُودُ تَعَدُّدِ المُؤَذِّنِينَ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ، وكانُوا زَمَنَ عُمَرَ ثَلاثَةً وكانُوا يُؤَذِّنُونَ مُتَفَرِّقِينَ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ أيْضًا ضِمْنَ كَلامِهِ عَلى الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ تَحْتَ عُنْوانِ ”المُؤَذِّنُ الواحِدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ“ رِوايَةً عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أنَّهُ ﷺ «كانَ إذا رَقِيَ المِنبَرَ وجَلَسَ أذَّنَ المُؤَذِّنُونَ وكانُوا ثَلاثَةً واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، فَإذا فَرَغَ الثّالِثُ قامَ فَخَطَبَ» .
ثُمَّ قالَ: فَإنَّهُ دَعْوى تَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، ولَمْ يَرِدْ ذَلِكَ صَرِيحًا مِن طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ يَثْبُتُ مِثْلُها.
ثُمَّ قالَ: ثُمَّ وجَدْتُهُ في مُخْتَصَرِ البُوَيْطِيِّ عَنِ الشّافِعِيِّ، وفي تَعْلِيقٍ لِسَماحَةِ رَئِيسِ الجامِعَةِ في الحاشِيَةِ عَلى ذَلِكَ قالَ في مَخْطُوطَةِ الرِّياضِ في مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ: وسَواءٌ كانَ في مُخْتَصَرِ البُوَيْطِيِّ أوِ المُزَنِيِّ فَإنَّ عَزْوَهُ إلى الشّافِعِيِّ صَحِيحٌ وابْنُ حَجَرٍ لَمْ يُعَلِّقْ عَلى وُجُودِ هَذا الأثَرِ بِشَيْءٍ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البُوَيْطِيِّ: والنِّداءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ هو الَّذِي يَكُونُ والإمامُ عَلى المِنبَرِ، يَكُونُ المُؤَذِّنُونَ يَسْتَفْتِحُونَ الأذانَ فَوْقَ المَنارَةِ جُمْلَةً حِينِ يَجْلِسُ الإمامُ عَلى المِنبَرِ؛ لِيَسْمَعَ النّاسُ، فَيَأْتُونَ إلى المَسْجِدِ، فَإذا فَرَغُوا خَطَبَ الإمامُ بِهِمْ، فَهَذا أيْضًا نَصُّ الشّافِعِيِّ يَنْقُلُهُ النَّوَوِيُّ عَلى تَعَدُّدِ المُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَوْقَ المَنارَةِ جُمْلَةً، والإمامُ عَلى المِنبَرِ، وبِهَذا تَظْهَرُ مَشْرُوعِيَّةُ تَعَدُّدِ الأذانِ لِلْجُمُعَةِ، قَبْلَ وبَعْدَ الوَقْتِ مَن عَمَلِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ، وفي تَوَفُّرِ الصَّحابَةِ المَرْضِيِّينَ - رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - مِمّا يَصْلُحُ أنْ يُقالَ فِيهِ إجْماعٌ سُكُوتِيٌّ في وفْرَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - كَما ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ تَعَدُّدِ الأذانِ بَعْدَ الوَقْتِ مَن فِعْلِ الخُلَفاءِ أيْضًا وإجْماعِ الصَّحابَةِ عَلَيْهِ مَعَ أثَرٍ فِيهِ نِقاشٌ مَرْفُوعٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ .
أمّا ما يَتَعَلَّقُ بِالأذانِ لِبَقِيَّةِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ فَكالآتِي:
أوَّلًا: تَعَدُّدُ الأذانِ، فَقَدْ ثَبَتَ في حَدِيثِ بِلالٍ وابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ في قَوْلِهِ - ﷺ: «إنْ بِلالًا يُنادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يُنادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهَذا في صَلاةِ الفَجْرِ فَقَطْ لِما في الحَدِيثِ مِنَ القَرائِنِ المُتَعَدِّدَةِ الَّتِي مِنها: " «يُنادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يُنادِيَ (p-١٤٣)ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»، أيْ إنَّ أذانَ بِلالٍ قَبْلَ الفَجْرِ يُحِلُّ الطَّعامَ وأذانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ حِينَ يَحْرُمُ الطَّعامُ عَلى الصّائِمِ.
وَفِي رِوايَةٍ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ حَتّى يُقالَ لَهُ: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ وكانَ بَيْنَهُما مِنَ الزَّمَنِ، فَفي بَعْضِ الرِواياتِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما إلّا أنْ يَنْزِلَ هَذا ويَرْقى هَذا. رَواهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوايَةٍ لِلْجَماعَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ ﷺ: «لا يَمْنَعَنَّ أحَدَكم أذانُ بِلالٍ مِن سَحُورِهِ، فَإنَّهُ يُؤَذِّنُ أوْ قالَ: يُنادِي بِلَيْلٍ؛ لِيَرْجِعَ قائِمُكم ويُوقِظَ نائِمَكم» .
قالَ الشَّوْكانِيُّ: يُرِيدُ القائِمَ المُتَهَجِّدَ إلى راحَتِهِ؛ لِيَقُومَ إلى صَلاةِ الصُّبْحِ نَشِيطًا أوْ يَتَسَحَّرُ، إنْ كانَ لَهُ حاجَةٌ إلى الصِّيامِ، ويُوقِظَ النّائِمَ؛ لِيَتَأهَّبَ لِلصَّلاةِ بِالغُسْلِ والوُضُوءِ، فالأوَّلُ يُشْعِرُ بِتَوالِيهِما مَعَ فَرْقٍ يَسِيرٍ، والآخَرُ يَدُلُّ بِالفَرْقِ بَيْنَهُما، وكِلاهُما صَحِيحُ السَّنَدِ.
وَقَدْ فَسَّرَ هَذا النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ ونَقَلَهُ عَنْهُ الشَّوْكانِيُّ في نَيْلِ الأوْطارِ بِقَوْلِهِ: قالَ العُلَماءُ مَعْناهُ: إنَّ بِلالًا كانَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الفَجْرِ، ويَتَرَبَّصُ بَعْدَ أذانِهِ لِلدُّعاءِ ونَحْوِهِ، ثُمَّ يَرْقُبُ الفَجْرَ، فَإذا قارَبَ طُلُوعُهُ نَزَلَ فَأخْبَرَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فَيَتَأهَّبُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالطَّهارَةِ وغَيْرِها، ثُمَّ يَرْقى ويَشْرَعُ في الأذانِ مَعَ أوَّلِ طُلُوعِ الفَجْرِ، وهَذا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ ﷺ: " «لِيَرْجِعَ قائِمُكم ويُوقِظَ نائِمَكم» إلى آخِرِهِ، ويُصَدِّقُهُ ما جاءَ في الأثَرِ أيْضًا عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وكانَ رَجُلًا أعْمى فَلا يُؤَذِّنُ حَتّى يُقالَ لَهُ: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ، وهَذا الأذانُ الأوَّلُ لِلْفَجْرِ هو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ ما عَدا الإمامَ أبا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ، وحَمَلَ أذانَ بِلالٍ عَلى النِّداءِ بِغَيْرِ ألْفاظِ الأذانِ.
قالَ الشَّوْكانِيُّ: وعِنْدَ الأحْنافِ أنَّ أبا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمّا أذَّنَ بِلالٌ قَبْلَ الوَقْتِ أمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَرْجِعَ فَيَقُولَ: إلا إنَّ العَبْدَ قَدْ نامَ، وهَذا الأثَرُ رَواهُ التِّرْمِذِيُّ، وقالَ: حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
وَفِي فَتْحِ القَدِيرِ لِلْأحْنافِ، ما نَصُّهُ: ولا يُؤَذَّنُ لِصَلاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وقْتِها، ويُعادُ في الوَقْتِ.
وَقالَ أبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلْفَجْرِ في النِّصْفِ الأخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، قالَ في الشَّرْحِ: وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وقالَ: لِتَوارُثِ أهْلِ الحَرَمَيْنِ، فَيَكُونُ أبُو يُوسُفَ صاحِبُ أبِي حَنِيفَةَ (p-١٤٤)- رَحِمَهُما اللَّهُ - قَدْ وافَقَ الجُمْهُورَ في مَشْرُوعِيَّةِ الأذانِ قَبْلَ الفَجْرِ قَبْلَ الوَقْتِ، وإنَّ ما اسْتَدَلَّ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وقَدْ جَوَّزَهُ أبُو يُوسُفَ في النِّصْفِ الأخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ.
وَجاءَ نَصُّ المالِكِيَّةِ أنَّهُ في السُّدُسِ الأخِيرِ، قالَ في مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: غَيْرُ مُقَدَّمٍ عَلى الوَقْتِ إلّا الصُّبْحَ فَبِسُدُسِ اللَّيْلِ الأخِيرِ.
وَعِنْدَ الحَنابِلَةِ في المَعْنى ما نَصُّهُ: قالَ أصْحابُنا: ويَجُوزُ الأذانُ لِلْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ إلى قَوْلِهِ:
وَقَدْ رَوى الأثْرَمُ عَنْ جابِرٍ قالَ: كانَ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ يُؤَذِّنُ لِصَلاةِ الصُّبْحِ في السَّحَرِ بِقَدْرِ ما يَسِيرُ الرّاكِبُ سِتَّةَ أمْيالٍ فَلا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَكْحُولٌ ولا يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا. اهـ.
* * *
* تَنْبِيهٌ
قالَ في المُغْنِي: وقالَ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الحَدِيثِ: إذا كانَ مُؤَذِّنانِ يُؤَذِّنُ أحَدُهُما قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ والآخَرُ بَعْدَهُ، فَلا بَأْسَ أيْ: لِيَعْرِفَ الأوَّلُ مِنهُما مِنَ الثّانِي ويَلْتَزِما بِذَلِكَ؛ لِيَعْلَمَ النّاسُ الفَرْقَ بَيْنَ الأذانَيْنِ كَما كانَ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ انْتَهى مُلَخَّصًا.
أمّا تَعَدُّدُ المُؤَذِّنِينَ لِبَقِيَّةِ الأوْقاتِ الخَمْسَةِ فَكالآتِي:
أوَّلًا: فَإنَّ الأصْلَ في ذَلِكَ عِنْدَ العُلَماءِ هو حَدِيثُ بِلالٍ وابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ المُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ في صَلاحِ الفَجْرِ، ثُمَّ قاسُوا عَلَيْهِ لِلْحاجَةِ بَقِيَّةَ الصَّلَواتِ، كَما اسْتَأْنَسُوا لِزِيادَةِ عُمَرَ وعُثْمانَ في الجُمُعَةِ لِلْجَماعَةِ لِزِيادَةِ الإعْلامِ كَما تَقَدَّمَ.
ثانِيًا: نَسُوقُ مُوجَزَ الأقْوالِ في ذَلِكَ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ:
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: بابُ اسْتِحْبابِ اتِّخاذِ مُؤَذِّنَيْنِ لِلْمَسْجِدِ الواحِدِ، وساقَ كَلامَهُ عَلى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُؤَذِّنانِ: بِلالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» .
ثُمَّ قالَ ما نَصُّهُ: وفي الحَدِيثِ اسْتِحْبابُ مُؤَذِّنَيْنِ لِلْمَسْجِدِ الواحِدِ، يُؤَذِّنُ أحَدُهُما قَبْلَ الفَجْرِ والآخَرُ عِنْدَ طُلُوعِهِ.
قالَ أصْحابُنا: فَإذا احْتاجَ إلى أكْثَرَ مِن مُؤَذِّنَيْنِ اتَّخَذَ ثَلاثَةً، وأرْبَعَةً فَأكْثَرَ بِحَسَبِ الحاجَةِ.
(p-١٤٥)وَقَدِ اتَّخَذَ عُثْمانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرْبَعَةً لِلْحاجَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ النّاسِ.
قالَ أصْحابُنا: وإذا تَرَتَّبَ لِلْأذانِ اثْنانِ فَصاعِدًا، فالمُسْتَحَبُّ ألّا يُؤَذِّنُوا دَفْعَةً واحِدَةً، بَلْ إنِ اتَّسَعَ الوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ، فَإنْ تَنازَعُوا في الِابْتِداءِ أُقْرِعَ بَيْنَهم، وإنْ ضاقَ الوَقْتُ، فَإنْ كانَ المَسْجِدُ كَبِيرًا أذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ في أقْطارِهِ، وإنْ كانَ ضَيِّقًا وقَفُوا مَعًا وأذَّنُوا، وهَذا إذا لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلافُ الأصْواتِ إلى تَشْوِيشٍ، فَإنْ أدّى إلى ذَلِكَ لَمْ يُؤَذِّنْ إلّا واحِدٌ، اهـ.
فَهَذا نَصُّ النَّوَوِيِّ عَلى قَوْلِ أصْحابِهِ أيْ: الشّافِعِيَّةِ في المَسْألَةِ ساقَهُ في شَرْحِ مُسْلِمٍ، وقالَ في المَجْمُوعِ شَرْحِ المُهَذَّبِ عَلى نَصِّ المَتْنِ إذْ قالَ الماتِنُ: والمُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ المُؤَذِّنُ لِلْجَماعَةِ اثْنَيْنِ، وذَكَرَ حَدِيثَ بِلالٍ وابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإنِ احْتاجَ إلى الزِّيادَةِ جَعَلَهم أرْبَعَةً؛ لِأنَّهُ كانَ لِعُثْمانَ أرْبَعَةٌ، والمُسْتَحَبُّ أنْ يُؤَذِّنَ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أبْلَغُ في الإعْلامِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في الشَّرْحِ: قالَ أبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: تَجُوزُ الزِّيادَةُ إلى أرْبَعَةٍ، ثُمَّ ناقَشَ المَسْألَةَ مَعَ مَن خالَفَهُ في العَدَدِ ثُمَّ قالَ: العِبْرَةُ بِالمَصْلَحَةِ، فَكَما زادَ عُثْمانُ إلى أرْبَعَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ جازَ لِغَيْرِهِ الزِّيادَةُ.
وَذُكِرَ عَنْ صاحِبِ الحاوِي إلى ثَمانِيَةٍ، ثُمَّ قالَ: فَرْعٌ، وساقَ فِيهِ ما نَصُّهُ:
فَإنْ كانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنانِ أذَّنَ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ، كَما كانَ بِلالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإنْ تَنازَعُوا في الِابْتِداءِ أُقْرِعَ بَيْنَهم، فَإنْ ضاقَ الوَقْتُ والمَسْجِدُ كَبِيرٌ أذَّنُوا في أقْطارِهِ كُلُّ واحِدٍ في قُطْرٍ؛ لِيَسْمَعَ أهْلُ تِلْكَ النّاحِيَةِ، وإنْ كانَ صَغِيرًا أذَّنُوا مَعًا وإذا لَمْ يُؤَدِّ إلى تَهْوِيشٍ.
قالَ صاحِبُ الحاوِي وغَيْرُهُ: ويَقِفُونَ جَمِيعًا عَلَيْهِ كَلِمَةً كَلِمَةً فَإنْ أدّى إلى تَهْوِيشٍ أذَّنَ واحِدٌ. إلَخْ.
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ، بابُ مَن قالَ: لِيُؤَذِّنْ في السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ واحِدٌ، وساقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ في نَفَرٍ مِن قَوْمِي، فَأقَمْنا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وكانَ رَحِيمًا ورَفِيقًا، فَلَمّا رَأى شَوْقَنا إلى أهالِينا، قالَ: ”ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وعَلِّمُوهم وصَلُّوا إذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكم أحَدُكم، ولْيَؤُمَّكم أكْبَرُكم»“ .
قالَ في الفَتْحِ أثْناءَ الشَّرْحِ: وعَلى هَذا فَلا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: مُؤَذِّنٌ واحِدٌ في السَّفَرِ لِأنَّ (p-١٤٦)الحَضَرَ أيْضًا لا يُؤَذِّنُ فِيهِ إلّا واحِدٌ، ولَوِ احْتِيجَ إلى تَعَدُّدِهِمْ لِتَباعُدِ أقْطارِ البَلَدِ أذَّنَ كُلُّ واحِدٍ في جِهَةٍ ولا يُؤَذِّنُونَ جَمِيعًا.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أوَّلَ مَن أحْدَثَ التَّأْذِينَ جَمِيعًا بَنُو أُمَيَّةَ.
وَقالَ الشّافِعِيُّ في الأُمِّ: وأُحِبُّ أنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنٌ بَعْدَ مُؤَذِّنٍ، ولا يُؤَذِّنُونَ جَمِيعًا، وإنْ كانَ مَسْجِدٌ كَبِيرٌ فَلا بَأْسَ أنْ يُؤَذِّنَ في كُلِّ جِهَةٍ مِنهُ، مُؤَذِّنٌ، يُسْمِعُ مَن يَلِيهِ في وقْتٍ واحِدٍ. اهـ.
وَهَذا الَّذِي حَكاهُ الشّارِحُ عَنِ الشّافِعِيِّ مَوْجُودٌ في الأُمِّ، ولَكِنْ بِلَفْظِ فَلا بَأْسَ أنْ يُؤَذِّنَ في كُلِّ مَنارَةٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ فَيُسْمِعُ مَن يَلِيهِ في وقْتٍ واحِدٍ. ا هـ.
وَهَذا القَدْرُ كافٍ لِبَيانِ قَوْلِ الشّافِعِيِّ وأصْحابِهِ، مِن أنَّ التَّعَدُّدَ جائِزٌ بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ.
وَعِنْدَ مالِكٍ جاءَ في المُوَطَّأِ حَدِيثُ بِلالٍ وابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أيْضًا.
وَقالَ الباجِيُّ في شَرْحِهِ: ويَدُلُّ هَذا الحَدِيثُ عَلى جَوازِ اتِّخاذِ مُؤَذِّنَيْنِ في مَسْجِدٍ يُؤَذِّنانِ لِصَلاةٍ واحِدَةٍ.
وَرَوى عَلِيُّ بْنُ زِيادٍ عَنْ مالِكٍ: لا بَأْسَ أنْ يُؤَذِّنَ لِلْقَوْمِ في السَّفَرِ والحَرَسِ والمَرْكِبِ ثَلاثَةُ مُؤَذِّنِينَ وأرْبَعَةٌ، ولا بَأْسَ أنْ يُتَّخَذَ في المَسْجِدِ أرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ وخَمْسَةٌ.
قالَ ابْنُ حَبِيبٍ: ولا بَأْسَ فِيما اتَّسَعَ وقْتُهُ مِنَ الصَّلَواتِ، كالصُّبْحِ والظُّهْرِ والعِشاءِ، أنْ يُؤَذِّنَ خَمْسَةٌ إلى عَشَرَةٍ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ، وفي العَصْرِ مِن ثَلاثَةٍ إلى خَمْسَةٍ، ولا يُؤَذِّنُ في المَغْرِبِ إلّا واحِدٌ.
فَهَذا نَصُّ مالِكٍ والمالِكِيَّةِ في جَوازِ تَعَدُّدِ الأذانِ في المَسْجِدِ الواحِدِ، يُؤَذِّنُونَ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ.
وَفِي مَتْنِ خَلِيلٍ ما نَصُّهُ: وتَعَدُّدُهُ وتَرْتِيبُهم إلّا المَغْرِبَ، وجَمْعُهم كُلٌّ عَلى أذانٍ.
وَذَكَرَ الشّارِحُ الخُرَشِيُّ: مِن خَمْسَةٍ إلى عَشَرَةٍ في الصُّبْحِ والظُّهْرِ والعِشاءِ، وفي العَصْرِ مِن ثَلاثَةٍ إلى خَمْسَةٍ، وفي المَغْرِبِ واحِدٌ أوْ جَماعَةٌ. إلَخْ.
وَعِنْدَ الحَنابِلَةِ قالَ في المُغْنِي: فَصْلٌ، ولا يُسْتَحَبُّ الزِّيادَةُ عَلى مُؤَذِّنَيْنِ لِحَدِيثِ (p-١٤٧)بِلالٍ وابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أيْضًا، ثُمَّ قالَ: إلّا أنْ تَدْعُوَ الحاجَةُ إلى الزِّيادَةِ عَلَيْهِما فَيَجُوزُ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ كانَ لَهُ أرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ، وإنْ دَعَتِ الحاجَةُ إلى أكْثَرَ مِنهم كانَ مَشْرُوعًا، وإذا كانَ أكْثَرُ مِن واحِدٍ وكانَ الواحِدُ يُسْمِعُ النّاسَ، فالمُسْتَعْجَبُ أنْ يُؤَذِّنَ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ؛ لِأنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ ﷺ كانَ أحَدُهُما يُؤَذِّنُ بَعْدَ الآخَرِ، وإنْ كانَ الإعْلامُ لا يَحْصُلُ بِواحِدٍ أذَّنُوا عَلى حَسَبِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ، إمّا أنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ واحِدٍ في مَنارَةٍ أوْ ناحِيَةٍ أوْ دَفْعَةٍ واحِدَةٍ في مَوْضِعٍ واحِدٍ.
قالَ أحْمَدُ: إنْ أذَّنَ عِدَّةٌ في مَنارَةٍ فَلا بَأْسَ، وإنْ خافُوا مَن تَأْذِينِ واحِدٍ بَعْدَ واحِدٍ فَواتَ أوَّلِ الوَقْتِ، أذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً واحِدَةً.
وَعِنْدَ الأحْنافِ: جاءَ في فَتْحِ القَدِيرِ شَرْحِ الهِدايَةِ في سِياقِ إجابَةِ المُؤَذِّنِ وحِكايَةِ الأذانِ ما نَصُّهُ: إذا كانَ في المَسْجِدِ أكْثَرُ مِن مُؤَذِّنٍ أذَّنُوا واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، فالحُرْمَةُ لِلْأوَّلِ إلى أنْ قالَ: فَإذا فُرِضَ أنْ سَمِعُوهُ مِن غَيْرِ مَسْجِدِهِ تَحَقَّقَ في حَقِّهِ السَّبَبُ، فَيَصِيرُ كَتَعَدُّدِهِمْ في المَسْجِدِ الواحِدِ، فَإنْ سَمِعَهم مَعًا أجابَ مُعْتَبِرًا كَوْنَ جَوابِهِ لِمُؤَذِّنِ مَسْجِدِهِ.
هَذِهِ نُصُوصُ الأئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في جَوازِ تَعَدُّدِ المُؤَذِّنِينَ والأذانِ في المَسْجِدِ الواحِدِ لِلصَّلاةِ الواحِدَةِ مُتَفَرِّقِينَ أوْ مُجْتَمِعِينَ.
وَقالَ ابْنُ حَزْمٍ: ولا يَجُوزُ أنْ يُؤَذِّنَ اثْنانِ فَصاعِدًا مَعًا، فَإنْ كانَ ذَلِكَ فالمُؤَذِّنُ هو المُبْتَدِئُ إلى أنْ قالَ:
وَجائِزٌ أنْ يُؤَذِّنَ جَماعَةٌ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ لِلْمَغْرِبِ وغَيْرِها سَواءٌ في كُلِّ ذَلِكَ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَعَدُّدَ الأذانِ مِن عِدَّةِ مُؤَذِّنِينَ في المَسْجِدِ الواحِدِ أحَدٌ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ.
* * *
الحِكْمَةُ في الأذانِ
أمّا الحِكْمَةُ في الأذانِ فَإنَّ أعْظَمَها أنَّ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ كَما تَقَدَّمَ في أصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وقَدِ اشْتَمَلَ عَلى أُصُولِ عَقائِدِ التَّوْحِيدِ تُعْلَنُ عَلى المَلَأِ، تَمْلَأُ الأسْماعَ حَتّى صارَ شِعارَ المُسْلِمِينَ.
وَنُقِلَ عَنِ القاضِي عِياضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ:
(p-١٤٨)اعْلَمْ أنَّ الأذانَ كَلامٌ جامِعٌ لِعَقِيدَةِ الإيمانِ مُشْتَمِلٌ عَلى نَوْعِهِ مِنَ العَقْلِيّاتِ والسَّمْعِيّاتِ، فَأوَّلُهُ: إثْباتُ الذّاتِ وما تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الكِمالاتِ والتَّنْزِيهِ عَنْ أضْدادِها وذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أكْبَرُ وهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعَ اخْتِصارِ لَفْظِها دالَّةٌ عَلى ما ذَكَرْناهُ.
ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ ونَفْيِ ضِدِّها مِنَ الشَّرِكَةِ المُسْتَحِيلَةِ في حَقِّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهَذِهِ عُمْدَةُ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ المُقَدَّمَةِ عَلى كُلِّ وظائِفِ الدِّينِ، ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإثْباتِ النُّبُوَّةِ والشَّهادَةِ بِالرِّسالَةِ لِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ وهي قاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ الشَّهادَةِ بِالوَحْدانِيَّةِ، ومَوْضِعُها بَعْدَ التَّوْحِيدِ؛ لِأنَّها مِن بابِ الأفْعالِ الجائِزَةِ الوُقُوعِ، وتِلْكَ المُقَدِّماتُ مِن بابِ الواجِباتِ وبَعْدَ هَذِهِ القَواعِدِ كَلِماتُ العَقائِدِ العَقْلِيّاتِ، فَدَعا إلى الصَّلاةِ وجَعَلَها عَقِبَ إثْباتِ النُّبُوَّةِ، لِأنَّ مَعْرِفَةَ وُجُوبِها مِن جِهَةِ النَّبِيِّ ﷺ لا مِن جِهَةِ العَقْلِ.
ثُمَّ دَعا إلى الفَلاحِ وهو الفَوْزُ والبَقاءُ في النَّعِيمِ المُقِيمِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِأُمُورِ الآخِرَةِ مِنَ البَعْثِ والجَزاءِ وهي آخِرُ تَراجِمِ عَقائِدِ الإسْلامِ. إلَخْ.
وَمُرادُهُ بِالعَقْلِيّاتِ في العَقائِدِ أيْ إثْباتُ وُجُودِ اللَّهِ وأنَّهُ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ، وهو المَعْرُوفُ عِنْدَهم بِقانُونِ الإلْزامِ، الَّذِي يُقالُ فِيهِ: إنَّ المَوْجُودَ إمّا جائِزُ الوُجُودِ أوْ واجِبُهُ، فَجائِزُ الوُجُودِ جائِزُ العَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ واسْتَوى الوُجُودُ والبَقاءُ في العَدَمِ قَبْلَ أنْ يُوجَدَ، فَتَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلى بَقائِهِ في العَدَمِ، وهَذا التَّرْجِيحُ لا بُدَّ لَهُ مِن مُرَجِّحٍ وهو اللَّهُ تَعالى. وواجِبُ الوُجُودِ لَمْ يَحْتَجْ إلى مُوجِدٍ، ولَمْ يَجُزْ في صِفَةِ عَدَمٍ وإلّا لاحْتاجَ مُوجِدُهُ إلى مُوجِدٍ، ومُرَجِّحُ وُجُودِهِ عَلى مَوْجُودٍ.
وَهَكَذا فاقْتَضى الإلْزامُ العَقْلِيُّ وُجُوبَ وُجُودِ مُوجِدٍ واجِبِ الوُجُودِ، وهَذا مِن حَيْثُ الوُجُودُ فَقَطْ، وقَدْ أُدْخِلَ العَقْلُ في بَعْضِ الصِّفاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُها الوُجُودُ، والحَقُّ أنَّ العَقْلَ لا دَخْلَ لَهُ في العَقائِدِ مِن حَيْثُ الإثْباتُ أوِ النَّفْيُ؛ لِأنَّها سَمْعِيَّةٌ ولا تُؤْخَذُ إلّا عَنِ الشّارِعِ الحَكِيمِ، لِأنَّ العَقْلَ يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ، ومُرادُنا التَّنْبِيهُ عَلى إدْخالِ العَقْلِيّاتِ هُنا فَقَطْ.
وَقَدْ سُقْنا كَلامَ القاضِي عِياضٍ هَذا في حِكْمَةِ الأذانِ لِوَجاهَتِهِ، ولِتَعْلَمَ مِن خُصُوصِيَّةِ الأذانِ في هَذِهِ الأُمَّةِ وغَيْرِها بِهِ أنَّهُ لَيْسَ بِصَلْصَلَةِ ناقُوسٍ أجْوَفَ، ولا أصْواتِ بُوقٍ أهْوَجَ، ولا دَقّاتِ طَبْلٍ أرْعَنَ، كَما هو الحالُ عِنْدَ الآخَرِينَ، بَلْ هو كَلِماتٌ ونِداءٌ يُوقِظُ القُلُوبَ مِن سُباتِها، وتُفِيقُ النُّفُوسُ مِن غَفْلَتِها، وتَكُفُّ الأذْهانُ عَنْ تَشاغُلِها، وتُهَيِّئُ المُسْلِمَ إلى هَذِهِ (p-١٤٩)الفَرِيضَةِ العُظْمى، ثانِيَةِ أرْكانِ الإسْلامِ وعَمُودِهِ.
فَإذا ما سَمِعَ اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ مَرَّتَيْنِ، عَظُمَ اللَّهُ في نَفْسِهِ، واسْتَحْضَرَ جَلالَهُ وقَدَّسَهُ واسْتَصْغَرَ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ اللَّهِ، فَلا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ أكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، فَلا يَشْغَلُ نَفْسَهُ عَنْهُ أيُّ شَيْءٍ.
فَإذا سَمِعَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، عَلِمَ أنَّ مِن حَقِّهِ عَلَيْهِ طاعَةَ اللَّهِ وعِبادَتَهُ.
وَإذا سَمِعَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، عَلِمَ أنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِجابَةُ داعِي اللَّهِ.
وَإذا سَمِعَ حَيَّ عَلى الصَّلاةِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، عَلِمَ أنَّ فَلاحَهُ في صِلاتِهِ في وقْتِها لا فِيما يَشْغَلُهُ عَنْها.
وَهَكَذا فَكانَ مَمْشاهُ إلَيْها تَخَشُّعًا، وخُطاهُ إلى المَسْجِدِ تَطَوُّعًا مَعَ حُضُورِ القَلْبِ واسْتِجْماعِ الشُّعُورِ.
وَمِن هُنا أيْضًا نُدْرِكُ السِّرَّ في طَلَبِ السّامِعِ مُحاكاةَ الأذانِ تَبَعًا لِلْمُؤَذِّنِ لِيَرْتَبِطَ مَعَهُ في إعْلانِهِ وعَقِيدَتِهِ وشُعُورِهِ، كَما جاءَ في أثَرِ عَمْرِو بْنِ العاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَجُلًا قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ المُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”قُلْ مِثْلَ ما يَقُولُونَ، فَإذا انْتَهَيْتَ فاسْألْ تُعْطَهُ»“ . رَواهُ أبُو داوُدَ.
وَقَدْ قَدَّمْنا هَذا المَوْضُوعَ هُنا، وإنْ كانَ لَيْسَ مِن مَنهَجِ الكِتابِ، ولَكِنْ لِمُوجِبِ اقْتِضاءٍ، ولِمُناسَبَةِ مَبْحَثِ الأذانِ.
أمّا المُوجِبُ فَهو أنِّي سَمِعْتُ مُنْذُ أيّامٍ أثْناءَ الكِتابَةِ في مَباحِثِ الأذانِ، وسَمِعْتُ مِن إذاعَةٍ لِبَلَدٍ عَرَبِيٍّ مُسْلِمٍ أنَّ كاتِبًا اسْتَنْكَرَ الأذانَ في الصُّبْحِ خاصَّةً، وفي بَقِيَّةِ الأوْقاتِ بِواسِطَةِ المُكَبِّرِ لِلصَّوْتِ، وقالَ: إنَّهُ يُرْهِقُ الأعْصابَ وخاصَّةً عِنْدَ أداءِ النّاسِ لِأعْمالِهِمْ أوْ عِنْدَ الفَراغِ مِنها والعَوْدَةِ لِراحَتِهِمْ، ولا سِيَّما في الفَجْرِ عِنْدَ نَوْمِهِمْ، فَكانَ وقْعُهُ ألِيمًا أنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ ويُنْشَرَ، ولَكِنْ أجابَ عَلَيْهِ أحَدُ خُطَباءِ الجُمَعِ في خُطْبَةٍ وافِيَةٍ، وأفْهَمَهُ أنَّ الإرْهاقَ والِاضْطِرابَ إنَّما هو مِن عَدَمِ الِاسْتِجابَةِ لِهَذا النِّداءِ، وأنَّ الرَّسُولَ ﷺ أخْبَرَ أنَّ الشَّيْطانَ يَبُولُ في أُذُنِ النّائِمِ، وأنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهِ ثَلاثَ عُقَدٍ، فَإذا ما اسْتَيْقَظَ وذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا تَوَضَّأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرى، فَإذا صَلّى انْحَلَّتِ العُقْدَةُ الثّالِثَةُ، وأصْبَحَ نَشِيطًا إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ الكافِي.
(p-١٥٠)وَلا شَكَّ أنَّ مِثْلَ تِلْكَ الكِتابَةِ لا تَصْدُرُ إلّا مِمَّنْ لا يَعِي مَعْنى الأذانِ.
هَذا ما اسْتَوْجَبَ عَرْضَ الحِكْمَةِ مِنَ الأذانِ، وإنْ كانَتْ مُجانِبَةً لِمَنهَجِ الكِتابِ، ولَكِنْ بِمُناسَبَةِ مَباحِثِ الأذانِ يُغْتَفَرُ ذَلِكَ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
مُحاكاةُ المُؤَذِّنِ
تُعْتَبَرُ مُحاكاةُ المُؤَذِّنِ رَبْطًا لِسامِعِ الأذانِ، وتَنْبِيهًا لَهُ لِمَوْضُوعِهِ، جاءَ الحَدِيثُ: «إذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ» رَواهُ البُخارِيُّ.
وَفِي رِوايَةٍ عِنْدَهُ «عَنْ مُعاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ أيْ مُعاوِيَةُ: وهو عَلى المِنبَرِ مِثْلَ قَوْلِ المُؤَذِّنِ إلى قَوْلِهِ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ولَمّا قالَ المُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، قالَ مُعاوِيَةُ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، وكَذَلِكَ: حَيَّ عَلى الفَلاحِ، ثُمَّ قالَ: هَكَذا سَمِعْنا نَبِيَّكم ﷺ» .
وَعِنْدَ النَّسائِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقامَ بِلالٌ يُنادِي، فَلَمّا سَكَتَ قالَ ﷺ: ”مَن قالَ مِثْلَ هَذا يَقِينًا دَخَلَ الجَنَّةَ»“ .
كَيْفِيَّةُ المُحاكاةِ، في الحَدِيثِ الأوَّلِ: «فَقُولُوا مِثْلَما يَقُولُ» وهَكَذا يَشْعُرُ بِتَتَبُّعِهِ جُمْلَةً جُمْلَةً، وفي الحَدِيثِ الثّانِي: «فَلَمّا سَكَتَ قالَ ﷺ: ”مَن قالَ مِثْلَ هَذا»“ وبَعْدَ السُّكُوتِ تَنْطَبِقُ المِثْلِيَّةُ بِمَجِئِ الأذانِ بَعْدَ فَراغِ المُؤَذِّنِ، فَوَقَعَ الِاحْتِمالُ.
وَقَدْ جاءَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وأبِي داوُدَ ما يُؤَيِّدُ الأوَّلَ، فَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ ﷺ قالَ: «إذا قالَ المُؤَذِّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، فَقالَ أحَدُكم: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثُمَّ قالَ أشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَ: أشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ قالَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الفَلاحِ، قالَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثُمَّ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مِن قَلْبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ» .
فَهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ مُحاكِيَ المُؤَذِّنِ يُتابِعُهُ جُمْلَةً جُمْلَةً إلى آخِرِهِ ما عَدا الحَيْعَلَتَيْنِ، فَإنَّهُ يَأْتِي بَدَلًا مِنهُما بِالحَوْقَلَةِ، وقالُوا: إنَّ الحَيْعَلَتَيْنِ نِداءٌ لِلْإقْبالِ عَلى المُنادِي، وهَذا يَصْدُقُ في حَقِّ المُؤَذِّنِ، أمّا الَّذِي يَحْكِي الأذانَ فَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ ولا يَصْدُقُ (p-١٥١)عَلَيْهِ أنْ يُنادِيَ غَيْرَهُ فَلا أجْرَ لَهُ في نُطْقِهِ بِهِما، فَيَأْتِي بِلا حَوْلٍ ولا قُوَّةٍ إلّا بِاللَّهِ لِأمْرَيْنِ الأوَّلِ: أنَّهُ ذِكْرٌ يُثابُ عَلَيْهِ سِرًّا وعَلانِيَةً، والثّانِي: اسْتِشْعارٌ بِأنَّهُ لا حَوْلَ لَهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ ولا قُوَّةَ لَهُ عَلى طاعَةٍ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وفِيهِ اسْتِعانَةٌ بِاللَّهِ وحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ عَلى إجابَةِ هَذا النِّداءِ، وأداءِ الصَّلاةِ مَعَ الجَماعَةِ.
وَقَدْ أخَذَ الجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِمُحاكاةِ المُؤَذِّنِ في جَمِيعِ الأذانِ عَلى النَّحْوِ المُقَدَّمِ، وعِنْدَ مالِكٍ يَكْتَفِي إلى الحَوْقَلَةِ لِحَدِيثِ مُعاوِيَةَ. ونَصُّ كُتُبِ المالِكِيَّةِ أنَّهُ هو المَشْهُورُ في المَذْهَبِ وغَيْرُ المَشْهُورِ أيْ مُقابِلُ المَشْهُورِ طَلَبُ حِكايَةِ الأذانِ جَمِيعِهِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى خَلِيلٍ.
* * *
بَعْضُ الزِّياداتِ عَلى ألْفاظِ الأذانِ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الحَوْقَلَةِ عِنْدَ الحَيْعَلَةِ في بَعْضِ رِواياتِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ، عِنْدَ الشَّهادَتَيْنِ يَقُولُ زِيادَةً: «وَأنا أشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وبِالإسْلامِ دِينًا غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ» .
* * *
الصَّلاةُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وسُؤالُ اللَّهِ لَهُ الوَسِيلَةَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَما يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإنَّهُ مَن صَلّى عَلَيَّ صَلاةً صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ؛ فَإنَّها مَنزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللَّهِ، وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هو، فَمَن سَألَ لِيَ الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفاعَةُ» وهَذا عامٌّ لِلْأذانِ في الصَّلَواتِ الخَمْسِ إلّا أنَّهُ جاءَ في المَغْرِبِ والفَجْرِ بَعْضُ الزِّياداتِ، فَفي المَغْرِبِ حَكى النَّوَوِيُّ: أنَّهُ لَهُ أنْ يَقُولَ بَعْدَ النِّداءِ: «اللَّهُمَّ هَذا إقْبالُ لَيْلِكَ، وإدْبارُ نَهارِكَ وأصْواتُ دُعائِكَ اغْفِرْ لِي»، ويَدْعُو بَيْنَ الأذانِ والإقامَةِ، ذَكَرَهُ صاحِبُ المُهَذَّبِ وعَزاهُ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وأقَرَّهُ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ.
أمّا في سَماعِ أذانِ الفَجْرِ فَيَقُولُ عِنْدَ (الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ): صَدَقْتَ وبَرَرْتَ، حَكاهُ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ.
وَعَنِ الرّافِعِيِّ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ.
وَإذا سَمِعَ المُؤَذِّنَ وهو في الصَّلاةِ، نَصَّ العُلَماءُ عَلى أنَّهُ لا يَحْكِيهِ؛ لِأنَّ في الصَّلاةِ (p-١٥٢)لَشُغْلًا، وإذا سَمِعَهُ وهو في المَسْجِدِ جالِسٌ نَصَّ أحْمَدُ أنَّهُ لا يَقُومُ حالًا لِلصَّلاةِ حَتّى يَفْرَغَ المُؤَذِّنُ أوْ يَقْرُبَ.
وَإذا دَخَلَ المَسْجِدَ وهو يُؤَذِّنُ اسْتُحِبَّ لَهُ انْتِظارُهُ لِيَفْرَغَ ويَقُولَ مِثْلَ ما يَقُولُ جَمْعًا بَيْنَ الفَضِيلَتَيْنِ، وإنْ لَمْ يَقُلْ كَقَوْلِهِ وافْتَتَحَ الصَّلاةَ فَلا بَأْسَ، ذَكَرَهُ صاحِبُ المُغْنِي عَنْ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق